بعد أكثر من عامين على إسقاط نظام الرئيس السابق عمر البشير، لايزال الانتقال السياسي في السودان يمر بمرحلة حرجة وبالغة التعقيد؛ إذ تواجه حكومة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك مجموعة متنوعة من التحديات والعقبات، بما في ذلك الاحتجاجات الجماهيرية على أسعار السلع ومواد الوقود، وعودة العنف في منطقة دارفور المضطربة، كل هذا بالإضافة إلى المشكلات الحدودية والمائية.
ويُلاحظ أن السودان واجه تحديات هائلة خلال العقد الماضي قبل سقوط البشير، حيث تسبب انفصال جنوب السودان في حدوث صدمات اقتصادية متعددة لهذا البلد، كما أن الحرب الأهلية التي شهدتها مناطق الأطراف لم تضر بالاقتصاد السوداني فحسب، بل أدت أيضًا إلى زيادة عدد اللاجئين والمشردين داخليًا.
كل هذا بالإضافة إلى أزمة سد النهضة التي انتهت بفشل المفاوضات بين دول المصب ودولة المنبع. فكيف يُمكن وصف الأوضاع الداخلية للسودان؟ وما التغيرات التي طرأت على موقفها من الجانبين المصري والإثيوبي؟ تلك هي التساؤلات التي ستسعى تلك الورقة للإجابة عليها..
الأوضاع الداخلية للسودان:
تشهد العملية الانتقالية في السودان بعد البشير العديد من التحديات، بما في ذلك محاولة تمرد عسكري، ومحاولة اغتيال رئيس الوزراء الانتقالي عبدالله حمدوك، كما أن الحكومة الانتقالية لم تلتزم بشكل كامل بالأحكام المهمة لاتفاقية 2019 التي تم توقيعها بين المجلس العسكري الانتقالي وتحالف قوى الحرية والتغيير. فمن ناحية؛ هناك المصاعب الاقتصادية، التي تفاقمت بسبب التضخم بنسبة 304%، والعجز التجاري والمالي الكبير، والبطالة المرتفعة والفقر، والتي تشكل خطرًا على استقرار السودان.
علاوة على ذلك، من المتوقع أن يحتاج 13.4 مليون شخص – أي نحو ربع السكان تقريبًا – إلى مساعدات إنسانية، بما في ذلك 2.5 مليون نازح داخليًا، كما أن السودان نفسه يستضيف نحو مليون لاجئ، بما في ذلك 70 ألف وافد حديثًا من إثيوبيا. ومن ناحية أخرى، فقد فشلت الحكومة في السيطرة على العنف بين المجتمعات في دارفور. وقد خلفت الاشتباكات الطائفية في الجنينة، غرب دارفور، في يناير الماضي، نحو 165 قتيلًا وأكثر من 100 ألف نازح.
وبالإضافة لذلك، فقد عادت التوترات على الحدود بين إثيوبيا والسودان للظهور، حيث يطالب كلا البلدين بالمنطقة المتنازع عليها المعروفة باسم الفشقة، وقد تفاقمت هذه التوترات منذ اندلاع أزمة تيجراي أواخر عام 2020. وفي السياق نفسه، يُلاحظ أن الجهود الدبلوماسية لتسوية النزاع المستمر منذ فترة طويلة بين إثيوبيا ومصر والسودان بشأن سد النهضة على النيل الأزرق متوقفة ولم تحدث أي اختراق. كما تحاول الدولة السودانية أيضًا التعافي من الآثار الصحية والاقتصادية لوباء كوفيد 19 ومشكلة الجراد المتكررة.[1]
السودان وإثيوبيا:
ظهرت ملامح التبدل والتغير في التعامل مع إثيوبيا من خلال موقفين طفوا على السطح قبل أيام، أحدهما سياسي والآخر اقتصادي، سوف تؤثر تداعياتهما سلبًا على علاقة الخرطوم بالقاهرة إذا تمكن السودان من تحقيق اختراق فيهما أو كليهما.
الأول: عرض رئيس وزراء السودان عبدالله حمدوك وساطة بين الحكومة الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير تيجراي لحل الأزمة المستعصية بينهما، بحكم أنه رئيس هيئة الإيجاد المعنية بإيجاد تسويات سياسية للمشكلات المتفاقمة في منطقة القرن الإفريقي، وهي رسالة لم تبد أديس أبابا تفاعلًا قويا عند استقبالها في البداية لأنها ترفض التفاوض حول أزمة تيجراي. لكن وصل الأمر فيما بعد إلى حد استدعاء السودان سفيره لدى إثيوبيا، بعد رصد الخارجية السودانية تصريحات صدرت مؤخرًا عن مسؤولين إثيوبيين كبار برفض مساعدة السودان في إنهاء النزاع الدموي المحتدم في إقليم تيجراي بدعاوى عدم حياده واحتلاله لأراضٍ إثيوبية. وقد ذكرت أديس أبابا أن ثقتها ببعض القادة السودانيين تآكلت، واتهمت الجيش السوداني بالتوغُّل داخل حدودها.[2]
والثاني: بثت وكالة أنباء السودان الرسمية خبرا، الجمعة، قال إن الخرطوم طلبت من أديس أبابا تزويدها بألف ميجاواط من الكهرباء، وهي حصة تُمثِّل خمسة أضعاف ما تحصل عليه الآن (200 ميجاواط)، ما يوحي بأن هناك استفادة من سد النهضة وأنه كمشروع تنموي لن يكون مضرًا للسودان مستقبلًا.[3]
السودان ومصر:
بالرغم من التقارب المصري السوداني خلال الفترة الأخير، والذي ظهر في تطور موقفيهما من سد النهضة الإثيوبي؛ إلا أن التطورات السابق الإشارة إليها في علاقات السودان بالجانب الإثيوبي؛ من شأنها أن تُرجِّح كفة من يرون الفوائد للسد، ومن ثمَّ ربما توجيه انتقادات غير مباشرة لمصر، وغير مُستبعد أن يقوم البعض باستدعاء ميراث المشكلات مع القاهرة، وهو ما يصب في صالح إثيوبيا التي يمكنها توظيف أي شقاق محتمل بين مصر والسودان.
وذلك على الرغم من توقيع الخرطوم على اتفاق للربط الكهربائي مع القاهرة بهدف الحصول على حصة (300 ميجاواط) من فائض الكهرباء في مصر التي رحبت ضمن حزمة اتفاقيات كبيرة وقعها البلدان تؤكد اتساع نطاق التفاهم بينهما. ولكن رغم ذلك لا يخلو اللجوء إلى إثيوبيا في هذا التوقيت من دلالات سياسية، أهمها أن هناك معالم فجوة يمكن أن تتزايد بين الخرطوم والقاهرة في ملف الكهرباء إذا نجح ما يسمى بالتيار الإثيوبي في الحكومة السودانية بجذبها أكثر ناحية أديس أبابا، حيث يتبنى هذا التيار فكرة التوجه نحو الجنوب بحجة أن مصالحهم مع إثيوبيا أفضل من مصر.
قد يفشل عرض وساطة حمدوك في أزمة تيجراي، وربما لا يتحقق هدف مضاعفة الكهرباء الواردة من إثيوبيا، غير أن المؤكد أن التطورين يحملان رسائل غير بعيدة عن القاهرة، حيث تعتقد الحكومة السودانية أن توثيق العلاقات معها يصب في صالح الجناح العسكري في السلطة الذي استفاد معنويًا من التصعيد مع إثيوبيا في أزمتي السد والحدود المشتركة باعتبار الجيش هو رأس الحربة الذي يحمي مقادير السودان. وتكمن المشكلة في أن استمرار التوتر مع إثيوبيا يضمن تفوقًا للمؤسسة العسكرية في حسابات السلطة ويخفض من رصيد المكون المدني، وتدفع حاجة هذه المؤسسة إلى التفوق التعاون مع مصر.
بالتالي فعرض الوساطة وطلب الكهرباء ليس المقصود منهما فرملة عملية التقارب مع القاهرة في حد ذاته، لكن من الطبيعي أن يؤديا إلى تفاهمات مع أديس أبابا يمكنها أن تجمد التصعيد الحاصل معها مؤقتًا. يقود ذلك إلى عدم استبعاد نزع ورقة إثيوبيا بكل التباساتها من الجيش، فالمقاربة التي تتبناها الحكومة السودانية ترطب الأجواء مع نظيرتها الإثيوبية، ما يعني حدوث خلل جديد في أضلاع المثلث، حيث بدأ التعاون مع مصر يخفت تدريجيًا بعد أن انتعش مع تضافر القواسم الإقليمية المشتركة.
كما تجد الحكومة السودانية دعمًا غربيًا في مجال تقليص المساحة السياسية التي يتحرك فيها المكون العسكري، وتأييدًا لتطوير العلاقة مع إثيوبيا خوفًا من أن يفضي تصعيد الخلاف معها إلى حدوث تدهور في أوضاع المنطقة، فأركان الدولة الإثيوبية مهتزة حاليًا وتواجه تحديات كبيرة يمكن أن تعصف بوحدتها الإقليمية.[4]
الخُلاصة؛ تتغير الحسابات السودانية وفقًا للتغيرات التي تطرأ على الوضع الداخلي، فمن ناحية الضغوط الاقتصادية التي تعاني منها السودان، ويزيد منها الأعداد الهائلة للاجئين المتدفقين إليها من إثيوبيا كنتيجة لحرب التيجراي، ومن ناحية أخرى حاجة السودان للوصول لاتفاقية تكفل حصولها على الطاقة اللازمة لها من سد النهضة. وبين هذا وذاك تبرز العلاقات المصرية السودانية التي تمر بفترات صعود وهبوط، حسب حالات الشد والجذب بين المكونين المدني والعسكري في المجلس الانتقالي السوداني، فبينما يميل المكون العسكري للتقارب مع مصر وتصعيد المشكلات الحدودية والمائية مع إثيوبيا؛ يميل المكون المدني للتقارب مع إثيوبيا.
[1] د. حمدي عبد الرحمن، “تحديات الانتقال المتعثر في السودان”، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 5/8/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/THdkR
[2] “لمَ استدعى السودان سفيره لدى إثيوبيا؟”، الأخبار، 8/8/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/r943V
[3] “السودان يجري محادثات مع إثيوبيا لشراء ألف ميجاوات كهرباء”، إفريقيا بوست، 7/8/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/Ur3YE
[4] “السودان يتحلل من ارتباطه بمصر تدريجيا”، العرب، 9/8/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/kzvn9