إفريقيا والانقلابات العسكرية: نظرة على التجارب الإفريقية وخبرات مُستخلصة

 

منذ الاستقلال الشكلي للدول الإفريقية في النصف الثاني من القرن العشرين، ولا تزال الديمقراطية الحقيقية غائبة عن خارطة هذه القارة، فقد كانت المحاولات الأولى الممزوجة بنزعة دمقرطة إفريقيا والتحرر من المستعمر من قِبل اليسار الإفريقي المُمثَّل بتوماس سانكارا (بروكينا فاسو) وكوامي نكروما (غانا) وباتريك لومومبا (الكونغو الديموقراطية) زائير سابقًا، الذين واجهوا الاستعمار الغربي وجهًا لوجه رفضًا للوصاية الأجنبية في مصير هذه البلدان، حيث أنشأوا مشروعات تنموية ضخمة تهدف إلى القضاء على الفقر والأمية، فحقَّقت نجاحات باهرة في زمن قياسي، وكان صوت الأمل التقدمي يشدو من كل زاوية من إفريقيا.

لم تعجب الغرب هذه النزعة التحررية التي تهدف إلى تحديث إفريقيا بأيدي الأفارقة، فحاولوا بكل إصرار إفشال هذا المشروع من خلال الاغتيالات والانقلابات واستبدالهم برؤساء قمعيين وظيفيين معظمهم من المجمع العسكري الموالي والعميل للغرب، وكان للغرب ما أراد وعادت إفريقيا إلى بدايات القرن متخلفة وفقيرة. والإشكالية التي أصبحت السبب الأساسي بعد الاستعمار غير المباشر في عدم وجود مشروع ديمقراطي حقيقي في إفريقيا، هي إشكالية صعود العسكر إلى قمة السلطة في معظم البلدان الإفريقية بتأثير من قوى خارجية وداخلية خلال فترات التحرر الوطني.

فتخلف إفريقيا وقبوعها في براثن الفقر أمر منطقي، لأن هيكلية الدولة العسكرية والفاسدة وفشل مشروع الدمقراطية أسباب أساسية في ذلك. وتناقش تلك الورقة محورين محددين، يتمثل أولهما في نظرة فاحصة على الانقلابات في إفريقيا منذ الاستقلال، أما الثاني فيتمثَّل في رصد مجموعة من الخبرات من تجارب الدول الإفريقية في تعاملها مع الانقلابات..

أولًا: نظرة فاحصة على الانقلابات الإفريقية منذ الاستقلال:

ويتناول هذا الجزء تاريخ الانقلابات في إفريقيا وخلفياتها وأنواعها وأسباب تراجعها ثم عودة ظهورها، كالتالي..

– تاريخ الانقلابات في إفريقيا وموقف التكتلات الإقليمية منها:

إفريقيا والانقلابات العسكرية: نظرة على التجارب الإفريقية وخبرات مُستخلصة

 

شهدت القارة الإفريقية أكثر من 190 انقلابًا عسكريًا، منذ حصول أغلب دولها على الاستقلال في بداية الستينيات. ففي الفترة ما بين منتصف الستينيات والسبعينيات (1966 -1976)، سجَّلت أكثر من 100 محاولة عسكرية للانقلاب ما بين الفاشلة والناجحة. وبلغت الانقلابات في بعض الدول خمسة إلى ستة انقلابات مثلما حدث في كلٍّ من نيجيريا‏ وأوغندا‏‏ وغانا‏‏ وبوركينا فاسوا وبينين‏ وموريتانيا وفي المقابل، شهدت ‏‏13‏ دولة انقلابًا عسكريًا واحدًا فقط.‏ ثم تراجع معدل الانقلابات، من متوسط قدره 20 انقلاب كل عام في حقبة ما بعد الاستقلال إلى أواسط الثمانينيات (1985-1960) إلى أقل من خمسة انقلابات فقط في المتوسط منذ الألفية. وهنا يجب التمييز بين نوعين من الانقلابات من حيث الأصول؛ أي النشأة، أما الغايات فتتوحد في الاستيلاء على الحكم. فبعض زعماء الانقلاب ممن وصلوا إلى سدة الحكم في بلدانهم، ينحدرون من مؤسسات عسكرية لها جيش نظامي (ليبيا، الجزائر، السودان، الصومال، الكونغو الديمقراطية)، فيما تمكَّن آخرون من السلطة بفضل انتمائهم لحركات تمرد مسلحة، كانوا يتزعمونها أو يشاركون فيها انطلاقًا من الأدغال الإفريقية (إثيوبيا، إريتريا،..). وقد أدرك الزعماء الأفارقة أن لعبة الاستقواء بالخارج توشك على الانتهاء بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ما دفعهم إلى اعتماد موقف موحد رافض للانقلابات العسكرية التي تهدد مواقعهم في السلطة وبذلك تعهد أكثر من 40 رئيس إفريقي في قمة الاتحاد الإفريقي التي استضافتها الجزائر في يوليو 1999، بإنزال أقصى العقوبات على الانقلابين حتى تضع حدًا لمطامع العسكر في السلطة. من المفارقات الغريبة في هذه القمة، أن أكثر من ثلث الرؤساء الذين اتخذوا هذا القرار التاريخي، وصلوا إلى السلطة بفضل انقلابات عسكرية، قامت بها جيوش نظامية أو حركات تمرد مسلحة. وزاد من رفض هذه الانقلابات داخل القارة السمراء، إعلان الاتحاد الإفريقي أنه لن يعترف بأي حكومة تصل إلى الحكم عبر انقلاب عسكري. وفرض الاتحاد القطيعة مع هذه الممارسات كما كان الشأن حين غيَّر الاتحاد مكان قمته من مدغشقر إلى ليبيا في عام 2009، بعد الانقلاب العسكري الذي حدث هناك في 17 مارس؛ ما أدى إلى تعليق عضويتها في الاتحاد بعدما أعلن أندريه راجولينا نفسه رئيسًا للسلطة الانتقالية في البلاد، وسط إدانة واسعة للمجتمع الدولي لهذا الانقلاب، مع وقف للدعم المالي والاستثمارات لتسقط البلاد في براثن واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخها. السيناريو نفسه تكرر في انقلاب غينيا وموريتانيا، فلا شرعية ولا اعتراف بأي سلطة عسكرية في القارة السمراء. ومن أجل وضع نهاية لهذه الثقافة المتجذرة في القارة، قامت مجموعة (إيكواس) المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، بفرض عقوبات اقتصادية على الدول التي يحدث بها انقلابات عسكرية، بالاشتراك مع مجموعة تنمية اقتصاد الجنوب الإفريقي (سادك) والاتحاد الإفريقي، وقد تم تطبيق هذا على الدول الثلاث آنذاك مدغشقر وموريتانيا وغنيا. أسفرت هذه المحاولات إلى تطور في السياسية الإفريقية ونظم الحكم في العقد الأخير، إلى أن تشهد القارة العديد من الانتخابات في السنوات الأخيرة كالتي حدثت في موريتانيا ومدغشقر وغينيا بيساو والصومال والنيجر وتوجو وساحل العاج وروندا وزيمبابوي والكاميرون وزامبيا خلال عامي 2009 و2011 مما يُشكِّل تطورًا في العقلية السياسية الإفريقية.[1]

– أسباب الانقلابات في إفريقيا:

تمثَّلت أسباب الانقلابات في إفريقيا في مجموعة من العناصر الداخلية والخارجية، الأسباب الداخلية: ناتجة عن الصراع حول السلطة بدوافع الأحقية والجدارة، والصراع حول الموارد بخاصة النفيسة، ما يزيد من أطماع القادة العسكريين لا سيما في غرب ووسط إفريقيا للسيطرة على عائدات هذه الموارد، فضلًا عن الصراعات الأيديولوجية، والعرقية، والمناطقية، كما حدث في إثيوبيا مطلع تسعينيات القرن الـ20 بسيطرة قومية تيجراي، وهي أقلية على مقاليد الحكم أكثر من عقدين. أما الأسباب الخارجية: فهي تتمثل في رغبة دول أجنبية في حدوث تغيير لنظام سياسي قائم في دولة إفريقية ما، وهذا نجده بكثرة عند الدول التي كانت تحت الاستعمار الفرنسي، بخاصة في غرب القارة، من أجل التنافس على السلطة. وبالنظر لتقييم الحقب العسكرية التي حكمت إفريقيا على مر التاريخ، نجد أن لها محاسنها ومساوئها، إلا أن مؤشرات الفشل كانت أكبر، إذ لم تقدم النظم العسكرية الشمولية النموذج الأفضل للحكم، بل أحدثت إشكاليات كبيرة أثرت سلبًا على تطور الدولة ونهضتها، لأنها لم تكن تتبع العدالة وبسط الحريات، إضافة إلى أن غالبية هذه النظم العسكرية تعمل على تغييب الوعي السياسي وتطوره. وارتبطت معظم هذه الأنظمة بالفساد وتعطيل مبادئ المشاركة السياسية.[2]

-إفريقيا بين الانقلابات والحروب الأهلية:

إفريقيا والانقلابات العسكرية: نظرة على التجارب الإفريقية وخبرات مُستخلصة

جاء التقسيم الاستعماري للقارة متناقضًا مع الواقع الاجتماعي الإثني للمجتمعات الإفريقية، حيث أفرز هذا التقسيم الصناعي وضعين، شكَّلا فيما بعد الأساس للبُعد الإثني في الحروب الأهلية الإفريقية، فمن ناحية جمعت الخريطة الاستعمارية داخل الدولة الواحدة جماعات لم يسبق لها العيش معًا، ولم يسبق لها التفاعل بعضها مع بعض في إطار واحدٍ؛ مثلما هو الحال في أنجولا. ومن ناحية أخرى فصلت الحدود السياسية المصطنعة عُرى التواصل بين جماعات عرقية واحدة، وجدت نفسها فجأة تابعة لكيانات سياسية مختلفة، وهو وضع شائع الحدوث في العديد من الدول في أنحاء القارة الإفريقية، ثم مارس الاحتلال بعدها دوره الخبيث في الوقيعة بين الكيانات العرقية والإثنية غير المتجانسة؛ لضمان سيطرته وهيمنته، ترسيخًا لمبدأ “فرِّق تسد” والذي خلف مواريث سلبية الأثر في علاقات الجماعات الإفريقية بعضها مع بعض، أسفرت بدورها عن ظاهرتين أُخريين عرفتهما دول القارة في مرحلة الاستقلال، هما: الانقلابات، والحروب الأهلية. وبينما شهدت دول القارة تراجعًا في معدل الانقلابات في حقبة الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن العشرين، ارتفعت معدلات الحروب الأهلية التي وصل مداها خلال منتصف التسعينيات من القرن العشرين، حيث بلغ عدد الحروب والصراعات الأهلية بالقارة نحو 15 حربًا. ومع مطلع الألفية الجديدة والقرن الحادي والعشرين خفتت حدة الحروب الأهلية، لكن سرعان ما عاودت ظاهرة الانقلابات العسكرية البروز من جديد.[3]

-أسباب تراجع الانقلابات في إفريقيا:

تراجُع تحركات الجيوش حول العالم للاستيلاء على السلطة بالقوة، يعود إلى نهاية ديناميات الحرب الباردة التي شهدت تدخُّل الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في شؤون أمريكا اللاتينية، وكذلك استعداد المجتمع الدولي لفرض عقوبات على البلدان التي تشهد انقلابات، مثل هايتي في عام 1994. كما شهدت آسيا أيضًا تراجُعًا في عدد الانقلابات خلال تلك الفترة. في إفريقيا تحديدًا، يرجع تراجع الانقلابات الإفريقية، إلى مزيج من ثلاثة عوامل رئيسة: أولها؛ صعود جيل جديد من الأفارقة، خاصةً الشباب وأبناء الطبقة الوسطى المزدهرة، التواقين إلى التغيير. فإفريقيا هي أصغر قارة في العالم، حيث يزيد عدد السكان الذين تقل أعمارهم عن 25 عامًا عن نصف إجمالي التعداد، ومن المتوقع أن يتضاعف عدد السكان إلى مليارين بحلول عام 2050. وثانيها؛ البيئة الدولية المتغيرة. خلال حقبة الحرب الباردة، عندما كانت الانقلابات حدثًا متكررًا، كانت المصالح الأجنبية تدعم بشكل ما أو تحفز العديد من الانقلابات في إفريقيا، لكن هذه الممارسة غير الديمقراطية لم تعد نشاطًا دوليًا جذابًا في عالم أكثر تعقيدًا. وثالثها؛ ضغوط الاتحاد الإفريقي والمنظمات الإقليمية مثل الإيكواس والسادك، وكذلك المجتمع الدولي، ليس فقط عبر الإدانة بالكلمات، ولكن أيضًا بفرض عقوبات على الأفراد المسؤولين عن الإطاحة بالحكومات المنتخبة ديمقراطيًا. هذه العوامل تزيد من صعوبة حدوث انقلاب عسكري ناجح ضد حكومة شرعية، لكنها لا تعني نهاية الانقلابات العسكرية في إفريقيا. ولسوء الحظ ما دام يوجد عدد كبير من الأنظمة غير الشرعية، وبدائل قليلة لإزالة الطغاة، وتغيير الحكومات التي تتبنى الديمقراطية موسميًا، فإن شبح الاستيلاء غير الدستوري على السلطة سيبقى محدقًا بالدول، وطالما لم يُقطع دابر الانقلابات، فهذا غالبًا ما يكون نذيرًا لحدوث مزيدٍ منها؛ فأية محاولة انقلاب، سواء كانت ناجحة أو فاشلة تزيد خطر حدوث محاولة انقلاب أخرى مستقبلية. ومن اللافت أن معظم الانقلابات التي شهدتها إفريقيا أزيحت بانقلابات أخرى، ولم تخرج الدول المنكوبة من هذه الدوامة العسكرية إلا بالمثابرة. هذا يعني أن الانتصارات التي يحلم بها الثوار بالقضاء على المستبد، والحلول السحرية السهلة سهولة الكلام، ليس لها مكان غالبًا في أرض الواقع. كما لا يوجد نموذج واحد يناسب الجميع، والحلول الناجحة المستدامة هي التي استطاعت المزج بين عدة عوامل، أبرزها الضغط الشعبي، والمناورات السياسية، والتنازلات المحسوبة.

– عودة جديدة للانقلابات الإفريقية:

 

إفريقيا والانقلابات العسكرية: نظرة على التجارب الإفريقية وخبرات مُستخلصة

شكَّلت الانقلابات العسكرية التي حدثت في مصر في عام 2013 وبوركينا فاسو في 2014 رِدَّة إلى عصر الانقلابات العسكرية، فبعد أن تهيَّأت القارة لنسيان عصور تدخل الجيوش بالسياسية، عادت من جديد لتشهد انقلابين في أقل من عامين، مما دق جرس الإنذار في شتى الدول الإفريقية والتي لا تتمتع باستقرار سياسي حتى هذه اللحظة. فيما حمل بعض المحللين للشأن الإفريقي المسئولية للاتحاد الإفريقي الذي غض الطرف عن الانقلاب في إحدى أكبر الدول الإفريقي “مصر”، من حيث وزنها الإقليمي والسياسي؛ مما يشجع على هذا السلوك في الدول الأقل وزنًا. وقد عقد مجلس السلم والأمن (PSC) التابع للاتحاد الإفريقي اجتماعًا طارئًا في 5 يوليو 2013 بعد انقلاب مصر، وقرر خلاله أن الإطاحة بالرئيس المنتخب ديمقراطيًا لا تتفق مع الأحكام ذات الصلة من الدستور المصري، ولذلك يُعتبر هذا الإجراء تغييرًا غير دستوري للحكومة، وقرَّر المجلس تعليق مشاركة مصر في أنشطة الاتحاد الإفريقي حتى استعادة النظام الدستوري. كان هذا هو الموقف الأولي للاتحاد الإفريقي إزاء ما حدث في القاهرة، لكن ثمَّة تغير مفاجئ قد حدث تجاه الأزمة التي لم يتم حلها حتى الآن في القاهرة، فبعد عدة زيارات للجان روتينية شكَّلها الاتحاد الإفريقي لبحث الوضع في مصر وسُبل لحل الأزمة، جاءت توصية من رئيس مجلس السلم والأمن الإفريقي “بول لولو بولس” بعدم إرسال بعثة إفريقية لمراقبة انتخابات الرئاسة المصرية والتي كان من بين مرشحيها الجنرال السيسي الفاعل الأول في الإجراءات الغير الدستورية التي تمت في الثالث من يوليو. ولكن المفاجأة أتت برفع العقوبات عن مصر واستمرار نشاطها بالاتحاد الإفريقي، وهو ما وصفه البعض بفتح لنافذة الانقلابات العسكرية في إفريقيا مغلفة بشكل ديكوري للانتخابات. فسَّر البعض ذلك بأن الاتحاد الإفريقي رضخ لضغوطات إقليمية خليجية وعدت بفتح مجال أكبر للاستثمار في إفريقيا مقابل التغاضي عن الإجراءات المُتخذة ضد مصر. وقد ظهرت نتائج ذلك بالانقلاب العسكري الذي تم في دولة بوركينا فاسو، حيث أعرب الاتحاد الإفريقي عن قلقه بشأن الإجراءات التي تمت هناك من قِبل الجيش، فقد أُطيح برئيس بوركينا فاسو من قِبل قائد الجيش بعد نيته تعديل الدستور للترشح لمدة رئاسية أخرى، ثم قام ضابط بالحرس الجمهوري بتنصيب نفسه رئيسًا للبلاد، رافضًا تولي رئيس الأركان للحكومة في مشهد يعيد إلى الأذهان عقود الانقلابات الإفريقية المتكررة؛ وهو ما شجعه رضوخ الاتحاد الإفريقي للضغوطات الخارجية بتغيير موقفه من انقلاب الجيش في مصر، فنتج عن ذلك سلسلة من الانقلابات في الغرب والساحل الإفريقي.[4]

– الجيش والسياسة لا يجتمعان:

كالخير والشر والماء والزيت. فالطبيعة الهيكلية للجيش بمفهومها الأبوي التسلطي وتنفيذ الأوامر دون اعتراض ولا تفكير وشورى، هي طبيعة لا تتواءم مع الطبيعة الديمقراطية القائمة على مداولة السلطة ورفض الانسياق الأبوي التسلطي خلال تنفيذ الأوامر والرجوع إلى السلطات التشريعية كالجمعيات الوطنية أو البرلمانات لمناقشة الأمر، وللسلطة القضائية نقضها والطعن في شرعيتها. إذًا المشكلة الأساسية التي تعاني منها الدولة الإفريقية هي مشكلة هيكلية (عسكر متسلطين يتبعون نظامًا أبويًا غير ديمقراطي في أعلى الهرم) فمن البديهي أن يكون النظام الذي يحتويهم غير ديمقراطي. لذلك شكَّلت الانقلابات العسكرية ظاهرة سياسية في البلدان الإفريقية، فأصبح العسكر يسعون للسلطة لتكديس الثروة الهائلة في حساباتهم الشخصية والفساد في أعلى مستوياته، فأصبحت الدول الإفريقية تتصدر قائمة أكثر الدول فسادًا في العالم، إذ أصبحت السلطة غاية وأداة لتحقيق رغبات العسكر الفاسدة، وبحكم النظام الأبوي للعسكر، فالنقد عندهم خيانة وطنية، وهذا بالضرورة قد يؤدي لتصفية الغير موالين لهم.[5]

ثانيًا: خبرات إفريقية من الانقلابات العسكرية:

ويُعنى هذا الجزء برصد مجموعة من الخبرات من تجارب الدول الإفريقية في تعاملها مع الانقلابات، كالتالي..

تجربة بوركينا فاسو:

إفريقيا والانقلابات العسكرية: نظرة على التجارب الإفريقية وخبرات مُستخلصة

عندما تظاهر شعب بوركينا فاسو ضد الرئيس بليز كومباوري، أواخر أكتوبر 2014؛ احتجاجًا على عزمه الترشح لولاية رئاسية خامسة، لم يتوقع كثيرون أن تنجح الحركة الجماهيرية في ثني الرجل الذي يمسك بزمام السلطة منذ 27 عامًا عن عزمه، ناهيك عن إجباره على الفرار إلى ساحل العاج. لكن العقود الثلاثة تحت حكم كومباوري كانت كافية لتنامي الغضب الشعبي؛ فاجتاح المتظاهرون الإذاعات الحكومية، وأشعلوا النار في مبنى البرلمان، وحرقوا منازل أقارب الرئيس. ولم تتوقف احتجاجاتهم أمام الغاز المسيل للدموع ولا الرصاص الحي، حتى بعدما نجحوا في إسقاط مشروع قانون تمديد الولاية وأجبروا الرئاسة على حل الحكومة. كان من الممكن أن يدب اليأس في قلوب الجمهور بعدما فشلت احتجاجاتهم السابقة في أن تؤتي أُكُلها ست مرات على الأقل منذ عام 1999، لكن لا اليأس عرف طريقًا إلى قلوب البوركينابيين ولا الإحباط نال من عزيمتهم؛ إذ كان الشعب على ما يبدو قد آمن بقدرته على تحقيق سابقة في إفريقيا جنوب الصحراء، وبالرغم من سقوط الحكم – برحيل كومباوري– في يد القائد العام للقوات المسلحة الجنرال أونوري تراوري، الذي أعلن نفسه رئيسًا للدولة طبقًا للأحكام الدستورية –حسبما ورد في إعلانه–؛ إلا أنه عندما انبرى الجنرال السابق في الحرس الجمهوري جيلبرت دينديري لينتزع زمام القيادة المؤقتة من ميشيل كفاندو، ويعلن نفسه رئيسًا للبلاد قبل ثلاثة أسابيع فقط من الانتخابات التي كانت مقررة في 11 أكتوبر لتسليم السلطة إلى حكومة منتخبة. لم يتوقع كثيرون أن يُجبَر دينديري على التراجع في الأسبوع ذاته الذي نصَّب فيه نفسه مسؤولًا عن البلاد. إذا كان هناك شيء واحد أثبته شعب بوركينا فاسو حين أجبر كومباوري على الاستقالة ودينديري على إلقاء السلاح، فهو أن الشعوب هي وحدها القادرة على إرباك تنبؤات حتى أكثر المراقبين المخضرمين. صحيحٌ أن الجيش النظامي كان على أهبة الاستعداد للتحرك ضد حرس النخبة الرئاسي، لكن العاصمة واجادوجو التي أمر قادة الجيش بتطويقها كانت أيضًا في عهدة المتظاهرين العفويين الذين خرجوا ضد المحاولة الانقلابية. وهكذا وصلت الرسالة واضحة وحاسمة إلى الجنرال دينديري –بلغة يفهمها الرجل العسكري العتيد– أنه سيضطر إلى القتال –ليس فقط ضد الجيش، ولكن أيضًا الشعب– إذا اختار الحفاظ على السلطة.[6]

تجربة بنين وجامبيا:

إفريقيا والانقلابات العسكرية: نظرة على التجارب الإفريقية وخبرات مُستخلصة

لم يمكن مشهد انتقال بنين إلى الديمقراطية ملحميًا، ولم يُقَدِّم البلد الواقع غرب إفريقيا نموذجًا ينتصر لتنظيرات التنمية الاقتصادية وآثارها التحوُّلية في القارة الفقيرة، لكن بنين مرَّت بثلاث مراحل شبه تقليدية: أولها؛ انهيار الحكومة القائمة، وثانيها؛ تمهيد لانتقال تدريجي إلى الديمقراطية، وثالثها؛ استمرار الحد الأدنى من هذه الحالة. في المرحلة الأولى، فاقمت الأزمة الاقتصادية من نقاط الضعف الموجودة في الحكومة القائمة، وفي المرحلة الثانية، دعمت الجهات الفاعلة الخارجية عملية التحوُّل الديمقراطي، فيما ساهمت مجموعات محلية متنوعة في عملية سياسية لم تهيمن عليها أي مجموعة بمفردها، ثم في المرحلة الثالثة، اكتسبت القيادة المحلية والحوافز المؤسسية أهمية خاصة. لم يكن مرَّ على استقلال بنين عن فرنسا في عام 1960 سوى ثلاثة أعوام حين شهد البلد الواقع في غرب إفريقيا انقلابًا على هوبير ماجا، أول رئيس للبلاد، بقياده كريستوف سوجلو الذي خدم سابقًا في الجيش الفرنسي وكان متزوجًا من امرأة فرنسية. بعدها بعامين كرَّر سوجلو الكرَّة ضد سورو ميجان أبيثي، قبل أن يشرب من الكأس ذاته على يد موريس كوانديتي في ديسمبر 1967. في أكتوبر 1972 كانت بنين على موعد مع انقلابٍ سيظل محفورًا في الذاكرة لفترة طويلة، قاده ماثيو كيريكو، الرجل الذي حكم البلاد طيلة 19 عامًا حتى 1991، قبل أن يُجرَّد من سلطته خلال المؤتمر الوطني الذي عُقِد في عام 1990. بسيطرة ماثيو كيريكو على بنين، انتهت سلسلة من الانقلابات والانقلابات المضادة التي ابتليت بها الدولة منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960. لكن بعد ثلاث سنوات، تبنى كيريكو نظام دكتاتوريًا ماركسيًا – لينينيًا تحت حكم الحزب الواحد والقيادة العسكرية للجنرال كيريكو نفسه. استمر هذا الوضع 17 عامًا، لكن الإفلاس المالي الناجم عن سوء الإدارة الاقتصادية لخزائن الدولة أضعف حكم الجنرال. في يناير 1989 بدأ طلاب الجامعات الذين يطالبون بعودة الوظائف المضمونة في القطاع العام، والمعلمين الغاضبين من عدم دفع الرواتب لشهور، موجة من الاحتجاجات والإضرابات استمرت حوالي 20 أسبوعًا. بحلول نهاية العام، نمت الحركة الاحتجاجية لتشمل مجموعات أخرى من المجتمع المدني، واتخذت طابعًا سياسيًا أكثر عمومية، مطالبة باستقالة كيريكو وتطبيق الحكم الديمقراطي. كانت المشاركة الشعبية لافتة، ففي شهر ديسمبر وحده تظاهر أكثر من 40 ألف مواطن في شوارع أكبر مدينتين في البلاد. وتحت وطأة هذا الضغط السياسي، وتعليق الدعم المالي والدبلوماسي الفرنسي، ألغى كيريكو الماركسية – اللينينية، وأضفى الشرعية على أحزاب المعارضة، وأعلن عقد مؤتمر وطني في فبراير 1990 لمناقشة إمكانية تطبيق الحكم الديمقراطي. وصاغ المؤتمر دستورًا ديمقراطيًا جديدًا، وأكد السيادة على البلاد، ونظم انتخابات وطنية تنافسية متعددة الأحزاب في العام التالي. بيد أن الحد الأدنى من التعددية الديمقراطية الذي حظيت به بنين منذ ذلك الحين لم يمنع كيريكو من العودة إلى الرئاسة عبر انتخابات 1996، ثم مرة أخرى عام 2001 في ظل ظروف مثيرة للجدل، قبل منعه من الترشح مرة أخرى في عام 2006؛ لأن الدستور يقصر ولاية الرئيس على فترتين فحسب ويشترط أن يكون المرشح أقل من 70 عامًا، بينما كان كيريكو قد بلغ السبعين في عام 2003 خلال فترة ولايته الثانية. تأمل شعب بنين كيف أن محاولات الانقلابات التي نُكِبوا بها أزيحت بمحاولات انقلابٍ أخرى – وبلدهم ليست بدعًا من دول القارة المنكوبة – فلم تكن لديهم رفاهية البحث عن حلول غير تقليدية خارج الصندوق، بل أجبرتهم الأثقال المتراكمة على الرضا بالحد الأدنى، ثم كان اختيارهم أن غفروا خطيئة منفذ آخر انقلابٍ ناجح شهدته البلاد منذ ذلك الحين. صحيحٌ أن العقيد بامفيل زوماهون حاول في 4 مارس 2013 الانقلاب على الرئيس توماس يايي بوني، لكن قيمة المغفرة التي تعلمتها بنين كانت حاضرةً مرة أخرى في قرار الرئيس بالعفو ليس فقط عمن حاولوا الانقلاب عليه، بل من حاولوا تسميمه قبلها بعام، لكنه كان ذكيًا بما يكفي ليختار ليس فقط توقيت تراجعه عن صدارة المشهد، بل أيضًا إعادة ترميم صورته السياسية، والنجاة برقبته من مصيرٍ دموي، وكانت النتيجة أن أعلنت البلاد أسبوع حداد وطني عند وفاته في أكتوبر 2015 عن عمر يناهز 82 عامًا. وهكذا أدرك شعب بنين أنه إذا اعتقد رجل الجيش أنه أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التمسك بالسلطة أو السجن وربما الموت فسوف يستميت للبقاء في منصبه، وهذه مخاطرة ينبغي تجنبها كلما كان ذلك ممكنًا. وكمثال على ذلك؛ فإن رجل جامبيا القوي يحيى جامع، الذي كان مستعدًا للتنحي عن السلطة بعد خسارته الانتخابات الرئاسية في ديسمبر 2016، لكن عندما أعلن مرشح المعارضة الفائز، أداما بارو، أنه سيحاكم جامع، تصلَّب موقف الأخير وأعلن حالة الطوارئ بذريعة وجود مخالفات شابت العملية الانتخابية وحاول الضغط على البرلمان لتمديد حكمه لمدة ثلاثة أشهر، ولولا الضغوط الدولية والوساطات الإقليمية لما قبل في النهاية بتسليم السلطة سلميًا.[7]

تجربة غانا:

القدرة على تقديم تنازلات، حتى لو لم تتحقق كل أهدافهم الحيوية، وشعر بعض مؤيديهم المهمين بالإحباط، تلك كانت رسائل التجربة الغانية. فغالبًا ما يتطلب استبعاد المواقف المتطرفة قدرًا من الشجاعة السياسية أكبر من التمسك بمبادئ جذابة، لكنها غير عملية. في غانا رفض جون كوفور، زعيم الحزب الوطني الجديد، مقاطعة انتخابات عام 1992، أول استحقاق تشهده البلاد عقب إقرار الدستور الجديد، اقتناعًا منه بضرورة مشاركة حزبه مستقبلًا في انتخابات عام 1996، على الرغم من معرفته المسبقة بإمكانية خسارته. لكن فوز كوفور اللاحق في انتخابات عام 2000 أدى إلى انتقال سلمي للسلطة عبر صندوق الاقتراع، وهو نمط استمر لسنوات لاحقة. كان كوفور مقتنعًا بعدم إمكانية انتزاع السلطة من قبضة جيري رولينجز، الذي قاد انقلابين ناجحين على مدى 20 عامًا قضاها في سدة الحكم، إلا بهذه الطريقة الطويلة المرهقة. لكن الأيام أثبتت أن تهديد رولينجز لن يزول بمجرد تسليمه السلطة، بل سيظل شبح الانقلاب محلقًا في الأجواء، وهو ما رسخه رولينجز حين أشار في خطابٍ لاحق بلهجة تحريضية إلى أن كوفور لم يكن يثق في الجيش، غير أن القيادة العسكرية تعهدت بالولاء للحكومة المنتخبة. ثمَّة ثغرة أخرى رُصدت تتمثَّل في نقص المعلومات المتبادلة بين الحكومات المنتهية ولايتها والحكومة الجديدة؛ ما دفع إلى القول بأن أول انتقال للسلطة عبر صندوق الاقتراع في غانا من حكومة جيري رولينجز إلى حكومة جون كوفور كان سببًا في الانقسام وألحق الضرر بالبلاد. اتهمت الحكومة الجديدة فريق رولينجز بعدم تقديم معلومات كافية عن ميزانيات الوزارة، والموظفين، وأمور أخرى تسببت في إلغاء أو تأخير عدد من مشاريع البنية التحتية بسبب نقص المعلومات، فضلًا عن إثارة الشكوك بشأن الفساد، وبالتالي استغرقت الحكومة الجديدة أشهرًا لرسم توجهات سياسية واضحة. وفي المقابل اتخذ كوفور بعض التدابير الاقتصادية غير الشعبية، مثل رفع أسعار الوقود بنسبة 64%، ومضاعفة أسعار الكهرباء والمياه. كان التحدي الذي يواجه الحكومة الجديدة هو: إعادة هيكلة الإدارة العامة وتحديثها حتى يكون الانتقال التالي للسلطة أكثر تنظيمًا وتناسقًا. وعلى الرغم من أن ضيق الوقت والمضاعفات السياسية أعاقت الإنجاز الكامل لهه الأهداف، إلا أن المحاولات ساعدت في تخفيف التوترات السياسية في غانا، وتحسين جودة المعلومات المتبادلة بين الحكومات السابقة واللاحقة. عندما وصلت الحكومة الجديدة إلى السلطة بعد انتخابات عام 2009، عولجت عملية الانتقال بشكل أكثر كفاءة، وكان هناك استمرارية أكبر بكثير على مستوى السياسات؛ ما شكل خطوة مهمة في مسيرة الدولة صوب الديمقراطية. استشهد المشاركون في المرحلة الانتقالية بعدد من الأمثلة على هذا النجاح في استمرارية السياسات أثناء انتقال السلطة، منها برنامج التأمين الصحي الوطني والتغذية المدرسية، اللتان واصلت عملهما الإدارة الجديدة وعملت على توسيعهما.[8]

تجربة زامبيا:

ناضل الزعيم النقابي فريدريك تشيلوبا لإنهاء حكم الحزب الواحد، وتحدى الرئيس كينيث كاوندا الذي يحكم البلاد منذ عام 1964 في انتخابات عام 1991 كمرشح للحركة الديمقراطية متعددة الأحزاب، ليصبح ثاني رئيس للبلاد منذ الاستقلال. سعى تشيلوبا إلى تغيير المسار الذي سلكته البلاد في ظل كاوندا على مدى 27 عامًا، وصاغ دستورًا جديدًا فتح الباب أمام السياسة متعددة الأحزاب، وزاد من حرية الصحافة، وبدا للمراقبين أنه يضع حجر الأساس لانطلاقة هائلة صوب الديمقراطية، وبعد عقود من الحكم السيئ، بدا أن الرئيس الجديد ساعد بنجاح في وضع زامبيا على مسار ديمقراطي قادر على البقاء. مع ذلك سرعان ما أصبح واضحًا أن المؤسسات الزامبية السائدة لم تكن قادرة على تقييد النخب السياسية وغيرها من الجهات الفاعلة الساعية إلى خدمة مصالحها الخاصة على حساب الأهداف الإنمائية الأوسع نطاقًا. من المفارقات التي تم رصدها أن تشيلوبا الذي انتقد بضراوة حكم كوندا الاستبدادي، ودعا إلى فرض قيود على مدة الرئاسة في عام 1991، كان هو نفسه الذي حاول تعديل الدستور الزامبي في عام 2001 حتى يتمكن من الترشح لولاية ثالثة، ولم يتراجع عن عزمه إلا بعد احتجاجات شعبية واعتراضات عامة من داخل حزبه. الأسوأ من ذلك أن الإصلاحات الاقتصادية المزعومة لم تدم طويلًا؛ فخلال حكمه زادت الإدارة الاقتصادية سوءًا وتفشى الفساد، وحرص تشيلوبا على تقوية سلطاته التنفيذية بما يسمح له بالتصرف دون خوف من المساءلة. في عام 2007، قضت محكمة بريطانية بإدانة تشيلوبا بسرقة 46 مليون دولار من الأموال العامة، ومع ذلك فشلت المنظومة القانونية الهشة في زامبيا في متابعة القضية. كما رفع الرئيس السابق، ليفي مواناوازا، قضايا فساد عديدة ضده بتهمة سرقة الأصول العامة، لكن العديد من هذه القضايا أسقطت بسبب العقبات البيروقراطية وفي بعض الأحيان نتيجة العبث القضائي. وعلى الرغم من منح حرية الصحافة وحرية تشكيل أحزاب المعارضة، فإن الصحفيين البارزين ومسؤولي أحزاب المعارضة اعتُقلوا في كثيرٍ من الأحيان بتهم ملفقة بزعم التخطيط للإطاحة بالحكومة. وسرعان ما بدأ النظام الجديد اقتفاء أثر النظام السابق، فصحيح أن تشيلوبا أطلق شرارة تعزيز العملية الديمقراطية في زامبيا، لكن بحلول نهاية حكمه كان قد عمل على إضعاف الديمقراطية في البلاد. وما بدا في البداية كدراسة حالة عن التحول الديمقراطي الناجح في إفريقيا تبين أنه تجربة فاشلة. بل يمكن القول إن تشيلوبا عام 1991 لم يكن ليتعرف على تشيلوبا عام 2001، وهو نموذج شائع بين القادة الأفارقة. صحيحٌ أيضًا أن التخلص من الرؤساء الانقلابيين والانعتاق من نظام الحزب الواحد إنجازٌ جدير بالاحتفاء، لكن تجربة زامبيا تسلط الضوء على حقيقة أن الانتخابات في حد ذاتها لا تصنع ديمقراطيات. وقد فشل التحول الديمقراطي في زامبيا تحت حكم تشيلوبا؛ لأن الانتخابات لم تكن مدعومة بمؤسسات قوية.[9]

تجربة مالي وغينيا:

إفريقيا والانقلابات العسكرية: نظرة على التجارب الإفريقية وخبرات مُستخلصة
يُعتبر الانقلاب العسكري الذي جرى في كوناكري، عاصمة غينيا، النسخة الأحدث من مسلسل قديم من عمليات استيلاء قوات مسلحة، بشكل مباشر، على السلطة السياسية في بلادها. النسخة الأقرب جرت في مالي، الجارة الكبيرة الشرقية لغينيا، التي نفذ فيها الجيش انقلابًا ناجحًا في 24 مايو الماضي، وقبلها جرت محاولة انقلابية في مارس في النيجر المجاورة لمالي قبل أيام من تنصيب الرئيس، وفيما نجحت الحركتان العسكريتان في مالي وغينيا، وتم أسر رئيسيهما، فإن محاولة الانقلابيين في النيجر مُنيت بالفشل. يكرر ما حدث في الدول الإفريقية الثلاث هذا العام الأنماط النموذجية التي بدأت بالظهور بعد الاستقلال الوطني عن الاستعمار. رغم الادعاءات الكبيرة التي يطلقها الانقلابيون، والترحيب الشعبي الذي تُستقبل به بعض هذه الحركات أحيانًا، وخصوصًا حين تحصل بعد استعصاء أزمات اقتصادية وسياسية مريرة، أو بعد حكم عسكري آخر طال حكمه، فسرعان ما يعود الناس لتذكر أشباح الدكتاتورية القاسية، وما يتلازم معها من نشر الأحكام العرفية وارتفاع معدلات الانتهاكات والقمع والفساد. يُمكن إحالة جزء من هذه الإشكالات الكبيرة التي تعاني منها إفريقيا إلى التدخلات الغربية منذ نشوء ظاهرة الاستعمار الحديث، وما أنتجته من تقسيمات جغرافية وسياسية مبنية، حصرًا، على مصالح تلك الدول، وطرق تقاسمها لأقاليم القارة، من دون أي اعتبار للجغرافيا الطبيعية، وكذلك على وحشيتها الفائقة والإرث العنصري الذي أورثته لبعض تلك البلدان، كما في بوروندي، وجنوب إفريقيا. ومن المهم أيضًا أخذ عامل تأثير الجوار في المعادلة، فمالي هي دولة تقع في الوسط بين غينيا والنيجر، ومجمل محاولات الانقلابات تحصل، بشكل رئيسي، على ما يشبه خطًا مستقيمًا ضمن إفريقيا الوسطى، مع استثناء بوروندي وجزر القمر البعيدتين عن هذا الخط. يُمكن أيضًا أن نأخذ في الاعتبار الدور التأسيسي الذي قام به الانقلابيون العرب، بدءًا من بكر صدقي، العراقي، وحسني الزعيم، السوري، مرورًا بجمال عبد الناصر، المصري، الذي أصبح علمًا على الانقلابات العسكرية التي تحوَّلت إلى ثورات اجتماعية ذات أثر عالمي، وصولًا إلى معمر القذافي، الليبي، وعلي عبد الله صالح، اليمني، وغيرهم كثيرون. تتوازى هذه الانقلابات العسكرية المحضة، للأسف، مع نزوع متزايد، ضمن زعماء منتخبين، لتركيز السلطات في أيديهم، والاستعانة بالجيش والأمن لتغيير النظام السياسي وتحويله إلى نمط سلطوي، لا يختلف كثيرًا، في نتائجه، عن الانقلابات العسكرية.[10]

 

الخُلاصة؛ من أجل تعزيز وترسيخ المُثل الديمقراطية في إفريقيا، ثمَّة حاجة إلى بعض الإصلاحات الرئيسة، على رأسها: القضاء على الرئاسات ذات الصلاحيات الإمبراطورية. ويمكن القيام بذلك عن طريق نقل السلطة إلى الوحدات المحلية وتعزيز السلطة القضائية والتشريعية من أجل تطوير الترتيبات المؤسسية لمراقبة السلطة التنفيذية. كما تحتاج البلدان الإفريقية كذلك إلى مجتمع مدني أقوى يمكنه مساءلة الحكومات والتأثير على مستقبل الديمقراطية في القارة، بالإضافة إلى تكثيف جهود منع الفساد وملاحقته داخل الحكومة. ولضمان عدم تكرار التجارب الانقلابية في إفريقيا؛ لابد من الوقوف على الخبرات السابقة من التجارب التي مرَّت بها معظم الدول الإفريقية وآليات التعامل معها والتي اختلفت من دولة إلى أخرى.

[1]  دلال العكيلي، “إفريقيا: ما لا تعرفه عن قارة الانقلابات؟!”، شبكة النبأ المعلوماتية، 7/5/2018. متاح على الرابط: https://cutt.us/nQZpB

[2]  اسماعيل محمد علي، “ماذا تعني الانقلابات العسكرية في إفريقيا؟”، عربية Independent، 18/9/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/VrGlR

[3]  دلال العكيلي، مرجع سبق ذكره.

[4]  دلال العكيلي، مرجع سبق ذكره.

[5]  يوسف محمد موسى، “العسكر والسلطة.. إفريقيا نموذجًا”، الجزيرة نت، 14/8/2017. متاح على الرابط: https://cutt.us/ffOW2

[6]  “الكفاح الأسمر.. 5 من أبرز تجارب التخلص من «حكم العسكر» في إفريقيا”، ساسة بوست، 22/4/2019. متاح على الرابط: https://cutt.us/0zW0i

[7]  “الكفاح الأسمر.. 5 من أبرز تجارب التخلص من «حكم العسكر» في إفريقيا”، مرجع سبق ذكره.

[8]  “الكفاح الأسمر.. 5 من أبرز تجارب التخلص من «حكم العسكر» في إفريقيا”، مرجع سبق ذكره.

[9]  “الكفاح الأسمر.. 5 من أبرز تجارب التخلص من «حكم العسكر» في إفريقيا”، مرجع سبق ذكره.

[10]  “إفريقيا: مزيد من الانقلابات؟”، القدس، 5/9/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/NCIUi

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022