تبلغ قيمة الإيرادات في الموازنة العامة للدولة (2021/2022) نحو 1.365 تريليون جنيه، بينما تبلغ قيمة الإيرادات الضريبة منها 983.1 مليارا بنسبة تصل إلى 73% من جملة إيرادات الدولة، أما تبلغ قيمة الإيرادات الأخرى (غير الضريبية من صناعة وتصدير وزراعة وقناة السويس وسياحة وغيره) فتبلغ نحو 380.6 مليار جنيه فقط؛ الأمر الذي يعكس حجم الكارثة وتراجع معدلات الإنتاج حتى باتت جيوب المواطنين هي الممول الأول والرئيس لموازنة الدولة. وحتى ندرك حجم الكارثة على نحو أوضح، فإن سداد أقساط القروض تصل إلى 593 مليار جنيه، والفوائد المطلوب سدادها عن القروض المحلية والأجنبية في مشروع الموازنة بنحو 579.6 مليار جنيه، وبالتالي فإن إجمالي أقساط وفوائد الديون المستحقة نحو 1.172 تريليون جنيه. فإذا طرحنا هذا الرقم من جملة الإيرادات (1.365 تريليونا) يتبقى 193 مليار جنيه فقط، يفترض أن تخصص لباقي بنود المصاريف في الموازنة والتي تبلغ تريليون و837 ملياراً و723 مليون جنيه! لهذا يلجأ السيسي إلى جيوب المواطنين كحل أول بمزيد من الرسوم والضرائب الباهظة ورفع أسعار الخدمات من مياه وكهرباء وغيره، ويلجأ إلى القروض الخارجية والمحلية كحل آخر حتى بلغ حجم الديون الخارجية 134.8 مليار دولار وفقا لبيانات البنك المركزي. بينما تجاوزت الديون المحلية نحو 4.7 تريليونات جنيه بنهاية مارس 2021م! لهذه الأسباب يتجه النظام بإصرار نحو دمج الاقتصاد الموازي (غير الرسمي) في منظومة الاقتصاد الرسمي لجباية ضرائب سنوية تقدر بنحو 400 مليار جنيه إلى 800 مليار وفق تقديرات حكومية وبحثية.
ويتفق معظم خبراء الاقتصاد على أن دمج «الاقتصاد الموازي» في الاقتصاد الرسمي في أي دولة هو بحد ذاته خطوة صحيحة بشرط أن تعود بالفائدة على المواطنين من خلال استخدام حصيلة الضرائب في تحسين مستوى الخدمات مثل التعليم فلا يحتاجون إلى الدروس الخصوصية التي تستنزف دخول معظم الأسر المصرية في ظل غياب تام لدور المدرسة. وكذلك تحسين منظومة الصحة حتى يتمكن المواطنون من التداوي في المستشفيات العامة بدلا من النفقات الباهظة على عيادات الأطباء والمستشفيات الخاصة في ظل التدهور الحاد في منظومة الصحة المصرية، إضافة إلى توفير تأمين اجتماعي حقيقي يكفل لكل أصحاب الأنشطة التجارية حياة كريمة ومؤمنة”. لكن للأسف ما يحدث في مصر شيء مختلف؛ فالحكومة لا يهمها سوى فرض المزيد من الضرائب والرسوم لسد العجز المتزايد في الموازنة العامة من أجل سداد أقساط الدين وفوائده التي تجاوزت التريليون جنيه، وهي سابقة في تاريخ البلاد”.
الاقتصاد الموازى أو اقتصاد الظل أو الاقتصاد غير الرسمي؛ هو الاقتصاد غير المدرج فى الناتج القومى الرسمى ويخرج عن النطاق الإحصائى للدولة، والذى يعبر بشكل كبير فى مجموعه عن الصناعات الحرفية البسيطة وشبه البسيطة مثل الورش ومصانع «بير السلم» وطبقة السباكين والنجارين والكهربائية والسائقين وعمال البناء والفلاحين وباعة الأرصفة والأسواق العشوائية والعقارات غير المسجلة والباعة الجائلين وسائقي التكاتك وغيرها من الأنشطة البسيطة التي يعمل بها ملايين المصريين البسطاء في إطار غير مقنن ولا يدفعون الضرائب للدولة عن أعمالهم. وهؤلاء ينتشرون فى شتى المجالات الخدمية والاستهلاكية اليومية البسيطة. وتخرج هذه الأنشطة بالضرورة عن سيطرة الدولة وعن سلطتها القانونية والرقابية، وفى مصر يمثل الاقتصاد الموازى نسبة كبيرة من إجمالى الناتج القومى المحلى لنسبة قد تزيد على 30% لتصل إلى نحو 50% أو تزيد قليلا.
هذا النوع من الاقتصاد غير الرسمي هو ما تحاول الدولة دمجه مع الاقتصاد الرسمي منذ عدة سنوات لا سيما في أعقاب الاتفاق مع صندوق النقد الدولي في نوفمبر 2016م، ذلك بعدة طرق من بينها الشمول المالي والتحول الرقمي، ومن خلاله يتم تقديم مزيد من الحوافز الائتمانية والمشروعات الصغيرة ومتوسطة ومتناهية الصغر للمستفيدين”.
وجاءت تصريحات الدكتور محمد معيط، وزير المالية بالحكومة المصرية ــ في مداخلة هاتفية مع برنامج «آخر النهار» يوم الأحد 26 سبتمبر 2021م ــ لتكشف عن إصرار النظام على دمج الاقتصاد الموازي (غير الرسمي أو اقتصاد الظل) إلى الاقتصاد الرسمي وذلك بهدف إدخال هذه القيمة الاقتصادية الهائلة ضمن الناتج المحلي الإجمالي؛ وهو ما سينعكس ــ حسب تصريحات الوزيرــ على تحسين المؤشرات الاقتصادية وتحقيق التوازن بين القطاعات المختلفة. وقدَّر الوزير حجم الاقتصاد الموازي بنحو 55% من الناتج المحلي الإجمالي. وهي التصريحات التي جاءت في أعقاب إعلان مصلحة الضرائب يوم السبت 25 سبتمبر 2021م، تطبيق فرض ضريبة على صناع المحتوى لمن يبلغ دخلهم السنوي 500 ألف جنيه خلال 12 شهرًا من تاريخ مزاولة النشاط، مطالبة إياهم بالتوجه للمأمورية، الواقع في نطاقها المقر الرئيسي للنشاط، لفتح ملف ضريبي.[[1]]
ودأب نظام السيسي خلال السنوات الأخيرة على استهداف الاقتصاد غير الرسمي الذي تمتد أنشطته إلى مختلف القطاعات والخدمات، ورغم تأثر هذه الأنشطة بتداعيات فيروس كورونا الجديد، إلا أنه لا يزال صامداً معتمداً على الحركة الشرائية لزبائنه لا سيما من متوسطي ومحدودي الدخل والفقراء.
حجم الاقتصاد الموازي
تختلف التقديرات حول حجم الاقتصاد غير الرسمي في مصر، فبحسب تقديرات أجراها الاقتصادي فريدريك شنايدر، فالقطاع غير الرسمي في مصر عام 2007 كان يمثل ما قيمته 40 – 60% من الناتج المحلي المصري، ذلك يعني أن حوالي نصف الاقتصاد والأنشطة المدرة للدخل في مصر تقع في نطاق الاقتصاد غير الرسمي. المثير للاهتمام هو أن الباحث نفسه كان قد أجرى دراسة على 162 دولة أخرى حول العالم، ليجد أن متوسط الأنشطة غير الرسمية المحسوبة في الاقتصاد تصل إلى 17% من الناتج المحلي لتلك الدول، والملفت للنظر أن نطاق الاقتصاد غير الرسمي في عدد من الدول المتقدمة في غرب أوروبا بلغ قرابة 31% من الناتج المحلي في 2007. تعطينا تلك التقديرات إشارة إلى أن الاقتصاد غير الرسمي لا يمثل بالضرورة مرضًا مزمنًا علينا علاجه. بالطبع يجعل الاقتصاد غير الرسمي من الرقابة على السوق وجودة السلع أمرًا أصعب، وأيضًا يضر بشكل كبير بعملية جباية الضرائب في البلد، لكنه يمثل جزءًا طبيعيًا من الهيكل الاقتصادي للدول.[[2]]
وتظهر البيانات الرسمية خلال السنوات القليلة الماضية أن حجم تعاملات السوق المصرية سنويا تزيد على 400 مليار دولار، أي أكثر من 7 تريليونات جنيه، نصيب السوق الموازية منها يزيد على 60% بنحو 4 تريليونات، بحسب بعض التقديرات والإحصائيات وفق دراسة أعدتها لجنة الضرائب باتحاد الصناعات المصرية، ونشرت في أغسطس/آب 2018. وطبقا لمعدلات تحصيل الضرائب الفعلية فهي من 20-27% من حجم السوق بشقيها الرسمي وغير الرسمي، وإذا اخذنا الحد الأدنى للتحصيل وهي نسبة 20% من هذه التعاملات، فإن الضرائب المفترض تحصيلها تزيد على 1.4 تريليون جنيه.[[3]] نصيب الاقتصاد الموازي منها ــ باعتباره 55% من الاقتصاد العام ـــ يصل إلى نحو 800 مليار جنيه.
ويصل عدد المنشآت العاملة في القطاع غير الرسمي (المؤسسات غير المسجلة) إلى مليوني منشأة تقريباً ويعمل به نحو أربعة ملايين عامل. لكن أحدث تقرير للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في 2021م كشف أن هناك ما يقرب من 7 ملايين مصري يعملون في قطاع الاقتصاد غير الرسمي.[[4]] وتقول وزارة المالية إن استمرار هذا الحجم من الأنشطة التجارية والاقتصادية خارج مظلة الاقتصاد الرسمي للدولة يحرم خزينة الدولة من عوائد ضريبية قدرتها بنحو 400 مليار جنيه سنويا، أي ما يعادل نحو 25.5 مليار دولار أمريكي.
استهداف الاقتصاد الموازي
سعى النظام بكل إصرار نحو تقنين أنشطة الاقتصاد الموازي ودمجه في الاقتصاد الرسمي عبر استهدافه بعدة إجراءات، من شأنها تقليص هذا النوع من النشاط إلى درجة كبيرة، وذلك عبر الاتجاه نحو الشمول المالي؛ بإدخال ودمج الفئات التي تعبر عن اقتصاد الظل وتكون فاعلة فيه، والسعي نحو تقليل مساحة التعامل بالبنكنوت «الكاش» لصالح التعامل الإلكتروني المصرفي «بالفيزا» وكروت «Atm»، وقد اتخذ البنك المركزى خطوات واسعة فى تفعيل ذلك السلوك المصرفى، وتزامن ذلك مع سن حزمة من التشريعات التي تدعم هذه التوجهات، فجاء قانون البنك المركزى والجهاز المصرفى رقم 194 لسنة 2020، إلى جانب حزمة تحفيزية تستهدف استقطاب الاقتصاد الموازى لداخل الاقتصاد الرسمى ومنها: دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة بمنح تراخيص مؤقتة وتسهيل القيد فى السجلات التجارية، وهو ما صدر بشأنه القانون رقم 152 لسنة 2020.[[5]]
كما اتخذ البرلمان العديد من الخطوات من أجل تحقيق هذا الهدف؛ حيث أقر عددا من التشريعات، من بينها تعديل قانون بشأن إشغال الطرق العامة والذى يمنح الحق فى الحصول على تصاريح لعربات المأكولات والتى تعتبر ضمن المنظومة غير الرسمية فى السابق ، وكذلك قانون شركات المساهمة والتوصية بالأسهم والشركات ذات المسئولية المحدودة الصادر بالقانون رقم 159 لسنة 1981م.
كما سن البرلمان ــ فى ختام دور الانعقاد الرابع المنقضى فى نهاية شهر يوليو من عام 2019 ــ قانون المحال العامة الجديد ، والذى يعد من التشريعات الاقتصادية والاجتماعية التي تستهدف البدء في دمج الاقتصاد غير الرسمى فى المنظومة الرسمية ، حيث يهدف القانون إلى حل مشكلات تراخيص المحال العامة وتيسير إجراءات الترخيص ، فى ظل أن 80 % من المحلات القائمة تعمل فى إطار غير قانونى وبالتالى يدخلون ضمن منظومة الاقتصاد غير الرسمى.
كما أعلنت الحكومة تقديم مشروع قانون للمشروعات الصغيرة إلى البرلمان والذى تضمنت مواده ــ بحسب الحكومة ــ تقديم تسهيلات عديدة لدمج الاقتصاد غير الرسمى، وفى مقدمتها توفيق أوضاع المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر العاملة فى مجال الاقتصاد غير الرسمى،من خلال إصدار تراخيص مؤقتة لها.[[6]]
وكان وزير المالية محمد معيط قد أصدر بيانا يوم السبت 24 يوليو 2021م ، اعتبر فيه أن القانون الجديد للمشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر، يتضمن العديد من الحوافز لدمج الاقتصاد غير الرسمي في الاقتصاد الرسمي. وقال إن القانون يتضمن: «ألا تتم المحاسبة الضريبية لمشروعات الاقتصاد غير الرسمي التي تقدمت بطلب الحصول على ترخيص مؤقت لتوفيق أوضاعها، عن السنوات السابقة لتاريخ تقديم هذا الطلب»، لافتاً إلى أن «الترخيص المؤقت الذي يصدر لكل من هذه المشروعات، يحل محل أي موافقات أو إجراءات قانونية أخرى. وقد تحددت الضريبة المستحقة ــ بحسب بيان الوزير ــ خلال فترة سريان الترخيص المؤقت، بألف جنيه سنوياً لمشروعات الاقتصاد غير الرسمي متناهية الصغر التي يقل حجم أعمالها السنوي عن 250 ألف جنيه، و2500 جنيه سنوياً للمشروعات التي يتراوح حجم أعمالها السنوي من 250 إلى 500 ألف جنيه، و5 آلاف جنيه سنوياً للمشروعات التي يتراوح حجم أعمالها السنوي من 500 ألف إلى مليون جنيه، دون الحاجة لإمساك دفاتر».[[7]]
كما سن النظام قانون السائس في 2020 بهدف جباية نحو 47 مليار جنيه من خلال السيطرة على مواقف السيارات والميادين وتنظيم عملية ركن وانتظار السيارات. وهو ما يضع عشرات الآلاف من الذين يعملون في مهنة السايس أمام ورطة كبيرة بإدخالهم في منظومة البيروقراطية الحكومية لإلزامهم بدفع رسوم باهظة لممارسة المهنة.
وتأتي توجهات السيسي نحو دمج الاقتصاد غير الرسمي رغم التهميش الحكومي لهذ الاقتصاد ومحاولات استهدافه بعمليات التقنين رغم أن هذا النوع من النشاط الاقتصادي هو من أنقذ مصر في أوقات الأزمات سواء في أعقاب ثورة 25 يناير 2011م عندما فرت مليارات الدولارات من الأموال الساخنة ورؤوس أموال رجال أعمال مبارك، نفس الأمر تكرر بعد انقلاب 03 يوليو 2013م واتفاق صندوق النقد في نوفمبر 2016م وما تلاه من موجهات متلاحقة من الغلاء الفاحش التي لم تتوقف حتى اليوم، كما أنقذ البلاد من السقوط في أعقاب تفشي جائحة كورونا منذ يناير 2020م وحتى اليوم.[[8]]
فشل عملية الدمج
ويعزو مراقبون وخبراء أسباب فشل السيسي في دمج الاقتصاد الموازي إلى السياسات المالية الخاطئة، وفي 2018م شنت الحكومة حملة موسعة مدعومة بحملات إعلامية بدف دمج الاقتصاد الموازي للاقتصاد الرسمي للدولة، وتضمنت هذه الحملة على بعض التحفيزات والمزايا الشكلية التي لم تقنع ملايين العاملين في الاقتصاد غير الرسمي ومن بينها الإعفاء الضريبي لمدة خمس سنوات ، وتوفير مظلة تأمينية. لكن هذه الحملة وتلك الجهود الحكومية باءت بالفشل وظلت نسبة الاقتصاد الموازي كما هي دون تغير يذكر.
فشل الحكومة في دمج الاقتصاد الموازي كان متوقعا وإلا كانت حققت أي نجاح في السنة الأخيرة من اتفاق القرض الأول مع صندوق النقد؛ حيث أخفقت في السيطرة على عجز الموازنة المرتفع، أو القروض وخدمة الدين التي ارتفعت إلى مستويات غير مسبوقة.
وحتى تنجح عمليات الدمج يتعين أولا خلق قاعدة بيانات دون أي رسوم لمدة عام؛ لأن العاملين في الاقتصاد الموازي لا يثقون في نوابا الحكومة. ثانيا: فرض رسوم رمزية لمدة عام للتأمينات والضرائب بدلا من البحث لهم عن برامج تأمينية واجتماعية غير مجدية. ثالثا: استخدام الحصيلة لعمل مناطق تنمية حتى تشعر تلك الطبقة أنها استفادت من الدخول في المنظومة الاقتصادية وليس استخدامها في (ترميم الموازنة العامة).
لكن الحكومة ــ كما هو متوقع ــ ستلجأ خلال الفترة المقبلة إلى ضم أكبر عدد ممكن من أصحاب الأنشطة الاقتصادية لمظلة الضرائب، وسنسمع عن أنواع جديدة وفئات مجتمعية جديدة أيضا”.
أهداف الحكومة
تعرض الاقتصاد غير الرسمي للكثير من المضايقات في السنوات الأخيرة، بهدف تحصيل رسوم وضرائب قدرتها دراسة اتحاد الصناعات في 2018 بنحو 60% من 1.4 تريليون جنيه ضرائب مستحقة على مجمل النشاط الاقتصادي الرسمي وغير الرسمي بشكل سنوي. معنى ذلك أن السيسي يستهدف أكثر من 800 مليار جنيه كضرائب سنوية من الاقتصاد الموازي، وهو رقم ضخم إذا علمنا أن إيرادات الضرائب بلغت نحو 856.6 مليار جنيه في العام المالي (2019/2020) وارتفعت إلى 964.7 مليار جنيه في العام المالي (2020/2021)، ويستهدف النظام زيادة الحصيلة الضريبية إلى نحو تريليون جنيه في العام المالي الحالي (2021/2022) بنسبة تصل إلى 73% من جملة الإيرادات المتوقعة في الموازنة والتي تصل إلى تريليون و365 مليار جنيه.
هذه الأرقام تبرهن على أن ما يشغل النظام هو تحقيق أكبر قدر من الموارد المالية من وراء دمج الاقتصاد غير الرسمي، وليس تنميته وتعزيز كفاءته وتوسيع حجم أعماله، بينما عمدت بعض الدول ــ مثل الصين ــ إلى تطوير هذا القطاع بتسهيلات كبيرة لإحداث نوع من التكامل في الإنتاج وتنمية الصادرات التي تعود في النهاية بالنفع على موارد الدولة، وفق قاعدة «دعه يعمل.. دعه يمر”، بإزالة القيود المفروضة على الأنشطة الاقتصادية التجارية والصناعية، لكن الحكومة المصرية تتبنى مبدأ مخالفا يعرقل عملية التنمية والاستثمار يقوم على دفع المزيد من الرسوم والضرائب.
يرجع اهتمام نظام السيسي بملف الاقتصاد الموازي إلى رغبته في زيادة حجم الناتج القومي، وبالتالي تحصيل رسوم تسجيل وتجديد وفحص ومتابعة، ودمغات وغيرها، إضافة إلى ــ وهو الأهم ــ فرض ضرائب جديدة لدعم موازنة الدولة”. حيث تعتزم الحكومة تحصيل ضرائب تبلغ قرابة تريليون جنيه (الدولار يساوي 15.75جنيه)، بحسب بيانات الوزارة لموازنة العام المالي 2021-2022 بزيادة نحو 18.3 بالمئة عن العام الماضي، أو ما يعادل أكثر من 73 بالمئة من إجمالي الإيرادات البالغة نحو تريليون و365 مليار جنيه، وفق أرقام الموازنة العامة للعام الحالي (2021/2022).
العمل على ضم القطاع غير الرسمى للاقتصاد الرسمي يعنى إضافة استثمارات قائمة وموجودة بالفعل للناتج القومى الإجمالى وهو ما يعنى تحسن كبير فى العديد من المؤشرات الاقتصادية المختلفة؛ وإن لم ينعكس ذلك مطلقا على تحسين مستوى معيشة الأفراد بل على العكس سوف تتراجع مستويات معيشة الفئات المستهدفة بالدمج؛ لأن النظام يريد جباية مئات المليارات سنويا من جيوب هؤلاء المواطنين، في ظل ثبات دخولهم الحالية. ومن شأن هذه الخطوة أن تثير حفيظة ملايين المصريين. كما أن هؤلاء سوف يرفعون أسعار خدماتهم لتوفير أموال الضرائب من جيوب المستهلكين بما يعني زيادة أسعار الكثير من السلع والخدمات التي يقدمها الاقتصاد الموازي وتواصل موجات الغلاء التي لا تتوقف.
نظام السيسي لا ينظر إلى المسألة من هذه الزوايا والأبعاد، لكنه ينظر إلى حجم الأموال التي سيجبيها والتي تقدر بين (400 إلى 800 مليار جنيه سنويا)، وهي أرقام مهولة سوف تسهم في تحسين مؤشرات الأرقام الرسمية للاقتصاد المصري أمام المجتمع الدولي، ومؤسسات النقد الدولية، كما أن «ضم القطاع غير الرسمى لمنظومة الاقتصاد القومى سوف يؤدى إلى زيادة الموارد (ضرائب، تأمينات، رسوم، وغيرها) بنسب تعادل نسبة مساهمته فى الاقتصاد أى زيادة موارد الدولة بحوالى 40% دفعة واحدة ومن خلال قنوات موجودة على أرض الواقع بالفعل».[[9]]
هذه الخطوة حال النجاح في تنفيذها سوف يترتب عليها: أولا خفض معدلات الدين القومي ونسبته للناتج المحلي الإجمالي بنسبة تصل إلى النصف تقريبا. كما أنها ثانيا سوف تحسن من مؤشرات الاقتصاد أمام الجهات والمؤسسات المالية الدولية، وثالثا سوف تزيد من موارد الدولة عبر زيادة التحصيل الضريبي والرسوم وعمليات قوننة الاقتصاد الموازي. ورابعا وهو الأهم أنها سوف تفضي إلى زيادة منسوب الغضب الشعبي ضد النظام؛ لأنه ببساطة لم يعمل على زيادة الإنتاج عبر إدارة ناجحة لاستثمار موارد الدولة بقدر ما توجه نحو جيوب المواطنين وملاحقة التجار والصناع والمهنيين الصغار ومضاعفة أعبائهم بفرض المزيد من الضرائب والرسوم على أنشطتهم الاقتصادية.
ماذا عن اقتصاد الجيش؟
اللافت في الأمر أنه في الوقت الذي يحرص فيه نظام السيسي على دمج الاقتصاد الموازي والذي يعمل فيه 7 ملايين مصري من صغار التجار والمهنيين والباعة الجائلين فإنه يعزز سيطرة الجيش على الاقتصاد حتى تمكنت المؤسسة العسكرية من تكوين إمبراطورية اقتصادية مترامية الأطراف تهيمن على نحو 40 إلى 60% من الاقتصاد المصري كله. لكن الجيش لا يدفع أي ضرائب عن هذه الأنشطة الاقتصادية الواسعة بما فيها القيمة المضافة وفق قانون 2016 الذي أصدره السيسي.[[10]]
معنى ذلك أن اقتصاد الجيش مهما بلغ حجمه لا يدفع أي ضريبة سواء كانت ضرائب دخل أو قيمة مضافة، ولا يخضع إلى أي رسوم، ولا يدفع جمارك على المعدات التي يستوردها، ولا إيجارات لما يستولي عليه من أراض هي ملك للدولة والشعب. وبالتالي فمن الأولى أن يدمج السيسي اقتصاد الجيش أولا في الاقتصاد الرسمي للدولة وهو ما يمكن أن يحقق طفرة اقتصادية كبرى ويدر نحو مليار جنيه سنويا هي قيمة الضرائب المستحقة على مشروعات الجيش وشركاته وأنشطته الاقتصادية. وفي هذه الحالة فإن دمج الاقتصاد غير الرسمي سيكون مشروعا وأخلاقيا طالما ليس هناك استثناءات حتى للمؤسسة العسكرية، وتكريس خضوع الجميع للقوانين المرعية.
خلاصة الأمر، يخشى الكثير من العاملين في الاقتصاد غير الرسمي وأغلبهم من محدودي الدخل من تزايد الإجراءات الحكومية التي تستهدفهم خلال الفترة المقبلة، خاصة أن الإيرادات المتوقعة للدولة من الاقتصاد الرسمي أضحت مهددة في ظل التوقعات باستمرار تداعيات فيروس وعدم قدرة اللقاحات المتنوعة على الحد من انتشاره. فتراجعت إيرادات الدولة من السياحة وقناة السويس وصادرات الغاز وكذلك تحويلات المصريين العاملين بالخارج، وهي الإيرادات التي يسعى النظام إلى تعويضها من خلال دمج الاقتصاد الموازي.
من جهة ثانية، فإن مصر حاليا تدور في دائرة مغلقة؛ فالحكومة تريد إحداث نقلة اقتصادية نيوليبرالية تعمل على دمج قطاعات من الاقتصاد غير الرسمي لمظلة الاقتصاد الرسمي من أجل جباية المزيد من الضرائب، لكن أثر تلك الإجراءات العنيفة يدفع المزيد من البشر نحو الاقتصاد غير الرسمي. وبالتالي تعمل الحكومة على السيطرة على كل الأموال داخل الاقتصاد من خلال إجبار المواطنين على التعامل مع البنوك من خلال مبادرات مثل الشمول المالي، لكن مدخرات المصريين الهزيلة تأبى أن تدخل لعجلة البنوك وتستمر في الاتجاه لقطاعات تغلب عليها الصفة غير الرسمية مثل القطاع العقاري، الخدمي، الزراعي. لذلك تبقى مبادرات مثل الشمول المالي وغيرها من المبادرات لتقنين أوضاع فئات كثيرة في القطاع غير الرسمي مقصورة على جانب جباية الرسوم والضرائب، لكنها لا تتطرق لحل المشكلات الهيكلية والعميقة التي تؤدي للجوء تلك الفئات بالأساس للقطاع غير الرسمي. على رأس تلك الاختلالات يقع سوق العمل المشوه في مصر الذي تسوده الأجور المتدنية، والفساد، والمحسوبية.[[11]]
وفي الوقت الذي يعمق النظام من تكريس وضعية المؤسسة العسكرية وهيمنتها على مفاصل الاقتصاد دون إلزامها بدفع ما يستحق عليها من ضرائب وجمارك، يرى خبراء اقتصاد أن 80% من أصحاب المشروعات الموازية لن يقبلوا الاندماج فى الاقتصاد الرسمى، بسبب ارتفاع التكلفة وما سينتج عنها من زيادة فى الأسعار فى ظل معدل التضخم الحالى، متوقعين ألا يكون لقرار الاعفاء من الضرائب الذي تضمنه قانون المشروعات الصغيرة والمتوسطة، أثر ملحوظ على الاقتصاد فى المدى القصير «لأن هذا الاعفاء ليس كبيرا بما يكفى فى ظل ما يمنحه قانون ضريبة الدخل من إعفاءات»، مؤكدين أن «الخطر ليس فى عدم الوصول إلى القطاع غير الرسمى بل أن هناك من يعمل تحت مظلة القانون ويتهرب من الضرائب بالقانون!».[[12]]
تتسق هذه الخلاصات مع رأي كثير من الخبراء والمحللين الذين يؤكدون أن معظم المصريين يهربون دائما من عمليات التقنين والتعاملات الرسمية لعدم الثقة في النوايا الحكومية والتعاملات البيروقراطية معها، والبرهان على ذلك مستويات الاقتصاد الرسمي التي تصل ما بين 50 إلى 60% من جملة الاقتصاد المصري، وقد اعترف مصطفي مدبولي رئيس الوزراء أن 95% من العقارات غير مسجلة بالشهر العقاري في برهان آخر على نفور المصريين من التعاملات الرسمية أو حتى الاقتراب من أي شيء يتعلق بالحكومة. أسباب ذلك تعود إلى الرسوم والضرائب الباهظة، التي دفعت قطاعا واسعا من المصريين إلى اختراع طرق وأساليب شديدة الالتواء للتهرب من هذه الرسوم، من أول كتابة مؤخر صداق صغير ومخالف للواقع لعدم دفع رسوم كبيرة للمأذون، نهاية بعدم كتابة القيمة الحقيقية للعقارات، تهربا من سداد الرسوم والضرائب المستحقة لصالح الدولة. هناك أيضا عقود العمل حيث يلجأ الكثير من أصحاب العمل إلى كتابة عقود بأرقام صغيرة، حتى لا يدفعوا مبالغ كثيرة للتأمينات.[[13]]
[1] سلمى وجدي/ وزير المالية: 55% من اقتصاد مصر «غير رسمي»/ الشروق ــ الإثنين 27 سبتمبر 2021
[2] محمد رمضان/ اقتصاد مصر غير الرسمي: حجم هائل من المال اللا محسوب/ إضاءات ــ 26 ديسمبر 2019م
[3] محمد المهم/ دراسة لـ«اتحاد الصناعات»: 4 تريليونات جنيه حجم الاقتصاد غير الرسمي/ بوابة الشروق ــ الثلاثاء 4 ديسمبر 2018
[4] إسلام الشرنوبي/ مصر.. كيف ستؤثر أحدث خطة اقتصادية على 7 ملايين شخص؟/ سكاي نيوز ــ 22 أغسطس 2021م
[5] حسام العادلي/ الاقتصاد الموازى وأكل العيش/ المصري اليوم ــ الأحد 12 سبتمبر 2021م
[6] كم تبلغ قيمة الاقتصاد غير الرسمى؟..4 تريليون جنيه حجم أعماله.. دمجه رسميا يساعد على تحصل ضرائب تصل لـ 1.4 تريليون جنيه.. وخبراء: الدمج يكافح البطالة ويحارب ارتفاع الأسعار.. ويزيد الصادرات ويقلل عجز الموازنة/ اليوم السابع ــ الخميس، 22 أغسطس 2019
[7] مصر لدمج الاقتصاد غير الرسمي بقانون للمشروعات الصغيرة والمتوسطة/ الشرق الأوسط ــالأحد – 16 ذو الحجة 1442 هـ – 25 يوليو 2021 مـ رقم العدد [ 15580]
[8] المهمشون ينقذون اقتصاد مصر في أوقات الأزمات… كورونا يكشف هشاشة الحكومة/ العربي الجديد ــ 06 مايو 2020
[9] مهند عدلي/الاقتصاد الموازى ومعالجات مبتكرة فى تنمية الموارد العامة/ الأهرام الأحد 16 سبتمبر 2018
[10] دمج 55 بالمئة من اقتصاد مصر غير الرسمي.. ضرائب بالطريق/ “عربي 21” ــ الثلاثاء، 28 سبتمبر 2021
[11] محمد رمضان/ اقتصاد مصر غير الرسمي: حجم هائل من المال اللا محسوب/ إضاءات ــ 26 ديسمبر 2019م
[12] محمود إسماعيل/«الإعفاء الضريبى» ليس كافيًا لإغراء الاقتصاد غير الرسمى على الدخول تحت مظلة الدولة/ بوابة الشروق ــ الأحد 24 يونيو 2018
[13] عماد الدين حسين/ لماذا يهرب الناس من الرسمى لـ«غير الرسمى»؟/ بوابة الشروق ــ الأحد 14 مارس 2021