أبرز ما كشفه التحقيق الاستقصائي الذي نشره موقع «ديسلكوز» الفرنسي يوم 21 نوفمبر 2021م، حول العلاقات الاستخبارية الخفية بين الحكومة الفرنسية ونظام الجنرال عبد الفتاح السيسي الذي اغتصب حكم مصر بانقلاب عسكري في يوليو 2013م بعدما أطاح بالنظام الديمقراطي المنتخب؛ هو التأكيد على الوجود العسكري الفرنسي على الأراضي المصرية تحت لافتة التعاون العسكري والمخابراتي في الحرب على الإرهاب. حيث كشف الموقع تفاصيل بالغة السرية بعدما حصل على وثائق رسمية (سري للغاية) تخص الجيش الفرنسي، حول عملية استخبارية فرنسية مصرية، بدعوى استهداف الإرهابيين في الصحراء الغربية على الحدود مع ليبيا، تحمل اسم “عملية سيرلي” (Mission Siri). واستنادا إلى هذه الوثائق العسكرية الفرنسية، أشار الموقع الذي غالبا ما ينشر معلومات تُحرج الجيش الفرنسي إلى أن “قوات فرنسية لا تزال منتشرة في الصحراء الغربية وموجودة تحديدا بمدينة مرسى مطروح شمال غربي مصر.
التحقيق الذي أطلق عليه “تسجيلات الرعب”، نشر تفاصيل بداية وجود القوات الفرنسية في مصر بحجة محاربة الإرهاب، لكنها تورطت مع السيسي في جرائم ضد الإنسانية. وبدأ التقرير بعبارة: “أرسل إلينا مصدر، مئات من وثائق الدفاع السري التي تكشف تورط فرنسا في جرائم الديكتاتورية المصرية”. وأظهرت الوثائق الاستخبارية الفرنسية أن بداية الوجود العسكري الفرنسي في مصر ترجع إلى 13 فبراير/شباط 2016، حين وصلت قافلة تحمل فريقا فرنسيا إلى ثكنة عسكرية مصرية بمدينة مرسى مطروح. كان ذلك الفريق يضم عشرة ضباط سابقين للجيش الفرنسي، ستة منهم يعملون لصالح متعهدين أمنيين، مجهزين بطائرة استطلاع خفيفة “ميرلين3″، استأجرتها وزارة الدفاع الفرنسية بكلفة 1.45 مليون يورو لكل خمسة أشهر من الخدمة. وكان هدف العملية السرية، التي سُميت “سيرلي”، تأمين 1200 كيلومتر من الشريط الحدودي الليبي-المصري من اختراقات “الإرهابيين”، وتغطية نحو 700 ألف كيلومتر مربَّع بطلعات جوية استطلاعية لرصد تحركات “الجماعات الإرهابية” المحتمَلة.
من جهة ثانية، فإن الوجود العسكري الفرنسي في مصر يفتح الباب أمام أسباب ودوافع هذا التواجد الفرنسي لا سيما على الحدود مع ليبيا رغم أن معظم ما يتعلق بالحرب على ما يسمى بالإرهاب يوجد في سيناء وليس مرسى مطروح؛ ولإدراك أبعاد هذه الوجود الفرنسي يمكن النظر إلى ذلك من زاويتين
- الأولى، تتعلق بالدعم الفرنسي للجنرال الليبي خليفة حفتر، وهو ما يتسق مع توجهات النظام العسكري في مصر وتحالف الثورات المضادة الذي يضم مصر والسعودية والإمارات وتقودهم إسرائيل، وهو التحالف الذي قدَّم ولا يزال دعما سياسيا وعسكريا وإعلاميا لحفتر من أجل استنساخ نظام عسكري في ليبيا على غرار نظام السيسي في مصر. معنى ذلك أن الوجود العسكري الفرنسي في صحراء مصر الغربية بامتداد الحدود مع ليبيا جرى بالاتفاق الكامل والتنسيق المشترك مع نظام السيسي وهو اتفاق ظاهره محاربة الإرهاب وباطنه دعم انقلاب خليفة حفتر ودعم سيطرته عسكريا على كامل الأراضي الليبية وسحق التيارات الإسلامية والثورية كما فعل السيسي تماما مصر في مصر عقب انقلابه العسكري في يوليو 2013م. وهذا ما أقر به وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، في 9 يوليو/تموز 2021 حيث قال إن بلاده دعمت الانقلابي خليفة حفتر في ليبيا حسبما نقلت صحيفة “لوفيجارو” الفرنسية. وفي 24 فبراير/شباط 2016 تحدثت وكالة رويترز عن “قوات خاصة فرنسية تشن “حربا سرية” في ليبيا، بالتعاون مع دول أخري، نقلا عن تسريبات من وزارة الدفاع الفرنسية نشرتها صحيفة “لوموند”.[[1]] وخلال زيارة السيسي إلى فرنسا في 6 ديسمبر/كانون الأول 2020 قال المتحدث باسم الرئاسة بسام راضي أن التعاون العسكري مع فرنسا لا يقتصر على صفقات السلاح بل يمتد للتدريب والمناورات المشتركة وتبادل الخبرات والمعلومات لمكافحة الإرهاب.
- الثانية، تتعلق بامتداد الوجود العسكري الفرنسي في دول الساحل والصحراء الكبري في إفريقيا، وهو وجود قديم يتعلق بالأطماع الفرنسية في السيطرة على حكومات هذه الدول حتى تحافظ فرنسا على نفوذها الواسع الذي تسعى لحمايته وبسطه في مرحلة مع بعد الاستقلال الشكلي في منتصف القرن العشرين. وهو أيضا وجود بدواعي الحرب على الإرهاب والحركات الإسلامية بدعوى التشدد المزعوم في المناطق التي تمتد من موريتانيا ومالي والنيجر وصولا إلى ليبيا ومصر. وذلك حتى تكتمل حلقة النفوذ الفرنسي على معظم دول القارة التي ظلت تئن تحت الاحتلال الفرنسي لعقود طويلة لا سيما دول غرب أفريقيا. هذه الوجود بحسب صحف فرنسية يتعلق بالعملية “برخان” التي أطلقتها فرنسا في مالي سنة 2014م، بدعوى الحرب على الإرهاب والقضاء على الجماعات المسلحة في منطقة الساحق الإفريقي[[2]] التي تسيطر باريس على حكوماتها سياسيا واقتصاديا منذ عقود ما بعد الاستقلال الشكلي، ولدى فرنسا في هذه الدول حاليا وفق تقارير فرنسية نحو 5 آلاف جندي. لكن تحطم مروحتين فرنسيتين في هذه المنطقة في نوفمبر 2020م في عملية خاصة مجهولة ومقتل 13 عسكريا فرنسيا هز الأوساط الفرنسية ودفع الإعلام الفرنسي إلى التساؤل حول دوافع وأسباب التواجد العسكري الفرنسي في هذه المنطقة وفقا لمجلة إيكونوميست البريطانية. غير أن ماكرون مع تصاعد عدد ضحايا الجيش الفرنسي بالمنطقة والمخاوف من تأثير ذلك على حظوظه الانتخابية، قرر في يونيو/ حزيران 2021 إنهاء العملية وتقليص الوجود العسكري وتعديل شكل القتال ضد الإرهاب المزعوم في المنطقة. وبالتالي فإن الوجود العسكري الفرنسي الغامض في صحراء مصر الغربية هو امتداد للوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل والصحرء بهدف بسط نفوذ باريس على القارة الإفريقية، والقضاء على الحركات الإسلامية بدعوى التشدد والإرهاب ودعم الحكومات الديكتاتورية لتأمين المصالح الفرنسية.
البعد الثالث في تحقيق “ديسكلوز” أنه كشف شيئا من جرائم نظام السيسي وانتهكات المروعة لحقوق الإنسان؛ حيث أثبت الوثائق العسكرية الفرنسية ضلوع نظام السيسي في استخدام معلومات استقصائية وفرتها خلية المخابرات الفرنسية المتواجدة في مرسى مطروح لاستهداف مهربين مدنيين على الحدود المصرية الليبية. هذه المهمة العسكرية المُشتركة بين البلدين التي سُميّت «سيرلي» كان هدفها توفير معلومات استخباراتية عن المسلحين الذين يشكلون خطرًا إرهابيًا على مصر من خلال حدودها الغربية. لكن أعضاء فريق الاستخبارات الفرنسي لاحظوا استخدام الجانب المصري للمعلومات لاستهداف مهربين لا علاقة لهم بالإرهاب، وقد أبلغ أعضاء الفريق الفرنسي رؤساءهم بهذه التجاوزات عدة مرات دون جدوى.[[3]] ويُتهم نظام السيسي بالمبالغة في الإرهاب القادم من جهة الغرب والحدود مع ليبيا. ووفقاً لجليل حرشاوي، الباحث في المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية- وهي منظمة غير حكومية سويسرية- فإنَّ “الجيش المصري يبالغ إلى حد كبير في تقدير التهديد الإرهابي القادم من ليبيا من أجل كسب الدعم على المسرح الدولي”. فاعتباراً من عام 2017، لم تتأسس أية جماعة إرهابية أو جماعة متطرفة جديدة تدعي أنها إسلامية في الجزء الشرقي من ليبيا. ثم جاء في مذكرة ثانية بتاريخ 3 سبتمبر 2016: “لم يكن هناك أي دليل على معالجة قضية الإرهاب”. وبحسب مذكرة بتاريخ 1 يونيو 2017 فإن الإرهاب يأتي في المرتبة الثالثة بين أولويات الشراكة عقب مكافحة التهريب والهجرة غير الشرعية. بما يعني أن السيسي استخدم الحرب على الإرهاب المزعوم وبالغ فيها بهدف قتل مئات وربما آلاف المهربين الذين لا علاقة لهم بأي نشاط إرهابي عبر الإعدام الميداني دون ضبط أو تحقيق أو محاكمة.
ويمكن رصد الأحداث الأتية كجزء ضئيل من الجرائم الواسعة التي ارتكبت منذ 2016 حتى 2021م في الصحراء الغربية:
- أولا، تبين أن الجيش المصري نفذ طلعات جوية في منطقة تسمي “الموزة” قرب واحة سيوة، وقصف هناك شاحنات مأهولة بشباب لا تزيد سنّهم على 30 عاما، ينشطون في التهريب المعيشي، وليسوا إرهابيين. ثم أعلنت مصر لاحقا استهداف قوافل “إرهابيين”، وهو غير صحيح، ما يجعل فرنسا شريكاً في “جرائم القصف العشوائي لمدنيين مصريين” حسب الموقع.
- ثانيا، أحد هذه الهجمات التي استهدفت مدنيين جرت في 6 يوليو 2017، حين قُتل ثلاثة مواطنين في الواحات البحرية إثر سقوط صاروخ عليهم، وكان المهندس العامل في رصف الطرق، ويُدعى أحمد الفقي، قد توجه بسيارة دفع رباعي ومعه ثلاثة عمال من الواحات إلى أحد الآبار في منطقة المناجم. وعند وصولهم نَزَلَ أحد العمال لملء المياه وانتظر الثلاثة الآخرين في السيارة، وخلال هذه اللحظات مَرَتَ طائرة على ارتفاع منخفض، وضربت السيارة بصاروخ ووابل من الطلقات، ما أسفر عن مقتل الثلاثة، بينما لم يُصب العامل الرابع بأذى.
- ثالثا، ففي 15 أغسطس/آب 2016، نشرت مجلة فورين بوليسي الأميركية القصة الكاملة لمقتل 12 شخصا في قافلة بالصحراء الغربية في سبتمبر/أيلول 2015، بينهم 8 مكسيكيين و4 مصريين، بعد ضربات خاطئة للجيش المصري قيل إنها استهدفت إرهابيين ثم تبين لاحقا أنها رحلة سفاري. ونقلت “ف.بوليسي” عن شهود عيان وأقارب وأصدقاء للضحايا ووثائق تفصيلية قدمتها شركتا السياحة المنظمتان للرحلة. أن “جميع السيارات التي حملت السياح كانت تحمل شعارات الشركات السياحية التابعة لها على الجانبين، ثم توجهت للصحراء في رحلة سفاري، وأن القافلة مرت على 3 أكمن للشرطة والجيش المصري وتم السماح لها بالمرور، أي كان معلوما وجودها في المنطقة، ولم يكونوا في منطقة محظورة، كما زعمت الحكومة فيما بعد. وحاول السيسي تبرير الفضيحة في حوار مع قناة PBS الأمريكية في 28 سبتمبر/أيلول 2016 قائلا: “كانوا في منطقة محظورة قريبة من الحدود مع ليبيا، مناطق خطيرة يستخدمها المهربون عادة للاختراق بالأسلحة والمقاتلين الأجانب”. وبعد الكشف عن ملابسات الفضيحة العسكرية وتبين أن الهجوم وقع على بعد 320 كم جنوب غربي القاهرة أي على بعد مئات الأميال من الحدود مع ليبيا، تراجعت مصر وصرفت تعويضات لأسر الضحايا. وهو ما يبرهن على أن التعاون الاستخباري الفرنسي المصري سابق حتى على وجود خلية المخابرات الفرنسية في فبراير 2016 بمرسى مطروح.
من جهة رابعة، أثبت الوثائق تورط الدولة الفرنسية في الجرائم التي يرتكبها نظام السيسي بحق المصريين؛ حيث كشفت الوثائق كثيرا من الخفايا والأسرار، ويمكن رصد أبعاد الدعم الفرنسي للدكتاتورية العسكرية في مصر من خلال النقاط الآتية:
- أولا، دعم ميداني بدعوى التعاون الأمني العسكري في مكافحة الإرهاب؛ حيث قدمت خلية المخابرات الفرنسية التي تواجدت في مرسى مطروح معلومات استخبارية للجانب المصري مكنته من قتل الآلاف بدعوى الإرهاب وتبين لاحقا أنهم مهربون ولا علاقة لهم بالإرهاب المزعوم. ويؤكد الموقع وفقا للوثائق العسكرية الفرنسية أن باريس تورطت في استهداف 19 هدفًا مدنيًا خلال الفترة ما بين عامي 2016 و2018، وذلك بتوفيرها معلومات استخباراتية مكّنت الجانب المصري من تنفيذ هذه الهجمات وقتل المئات.
- ثانيا، دعم تكنولوجي لتعزيز قدرات النظام العسكري في مصر من ملاحقة معارضيه؛ حيث كشف «ديسكلوز» في الجزء الثاني من التحقيقات التي جاءت بعنوان «أوراق مصر Egypt Papers»، تحت عنوان «مراقبة صُنعت في فرنسا». وكشف الحلقة الجديدة أن ثلاث شركات فرنسية نقلت تكنولوجيا برامج التجسس إلى الحكومة المصرية وأشرفت على تشغيل شبكة مراقبة تهدف إلى جمع المعلومات بشكل جماعي من شبكات الاتصالات في مصر. ووفقًا لمئات المستندات التي حصل عليها «ديسلكوز»، في تحقيقه المشترك مع موقع Telegram، فازت شركة Nexa Technologies بعقد قيمته 11.4 مليون يورو عام 2014 لتثبيت برنامج مراقبة على الإنترنت يسمى Cerebro، بينما فازت Ercom-Suneris بعقد تقارب قيمته 15 مليون يورو في نفس العام لتثبيت جهاز تنصت وتحديد الموقع الجغرافي يسمى Cortex vortex. كما تم التعاقد مع شركة الأسلحة الفرنسية العملاقة Dassault Système لتوفير برنامج بحث والوصول إلى المعلومات لربط البيانات المزمع جمعها بقاعدة البيانات الوطنية المصرية. وDassault Système هي شركة تابعة لمجموعة «داسو» المالكة للشركة المصنعة لطائرات رافال، وكذلك المالكة لطائرات فالكون، التي اشترت منها الرئاسة المصرية أربع طائرات عام 2018، كما أنها تمتلك صحيفة «لوفيجارو» الفرنسية.[[4]]
- ثالثا، دعم نظام السيسي بصفقات السلاح وجميع أنواع السلاح التي تستخدم في الحروب أو قمع المعارضين؛ وبحسب “ديسكلوز” في حلقته تحت عنوان «في خدمة مبيعات السلاح»، كشف أن الدولة الفرنسية جنّبت دبلوماسييها وأبعدتهم عن مشهد العلاقات مع القاهرة، فيما تصدر المشهد وزير الدفاع حينها، ووزير الخارجية الآن، جان إيف لودريان. وفي 14 نوفمبر 2013، وخوفًا من تفويت ما وصف بأنه «منجم تجاري لصناعة السلاح الفرنسي»، سافر طاقم عسكري فرنسي إلى مصر لخوض مناورات دبلوماسية. أرسل المستشارون العسكريون للحكومة الفرنسية مذكرة إلى مديرية التعاون الأمني والدفاع في وزارة الخارجية أكدوا فيها على الفرص التجارية مع مصر، قائلين: «لبيع الأسلحة عليك أن تغض النظر عن قمع النظام السياسي». وأشار التقرير إلى أن المهندس الرئيسي لهذه الدبلوماسية السرية كان جان إيف لودريان، وزير الدفاع في حكومة الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، ووزير الخارجية الحالي. وبالفعل أثمرت جهوده على الفور، فبين عامي 2014 و2015، أبرم مندوب المبيعات المتجول (بحسب وصف التقرير) عقودًا لتوريد أربع طرادات وفرقاطتين بحريتين، بالإضافة إلى طائرات رافال، وجاءت قيمة تلك العقود بالمليارات من اليوروهات، ليتجاوز في ذلك صلاحيات الدبلوماسيين ووزير الخارجية حينها، لوران فابيوس. وقد طُلب من الدبلوماسيين الفرنسيين التزام الصمت بشأن «القمع الذي لا ينتهي، ويعطي الفرصة للجماعات الجهادية المحلية للتجنيد والاستقطاب»، وأن ذلك طُبق حتى في الاجتماعات «السرية» للجنة المشتركة بين الوزارات لتصدير المعدات الحربية، والتي كانت منهمكة في ذلك الوقت في النظر في طلبات تصدير السلاح إلى مصر. وضرب الموقع مثلًا باجتماع يوم 26 مايو 2016 والذي كان مخصصًا لبحث طلب بيع 25 ناقلة جنود مصفحة مزودة بأبراج للمدافع بقيمة 34.4 مليون يورو. فقد عارضت وزارة الخارجية طلب التصدير، بسبب الخوف من استخدام المدرعات في القمع الداخلي، غير أن مكتب وزير الدفاع تجاهل تلك المخاوف، وأكد أن تلك المدرعات مخصصات للوحدات المنتشرة في سيناء وتساهم في الحرب على الإرهاب. ولاحقا تتابعت صفقات السلاح الفرنسية للقاهرة حتى تصدرت باريس قائمة الدولة المصدرة للسلاح للقاهرة واشترى النظام 54 طائرة رافال وفرقاطتين وقطع أخرى بأكثر من 9 مليارات يورو.
- رابعا، دعم سياسي وإعلامي؛ فتحقيق «ديسكلوز» يكشف أن النفوذ الفرنسي تزايد في مصر في أعقاب صفقة الرفال في إبريل 2015م والتي ضمت 24 طائرة وفرقاطتين فريم فرنسيتين وكانت قيمة الصفقة نحو 5.6 مليار يورو، ويؤكد التقرير أن الوجود الفرنسي لا يزال قائما في مصر ولا يزال التعاون الاستخباري بين البلدين قائما حتى اليوم رغم كل هذه الجرائم الوحشية. ويكشف التقرير أنه بمجرد انتخابات ماكرون رئيسا لفرنسا في 7 مايو 2017، أعلن في نفس الأمسية أنَّ “أوروبا والعالم يتوقعون منّا الدفاع عن الحريات وحماية المظلومين في كل مكان نحن فيه”. ومع ذلك، سارع ماكرون إلى تأكيد استمرار التعاون مع الديكتاتوريات. وبعد ثلاثة أسابيع من دخول ماكرون قصر الإليزيه، اتصل هاتفياً بنظيره المصري، بعد أيام من حادث إرهابي استهدف كنيسة وأعلن تنظيم الدولة “داعش” مسؤوليته عنه. وبحسب تقرير المحادثة، تحول الحديث بسرعة كبيرة إلى الشراكة العسكرية بين باريس والقاهرة. وأكد ماكرون لمحاوره أنه “على علم تام بالعمليات الجارية” في مصر. وتبنت الدولة الفرنسية خلل السنوات الماضية تقديم الجنرال السيسي بوصفه زعيما يقود الحرب على الإرهاب؛ وكانت لتصريحات السيسي ضد الإسلام والمسلمين وقع السحر على المسئولين الفرنسيين الذين وجدوا في السيسي ضالتهم حيث يتبنى ذات التوجهات الفرنسية المعادية للإسلام والمسلمين. ورغم تحذيرات مسئولين فرنسيين من تبعات التعاون مع نظام السيسي إلأ أن فرانسوا هولاند ثم إيمانويل ماكرون لاحقا تغاضوا عن كل ذلك في سبيل دعم الدنظام الدكتاتوري. ويعلق الموقع الفرنسي على سياسيات بلاده والرئيس ماكرون قائلاً: “يبقى دعم الديكتاتورية هو الأولوية مهما كلف الثمن”. وفي 5 ديسمبر 2020، قلّد إيمانويل ماكرون السيسي وسام جوقة الشرف خلال مأدبة عشاء أقيمت في الإليزيه. وبعد أربعة أشهر من الاحتفال، طلبت مصر، في سرية، 30 طائرة رافال من فرنسا بقيمة 3.6 مليار يورو. وبحسب معلومات الموقع فإنَّ الجيش الفرنسي ما زال منتشراً في الصحراء المصرية.
وتتهم صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية [[5]] حكومة بلادها بالتواطؤ مع نظام مصر الدكتاتوري في عمليات قتل خارج نطاق القانون، وقالت إن وزارة الدفاع الفرنسية تهربت من هذه التهم فور نشر هذه المعلومات، وطالبت الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان والمنظمات الشريكة لها الحكومة الفرنسية السماح للعدالة بالتحقيق بشكل كامل في الاكتشافات الجديدة حول التعاون الاستخباراتي بين فرنسا ومصر، دون إعاقة عمل القضاة والمحققين، الذين يحاولون تسليط الضوء على التواطؤ المحتمل للشركات الفرنسية.
وتعزو “لوموند” [[6]] أسباب الدعم الفرنسي لنظام السيسي الدكتاتوري والتورط في انتهاكاته لحقوق الإنسان إلى أربعة أسباب أولها، صفقات السلاح الضخمة التي أبرمها نظام السيسي مع الشركات الفرنسية حتى تحولت فرنسا إلى أكبر مصدر للسلاح لمصر في المنطقة. والسبب الثاني هو تعاظم الأنشطة الإرهابية خصوصا بعد إعلن تنظيم الدولة إنشاء دولته في 2014م. والملف الثالث هو مكافحة الهجرة غير النظامية. والرابع هو تطابق التوجهات حيال الملف الليبي ودعم باريس والقاهرة للجنرال خليفة حفتر. وهي الملفات التي دفعت العلاقات بين البلدين إلى قلب الشراكة الإستراتيجية. وبعد طلبية شراء 30 طائرة رافال جديدة في أوائل 2021م تأسف “إيمريك إيلوين”، مسؤول الدفاع عن الأسلحة في منظمة العفو الدولية، واعتبر ذلك مكافأة فرنسية لنظام السيسي على انتهاكات حقوق الإنسان باستمرار.
وصرَّح موقع “ديسكلوز” في بلاغ نشره بعد هذا التحقيق أن الدافع الحقيقي وراء إخراج هذه المعلومات إلى النور قانوني في المقام الأول ويمس طبيعة هذه العمليات العسكرية، إلى جانب حقيقة أن تمويل هذه العمليات يأتي من ميزانية وزارة الدفاع، ما يعني ضرورة كشف جميع المعلومات المتاحة حول “سيرلي” للنواب البرلمانيين بوصفهم ممثلين للشعب الفرنسي. هذا ويُنتظر أن يكشف الموقع عن معلومات ووثائق أخرى في الأيام القليلة القادمة.
من جهة خامسة، فإن «تحقيق ديسكلوز» أحدث دويا نسبيا في فرنسا؛ حيث أمرت وزيرة الدفاع الفرنسية، فلورانس بارلي، بالتحقيق في الادعاء، بينما طالب عدد من نواب المعارضة في البرلمان الفرنسي بتحقيقات أخرى، حسبما نشرت وكالة الأنباء الفرنسية.[[7]] وشرعت وزارة الدفاع الفرنسية في إجراء تحقيق بشأن الموضوع لكن للأسف ليس لمراجعة التورط الفرنسي في جرائم السيسي وقتل آلاف المصريين ولكن التحقيق يبحث في كيف جرى تسريب هذه الوثائق الحساسة للإعلام!.. أما بشأن التورط الفرنسي في الانتهاكات والإعدامات الميدانية قالت وزارة الدفاع الفرنسية، في بيان، إن مصر شريك لفرنسا مثلها مثل عدة دول تحافظ باريس على علاقتها معها في مجالات مكافحة الإرهاب”. وهو ما يعني إصرار فرنسي على المزيد من التورط مع نظام السيسي وتصميم على المزيد من الانتهاكات. ولوحظ التناول الإعلامي المختصر والهامشي عبر الفضائيات الفرنسية للموضع رغم أهميته، ولم يتناوله بجدية؛ وفسر بعض الصحفيين الفرنسيين ذلك بأن مؤسساتهم لم تبدِ اهتمامًا بالنشر تعبيرا عن تخوف محرري الدفاع الفرنسيين من العمل مع هذه الوثائق وخسارة مصادرهم العسكرية، وقد يكون أيضًا نوعًا من السيطرة على الضرر، خاصة في ضوء قرب مُلاك بعض الصحف الفرنسية من صانعي القرار. أما على الجانب المصري فالتعتيم هو الأساس حيث جرى حظر موقع ديسكلوز الفرنسي وبات يتعذر الوصول إليه من داخل مصر. بينما التزمت جميع وسائل الإعلام التابعة للسلطات بعدم النشر أو تناول الموضوع رغم أهميته الشديدة، باستثناء بيان نفي من المتحدث العسكري اعتبر فيه نشر هذه الوثائق نوعا من الوقيعة بين الجانبين المصري والفرنسي في ظل التطور اللافت للعلاقات الثنائية خلال الأعوام الأخيرة.
خلاصة الأمر، فرنسا أحد أبرز عتاة الداعمين للدكتاتورية في بلادنا؛ وحتى ندرك أبعاد وتداعيات الوجود العسكري الفرنسي في مصر، والتعاون العسكري والأمني بين النظامين فإن السفير بسام راضي، المتحدث باسم رئاسة الجمهورية في مصر، كان قد صرَّح في 16 يوليو 2020م هبر مداخلة هاتفية لبرنامج “يحدث في مصر” على فضائية “أم بي سي مصر” الذي كان يقدمه شريف عامر ــ أن مصر دمرت 10 آلاف سيارة دفع رباعي على الحدود الليبية المصرية محملة بالإرهابيين والمقاتلين الأجانب خلال ست سنوات. وقدر هو نفسه عدد الذين قتلوا بأربعين ألفا قائلا «لو كل سيارة بها 4 يكون قد تم قتل نحو 40 ألفا وصفهم بالإرهابيين والمهربين والمقاتلين الأجانب. لكن الفقرة الأخيرة حذفت من تقارير المواقع الموالية للنظام.[[8]]
من جهة ثانية، فإن مصر في عهد السيسي باتت مستباحة لكثير من القوات الأجنبية؛ إسرائيل تعربد بطائراتها فوق سيناء ليل نهار وهو اعترف به السيسي. وقوات فرنسية بصحراء مصر الغربية لدعم حفتر بدعوى مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية، واتفاقية ” CESMOA” التي تسمح بالوجود العسكري الأمريكي على الأراضي والأجواء المصرية في حالة الحرب بخلاف القواعد الأمريكية في مصر منذ عهد السادات ومبارك.
من زاوية ثالثة، يبرهن تحقيق “ديسكلوز” على تراجع كفاءة المخابرات المصرية إلى الحد الذي يدفعها إلى طلب المساعدة من مخابرات دول أجنبية مثل فرنسا والاحتلال الإسرائيلي؛ ويمكن عزو ذلك إلى انخراط المخابرات والجيش في العمل السياسي دون الحربي، إضافة إلى إضعاف المخابرات العامة بتفكيك وتسريح مئات الكوادر النشطة في ظل مخاوف السيسي من المعارضين لها من قيادات الجهاز، وثالثا باهتمام قادة الجهاز بصفقات البيزنس والهيمنة على المجال الإعلامي والاقتصادي.
من زاوية رابعة تؤكد هذه الحقائق أن أولويات الحكومات الغربية في الشرق الأوسط، تتحقق لها مع أنظمة استبدادية تحكم بالقوة وتستند إلى شرعية الأمن أكثر من الأنظمة الديمقراطية التي ستعمل وفق مصالح شعوبها وتطلعات ناخبيها. وأن هذه الحكومات التي ترفع راية الديمقراطية نفاقا دائما ما تنحاز للمصالح على حساب القيم؛ فلا يجوز التعويل عليها في شيء بعد ذلك فهي جزء من المشكلة ولن يكونوا أبدا جزءا من الحل في ظل المعطيات الراهنة.
[1] قتل آلاف المدنيين بالصحراء الغربية.. فضيحة تزلزل فرنسا ودفنها النظام المصري/ الاستقلال 25 نوفمبر 2021م
[2] “ليبراسيون” تتناول “الجانب الخفي” للشراكة بين مصر وفرنسا/ “عربي 21” ــ الجمعة، 26 نوفمبر 2021
[3] تقرير: مصر اعتمدت على استخبارات فرنسية لاستهداف «مهربين» في حربها على الإرهاب/ مدى مصر ــ 22 نوفمبر 2021م
[4] «ديسكلوز»: فرنسا زودت مصر بتقنيات «مراقبة وتجسس شاملة» للإنترنت والاتصالات/ مدى مصر ــ الخميس 25 نوفمبر 2021م
[5] “ليبراسيون” تتناول “الجانب الخفي” للشراكة بين مصر وفرنسا/ “عربي 21” ــ الجمعة، 26 نوفمبر 2021
[6] لوموند: صفقات السلاح وراء تغاضى باريس عن قمع السيسي/ الخليج الجديد ــ الأربعاء 24 نوفمبر 2021
[7] باريس تحقق في تسريب يزعم أن مصر أساءت استخدام معلومات مخابرات فرنسية/ سويس إنفوــ 22 نوفمبر 2021م
[8] هديل هلال/ راضي: تدمير 10 آلاف سيارة دفع رباعي للإرهابيين على الحدود مع ليبيا خلال 6 سنوات/ بوابة الشروق ــ الخميس 16 يوليه 2020م