تشهد سيناء تحولات ميدانية لافتة في المواجهات المسلحة الدائرة منذ سنوات بين الجيش والشرطة من ناحية والمسلحين المتمردين من جهة أخرى الذين ينتمي معظمهم إلى تنظيم «ولاية سيناء»، أبرز هذه التحولات هو تزايد عدد القتلى بين صفوف الضباط خلال الشهور الماضية في عمليات محدودة وبالغة الدقة، إضافة إلى المشروعات الغامضة التي تنفذها المؤسسة العسكرية، لكن الأكثر أهمية هو تواري الجيش (شكليا) عن المواجهات المسلحة مع “ولاية سيناء” وتصدر ما يسمى بـ«إتحاد القبائل» الموالي للجيش للمشهد خلال الشهور الماضية؛ يدلل على ذلك توقف الجيش منذ عدة شهور عن إصدار أي بيانات فيما يتعلق بالمواجهات الدائرة في سيناء، بينما تولى «إتحاد القبائل» إصدار عدة بيانات تتعلق بالمواجهات الدائرة في ظل التعتيم الإعلامي المفروض على ما يجري في سيناء؛ فقد أصدر الإتحاد بيانه الأخير يوم السبت 04 ديسمبر 2021م حول تمكن مقاتليه من إحباط هجوم انتحاري كان يُعِد له اثنان من مسلحي تنظيم «ولاية سيناء» ضد أكمنة القوات المسلحة والشرطة في الشيخ زويد، شرقي محافظة شمال سيناء.
الملاحظة الأهم في بيان الإتحاد أنه يؤكد على أنه يعمل في إطار من التنسيق مع المؤسسة العسكرية والأمنية، حيث يقول البيان إن العملية تمت بعد رصد وتعقب من قبل قصاصي الأثر وبغطاء ميداني من من تشكيلات القوات المسلحة. ونشر الاتحاد فيديو لمقاتليه أثناء إطلاقهم الرصاص على أفراد مختبئين في العشب وسط الصحراء، والذين لم يبدر منهم أي رد فعل، لا بتبادل إطلاق نار أو بتفجير نفسيهما، رغم إشارة البيان إلى أن الاشتباك وقع من «المسافة صفر» وأن الفردين كانا يرتديان أحزمة ناسفة لتفجير نفسيهما في الأكمنة العسكرية.
الملاحظة الثانية، أن بيان الإتحاد يأتي ضمن سلسلة بيانات نشرها الإتحاد خلال الأسابيع الماضية، وتضمنت الإعلان عن هجمات على مسلحي «ولاية سيناء» في وسط وشرق شمال سيناء، والتي أسفرت، بحسب الإتحاد، عن مقتل مسلحين وأسر آخرين. وكان الإتحاد أعلن، في أول ديسمبر، عن قتل اثنين آخرين من مسلحي «ولاية سيناء» في مناطق وسط سيناء، وصفهم بأنهم «مهندسين زرع العبوات الناسفة»، أثناء محاولتهم نقل عبوات ناسفة ومعدات تستخدم في عمليات التفجير، وعثر بحوزتهم أيضًا على أسلحة وأجهزة اتصال لاسلكي. قبل الإعلان عن ذلك الهجوم بيوم واحد أعلن الاتحاد عن أسر اثنين من قيادات «ولاية سيناء» في وسط سيناء، دون نشر صور أو تفاصيل العملية.
الملاحظة الثالثة والأهم أن بيانات «إتحاد القبائل» المتتالية خلال الأسابيع الماضية، تأتي وسط غياب بيانات المتحدث العسكري للقوات المسلحة عن عمليات في سيناء، وهو المصدر الرسمي الوحيد بخصوص العمليات العسكرية في شمال سيناء، والتي نُشر آخرها قبل أربعة أشهر؛ في 12 أغسطس الماضي (2021م).
الملاحظة الرابعة، هي أيضا اختفاء بيانات هجمات «ولاية سيناء» التي كانت تُنشر بشكل مستمر على المنصات الإعلامية التابعة لتنظيم «داعش»، والتي كان يُعلن خلالها مسؤوليته عن قتل أفراد الجيش وتفجير الآليات العسكرية. فمنذ أكتوبر وحتى ديسمبر 2021م لم يُعلن التنظيم مسؤوليته عن هجمات سوى ثلاث مرات فقط، في ثلاثة إصدارات من مجلة النبأ، التي تصدر كل خميس. والتي تعتبر الناشر الإعلامي الرئيسي لتنظيم الدولة في كل مناطق نشاطه. وحملت الأعداد 308، و310، و314، أخبارًا عن هجمات للتنظيم في شمال سيناء، عبارة عن تفجير عبوة ناسفة في دبابة في قرية قصرويت ببئر العبد، وتفجير أخرى في مدرعة في قرية المشبه في وسط سيناء.
الملاحظة الخامسة، أن تنفيذ «إتحاد القبائل» هجمات ضد «ولاية سيناء» في وسط سيناء تكشف أن خلايا المسلحين التي وصلت إلى هذه المناطق خلال سنة 2020م هي التي لا تزال تملك القدرة على شحن هجمات ولو محدودة في ظل انعدام هجمات التنظيم في مناطق منشأه أقصى شرق شمال سيناء في الشيخ زويد ورفح، وسط استسلام مسلحيه للكمائن العسكرية بين الحين والآخر. انحسار هجمات «ولاية سيناء» يأتي متماشيًا مع انحسار أخبار تشييع جنازات أفراد القوات المسلحة التي تغطيها المواقع المحلية بوصفهم قُتلوا أثناء خدمتهم في سيناء، حيث شُيع خلال نوفمبر الماضي، وحتى كتابة النشرة، ثلاثة جنازات فقط: المجند، أحمد رجب بكري شلبي، من محافظة بني سويف، والمجند، محمود أحمد عبد الرحيم بصيص، من محافظة البحيرة، والمجند، هشام جمال شمس الدين، من محافظة المنيا.
الملاحظة السادسة، أن «إتحاد القبائل» كان قد كشف في بيان له الأحد 21 نوفمبر 2021م عن مقتل ثلاثة من مقاتليه من قبيلة الترابين أثناء «تأديتهم واجبهم الوطني في تطهير مناطقهم من عبوات وألغام العناصر الإرهابية (التكفيرية)» بحسب نص البيان. وهو الأمر الذي تكرر عدة مرات حيث يتولى أفراد مدنيين من القبائل مسئولية الكشف عن العبوات الناسفة وتفكيكها في شمال سيناء، خاصة بعد تمدد «ولاية سيناء» باتجاه مدينة بئر العبد العام الماضي وتوسعه في استخدام العبوات الناسفة والتي طالت المدنيين في كثير من الأحيان. وهو ما يثير السؤال حول دور المدنيين في مهمات دقيقة مثل تفكيك العبوات الناسفة، التي تضطلع بها وحدات عسكرية متخصصة مدربة، وذلك وسط استعانة القوات المسلحة والأجهزة اﻷمنية بأشكال مختلفة، بمدنيين في حربها على التنظيم. وينقل موقع «مدى مصر» عن مصادر قبلية تأكيدها على أن الجيش درّب بعض المدنيين على كشف وتفكيك العبوات الناسفة عقب انسحاب التنظيم من قرى بئر العبد، وسماح الجيش ﻷهلها بالعودة لها، ليكتشفوا ترك التنظيم فخاخًا من العبوات الناسفة في منازل القرى. لاحقًا، قُتل مدني في قرية تفاحة التابعة لبئر العبد أثناء تفكيكه عبوة ناسفة، ولحقه، في يناير الماضي، آخر في قرية المقاطعة بالشيخ زويد أيضًا، أثناء تفكيكه عبوة ناسفة، قبل أن يقتل آخر في سبتمبر الماضي أثناء تفكيكه عبوة ثالثة في قرية البرث، جنوب رفح.[[1]]
فشل تجربة المليشيات القبلية
أولا، مع تزايد معدلات الهجمات على عناصر الجيش والشرطة، اتجه النظام سنة 2015م إلى تشكيل «المجموعة 103» أو «مجموعة الموت» كما كانوا يطلقون عليها؛ وهي مجموعات مكونة من عشرات الشبان خصوصا من مدينة الشيخ زويد، مهمتهم مساعدة الجيش في عملياته العسكرية في مدينتي الشيخ زويد ورفح، وكان لها الدور الأبرز في جرائم قتل عدد من المعتقلين رميا بالرصاص. بحسب ما ظهر في تسريب “مكملين” أبريل 2017م. وهم أفراد معروفون للمواطنين، ويتجولون بوجوههم في الشوارع مرافقين لقوت الجيش والشرطة في مهماته بشكل علني، حيث كان ذلك مصدر فخر وتباه لهذه المجموعات ما مكنهم من توظيف هذه العلاقة مع الجيش لبسط نفوذهم على المواطنين وابتزازهم بفرض الإتاوات عليهم أو الإبلاغ عنهم بوصفهم إرهابيين؛ وهو ما شاع جوا من الخوف والإرهاب بين القبائل خوفا من نفوذ هذه المليشيات التابعة للجيش. ومع تزايد انحراف هذه المجموعات وكثرة أخطائها نشر الجيش أكثر من مرة أوراقا ينفي فيها مسؤوليته عن أفعال العشرات من هذه المجموعات، ورفع الغطاء عنهم. وفي أبريل 2017م، حذَّر موقع «ذا هيل» الأمريكي من أن نظام السيسي يدير حربا قذرة ويؤسس «فرق موت» في سيناء بدعوى مكافحة التمرد والإرهاب، مطالبا الكونجرس الأمريكي باتخاذ إجراءات ضد النظام المصري تتعلق بالمعونة الأمريكية العسكرية المقدمة للجيش المصري بسبب تأسيس هذه الفرق التي تمارس القتل والخطف للمواطنين. تعليق الموقع الأمريكي جاء في أعقاب التسريب الذي بثته قناة “مكملين” في 20 أبريل 2017م وهو اليوم الذي كان وزير الدفاع الأمريكي يزور فيه القاهرة، حيث يظهر التسريب جنودا يرتدون زي الجيش المصري يُنزلون إثنين من المعتقلين من سيارة “هامفي” أميركية ثم يقوم أحد الجنود بإطلاق النار عليهما، واحد تلو الآخر، وظهرت صور الضحايا الآخرين الذين لم يتم قتلهم أمام الكاميرا في وسائل الإعلام الرسمية خلال شهري نوفمبر وديسمبر.وادعى الجيش أن هؤلاء الأشخاص قتلوا في معارك مع قوات الأمن، في حين يقول الفيديو الذي يبدو حقيقيًا شيئًا آخر، وأن الإصدارات الإعلامية الرسمية استخدمت للتغطية على الإعدامات.[[2]]
ثانيا، مع فشل «مجموعة الموت أو المجموعة 103»، تجه النظام سنة 2017م إلى تشكيل مليشيات قبلية مسلحة لا تقوم فقط بدور التعاون والتخابر الأمني، بل تقوم أيضا بأدوار قتالية، وتم مد هذه المليشيات بالأسلحة والعربات والأدوات التي تمكنهم من مواجهة تنظيم “ولاية سيناء” والمسلحين بشكل عام. لكن هذه المليشيات فشلت أيضا؛ فلم تتمكن من منع تنظيم “ولاية سيناء” من مهاجمة مركز تواجد هذه المجموعات العسكرية التابعة لقبيلة “الترابين” سنة 2018م، حيث أحرق كميات كبيرة من مزروعات نبات البانجو (الماريجوانا) المخدر، التي يعمل بها عدد من أفراد هذه الميليشيات القبلية الذين شكلوا نواة للمجموعات العسكرية المدعومة من الجيش والمقدرة بـ250 مقاتل يمتلكون سيارات الدفع الرباعي التي يمنع أبناء سيناء من اقتنائها، والتحرك بها في مناطق محافظة شمال سيناء، إضافة إلى قطع السلاح المتنوعة. وورغم ذلك فشلت هذه التجربة في منع عناصر تنظيم “ولاية سيناء” من التحرك في مناطق تواجد هذه المليشيات العسكرية بحسب تأكيد إبراهيم المنيعي، رئيس اتحاد قبائل سيناء السابق والذي وافته المنية لاحقا، والذي اتهم هذه “المجموعات العسكرية التي تشكلت في في إبريل/ نيسان 2017، بأنها لم تلقَ المساندة من القبائل بسبب التاريخ الأسود لعدد من المنضمين إليها، إضافةً إلى انعدام الثقة لدى المكون البدوي بسيناء في الدولة، ناهيك عما لاقته كل القبائل البدوية والمواطنين من الإهانة في السنوات الماضية”.[[3]]
ثالثا، يعزو المنيعي، رئيس إتحاد القبائل السابق، أسباب فشل هذه التجربة قبل أن تبدأ إلى عدة أسباب أبزرها: القوة العسكرية التي يتمتع بها تنظيم “ولاية سيناء” ومستوى التدريب العالي الذي يتمتع به أفراده، وهو ما ظهر في هجماته ضد قوات الجيش والشرطة في السنوات الماضية. ثانيها، الضربة المؤلمة التي تعرضت لها المجموعات البدوية المسلحة في مايو 2017م، بمقتل سالم أبو لافي، قائد هذه المجموعات، والتي أدت إلى تفككها بشكل سريع. ثالثها أنه لا يجمع هذه المجموعات القبلية المسلحة الدفاع سوى مصالحها الخاصة؛ وليس الفكر العقائدي كما هو الحال لدى التنظيم، وهو ما يعني عدم وجود أرضية صلبة تجمع المشاركين في المجموعات العسكرية.
رابعا، الدافع الأول لبعض زعماء قبائل البدو في سيناء أو الأفراد للانتظام في تجمع عسكري لدعم الجيش في مواجهة تنظيم ولاية سيناء، كان المصلحة الاقتصادية، إذ إن معظمهم يعملون في مجال تهريب السجائر والمخدرات والممنوعات، وحاولوا من خلال الوقوف إلى جانب الجيش المحافظة على أعمالهم، وإبعاد يد الجيش عنهم، ويد التنظيم الذي نشط كثيرا في تلك الفترة في التضييق على العاملين في تهريب السجائر والمخدرات. معنى ذلك أن انضوائهم تحت لواء الجيش ليس سوى ضمانة لمصالحهم وكف يد مؤسسات الدولة عن ملاحقتهم باعتبارهم أرباب سوابق لهم ملفات متخمة بالجرائم والسوابق، وتم العفو عنهم بموجب صفقات مصالح بينهم وبين جهاز المخابرات بشقيها العامة والحربية، وكان لرجل الأعمال إبراهيم العرجاني، رئيس إتحاد قبائل سيناء حاليا، والمعروف بعلاقته الممتازة بمحمود السيسي، نجل السيسي، عندما كان والده رئيسا للاستخبارات الحربية، دور بارز كعرّاب لهذه الاتفاقات، والتي شملت القائد أبو لافي وموسى الدلح وعددا آخر من أفراد الترابين والسواركة.[[4]]
خامسا، هذه التجربة (تسليح مليشيات قبلية) لم تلقَ دعما حقيقيا وكاملا من الجيش، فهناك أجنحة داخل الجيش وباقي مؤسسات الدولة ترفض هذا الإجراء؛ بوصفه غير مشروع من جهة، ويدلل على فشل مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية من جهة ثانية، وخوفا من تداعيات هذه الخطوة لاحقا من جهة ثالثة. يبرهن على ذلك تعرض موسى الدلح، المتحدث الإعلامي باسم المجموعات العسكرية لقبيلة الترابين الداعمة للجيش، لمحاولة اختطاف من جانب أشخاص زعموا أنهم تابعون لجهة سيادية وفق ما نشره على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” في 5 يناير/ كانون الثاني 2018، وشنّ الدلح هجوماً حادّاً على الأجهزة السيادية في مصر، موجهاً نداءً إلى السيسي بسرعة التدخل، وخصوصاً أنه يدعم الدولة المصرية في حربها على الإرهاب، بحسب قوله. وشدد على أنه حصل على تعهُّد من قائد قوات مكافحة الإرهاب اللواء أركان حرب محمد المصري، بعدم الاقتراب منه. وبحسب الدلح، الذي يعمل في مجال المقاولات، فإن الاتصال بالشرطة وتجمُّع بعض سكان العقار الذي يتواجد فيه، حال دون القبض عليه. وهي المحاولة التي تكشف حالة الصراع داخل مؤسسات الدولة بشأن ملف المليشيات البدوية وكانت محاولة التخلص من الدلح شكلا من أشكال إنهاء هذا الملف أو على الأقل حصاره وتحجيمه. وقد أشارت صحيفة « «The Washington Post، إلى ذلك في تقرير لها نشر في سبتمبر 2018م، نقلا عن وكالة Associated Press الأميركية، التي حصلت على معلومات دقيقة بشأن تبني الجيش المصري لمثل هذه الخطوة وتسليح قبائل بدوية وهي الخطوة التي قوبلت بالرفض من جانب بعض قيادات المؤسسة العسكرية خوفا من استخدام البدو السلاح في وجه الدولة لاحقا.[[5]] بحسب الوكالة الأمريكية.
سادسا، يبرهن على فشل هذه المجموعات أيضا، الهجوم الواسع الذي شنه تنظيم «ولاية سيناء» في يوليو 2017م على الكتيبة 103 صاعقة بقيادة العقيد أحمد منسي، والذي كانت تربطه علاقات وثيقة بهذه المليشيات القبلية، فيما سمي بكمين “البرث” الذي يقع في مناطق قبيلة الترابين ومجموعاتها المسلحة دون أن تتمكن من إنقاذه وإنقاذ جنوده وهو ما استغله النظام دراميا في وقت لاحق ببث مسلسل «الاختيار 1» لتسويق سرديته عن الأحداث متجنبا أي ذكر لانتهاكات الجيش ومليشياته القبلية. وفي أعقاب مقتل سالم أبو لافي ثم المنسي اختفى موسى الدلح تماما وهو الذي كان يملأ الدنيا صراخا وتهديدا لتنظيم ولاية سيناء، ولم يعد له وجود.[[6]]
سابعا، قد يكون الجيش بهذه المليشيات القبلية قد نجح في جر تنظيم “ولاية سيناء” إلى صراع قبلي بما يحد من قدرته على توجيه ضربات للقوات النظامية من الجيش والشرطة، لذلك يلاحظ أن التنظيم شن هجمات مكثفة على عناصر هذه المليشيات والقبائل الموالية للنظام؛ فقتل المئات وخطف مئات آخرين؛ لكن العجيب أن الجيش والشرطة لم يكترثا لهذه الأحداث ولم يفرضا سياجا من الحماية للمتعاونين معهم! والأدهى أن النظام لا يعترف بالقتلى المدنيين المتعاونين معه ولا يتم منحهم أي امتيازات مادية أو معنوية كما يحصل مع العسكريين المقتولين في المعارك مع ذات العدو؛ في تأكيد على التمييز الحاصل في التعامل مع المشاركين في الحرب على ما يسمى بالإرهاب. وبالتالي فإن المدني المتعاون مع قوات الأمن لا يحظى بالتكريم لا في حياته ولا بعد مماته.([7])
أخطاء إستراتيجية السيسي
ويجمع كثير من الخبراء ومراكز البحث على أن الإستراتيجية التي يتبعها نظام السيسي في المواجهات القائمة في سيناء تعاني من مشكلات جوهرية؛ يبرهن على ذلك أن الحرب طالت رغم تعهدات السيسي باستمرار بالقضاء على ما يسمى بالإرهاب، ورغم أنه شن نحو 7 عمليات عسكرية موسعة إلا أنها جميعا باءت بالفشل في مؤشر كبير على خطأ المسار والمعالجة. ويرى تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي ــ نشر في سبتمبر 2020 ــ أن استراتيجية مصر لمكافحة الإرهاب، خاصةً في سيناء، معيبة ونتائجها عكسية. فبدلاً من القضاء على «الإرهاب» واقتلاع جذوره؛ أدّت إلى خلق أرضيةٍ خصبة للجماعات المُسلّحة والمُتشدّدة حتى تزدهر، وتُجنِّد الأعضاء الجدد، وتُكثِّف الهجمات ضد الجيش والقوات الأمنية والمدنيين على حدٍّ سواء، ما أسفر عن فقدان الآلاف حياتهم، وخلق حالة من عدم الاستقرار في سيناء.[[8]]
ويعزو تحليل الموقع الأمريكي أسباب فشل السيسي في سيناء إلى أنه تبنّى إستراتيجية شديدة العسكرة في التعامل مع التمرد بسيناء، وكانت الاستراتيجية تستهدف القضاء على أنشطة الجماعات المُسلّحة، وخاصةً ولاية سيناء، واقتلاع جذور التمرّد من شبه الجزيرة. ولتحقيق ذلك، نفّذ الجيش المصري عملياته العسكرية في مدن رفح والشيخ زويد والعريش، وجاءت تلك العمليات على ثلاث مراحل، بدأت الأولى في أكتوبر/تشرين الأول عام 2014، بعد أن أعلن السيسي حالة الطوارئ في منطقة شمال شرق سيناء، التي تشمل رفح والشيخ زويد والعريش، وغيرها من القرى على الحدود المصرية مع غزة.
وبدأت المرحلة الثانية في الثالث من سبتمبر/أيلول عام 2015، بعد أن شنّت ولاية سيناء هجوماً كبيراً باستخدام صواريخ كورنيت على سفينةٍ تابعة للبحرية المصرية. وفي السابع من سبتمبر/أيلول عام 2015، أطلق نظام السيسي عمليةً عسكرية أخرى تُدعى “حق الشهيد”، والتي وصفتها وسائل الإعلام المصرية بأنّها “أكبر عمليةٍ شاملة لاقتلاع جذور الإرهابيين وقتلهم”.
وانطلقت المرحلة الثالثة في فبراير/شباط عام 2018، حين أطلق الجيش المصري حملةً عسكرية شاملة، بعنوان: “عملية سيناء 2018، بهدف تطهير البلاد من الإرهابيين”.
وأمام الفشل المتواصل لجأ نظام السيسي إلى تغيير تكتيكاته من خلال الاستعانة بمليشيات قبلية لدعم الجيش والشرطة في مكافحة المتمردين المسلحين في سيناء. ورغم مزاعم حكومة السيسي أنّ الحملة القائمة أضعفت التمرد وقضت عليه في سيناء، فإن الواقع على الأرض ــ بحسب الموقع الأمريكي ــ لا يدعم تلك المزاعم، فعلى مدار العامين الماضيين، لم تكتفِ ولاية سيناء بتنفيذ هجمات مُتطوّرة ضد قوات الجيش والشرطة، ولكنّها مدّت أنشطتها إلى مناطق أخرى مثل بئر العبد والقرى المُحيطة، في ظل غياب أي مؤشر على قرب نهاية هذه الحرب أو تحقيق انتصار حاسم.
وبدلا من أن تفضي هذه الإستراتيجية إلى القضاء على المسلحين إلا أنها في واقع الأمر أدت إلى تعزيز مكانة المسلحين وتزايد قدرتهم على تجنيد الآلاف من الأهالي الغاضبين من ممارسات الجيش والأجهزة الأمنية التي تتعامل بمنتهى البطش والاستخفاف بأرواح الناس.
ويمكن رصد أسباب هذا الفشل في أربعة نقاط:
- أوّلاً: تجاهل الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حيث تبنّى السيسي استراتيجيةً ذات توجهٍ عالي الأمنية في مكافحة التمرّد، دون الاعتراف بالجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية للوضع في سيناء. وأدّت سياساته في مكافحة التمرّد إلى تفاقم التحديات، وخلقت العديد من المشكلات الأخرى.
- ثانياً: البحث عن الانتقام والنجاح السريع، هذه الاستراتيجية تُحرّكها إلى حدٍّ كبير دوافع الانتقام، والعقاب الجماعي، والرغبة المُلحة في تحقيق نجاحٍ سريع ضد الهجمات المُتكرّرة من ولاية سيناء، بدلاً من أن تكون مبنيةً على رؤيةٍ طويلة المدى تسعى إلى علاج الأسباب الرئيسية لمشكلة سيناء.
- ثالثاً: انتهاكات حقوق الإنسان تغضب البدو، ارتكب الجيش والقوات الأمنية انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ضد البدو وغيرهم من سكان سيناء، وأسفرت هذه السياسات عن تأجيج العزلة والغضب. ووفقاً لتقريرٍ مُفصّل وشامل بواسطة هيومن رايتس ووتش، “نفّذت قوات الجيش والشرطة المصرية اعتقالات تعسُّفية مُمنهجة وواسعة النطاق -شملت الأطفال- وإخفاءات قسرية، وتعذيباً، وعمليات قتل خارج نطاق القانون، وعقاباً جماعياً، وإخلاءات قسرية” في سيناء.
- رابعاً: التهجير يعزز التطرف ، أدّى تهجير آلاف البدو والسكان المحليين في سيناء إلى زيادة المظالم والدفع ببعضهم إلى حافة التطرّف، والانضمام إلى الجماعات المُسلّحة بغرض الانتقام من النظام. وأخيراً، أسفر استخدام القبائل في قتال التمرد عن خلق العديد من المشكلات، مثل تعرُّض بعضهم للخطف والتعذيب والقتل بانتظام على يد المسلحين.
خلاصة الأمر، أن نظام السيسي يعيد الكرة من جديد بتشكيل مليشيات عسكرية قبلية تتصدر مشهد المواجهات أمام تنظيم “ولاية سيناء”، بعدما فشل من قبل مرتين، في 2015، و2017م. ولعل النظام يستهدف بذلك الحد من ضحايا الجيش والشرطة الذي قتل منهم الكثير خلال المواجهات أو في الأكمنة من جهة. واستنزاف التنظيم بمواجهات مع مليشيات قبلية مدعومة من الدولة من جهة ثانية، بما يحد من قدراته على توجيه الضربات لعناصر الجيش والشرطة والمخابرات. من جهة ثالثة فإن هذه المليشيات ستقوم هي بالأدوار القذرة من قتل واختطاف وتعذيب بعد الاتهامات التي وجهت للمؤسسة العسكرية في أعقاب التسريبات التي كشفت عن الانتهاكات الواسعة التي تمارسها عناصره بحق المدنيين في سيناء بدعوى أنهم إرهابيون أو متعاونون مع التنظيم. وهي الجرائم التي وثقتها منظمات حقوقية دولية مثل هيومن رايتس ووتش.
وفي سبيل تحقيق ذلك سعت الدولة إلى تفكيك الكيانات القبلية في سيناء من أجل الاحتواء والسيطرة والتجنيد، وذلك عبر تغيير موازين القوى الداخلية، إذ يشير عادل الأخرسي الإعلامي والباحث في الشأن السيناوي، لتبعات سعي الدولة لتوظيف شيوخ القبائل أمنياً ما أدى لتراجع مكانة بعضهم، واستبدال السنّ والمكانة بالتعاون الأمني كأسس لـ “شرعية” المشايخ المعينين، ما أدى في بعض الحالات لتقويض مركزية السلطة وتهميش الشيخ أو إهانته بين أهله بسبب تفضيله المكاسب المادّية على أمن أفراد القبيلة، ما أثر على وظيفة “مجلس القبيلة” أو “الديوان”، الذي كان يتشاور فيه رجال القبيلة للوصول إلى كلمة موحدة في العلاقات مع الكيانات الأخرى والدولة، كما أصبحت آليات العقاب الداخلي كـ “التشميس”، الذي يعني رفع حماية “القبيلة” عن أحد الأفراد وإلغاء كفالتها إياه، أداة في يد الحكومة لمعاقبة الأفراد، ما أدى لإثارة نوازع الثأر والكراهية بين أفراد القبيلة الواحدة.[[9]] ولمزيد من التفكيك منحت السلطة للموالين لها حتى لو كانوا أرباب سوابق امتيازات واسعة ومكاسب سياسية واقتصادية مغرية كالوظائف والتعيينات ومخصصات التنمية والتعمير، كما أصبح بدو جنوب سيناء مقيدين بسوق العمل والأجور في المناطق السياحية، الذي تزامن مع انكماش أعمال الرعي والزراعة المنزلية التي كانت رائجة خلال السبعينيات، وكانت توفر اكتفاءً غذائياً لسكان المحافظة، وبذلك تعمل الدولة آلياتها عبر أدوات التفكيك والامتيازات لمزيد من السيطرة على المشهد القبائلي في سيناء على أمل أن يساهم ذلك في حسم الصراع ضد المسلحين، دون النظر إلى المآلات الخطيرة على مستقبل سيناء بهذه السياسات القاصرة والفوضوية.
والغريب في الأمر أنه رغم هذا النزيف الضخم من الدماء المصرية إلا أن الآلة الإعلامية للنظام توجه السخط الشعبي نحو المسلحين دون الإشارة مطلقا إلى ضرورة محاسبة المسئولين عن الفشل المتكرر والإخفاق المتواصل، ورغم انكشاف المؤسسة العسكرية سواء على مستوى الاستعداد القتالي أو حتى على مستوى السلوك الأخلاقي ، ورغم سقوط مئات الضحايا من عناصر الجيش والشرطة والمتعاونين معهم إلا أن أحدا لم يقدم للمساءلة ولم يحاسب مسئول واحد على هذا الفشل المتكرر؟! والراصد يمكن أن يكتشف بسهولة أن النظام يقوم بالتغطية على هذا الفشل المتجذر عبر استراتيجية تقوم على ثلاثة أضلاع:
- الأول هو التمترس خلف صناعة الدراما (مسلسل الاختيار نموذجا) وذلك بهدف تزييف الوعي وصناعة واقع بديل يقوم على الخيال والتوهم للتغطية على الواقع المرير والفشل المتواصل. وتكوي صورة بطولية لعناصر الجيش لرفع الروح المعنوية المتردية لعناصره بسيناء.
- الثاني، هو التزييف والتخفي خلف البروباجندا والصراخ الإعلامي الذي تمارسه فضائيات السلطة كل يوم في برامج “التوك شو” التي تستهدف تزييف الوعي وتشكيل وعي يقوم على نشر الأكاذيب وطمس الحقائق وتشويه المعارضين وتسويق الخونة والفاسدين باعتبارهم يمثلون منتهى الوطنية والانتماء.
- الثالث، هو الاغتيالات الجماعية لنشطاء وشبان، وهي عادة ما تحدث لأبرياء معتقلين أو مخطوفين قسريا في محاولة لرفع الروح المعنوية للجنود في سيناء أو لأنصار النظام ويبقى الفاعلون الحقيقيون على الأرض يواصلون دك كمائن الجيش واصطياد عناصره.
[1] في غياب البيانات الرسمية.. «اتحاد القبائل» يعلن عن هجمات على «ولاية سيناء».. ومقتل مدنيين أثناء تفكيكهم عبوات ناسفة/ مدى مصر ــ 5 ديسمبر 2021م
[2] ذا هيل: الجيش المصري يدير حربًا قذرة.. ويؤسس فرق الموت في سيناء/ شبكة رصد ــ الأربعاء، 26 أبريل 2017
[3] محمود خليل/ حرب في أرض الفيروز [1/4]… قصة فشل استنساخ تجربة الصحوات في سيناء/ العربي الجديد ــ 08 ابريل 2018
[4] محمود خليل/ حرب في أرض الفيروز [1/4]… قصة فشل استنساخ تجربة الصحوات في سيناء/ العربي الجديد ــ 08 ابريل 2018
[5] «قبائل الصحوة».. The Washington Post: الجيش المصري سلَّح بدو سيناء لمحاربة داعش/ عربي بوست ــ 27 سبتمبر 2018م
[6] لمزيد من التفاصيل انظر: معتز بالله محمد/ دراسة إسرائيلية: الجيش يجند السيناوية لجمع المعلومات/ مصر العربية ــ 24 مايو 2015
[7] محمود خليل/ المتعاونون مع الأمن المصري هدف لـ”ولاية سيناء”/ العربي الجديد 29 أبريل 2020// لمزيد من التفاصيل انظر: من الشيخ زويد…مدى مصر يتحدث إلى “صحوات” سيناء.. قوات المساندة الأهلية للجيش بين الدفاع و”تصفية الحسابات”/ مدى مصر ـ 20 أغسطس 2016
[8] “15” عاماً من الحرب.. موقع أمريكي يرصد 4 أخطاء جعلت إرهاب داعش يتفاقم في سيناء؟/ عربي بوست ــ 06 سبتمبر 2020م
[9] سناء البنا/ السيطرة على قبائل سيناء… تطويع بالقوة لضمان الولاء للنظام الحاكم/ العربي الجديد ــ 09 مايو 2019