بقرار من عبد الفتاح السيسي، أصبح الفريق أسامة رشدي عسكر، الشخص الأهم والأقوى في القوات المسلحة المصرية، بعد تعيينه رئيس أركان حرب الجيش، وهو المنصب الذي يسيطر صاحبه من خلاله على تشكيلات القوات المسلحة الرئيسية، سيطرة تامة وفعلية على الأرض، بينما يبقى لوزير الدفاع القرارات السياسية العامة. يوم الأربعاء 27 أكتوبر، أقال عبد الفتاح السيسي، رئيس أركان الجيش، الفريق “محمد فريد حجازي” من منصبه. وتضمن القرار، تعيين الفريق “أسامة عسكر”، رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة. ولم يصدر عن الرئاسة المصرية، أي تفسير لهذا القرار، الذي أعلنه المتحدث الرئاسي السفير “بسام راضي“. ووفق القرار، جرى ترضية “حجازي” بتعيينه مستشارا لرئيس الجمهورية لمبادرة “حياة كريمة” المعنية بتطوير قرى الريف المصري، على عكس قيادات سابقة جرى تعيينها مستشارين لدى رئاسة الجمهورية...
أولا: سياق اتخاذ القرار:
وجاء القرار بعد ساعات من حضور “حجازي” إحدى مراحل المشروع التكتيكي الذي نفذته وحدات الجيش الثالث الميداني، الثلاثاء الماضي. وفي ختام التدريب، نقل “حجازي” تحيات وتقدير “السيسي”، ووزير الدفاع الفريق أول “محمد زكي”، لرجال الجيش الثالث. وجاءت الاطاحة بحجازي، في وقت كان تم ترشيح اسمه أخيراً لخلافة الفريق أول محمد زكي، في منصب وزير الدفاع. وتشابه قرار الإطاحة بفريد حجازي بدرجة كبيرة مع قرار الإطاحة بسابقه الفريق محمود حجازي رئيس الأركان الأسبق، إذ تمت الإطاحة بصهر الرئيس بينما كان عائداً لتوه من العاصمة الأميركية واشنطن، حيث كان شارك في اجتماع القادة العسكريين للدول المشاركة في مكافحة الإرهاب. وجاءت الترقية الأخيرة للفريق عسكر رئيساً للأركان بعد قضاء رئيس الأركان الفريق محمد فريد حجازي لأربع سنوات في منصبه، ليغادره عن 67 عاماً، حيث سبق تعيينه رئيساً للأركان في 28 أكتوبر 2017، عقب إقالة رئيس الأركان السابق وصهر السيسي الفريق محمود حجازي، إثر حادث الواحات البحرية، الذي قُتل خلاله 16 من أفراد الشرطة، من بينهم 6 من ضباط قطاع الأمن الوطني، وذلك في ظل اتهامات وُجهت للقوات المسلحة بالتقاعس عن نجدة قوات الشرطة التي تعرضت لهجوم مدمر في منطقة الواحات البحرية بالصحراء الغربية. وجاء قرار نعيين عسكر بديلا لحجازي، استمرارًا لتكريم السيسي لعسكر، الذي استفاد من ثلاثة قرارات جمهورية بترقيته، وبرفع سن التقاعد لضباط القوات المسلحة برتبة فريق أبقت عليه في الخدمة منذ عام 2015.
ثانيا: تصعيد استثنائي لعسكر
وترأس عسكر خلال السنتين الماضيتين هيئة عمليات القوات المسلحة، كما استفاد في مايو الماضي، من تعديل أدخله السيسي على قانون التقاعد والتأمين والمعاشات للقوات المسلحة، لرفع سن تقاعد الضباط برتبة فريق إلى 65 عامًا بدلًا من 64. وسبق هذا التعديل تعديل آخر أقره السيسي على القانون نفسه في ديسمبر 2017 لرفع سن معاش الضباط برتبة فريق من 62 إلى 64 عامًا. ووفق تصريحات صحفية، لرئيس لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس النواب، نقلها موقع “مدى مصر”، اقتصرت الاستفادة من هذا التعديل على كل من: عسكر الذي كان يعمل وقتها مساعدًا للقائد العام للقوات المسلحة لشؤون تنمية سيناء، إلى جانب قائد الحرس الجمهوري وقتها الفريق محمد زكي، وزير الدفاع حاليًا. ورقى السيسي عسكر من رتبة لواء إلى فريق في 31 يناير 2015، وعمره وقتها كان 58 عامًا (سن التقاعد للواءات وقتها) من أجل الإشراف على العمليات العسكرية ومواجهة الإرهاب فى شمال سيناء.
ثانيا: دلالات الاطاحة برئيس الأركان:
- رغبة السيسي في عدم استقرار قيادات الجيش بمناصبهم:
جاء قرار اقالة حجازي، بعد إتمامه فترة شغله للمنصب، البالغة 4 سنوات، وهو ما أعاد للواجهة الجدل حول أسباب ترقية عسكر بعد تهميشه سابقاً، وكيفية إدارة السيسي لعمليات التصعيد والترقية داخل المؤسسة العسكرية، وبالأخص في ظل إصدار عدة قرارات جمهورية أعادت رسم حدود صلاحيات وفترات خدمة كبار القادة العسكريين، ما يشير إلى رغبة السيسي في عدم استقرار الأفراد في المنصب لفترات طويلة، حتى لا يُكرر خطأ الرئيس الراحل حسني مبارك مع وزير دفاعه المشير طنطاوي.
- العلاقات الشخصية معيار قرارات السيسي:
وهو ما يتجلى في مسار ترقيات الفريق أسامة عسكر، وتقريبه من السيسي تارة وتهميشه تارة أخرى. وعسكر من مواليد 1957، وقد تدرج في المناصب العسكرية إلى أن شغل منصب قائد الجيش الثالث الميداني، في أغسطس 2012، بدلاً من الفريق صدقي صبحي، الذي تولى آنذاك رئاسة أركان حرب القوات المسلحة. وصعد اسم الفريق عسكر للواجهة عقب هجوم واسع شنّه 100 من عناصر تنظيم ولاية سيناء -الفرع المصري من داعش- في 29 يناير 2015، على المربع الأمني بمدينة العريش، عاصمة محافظة شمال سيناء، استخدموا خلاله 3 سيارات مفخخة مزودة بعشرة أطنان من المتفجرات، بالتزامن مع شنّهم هجوماً على سبعة ارتكازات للجيش بالعريش ورفح والشيخ زويد، ما أسفر عن مقتل 31 من أفراد الجيش والشرطة على الأقل. وعقب الهجوم بيومين فقط، انعقد المجلس الأعلى للقوات المسلحة في جلسة طارئة، لمناقشة تفاصيل وتداعيات الحادث، وفي نهاية الاجتماع أصدر السيسي قراراً جمهورياً بتشكيل قيادة موحدة لمنطقة شرق القناة ومكافحة الإرهاب، بقيادة اللواء أسامة عسكر، مع ترقيته إلى رتبة فريق، حيث كان عمره آنذاك 58 عاماً، وهي ترقية هدفت إلى تجاوز سن التقاعد المقرر آنذاك للضباط برتبة لواء، والبالغ 58 عاماً، قبل أن يعدله السيسي لاحقاً في عام 2016، ليسمح بمدّ خدمة اللواءات بعد بلوغهم السن القانونية للمعاش أربع سنوات إضافية بقرار تجديد يصدر سنوياً. وتولت القيادة الموحدة التي قادها الفريق عسكر الإشراف على الأعمال القتالية للجيش الثاني الميداني في شمال سيناء، والجيش الثالث الميداني في وسط وجنوب سيناء، وذلك بالتعاون مع الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة ووزارة الداخلية، بالإضافة إلى اختصاصها بمهمة متابعة معدلات أداء المشروعات التنموية الجارية والمخطط تنفيذها بشبه جزيرة سيناء. وفي خطاب شهير للسيسي بمسرح الجلاء، وجّه حديثه إلى أسامة عسكر قائلاً (أنا بشهّد الناس عليك يا أسامة إن أحداث سيناء الإرهابية لا تتكرر مرة أخرى، وأنت مسؤول أمامي وأمام المصريين عن أن هذا الحادث لا يتكرر مرة أخرى، وأنت أيضاً مسؤول بشكل كامل عن تنمية سيناء). مكث الفريق عسكر في منصبه قرابة العامين، ثم سرعان ما غادره، في ديسمبر 2016، إثر تعيين السيسي له مساعداً لوزير الدفاع لشؤون تنمية سيناء، وهو المنصب الذي كفل له البقاء في عضوية المجلس العسكري، في ظل تشكيل المجلس الذي أعاد السيسي هيكلته منذ عام 2014 ليضم في عضويته (مساعدي وزير الدفاع للتخصصات المختلفة)، قبل أن يقصر السيسي عضوية المجلس لاحقاً في 2020 على مساعد وزير الدفاع للشؤون الدستورية والقضاء العسكري، دون غيره من مساعدي الوزير، سوى من يصدر بشأن ضمهم للمجلس قرار خاص من رئيس الجمهورية.
- بين الاختفاء والعودة والحديث عن فساد عسكر
خلال الفترة التي شغل فيها أسامة عسكر منصب مساعد وزير الدفاع لشؤون تنمية سيناء اختفى بشكل شبه كامل عن الأنظار إعلامياً، ولم يظهر سوى مرات معدودة، من بينها مشاركته في يونيو 2017، بتشييع جثمان قائد المنطقة الشمالية العسكرية اللواء محمد لطفي يوسف، عقب وفاته بحادث تصادم سيارة. وفي تلك الآونة رددت بعض وسائل الإعلام المصرية أن الفريق عسكر قيد الإقامة الجبرية بفندق الماسة التابع للقوات المسلحة، على خلفية اتهامات مالية موجهة له بالاختلاس وإهدار المال العام بمبالغ تقترب من 500 مليون جنيه إلى 3 مليار جنيه، عبر شركات أسسها نجله، حظيت بعدة تعاقدات في سيناء، بشكل مخالف للإجراءات القانونية. لكن تبدّدت الأقاويل حول تهميش الفريق عسكر مع عودته مجدداً للواجهة، إثر تعيينه في نهاية عام 2019 رئيساً لهيئة العمليات بالقوات المسلحة، في ظل أجواء توتر محلية تسببت فيها مظاهرات سبتمبر 2019، التي تزامنت مع دعوات المقاول محمد علي للتظاهر، والتي تردد وقتها أن قيادات من الجيش ومن مؤسسات الدولة المضارين من قرارات السيسي، كانت تسعى لاستغلال التظاهرات لتوصيل رسالة عقاب للسيسي على قرارته ضدهم، وهو ما رد عليه السيسي بتقريب القيادات المغضوب عليهم إليه مجددا، ومن ضمنهم عسكر. وفي هذا المضمار، يشار إلى أنه بعد إبعاد عسكر من مناصبه العسكرية، أصبح الرجل كثير الظهور في قريته الديرس بمركز أجا بمحافظة الدقهلية بدلتا مصر، وأسس هناك جمعية خيرية، حتى حظي بشعبية لا بأس بها بين الأهالي. ولكن مع انفجار أحداث سبتمبر 2019، وبعد ما تم رصده من استياء واسع داخل الجيش من انتشار الشائعات والمعلومات عن الفساد المالي لبعض القيادات، والتي مسّت الفريق عسكر، أكدت مصادر لـ”العربي الجديد”، أن وزير الدفاع السابق المشير محمد طنطاوي، تدخل لحل الأزمة، وشكل غرفة مصالحة بمقر وزارة الدفاع في كوبري القبة، ونجح في التوصل إلى اتفاق بين السيسي وفريقه المكون من رئيس المخابرات عباس كامل، ونجل السيسي محمود، وبين ضباط الجيش الغاضبين، وبناء على ذلك الاتفاق، عاد الفريق عسكر إلى منصب عسكري أهم، وهو رئاسة هيئة العمليات. وأوضحت المصادر أنه في الوقت الذي كانت بعض وسائل الإعلام تتحدث عن تحديد إقامة عسكر ومحاكمته عسكرياً، كان الأخير يتولى بالفعل الإشراف المالي والإداري على العديد من المشاريع بتكليف مباشر من السيسي ووزير الدفاع. وعلى رأس هذه المشاريع، مشروع جامعة الملك سلمان وغيره مما ينفذه الجيش في جنوب سيناء، الأمر الذي استدعى في تلك اللحظة تدخل السيسي لإعادته لمنصب رفيع في الجيش، بهدف إعادة اللُحمة للقوات المسلحة وإسكات الحديث المتصاعد؛ سواء عن توابع الفساد المالي أو عدم ردّ الاعتبار لعسكر، الذي يحظى بشعبية كبيرة في الجيش بسبب خدمته الطويلة في الجيش الثالث الميداني وسلاح المشاة. ولم يكتف السيسي بإعادة عسكر لمنصب كبير، بل منحه سلطات واسعة بالفعل، زادت بمرور الوقت في إطار تنظيم العلاقة بين الجيش والمؤسسات الحكومية المدنية، والإشراف على المشروعات المرفقية والخدمية في محافظات سيناء والقناة والدلتا تحديداً. وأصبح عسكر في العامين الأخيرين صاحب الكلمة الأولى والأهم في مجال التعاون بين المحافظين والمحليات والهيئة الهندسية، وملف مخالفات البناء الذي أسنده السيسي للجيش خلال الحملة الرسمية الكبرى بشأنها في 2020. كما ترأس خلال الأشهر الماضية، اللجان المشتركة بين الجيش والمحليات، لمراجعة شروط البناء وقيود الارتفاعات القصوى في القرى والمدن الإقليمية. كما يشرف عسكر على المشروع القومي لإقامة التجمعات البدوية في سيناء، والذي يهدف إلى تطوير عمراني وسكني متكامل الخدمات والمرافق من طرق ومحاور وإمدادات طاقة وشبكات ري الزراعة واستصلاح الأراضي، ويتضمن تطوير الطرق والمحاور الرئيسية لمدينة العريش، وتطوير الطرق والمحاور بشرم الشيخ، وجامعة الملك سلمان بفروعها الثلاثة. وقبل توليه رئاسة هيئة عمليات القوات المسلحة، كان عسكر يشغل منصب مساعد القائد العام للقوات المسلحة لشؤون تنمية سيناء، وهو المنصب الشرفي الذي عينه السيسي فيه، بعد إطاحته من منصب قائد قوات شرق القناة لمكافحة الإرهاب وتنمية سيناء. ولم يلبث عسكر أن استفاد للمرة الثانية من تعديل أجراه السيسي في عام 2021 على قانون التقاعد والتأمين والمعاشات للقوات المسلحة، سُمح بمقتضاه برفع سن معاش الضباط برتبة فريق من 64 إلى 65 عاماً، وهو ما سمح لعسكر بالبقاء في الخدمة قبل أن يبلغ 64 عاماً بأيام معدودة، ويكأن القرار صدر خصيصاً له.
- التعامل بالعصا والجزرة مع مؤسسة الجيش
وعلى عكس البرتوكولات العسكرية الراسخة في كل نظم الحكم والسياسة في الدول المستقرة، يواصل السيسي التعامل مع مؤسسة الجيش كخطر محتمل له، يسعى لتوجيه تهديدات له، وهو ما يسعى لترويضه عبر سياسات العصا والجزرة، وفق تقديرات استراتيجية للمعهد المصري للدراسات. وتشيء التغييرات المتتالية إلى طريقة إدارة السيسي لعلاقته مع قادة القوات المسلحة، والتي يراوح فيها بين استخدام العصا والجزرة، مع الحرص على تدوير شاغلي المناصب القيادية، منعاً لتشكل مراكز قوى منافسة له داخل المؤسسة العسكرية. ولعله استفاد في ذلك من تداعيات تجربة حسني مبارك، الذي ترك المشير حسين طنطاوي في منصبه وزيراً للدفاع لمدة عشرين سنة، من عام 1991 إلى 2011، ما أسهم في تعزيز مركزية طنطاوي، وصولاً إلى إجباره لحسني مبارك على التنحي عقب اندلاع مظاهرات يناير 2011.ومن ثم نجد أن السيسي قد أزاح كافة أعضاء المجلس العسكري الذين شاركوه في عزل الرئيس الراحل محمد مرسي، إذ لم يتبقّ منهم بالخدمة سوى اثنين، هما الفريق أسامة عسكر، رئيس الأركان الجديد، والفريق ممدوح شاهين، مساعد وزير الدفاع للشؤون الدستورية والقانونية. وبالمقابل، حرص السيسي على ترضية قادة المؤسسة العسكرية، حيث أصدر قراراً جمهورياً قرّر بموجبه إدراج كبار ضباط القوات المسلحة تحت بند “الاستدعاء” بعد انتهاء شغلهم لمناصبهم، ومعاملة كل من لم يشغل منهم منصب الوزير المعاملة المقررة للوزير، مع التمتع بجميع المزايا والحقوق المقررة للوزراء في الحكومة، فضلاً عن تحصينهم من الملاحقات القضائية، عبر إصدار قانون يقضي (بعدم جواز مباشرة أي إجراء من إجراءات التحقيق أو اتخاذ أي إجراء قضائي ضدهم، فيما يخص أي فعل ارتكب خلال فترة تعطيل العمل بالدستور حتى تاريخ بداية ممارسة مجلس النواب لمهامه أثناء تأديتهم لمهام مناصبهم أو بسببها، إلا بإذن من المجلس الأعلى للقوات المسلحة). أما العصا فقد قننها السيسي عبر إصداره قراراً جمهورياً يقضي بعدم جواز ترشح الضباط، سواء من الموجودين بالخدمة أو مَن انتهت خدمتهم بالقوات المسلحة، لانتخابات رئاسة الجمهورية، أو المجالس النيابية، أو المحلية، إلا بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة. وهو القرار الذي أصدره السيسي بعد سابقة سجنه لرئيس الأركان الأسبق سامي عنان، وللعقيد أحمد قنصوة، عقب إعلانهما نيتهما الترشح في انتخابات الرئاسة عام 2018، فضلاً عن ترحيل رئيس الوزراء السابق الفريق أحمد شفيق على متن طائرة خاصة من الإمارات، بعد إعلانه أيضاً نيته الترشح لذات الانتخابات. وهو ما أوضح لكبار قادة القوات المسلحة أن من سيحركه الطموح السياسي لمنافسة السيسي سيكون السجن بانتظاره، أما من يساير السيسي فسيتمتع بامتيازات متعددة عقب خروجه من الخدمة. ويلاحظ أن سياسة منع تشكل مراكز قوى لا يتبعها السيسي مع القوات المسلحة فقط، إنما مع سائر الأجهزة السيادية بالدولة، حيث غيّر رؤساء جهاز المخابرات العامة 4 مرات منذ 2013، كما جاء بثلاثة وزراء للداخلية، وأربعة رؤساء للوزارة خلال نفس الفترة. ولم يتردد في الإطاحة بصهره، رئيس الأركان، الفريق محمود حجازي عام 2017، ولا برفيقه في الانقلاب وزير الدفاع الفريق صدقي صبحي عام 2018.
- حلاف مكتوم بين السيسي وحجازي
وفي هذا السياق، جاء العديد من الروايات التي رصدها موقع “الحقيقة بوست”، حول خلافات مكتومة بين السيسي وحجازي، إثر رفض الأخير تدخلات السيسي في شئون الجيش ومحاولات الزج به في أتون السياسة، وخلافات حول ادارة السيسي لملفات أزمة سد النهضة وليبيا وغيرها، وهو ما يمكن ربطه بتعديلات السيسي على ما عرف بـ “قانون رئيس الأركان”. وهو القانون رقم 134 لسنة 2021 وتضمن إدخال تعديلات في 3 قوانين تخص القوات المسلحة، كان أهمها قصر مدة بقاء رئيس أركان حرب وقادة الأفرع ومساعدو وزير الدفاع في مناصبهم على سنتين بدلًا من أربع سنوات ما لم يقرر السيسي مد خدمتهم بها، لمدة سنة قابلة للتجديد. وكذلك منح السيسي سلطة استحداث قوات جديدة أو تعديل الحالية، وهو ما اعتبره مراقبون خطوة في اتجاه التخلص من حجازي. وذلك مع العلم أن شاغل منصب رئيس الأركان برتبة الفريق لا ينطبق عليه شرط التقاعد عند بلوغه الخامسة والستين من عمره.
- -تناقض فاضحة لتبرير قرارات السيسي:
ولعل تبريرات النظام الحاكم لقررات السيسي المتلاعبة بالمؤسسة العسكرية لغير صالح مصر، والتي تدور في فلك تأمين رأس النظام فقط، أن الحكومة في مذكرتها الإيضاحية لتلك التعديلات القانونية على فترات خدمة كبار القادة بررت تقصير فترة خدمة رئيس الأركان إلى سنتين بالرغبة في ضخ دماء جديدة في الوظائف الرئيسية الكبرى في القوات المسلحة، بينما سبق أن بررت لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس النواب في تقريرها بخصوص مد فترة خدمة الضباط برتبة فريق إلى عمر 65 عاماً، بأنّ (الخبرات في القوات المسلحة تُكتسب بعد مرور فترة طويلة من الخدمة في صفوفها، ومن ثم لا بد من الحرص على نقل تلك الخبرات من القيادات العليا إلى القيادات الوسطى وصغار الضباط، الذين يحتاجون بشدة إلى تلك الخبرات المتراكمة عبر فترات طويلة من الزمن، حتى يتسنى للقوات المسلحة مواجهة التحديات الراهنة). وهي تبريرات تتناقض مع بعضها البعض، وتشير إلى أن تلك التعديلات مسيسة تهدف لترقية أشخاص بعينهم وإقصاء آخرين.
- -توجس السيسي من “سمن كلبك يأكلك”:
ووفق التقديرت الاستراتيجية، التي تتداولها الدوائر السياسية، فإن خشية السيسي من الجيش كبيرة، بل بات يمثل هاجسا كبيرا للسيسي، ومن ثم يتبع معه الاخير سياسة التدوير وعدم استقرار القيادات في أماكنها. وكان السيسي قد أدخل في تعديلات الدستور التي جرت مؤخرا، العديد من النصوص التي تمكن الجيش من السيطرة على مقاليد السلطة بسهولة. حيث يمنح تعديل المادة 200 من الدستور القوات المسلحة لأول مرة مهام صون الدستور والديموقراطية والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد. بذلك يصير الجيش فوق كل سلطات الدولة على الصعيد اليومي، وخاصة في وقت الأحداث السياسية الكبرى. إذ يفوضه ذلك التعديل الدستوري ضمناً أمر تفسير الدستور فيما يتعلق بهذه الأمور على حساب المحكمة الدستورية العليا، بل واستخدام ما يحتكره من قوة مسلحة، بوصفه القوة القادرة على فرض المصلحة العليا للدولة. بعبارة أخرى، بإمكان الجيش فرض وجهة نظره ومشيئته على مؤسسات الدولة الأخرى وكافة الأطراف السياسية في الحكم والمعارضة، بما في ذلك احتمال منع وصول غير العسكريين إلى مقعد الرئاسة، أو ترجيح كفة فصيل سياسي على حساب آخر. يستوي الأمر في حالة اندلاع احتجاج شعبي واسع النطاق أو حالة تمخّض انتخابات برلمانية أو رئاسية عن نتائج قد يعتبرها الجيش مهددة للدستور أو الديموقراطية أو المقومات الأساسية للدولة أو مدنيتها أو مكاسب الشعب، وهي أمور ليس لديها تعريف منضبط في الدستور أو القانون. جدير بالذكر أن الجيش المصري سبق أن مارس هذا الدور من قبل ولكن دون غطاء دستوري، حين قطع الجيش الطريق على الانتفاضة الشعبية في يناير 2011 وأجبر الرئيس الأسبق حسني مبارك على التنحي، ولكن ليس لصالح القوى الشعبية، بل لصالح مجلسه العسكري الأعلى. ثم كرر ذلك في 3 يوليو 2013 حين أسقط الرئيس الأسبق محمد مرسي. ولعل الخطر الذي يمثل هاجس السيسي، أن صياغة تعديل المادة 200، لا تحول دون احتمال استخدام هذه الصلاحيات في مواجهة رئيس ذي خلفية عسكرية أيضاً، بمن في ذلك السيسي. فبمقتضى هذا التعديل، سيكون على القوات المسلحة التحرك الفوري بقرار من قائدها العام، دون انتظار قرار من رئيس الجمهورية… لإقرار ما تراه محققاً للصالح العام فالتعديل يؤكّد أن القانون الحاكم لمعادلات النظام السياسي في مصر منذ أول انقلاب عسكري عام 1952 هو الصراع السياسي الدائم بين الرئيس والجيش الذي رفعه على أكتافه لسدة الحكم.
ثالثا: مخاطر سياسات السيسي مع الجيش
- -استمرار الصراعات واضعاف الجيش
وبعد اقالة حجازي وتصعيد عسكر، من المتوقع استمرار الصراعاتن والحسابات الضيقة للسيسي في ادارة المؤسسة العسكرية، وهو ما يأتي على حساب قوة واستقرار الجيش، الذي لا يبدو انه سيعمل وفق برتوكولات العسكرية المتقدمة والاحترافية، بقدر ارتباطه بشخصية الحاكم ومصالحه في البقاء على سدة الحكم. وتعد المادة 200 (والمادة ذات الصلة في كل الدساتير المصرية) تحصر مهام الجيش بحماية البلاد والحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها. إلا أن دستور 1964 انفرد بإضافة مهمة حماية مكاسب النضال الشعبي الاشتراكية. وبدا هذا النص الاستثنائي في ذروة الصراع السياسي داخل المؤسسة العسكرية على الحكم بين الرئيس جمال عبد الناصر ووزير دفاعه عبد الحكيم عامر. وقد ترتب عن هذا النص الجديد تعزيز النفوذ السياسي لعامر. فبمقتضاه تشكلت هيئة عسكرية أمنية لمحاربة الإقطاع ارتكبت جرائم بشعة ضد المدنيين. لم يتوقف هذا الفصل من الصراع على السلطة إلا بعد إلحاق إسرائيل هزيمة كبرى بالجيش المصري في حزيران/يونيو 1967، وقتل أعوان عبد الناصر لعامر بعدها. يتفق المؤرخون على أن الأداء الكارثي للجيش في هذه الحرب هو أحد ثمار الصراع السياسي المزمن داخله. لم يتوقف الصراع السياسي بين الرئيس والجيش بوفاة عبد الناصر، بل تواصل مع الرئيس الجديد أنور السادات، إلى أن تطور لمحاولة انقلاب عام 1971. خلال حرب أكتوبر 1973، تواصل الصراع من خلال قيادات عسكرية أخرى. جرى تبادل الاتهامات بالخيانة بين الرئيس (الذي هو القائد الأعلى للقوات المسلحة) وبعض القيادات العليا العسكرية في ميدان الحرب وعلى مائدة التفاوض. لم يهدأ بال الرئيس السادات إلا بعدما أقصى بطرق متنوعة أبرز نجوم حرب أكتوبر من العسكريين الذين كانوا يحظون بالشعبية. لكن ضباطاً بالجيش اغتالوه في عام 1981 أثناء عرض عسكري في مدينة نصر بالقاهرة حيث كان الجيش الطرف الوحيد المسؤول عن الأمن فيها. كان السادات قد عيّن قبلها حسني مبارك، وهو الأقل طموحاً سياسياً بين قادة جيشه، نائباً له. استخدم الرئيس الجديد حسني مبارك وسائل متنوعة للحد من بريق وزير دفاعه عبد الحليم أبو غزالة الذي تمتع بشعبية كبيرة داخل الجيش، بما في ذلك اتهامه بفضائح نسائية في وسائل الإعلام، إلى أن أقاله وعيّن رئيس حرسه محمد طنطاوي وزيراً للدفاع. لكن الأخير أقصاه في 2011 بعدما قضى عشرين عاماً في الوزارة، وهي أطول مدة لوزير دفاع مصري في هذا المنصب. ورغم حرص السيسي على اتباع سياسة “الكرسي الدوار”مع كبار القادة العسكريين من أجل التخلص المبكر من كل نجم سياسي محتمل ولمنع الانقلاب عليه، شهد العامان الأخيران مؤشرات على احتدام الصراع بين السيسي والعسكريين. ففي خلال 15 شهراً فقط في الفترة الممتدّة من أكتوبر 2017 حتى ديسمبر 2018، جرى إقصاء مفاجئ لكل من محمود حجازي رئيس الأركان، واللواء خالد فوزي مدير المخابرات العامة، ووزير الدفاع صدقي صبحي، واللواء محمد عرفان جمال الدين مدير جهاز الرقابة الإدارية، ومحمد الشحات مدير المخابرات العسكرية. وخلال الفترة نفسها، جرت عملية إقالة واسعة النطاق لأكثر من 200 من كبار قيادات المخابرات العامة، وذلك بصورة غير متوقّعة من دون تقديم أي مبرّر للرأي العام. وعيّن السيسي مدير مكتبه اللواء عباس كامل مديراً للمخابرات العامة، وجدير بالذكر أن ثلاثة من أبناء السيسي قد شغلوا مؤخرا مواقع قيادية مؤثرة في المخابرات العامة وجهاز الرقابة الإدارية ووصل هذا الصراع ذروته في نهاية عام 2017 حين أعلن على التوالي اثنان من أبرز القادة العسكريين المتقاعدين، أحمد شفيق القائد الأسبق للقوات الجوية، وسامي عنان رئيس الأركان الأسبق، اعتزامهما تحدي السيسي في الانتخابات الرئاسية عام 2018، وتلاهما ضابط ثالث هو العقيد أحمد قنصوة من القيادات الوسطي وغير متقاعد. انتهى الأمر بوضع الأول في الإقامة الجبرية، وبمحاكمة وسجن الثاني والثالث. كما تعرض عشرات من ضباط الجيش المتعاطفين مع عنان للاحتجاز في السجن. من المؤكد أن أجواء الصراع بين السيسي وجيشه مختلفة عن تلك التي أحاطت بالصراع بين عبد الناصر وعامر عند وضع دستور 1964 بما تضمنه من نص جديد زاد من النفوذ السياسي للجيش، ولكن من المرجح أن تكون أجواء الصراع الجديدة على صلة أيضاً بتعديل المادة 200. ومع تعدد الأزمات والتغييرات في قيادات الجيش، بدأت تطفو على السطح صراعات جماعات المصالح العسكرية المتعددة حول اقتسام الغنائم، غير أن أكثر ما يقلق الجيش ليس هذه الانقسامات الداخلية، بل خطر تجدد اضطرابات شعبية واسعة النطاق يكون مسؤولاً عن قمعها. فقد يؤدي ذلك إلى حدوث انشقاق داخلي في الجيش ذاته نتيجة الانقسام الطبقي داخله، كما قد يؤدي إلى احتدام الصراع بين السيسي وجيشه..
- -اضطراب مستمر بين القيادات تهدد كفاءة الجيش
ولعله من جملة الارتدادات السلبية لسياسات التدوير والاقالات والتصعيد المستمرة داخل صفوف الجيش والتي يتبعها السيسي، هو استمرار الاضطراب خاصة بين صفوف القيادات، وهو ما تعبر عنه حركات التنقلات التي تتم مرتين كل عام، والتي تشيء قراءاتها إلى ان هناك خخلل كبير، يهدد كفاءة عمل القوات المسلحة. وهو ما تذهب اليه دراسة المعهد المصري للدراسات، حول “حركة تنقلات الجيش ـ يونيو 2021”. وفي شهر يونيو 2021م، اعتمد السيسي، كونه القائد الأعلى الحالي للقوات المسلحة المصرية، حركة التنقلات “الاعتيادية” التي تُجرى داخل الجيش المصري على مختلف المستويات، وجاءت حركة يونيو 2021م، لتشمل العديد من الملاحظات الاستراتيجية، وفق وحدة العلاقات المدنية العسكرية بالمعهد المصري. ومنها:
1ـ استبعاد لواء أركان حرب خالد شوقي من قيادة المنطقة المركزية العسكرية وتعيين لواء أركان حرب عاصم عاشور بدلاً منه، وهذا بعد عام واحد فقط من تكليف شوقي بقيادة المنطقة المركزية العسكرية “الهامة” ، والتي تقبع تحت سيطرتها العاصمة الكبرى القاهرة والجيرة والقليوبية.
2ـ استبعاد لواء أركان حرب خالد لبيب من قيادة المنطقة الجنوبية بعد عام واحد من تعيينه قائداً للمنطقة الجنوبية، وتم استبداله بلواء أركان حرب محب حبشي.
3ـ نقل لواء أركان حرب عماد عبد القادر يماني من قيادة الشرطة العسكرية بعد ستة أشهر من تعيينه، ليصبح نائب لقائد الحرس الجمهوري، ونقل قائد قيادة إلى نائب لا تعتبر ترقية.
4ـ نقل لواء أركان حرب محمود العيدروس من إدارة سلاح الإشارة بعد ستة أشهر من تعيينه، ليعين نائب لمدير هيئة الاستخبارات العسكرية بمسماها الجديد.
5ـ نقل لواء أركان حرب ياسر الأسريجي من قيادة المنطقة الشمالية بعد عام واحد فقط من تعيينه، لتولي إدارة جهاز الشئون المعنوية.
6ـ نقل لواء أركان حرب محرز عبد الوهاب من منصبه كنائب لمدير الكلية الحربية الذي كلف به من ستة أشهر فقط، إلى منصب نائب قائد الحرس الجمهوري، ليصبح بذلك قائد قوات الحرس الجمهوري لواء أركان حرب مصطفى شوكت ونائبه لواء أركان حرب محرز عبد الوهاب.
7ـ تحويل إدارة المخابرات الحربية إلى هيئة الاستخبارات العسكرية، حيث كانت المخابرات الحربية تسمي من ذي قبل إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع، وكانت تحت مظلتها 4 أجهزة: الأمن الحربي، الاستطلاع والمعلومات، المخابرات البحرية، جهاز الأمن للبحوث والتطوير. والآن طبقاً للقرار الجديد، تم ضم أربعة أجهزة أخرى وهم: الإشارة، والحرب الإلكترونية، والنظم، والشئون المعنوية، وبذلك الشكل يكون قد تم تحويلها إلى هيئة نظراً لشمولية الهيئة عن الإدارة، فالمخابرات الحربية الان هي أهم ذراع يعتمد عليه السيسي ولذلك يعمل على توسيع أنشطتها.
8ـ كان اللافت في حركة يونيو 2021م، استبعاد لواء أركان حرب أحمد فتحي من إدارة هيئة الشئون المعنوية وتعيينه رئيساً لهيئة التنظيم والإدارة حيث “أصبح بذلك عضواً في المجلس العسكري” وتعيين لواء أركان حرب ياسر الأسريجي بدلاً منه.
9ـ نقل تبعية الشئون المعنوية الي هيئة الاستخبارات العسكرية بشكلها الجديد، حيث يشهد جهاز الشئون المعنوية خلال المرحلة الراهنة، عملية إعادة هيكلة بسبب تقييم أدائه في التأثير على أنه سلبي في الفترة الأخيرة وتحديداً في الملف الإعلامي والذي يتداخل فيه الجهاز بشكل كبير؛ حيث كان تقييم مسئول الملف الإعلامي في جهاز المخابرات العامة العقيد أحمد شعبان، أن إدارة الملف الإعلامي بشكل كامل تقبع تحت مسئوليته، ويحارب من أجل ألا تكون هناك هيئة أو جهة أخرى لها أن تتداخل في ذلك الملف. ويتولى العقيد أحمد شعبان إدارة الملف في جهاز المخابرات العامة وسيقوم بالتنسيق مع المخابرات الحربية في كيفية التعاطي مع ذلك الملف في المرحلة المقبلة. أي أن خروج لواء أركان حرب أحمد فتحي خليفة من إدارة الشئون المعنوية كان منطقياً، رغم أنه من المقربين من اللواء محسن عبد النبي مدير مكتب السيسي الحالي، والذي كان يتولى إدارة الشئون المعنوية قبل خليفة؛ فالشئون المعنوية بشكلها الجديد ستتحكم فيها بشكل كامل هيئة الاستخبارات العسكرية ورئيسها لواء أركان حرب خالد مجاور، وتمت ترضية خليفة بتصعيده ليصبح عضواً في المجلس العسكري ويرأس هيئة التنظيم والإدارة.
وبناء على هذه الملاحظات يمكن القول إنها تعكس استمرار نهج السيسي القائم على ترسيخ هيمنته وبقائه، حيث يتخذ كل الإجراءات التي تمكنه من أجل تحقيق ذلك الهدف، ويعمل على سد ثغرات من سبقوه بالوصول الى كرسي الرئاسة حتى يأمن أي تهديد قد يؤثر على مستقبله، حتى يكون هو المتحكم والمسيطر والمهيمن على كافة مفاصل الجيش، ولكيلا تتكون مراكز قوى ضده.
خاتمة
ومن هذا الاستعراض يمكن القول إن سياسات السيسي المتدخلة بقوة في المؤسسة العسكرية، تخلق مزيدا من الاشكالات والصراعات بشكل اساسي، ويجعل الوشايات والتجسس سبيلا لنيل رضا القيادات، ما يحطم اسس العسكرية وبعثرة مبدأ الكفاءة والقدرة، وهو ما يحول الضباط وكبار القادة الذين يرسمون الخطط الى مجرد ابواق للرئاسة فقط، ما يعرقل بنناء الاستراتيجيات العسكرية الفاعلة في مواجهة التحديات في الداخل والخارج. يشار إلى أنه في العهود السابقة للرؤساء “ناصر، السادات، مبارك” كانت تُجرى حركات تنقُّل كل عام، ولكن لم يكن شرطاً أن تحدث حركات في صفوف كبار القادة في كل حركة، بل كانت استراتيجية ناصر ومبارك تحديداً تثبيت القيادات في أماكنهم لفترات، وكانوا يروا أن هذا التثبيت يؤمِّن حكمهم، ويضمن استمرار ولاء الجيش لنظامهم بصورة أكبر، ويعمل من جهة أخرى على استقرار المؤسسة العسكرية، أما السادات فكانت سياسته مختلفة كلياً عن ناصر ومبارك، فالسادات تولى الحكم بعد ثلاث سنوات من كسر الجيش المصري في نكسة 67، وكان الفريق محمد فوزي وزير الحربية، الذى تولى إدارة الجيش بعد المشير عبد الحكيم عامر بعد النكسة، كان يعمل إلى أواخر حكم ناصر ومع بداية حكم السادات عام 1970، على تفكيك وإعادة تركيب الجيش المصري ، وكان يضع مع قيادات الجيش خطة التحرير. وقد تصادم الفريق فوزي مع السادات في بداية حكمه بسبب خطة التحرير، ولذلك أطاح السادات بفوزي فيما سُمي وقتها “بثورة التصحيح، ثم تصادم السادات أيضاً مع الفريق محمد صادق ثم مع الفريق الشاذلي بسبب خطط الحرب والتحرير، ثم تصادم السادات مع الفريق أحمد بدوي بسبب عمولات صفقات التسليح التي كانت تتحصل عليها قيادات الجيش المقربة من السادات؛ ووصف الضابط علوي حافظ في كتابه الفساد الصدام الشرس بين السادات وبدوي، والذي لمَّح فيه أن بدوي تم اغتياله في حادثة الطائرة عام 1981م على أثر ذلك الخلاف. كل هذا دفع السادات لإجراء تغييرات دورية بشكل مستمر داخل صفوف الجيش، للإمساك بمفاصل الجيش ولعدم السماح بتكوين مراكز قوى على غرار ما تم في عام 1971م، داخل الجيش تهدد حكمه. أما في عهد السيسي، فكل حركة تتضمن تغييرات جوهرية في صفوف كبار القادة، وفي صفوف المجلس العسكري تحديداً، كما قام السيسي بتغيير جميع من شاركوه في الانقلاب على أول تجربة ديمقراطية شهدتها مصر في 03 يوليو 2013م، باستثناء ثلاث قيادات مستمرين معه إلى الآن وهم: الفريق محمد فريد حجازي، الذي كان يتولى الأمانة العامة لوزارة الدفاع أثناء حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، والذي تم الاطاحة به من رئاسة الأركان.. والفريق أسامة عسكر، والذي كان يتولى قيادة الجيش الثالث الميداني أيام حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، ولواء أركان حرب ممدوح شاهين، مساعد وزير الدفاع للشئون الدستورية والقانونية. وقائد الحرس الجمهوري للرئيس الراحل محمد مرسي محمد زكي، والذي تم تعيينه وزيراً من قبل السيسي في منتصف عام 2018م، وتم ترقيته إلى رتبة فريق أول. بخلاف ذلك أخرج السيسي جميع قيادات المجلس العسكري التي وافقته وشاركته في تنفيذ الانقلاب على التجربة الديمقراطية في 03 يوليو 2013م.
وبذلك يتأكد أن استراتيجية السيسي في الحكم عملت على تحويل منظومة الحكم من حكم المؤسسة العسكرية ككل إلى حكم الفرد العسكري “الحاكم الديكتاتور ومعه دائرة قليلة جداً” المهيمن والمسيطر على كافة المؤسسات والأجهزة، وذلك خوفاً من مصير مبارك الذي انقلب عليه الجيش في يناير 2011م، بسبب ملف التوريث الذي كان يعمل عليه الرئيس الراحل حسني مبارك لنجله جمال، والذي اعتبرته قيادات الجيش خروجا على قواعد الحكم العسكري الذي أسسه جمال عبد الناصر عام 1954م. ولذلك يحرص السيسي على عدم تثبيت القيادات العسكرية في أماكنها لمدة طويلة، ودائماً ما تتضمن الحركات والنشرات التي اعتمدها السيسي من 2013م إلى وقتنا هذا، تحريك القيادات ونقلهم من مناصب إلى مناصب أو يقوم بإحالة بعض القيادات الأخرى للتقاعد وتحديداً من يختلفون معه في سياساته تجاه بعض القضايا، وذلك ما تم مع الفريق محمود حجازي صهره الذي أخرجه من منصبه كرئيس للأركان في أكتوبر 2017م، بسبب خلافات بينهم في بعض القضايا الأمنية، وكان من قبله اللواء أحمد وصفي الذي خرج على الإعلام وصرح أن ما تم في يوليو 2013م يسمى انقلاباً عسكريا لو وصل السيسي لمقاليد حكم مصر، ولذلك تم استبعاده من قيادة الجيش الثاني الميداني في فبراير 2014م، ثم تم استبعاده من رئاسة هيئة التدريب في ديسمبر 2016م، بخلاف أخرون، وذلك حتى لا تتكون مراكز قد تشكل تهديداً له في فترة من الفترات عند الاختلاف حول قضايا معينة. وهو ما ينطبق على محمد فريد حجازي، الذي اختلف مع السيسي في قضايا التعامل مع أزمة سد النهضة والملف الليبي وملف شرق المتوسط..