دفع مجلس النواب الليبي بعدة قرارات جملة واحدة إلى مشهد البلاد السائر في متاهات الغموض، لتزيد من شدة غموض المراحل المقبلة، بدلاً من تحديدها وتوضيح مصيرها، ومن أبرز تلك القرارات انتهاء ولاية الحكومة، والاعلان عن تشكيل غيرها منفرداً، من دون إشراك المجلس الأعلى للدولة. فقد أنهى مجلس النواب جلستيه، فى 24 و25 يناير 2022، من دون أن يحدد مصير الانتخابات، التي تُركت مواعيدها مفتوحة، ومن دون أن يبين أساسها الدستوري، وحتى أمر الحكومة، التي أكد انتهاء ولايتها، وأعلن فتح باب الترشح لمنصب رئيس الحكومة، وتركه معلقاً من دون أن يحدد موعداً لتقديم الترشيحات. فضلًا عن اسقاط شرط تقاسم مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة تزكية المرشح لرئيس الحكومة بناءً على تصويت بين النواب، بواقع 30 صوتاً رفض الشرط مقابل 21 صوتاً قبل ببقائه، في خطوة اعتبرها العديد من المراقبين ضرباً جديداً للمسار التوافقي، وجهود التقارب الأخيرة مع مجلس الدولة[1]. ويمكن قراءة الدوافع التى تقف خلف قرار مجلس النواب باسقاط حكومة الدبيبة واستبعاد المجلس الأعلى للدولة من تشكيل الحكومة الجديدة، وكذلك ردود الأفعال التى أثارتها تلك القرارات، كما يلى:
أولًا: حكومة الدبيبة:
تأتى قرارات مجلس النواب باسقاط حكومة الوحدة الوطنية الحالية فى ظل الصراع الدائر بين رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة، وهو الصراع الذى تحول إلى ما يشبه المعركة السياسية، والذى لجأ كلًا منهما إلى استخدام أوراقه وأسلحته لِلَي ذراع الآخر. فقد سبق أن صوت مجلس النواب، في سبتمبر 2021، على سحب الثقة من حكومة الدبيبة، بيد أن عملية تنفيذ هذا القرار تعثرت بسبب الرفض الدولي الواسع. وعلى الرغم من ذلك، لم تتوقف محاولات عقيلة لاسقاط حكومة الدبيبة، فقد عقد عقيلة صالح لقاءً مع نائب رئيس المجلس الرئاسي، عبد الله اللافي، في 15 يناير الجاري، لبحث مسار الانتخابات، وسرت إشاعات على مواقع التواصل الاجتماعي أنه تم الاتفاق على تشكيل حكومة تكنوقراط مصغرة، وعلى الرغم من نفي بعض أعضاء البرلمان صحة هذه الوثيقة، فإن مصادر حكومية وبرلمانية رفضت التعقيب عليها، وهو ما أضفى مصداقية عليها. كما أن ثمة أخباراً متداولة أشارت إلى وجود مساعٍ لتشكيل حكومة جديدة برئاسة فتحي باشاغا، خاصة بعد اللقاء الذى عقده مؤخرًا مع خليفة حفتر فى أواخر ديسمبر الماضى. وبعد يومين من لقاء عقيلة واللافى، فقد أعلن الأول، في 17 يناير الحالى، أن حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة لم تعد لها شرعية، مشيراً إلى ضرورة إعادة تشكيل حكومة جديدة تتولى قيادة المرحلة الانتقالية لحين إجراء الانتخابات. وجاءت هذه التصريحات خلال الجلسة الأولى، التي ترأسها صالح للبرلمان الليبي منذ عودته لمباشرة مهام عمله كرئيس للبرلمان. وجاءت هذه التصريحات بعد أن تقدم 15 نائباً من البرلمان الليبي بطلب رسمي إلى صالح لإقالة حكومة الدبيبة، وتشكيل حكومة تكنوقراط تكون محددة المهام، متهمين الحكومة ورئيسها بالفساد، ومطالبين النائب العام بضرورة فتح تحقيقات في هذا الشأن[2].
وليأتى، أخيرًا، اقرار مجلس النواب خلال جلستى 24 و25 يناير الحالى، تأسيسًا على إقرار تقرير لجنة خارطة الطريق المنبثقة عن المجلس، بانقضاء الولاية القانونية لحكومة الوحدة الوطنية في 24 ديسمبر الماضي، وتكليف اللجنة بتحديد آلية لاختيار رئيس الحكومة الجديد، بما يتضمن شروط ترشحه ومتطلبات التقدم للمنصب[3]. وقد شرع مجلس النواب فعلياً في تحديد الإجراءات الخاصة باختيار حكومة بديلة بوضع13 شرطاً للترشح لمنصب رئيس “حكومة الاستقرار”، التي تقرر تشكيلها في غضون أسابيع. وكانت أبرز الشروط التي حددها البرلمان، غير الشروط المتعارف عليها عادة في مثل هذه الحالات، أن يُقدم المرشح تعهداً مكتوباً بعدم ترشحه للانتخابات المقبلة، بعد الجدل الذى تسبب فيه الدبيبة بترشحه للانتخابات الرئاسية التي تعثر إجراؤها في ديسمبر الماضي[4]. وأكد أعضاء من مجلس النواب أن فتح باب الترشح وقبول المرشحين لرئاسة الحكومة الجديدة سيبدأ منذ الجلسة القادمة لمجلس النواب. وأن المجلس وضع شروطا واضحة للترشح، ومن تنطبق عليه هذه الشروط بإمكانه التقدم لمجلس النواب، الذي سيجري المفاضلة بين المتقدمين لتكليف أفضلهم بتشكيل الحكومة القادمة[5].
وفى المقابل، فقد تمسك الدبيبة بمنصبه كرئيس للحكومة، وأعلن عن تمسكه بمنصبه لحين تسليم السلطة لحكومة منتخبة، ومعتبرًا أن قرار اسقاط حكومته ما هو إلا قرار فردى من قبل رئيس مجلس النواب عقيلة صالح انتقامًا من الدبيبة الذى ترشح ضده فى الانتخابات التى كانت مقررة فى ديسمبر الماضى، ومشيرًا إلى عقيلة صالح باعتباره المتسبب الأول فى الأزمة الحالية التى تعيشها البلاد. وهو ما ظهر فى إعلان المتحدث باسم حكومة الدبيبة، محمد حمودة، في 17 يناير الجاري، أن تصريحات صالح (التى طالب فيها بإعادة تشكيل حكومة جديدة) لا تعبر عن موقف رسمي للبرلمان الليبي، وإنما هي مجرد رأي شخصي له، مشيراً إلى وجود عدد كبير من النواب يختلفون معه[6]. وسبق أن شددت حكومة الدبيبة في مناسبات عدة على استمرارها في عملها لحين التسليم إلى سلطة جديدة منتخبة[7]. كما اجتمع الدبيبة بعدد من النواب، في العاصمة طرابلس، فى 22 يناير الحالى، أصدروا مبادرة حملت توقيع 62 نائبًا، تضمنت دعوة رئيسي السلطتين التشريعية (عقيلة) والتنفيذية (الدبيبة) للتوقيع على خطة عمل المرحلة المقبلة، والتي تتضمن 8 نقاط. أبرز هذه النقاط دعم استمرار حكومة الوحدة، مع اشتراط إجراء تعديلات وزارية والالتزام بتمثيل كافة الدوائر (الإدارية)، ومنح الدبيبة حرية اختيار الوزراء الجدد، وتحمل مسؤولية خياراته. كما اقترحت المبادرة أن تتولى دول تركيا ومصر والإمارات وقطر “بالتنسيق في ما بينها، ومن خلال أطراف تتم تسميتها من طرفي الاتفاق، تشكيل تنسيقية دولية عليا تشرف على تنفيذ الاتفاق والنظر في كل ما تحتاجه عملية تنفيذها من متطلبات وتعديلات وفقا لما يتماشى وطبيعة المرحلة ومستجداتها وضروراتها”[8].
وهى المبادرة التى رفضها عقيلة صالح، لأن التعديل الوزاري الجزئي الذى تطالب به تلك المبادرة يُضعف موقف عقيلة، الذي يريد الإطاحة بالدبيبة، من خلال إنهاء ولاية الحكومة، وليس مجرد تعديل يعزز صلاحياته ونفوذه على الوزراء. كما أن الأمر الأكثرإثارة للاهتمام، هو اقتراح المبادرة أن تستغرق ولاية الحكومة عامين ابتداء من تاريخ توقيع الدبيبة وعقيلة على هذه المبادرة، في حال لم تجر الانتخابات خلال هذه الفترة. وهذه المرة الأولى التي يتم الحديث فيها عن تمديد ولاية حكومة الوحدة عامين، بينما يرى عقيلة أن ولاية الحكومة انتهت في 24 ديسمبر الماضي، بعد فشل إجراء الانتخابات في موعدها[9]. وفى إشارة ضمنية من جانب الدبيبة لتحميل رئيس مجلس النواب عقيلة صالح مسئولية الأزمة الحالية التى تعيشها البلاد، فقد أكد الدبيبة، فى 23 يناير الجارى خلال مشاركته في ندوة بعنوان “الدستور أولاً” في طرابلس، على الحاجة إلى دستور في البلاد قبل إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، مشيرًا إلى “محاولة أطراف تعميق الأزمة بدلاً من حلها وتقييد إرادة الشعب الليبي، من خلال تفصيل بعض القوانين لمنع أشخاص وتمكين آخرين، واليوم بعدما قال القضاء كلمته، تحاول الأطراف ذاتها الالتفاف من جديد عن أصل المشكلة، والذهاب في مسارات تطيل أمد الأزمة وتقفز على أصل مسبباتها”[10]. فى إشارة إلى قيام مجلس النواب بقيادة عقيلة بتفصيل قوانين الانتخابات الرئاسية التى كانت مقررة فى 24 ديسمبر الماضى لصالحه وحفتر ولمنع الدبيبة من الترشح، والآن يحاول عقيلة أيضًا أن ينفرد بإطالة الأزمة عبر تشكيل لجنة لصياغة مسودة دستور جديد بدلًا من الاستفتاء على مسودة الدستور التى وضعتها الهيئة التأسيسية المنتخبة فى عام 2017.
وأخيرًا، فهناك تأكيد من حكومة الدبيبة على وجود العديد من المخالفات القانونية والدستورية فى جلستى مجلس النواب المنعقدة فى 24 و25 يناير، والتى شهدت اتخاذ هذه القرارات، تتمثل فى؛ أن صالح، لما علم بعدم ضمان حصول النصاب الكافي لإسقاط الحكومة، لجأ إلى توكيل لجنة خارطة الطريق المُنبثقة عن مجلس النواب (22ديسمبر2021) بهذه المهمة، واستند إلى توصياتها وهذه المخالفة الدستورية الأولى. المخالفة الثانية؛ يُقال إن سحب الثقة من الحكومة تم برشاوى قُدمت للنواب، علاوة على قطع كلمات النواب المعارضين لقرار إسقاط الحكومة، وقطع البث المرئي للجلسة عدة مرات. المخالفة الثالثة؛ أن لجنة خارطة الطريق نصت على أن الحكومة تقع في مسار السلطة التنفيذية، والأخيرة قائمة مقفلة انتخبها ملتقى الحوار السياسي بأربعة رؤوس، ثلاثة في المجلس الرئاسي، وواحد لرئاسة الحكومة، فلا يجوز قانوناً إسقاط رأس والإبقاء على البقية، فالقائمة مقفلة تسقط كلها أو تبقى كلها[11]. كما أن عقيلة صالح هو الأخر كان مرشحاً رئاسياً، ويستخدم صلاحياته كرئيس للمجلس لإقصاء الدبيبة، أقوى خصومه في الانتخابات، فكيف له أن يعود لرئاسة مجلس النواب من دون أن يتنازل عن ترشحه للرئاسة، ويجمع بينهما في آن واحد؟[12]، مثلما يطالب عقيلة الدبيبة بعدم الجمع بين رئاسة الحكومة والترشح للانتخابات المقبلة.
ثانيًا: المجلس الأعلى للدولة:
فقد أثار تصويت مجلس النواب على استبعاد المجلس الأعلى للدولة من المشاركة في تزكية رئيس الحكومة الجديدة، الجدل مجددًا بشأن مستقبل العملية السياسية، رغم تأكيد استمرار التشاور بين المجلسين. وقد يعيد القرار البرلماني الاختلاف من جديد بين مجلسي النواب والدولة، اللذين يتنافسان على أحقية كل منهما في اختيار السلطة التنفيذية الجديدة بعد تعثر إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في موعدها يوم 24 ديسمبر الماضي[13]. وفي أول ردود الفعل من مجلس الدولة على قرار البرلمان تشكيل حكومة جديدة، وصف عضو المجلس، عبد الجليل الشاوش، ما حدث في جلسة البرلمان، بأن “مرشحاً رئاسياً، هو عقيلة صالح، رئيس البرلمان، يعاقب مرشحاً رئاسياً منافساً له، هو عبد الحميد الدبيبة، رئيس الحكومة”. وعبر الشاوش عن استغرابه “تصريحات عقيله صالح، وهو رجل قانون، بخصوص انتهاء ولاية الحكومة، على الرغم من أن ملتقى الحوار السياسي حدد نهاية ولايتها بانتهاء المرحلة الانتقالية وإجراء انتخابات حرة ونزيهة”. وأشار إلى أن “المادة الرابعة من الاتفاق السياسي تحدد آلية اختيار رئيس الحكومة، في حالة شغور المنصب، ولحد الآن ما من شغور في منصب رئيس الحكومة”[14]. وبعد ساعات من تصويت مجلس النواب على استبعاد المجلس الأعلى للدولة من مشاورات تشكيل حكومة بديلة لحكومة عبد الحميد الدبيبة، أعلن رئيس المجلس خالد المشري معارضته أي تعديل للسلطة التنفيذية لا يتلاءم مع الإعلان الدستوري. كما أكد ضرورة التقيد بالاتفاق السياسي المبرم في الصخيرات بالمغرب عام 2015 عند إجراء أي تغيير في السلطة التنفيذية. وفي وقت سابق، أكد المسؤول الليبي للمستشارة الخاصة للأمم المتحدة في ليبيا ستيفاني وليامز أن أي تعديل في السلطة التنفيذية في البلاد يجب أن يتوافق مع الإعلان الدستوري المؤقت ومع خارطة الطريق للحل السياسي الشامل في ليبيا. وبموجب اتفاق الصخيرات، فإن المجلس الأعلى للدولة يتشاور مع مجلس النواب في عدة حالات بينها سحب الثقة من الحكومة[15]. ويرى أنصار مجلس الدولة أن هناك مخالفات دستورية فى شابت عملية اصدار هذه القرارات منها؛ أن رئاسة مجلس النواب أعلنت عن انعقاد الجلسة بقوام 120 نائباً، لكن الذين شاركوا في التصويت على قرار استبعاد مجلس الدولة هم 51 عضواً فقط، وبواقع 30 صوتاً قبلوا استبعاد المجلس الأعلى للدولة من اختيار رئيس الحكومة الجديد مقابل 21 صوتاً رفضوا الاستبعاد، مما يؤكد على عدم شرعية ودستورية تلك الخطوة[16].
وقد أثار قرار مجلس النواب باستبعاد مجلس الدولة من تشكيل الحكومة الجديدة حالة استغراب شديدة، خاصة أن هذ القرار يأتى فى ظل الحديث عن نوع من التقارب بين مجلس النواب والأعلى للدولة. حيث بدا من تحركات مجلس النواب أنه بات أقرب للعمل في إطار بحث المسار الدستوري، وهو ما يجعله قريبًا من وجهة نظر المجلس الأعلى للدولة، وهذا يمكن اعتباره على المستوى التكتيكي تغيرًا جذريًا في توجهات رئيس المجلس المستشار عقيلة صالح الذي كان حتى أسابيع قليلة مضت يرى أن عقد الانتخابات الرئاسية والتشريعية هو المسار الأفضل. وقد ازدادت احتمالية حدوث هذا التقارب بين المجلسين خاصة بعد الأنباء التي تحدثت عن لقاء تم مؤخرًا في المغرب بين صالح والمشري[17]. لكن سرعان ما أزالت التطورات المتلاحقة هذا الاستغراب وذلك الالتباس، فعلى الرغم من قبول عقيلة بأولوية المسار الدستورى، إلا أنه لا يزال هناك اختلاف فى وجهتى النظر بين عقيلة والمشرى. ففى حين دعا عقيلة صالح خلال جلسة البرلمان في 17 يناير الجاري إلى تشكيل لجنة من 30 عضواً من المثقفين والمفكرين والقانونين من الأقاليم الليبية الثلاثة لصياغة دستور جديد للبلاد، وذلك خلال 30 يوماً من تاريخ تشكيل اللجنة. فقد تمسك المشري بالتنسيق مع الهيئة الدستورية، باعتبارها هيئة منتخبة من قبل الشعب، وعقد المشري، اجتماعاً في 18 يناير الجاري، مع لجنة التواصل بالهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، حيث تم الاتفاق على ضرورة استكمال المسار الدستوري من خلال طرح المسودة التي صاغتها الهيئة على الاستفتاء الشعبي[18]. ويبدو أن وجهة نظر مجلس الدولة بالاستفتاء على مسودة الدستور الحالى بدلًا من إعداد مسودة جديدة أكثر منطقية لمجموعة من الأسباب منها؛ أن تعيين لجنة من 30 متخصصا، بدلا من هيئة منتخبة من 60 عضوا، من شأنه هدم مسار استغرق أكثر من 8 أعوام، وليس معروفا كم سيستغرق إنهاء اللجنة المقترحة لمسودة الدستور.. أشهرا أم سنوات. فلجنة الستين منحت عاما لإنجاز مشروع الدستور، لكنها لم تستكمله إلا بعد مرور نحو 3 أعوام ونصف، وإلى اليوم لم يتم الاستفتاء عليه. ما يعزز الاعتقاد أن لجنة الثلاثين المقترحة قد تستغرق هي الأخرى سنوات لإعداد مسودة الدستور، حتى ولو منحت مهلة أسابيع أو أشهر لإنجازها.
كما أن اختيار الأعضاء الثلاثين لإعداد مسودة الدستور، يحتاج موافقة كلًا من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، وهذا بحد ذاته يستغرق وقتا، فلحد الآن لم يتم تنفيذ الاتفاق على تقسيم المناصب السيادية السبعة، رغم أشهر طويلة من المفاوضات بين المجلسين، فما بالك بثلاثين عضو سيكون دورهم حاسما في تحديد طبيعة النظام السياسي للبلاد. كما أن فشل لجنة الـ75 في إعداد قاعدة دستورية (مستعجلة) فقط لإجراء الانتخابات وصلت إلى طريق مسدود، وليس هناك أي ضمانات بأن لجنة الثلاثين المقترحة لن تشهد نفس المصير. وحتى إذا تم التوافق حول تشكيلتها، فإنها مجبرة على تقديم مسودتها لمجلس النواب لتعديلها والمصادقة عليها، مع استشارة مجلس الدولة، فاللجنة المعينة ليس لها نفس الصلاحيات مقارنة بهيئة دستورية منتخبة (لجنة الستين). وبالنظر إلى الطريقة التي أصدرت بها رئاسة مجلس النواب لقوانين الانتخابات دون احترام الحد الأدنى من الإجراء الدستورية والنظام الداخلي للبرلمان والاتفاق السياسي، يجدد القلق لدى الليبيين من احتمال التلاعب بمشروع الدستور المقبل، بما يتوافق مع أهواء أفراد بعينهم أو لإقصاء أشخاص معينين، بما لا يتوافق مع روح أي دستور يفترض أن يفصل على مقاس أي شخص[19]. أضف إلى ذلك، فقد انتقدت الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور الدائم في ليبيا اقتراح رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، تشكيل لجنة جديدة لصياغة الدستور، وقالت إن هذه الخطوة تمثل “مخالفة صارخة للإعلان الدستوري”. ووقع نحو 43 عضوا في الهيئة من أصل 58، بيانا، فى 27 يناير الحالى، عبروا فيه عن رفضهم “القاطع لأي محاولات يقوم بها السيد رئيس مجلس النواب من شأنها تجاور مهامه، والتعدي على اختصاصات الهيئة التأسيسية المنتخبة”. وقال الأعضاء الـ43، في بيانهم، إن “ما صدر من تصريحات عن السيد رئيس مجلس النواب بشأن اقتراح تعيين لجنة لصياغة دستور دائم، بدلا عن الهيئة التأسيسية، يعد مخالفة صارخة للإعلان الدستوري”[20].
ثالثًا: البعثة الأممية:
تعكس المؤشرات الراهنة وجود تيارين أساسيين حاليًا يحاولان فرض وجهتي نظرهما فيما يتعلق بما يجب أن يتم التركيز عليه سياسيًا في المرحلة الحالية؛ التيار الأول يرى أن واقع الحال يفرض التوجه نحو الاستفتاء على الدستور أولًا، بالتزامن مع تشكيل خريطة طريق سياسية جديدة، في حين يرى التيار الثاني أنه لتفادي تفاقم أزمة الشرعية يجب الالتزام بخارطة الطريق الحالية التي تمخضت عن ملتقى الحوار الوطني، بحيث يتم على الأقل عقد الانتخابات التشريعية، قبل يونيو المقبل. التيار الأول يتصدره مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، وإن كان هناك اختلاف بينهما حول هذه النقطة كما تم توضيحه أعلاه، في حين ترى البعثة الأممية في ليبيا أن التيار الثاني ربما يكون أكثر واقعية[21].ففى حين أعلن عقيلة صالح، في الجلسة الثانية للبرلمان، في 18 يناير الجاري، عن خريطة طريق جديدة تقوم لجنة “خريطة الطريق” برئاسة نصر الدين مهنا، بإعدادها، وبالتنسيق مع المفوضية العليا للانتخابات، ويبدو أن هذه الخريطة سوف تتضمن تأجيل الانتخابات عدة أشهر لحين الانتهاء من تسوية الملفات الخلافية والعراقيل التي حالت دون إجراء انتخابات 24 ديسمبر الماضي، وربما يعزز من هذا الطرح إعلان رئيس المفوضية العليا للانتخابات خلال جلسة مجلس النواب، في 17 يناير الجاري، أن استكمال عملية الانتخابات يحتاج لفترة تتراوح بين 6 – 8 أشهر. ففى المقابل تضغط القوى الدولية للتعجيل بإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسة خلال عدة أشهر. وانعكس هذا الموقف الدولي في التصريحات الأخيرة لبعثة الاتحاد الأوروبي إلى ليبيا، فضلاً عن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، للأطراف السياسية في ليبيا لإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في أقرب وقت ممكن. كما تدعو البعثة الأممية للإبقاء على حكومة الوحدة الوطنية لتجنب تمديد الفترة الانتقالية، وإجراء الانتخابات قبل نهاية يونيو المقبل. فثمة قلق متنام لدى البعثة الأممية من فكرة تشكيل حكومة ليبية جديدة، حيث أعلنت مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفاني ويليامز، أن خريطة الطريق التي وضعها ملتقى الحوار الليبي تمتد حتى يونيو المقبل، مما يعني ضرورة استمرار الحكومة الحالية في مباشرة مهامها حتى نهاية هذه المدة. كما أعربت ويليامز عن قلقها من استبدال الحكومة الحالية، مشيرة إلى أن هذا لن يشكل حلاً للأزمة الحالية.
من ناحية أخرى، تعكس مواقف القوى الدولية المنخرطة في الملف الليبي وجود دعم لفكرة استمرار حكومة الدبيبة لحين إجراء الانتخابات الرئاسية، وهو الموقف الذي أيدته بوضوح السفيرة البريطانية لدى ليبيا، كارولين هرندال[22]. ولكن ما قد يزيد الأمور تعقيدًا، ويقوى من موقف عقيلة صالح الذى يطالب باسقاط حكومة الدبيبة، إنه لا يوجد اتفاق في مجلس الأمن على تعيين مبعوث جديد للأمم المتحدة وعلى هيكلية عمل البعثة في طرابلس. ففي الوقت الحالي الأمم المتحدة حاضرة على الأرض من مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني ويليامز، والتي تولت في السابق رئاسة البعثة الأممية، وجرى تعيينها كمستشارة في محاولة لتجنب الفيتو الروسي. ومن الواضح أن ويليامز لن تصبح مبعوثا للأمم المتحدة نظرًا للرفض الروسي[23]. ولذلك فقد اقترحت بريطانيا، خلال جلسة مجلس الأمن فى 27 يناير الجارى، مشروع قرار لتمديد مهمة بعثة الأمم المتحدة لسنة أخرى، فقد رأت لندن أن تسوية الخلاف بين موسكو وواشنطن حول ليبيا مستحيلة قبل انتهاء ولاية البعثة في 31 يناير الحالى وفضلت تبني مشروع مقتضب جداً يقتصر على تمديدها حتى سبتمبر المقبل. ويُفترض أن يُتبنّى النص خلال تصويت الخميس، 27 يناير الحالى. وظهرت انقسامات بين الغرب وروسيا بشأن تمديد المهمة السياسية، فقد رفضت موسكو مشروع القرار البريطانى، وتمسكت بضرورة تعيين مبعوثاً جديداً، وهددت موسكو باستخدام حق النقض (الفيتو) ضد القرار خاصة أنه قد أشار إلى ضرورة انسحاب المرتزقة من ليبيا. وعليه فإن الخلاف الذي تعمق مرة أخرى بين أعضاء الأمم المتحدة ليس مؤشراً جيداً لليبيين ولن يساعد ستيفاني وليامز في مهمتها[24].
ختامًا؛ يهدف رئيس مجلس النواب عقيلة صالح من خلف هذه القرارات إلى خلط الأوراق بهدف إبعاد موعد الانتخابات إلى أكثر من عام على الأقل، ما يعنى استمراره فى منصبه كرئيس لمجلس النواب لفترة أطول. فيما تؤكد ردود الأفعال على قرارات مجلس النواب بأن الدبيبة لن يقبل بتسليم السلطة، مدعومًا من البعثة الأممية، وكذلك فلن يقبل المجلس الأعلى للدولة باستبعاده من اختيار رئيس الحكومة الجديد، خاصة أن مجلس النواب قد طرح تغيير الحكومة دون التوافق على خطة طريق متكاملة محددة الملامح والمدد. وفى ظل هذا الوضع فهناك ترجيح حول إمكانية أن يعود مشهد الانقسام السياسي مرة أخرى فى حالة تشكيل حكومة موازية فى المنطقة الشرقية تلقى الدعم من جانب عقيلة صالح. لكن عمومًا ومهما يكن من أمر، فربما تتم بعض الترضيات من خلال تغيير بعض الوزراء في حكومة الدبيبة مع بقائه هو على رأسها، أما خيار الحرب الشاملة فبات مستحيلًا، بحكم المشهد الدولي والتقارب المصري التركي والخليجي، بل الليبي نفسه بعد زيارة نواب موالين لحفتر إلى تركيا، وتكريم عقيلة صالح للسفير التركي مؤخرًا، في عقر داره بمدينة القبة، فضلًا عن اعتزامه زيارة أنقرة نهاية يناير الحالي[25].
[1] “قرارات تزيد من غموض المشهد الليبي: إسقاط الحكومة وإقصاء مجلس الدولة”، العربى الجديد، 26/1/2022، الرابط:
[2] “مستقبل الدبيبة: أبعاد التوتر الراهن بين مجلس النواب والحكومة الليبية”، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 20/1/2022، الرابط:
[3] “خارطة برلمانية: كيف سيتعامل مجلس النواب الليبي مع تأجيل الانتخابات العامة؟”، المرصد المصرى، 25/1/2022، الرابط:
[4] “خلاف البرلمان والحكومة يهدد بإعادة الأزمة الليبية إلى المربع الأول”، إندبندنت عربية، 26/1/2022، الرابط:
[5] “هل يهدد الخلاف بين مجلسي النواب والدولة مستقبل الحل السياسي في ليبيا؟”، الجزيرة نت، 26/1/2022، الرابط:
[6] “مستقبل الدبيبة: أبعاد التوتر الراهن بين مجلس النواب والحكومة الليبية”، مرجع سابق.
[7] “ردا على قرار البرلمان الليبي.. المشري يرفض استبعاد المجلس الأعلى للدولة من مشاورات تشكيل الحكومة ويتمسك بالاتفاق السياسي”، الجزيرة نت، 25/1/2022، الرابط:
[8] “62 برلمانياً ليبياً يدعمون استمرار حكومة الدبيبة بشرط وحيد”، العربى الجديد، 23/1/2022، الرابط:
[9] “ليبيا.. الدبيبة ينجح في شق موقف مجلس النواب من الحكومة (تحليل)”، الأناضول، 25/1/2022، الرابط:
[10] “رئيس الوزراء الليبي يطالب بدستور جديد قبل إجراء الانتخابات”، إندبندنت عربية، 23/1/2022، الرابط: https://bit.ly/3FY82kY
[11] قرارات تزيد من غموض المشهد الليبي: إسقاط الحكومة وإقصاء مجلس الدولة”، مرجع سابق.
[12] “مصالح عقيلة صالح”، العربى الجديد، 27/1/2022، الرابط: https://bit.ly/3u5Y8eY
[13] “هل يهدد الخلاف بين مجلسي النواب والدولة مستقبل الحل السياسي في ليبيا؟”، مرجع سابق.
[14] “خلاف البرلمان والحكومة يهدد بإعادة الأزمة الليبية إلى المربع الأول”، مرجع سابق.
[15] “ردا على قرار البرلمان الليبي.. المشري يرفض استبعاد المجلس الأعلى للدولة من مشاورات تشكيل الحكومة ويتمسك بالاتفاق السياسي”، مرجع سابق.
[16] “قرارات تزيد من غموض المشهد الليبي: إسقاط الحكومة وإقصاء مجلس الدولة”، مرجع سابق.
[17] “خلط الأوراق… ليبيا بين أزمة الشرعية واختلاف الأولويات”، المرصد المصرى، 20/1/2022، الرابط: https://bit.ly/3tZD49O
[18] “مستقبل الدبيبة: أبعاد التوتر الراهن بين مجلس النواب والحكومة الليبية”، مرجع سابق.
[19] “ليبيا.. مقترح تشكيل لجنة لصياغة الدستور عرقلة للانتخابات (تحليل)”، الأناضول، 21/1/2022، الرابط: https://bit.ly/3g6SuRf
[20] ” “دستور ليبيا” ترفض لجنة موازية.. وبحث دمج تشكيلات مسلحة”، عربى21، 27/1/2022، الرابط: https://bit.ly/3G0FXcF
[21] “خلط الأوراق… ليبيا بين أزمة الشرعية واختلاف الأولويات”، مرجع سابق.
[22] “مستقبل الدبيبة: أبعاد التوتر الراهن بين مجلس النواب والحكومة الليبية”، مرجع سابق.
[23] “ليبيا تخلق حالة عدم توافق داخل مجلس الأمن الدولي”، عين ليبيا، 26/1/2022، الرابط: https://bit.ly/3IC4IO6
[24] ” الأمم المتحدة ستمدد مهمتها في ليبيا وسط انقسام حاد حول الدستور والانتخابات”، تى أر تى عربى، 27/1/2022، الرابط: https://bit.ly/3H8XsJ8
[25] ” قفزات عقيلة صالح.. هل تطيح بحكومة الوحدة الليبية؟”، نون بوست، 23/1/2022، الرابط: https://bit.ly/3IGVkJi