في ظل حالة التعثُّر التي يعاني منها السودان؛ طرحت بعض الأحزاب السياسية السودانية وثيقة توافقية لإدارة الفترة الانتقالية، كمسعى لتجاوز الأزمة السياسية الراهنة والوصول إلى الحكم المدني الديمقراطي. وتأتي هذه المبادرة بعد طرح عدد واسع من المبادرات المحلية والإقليمية لتجاوز الأزمة السياسية بالسودان. كما أنها تأتي في ظل عدد من القرارات يتخذها المجلس السيادي؛ كمؤشر لانفتاحه على الحوار، وكان آخرها الإفراج عن عشرات من المعتقلين السياسيين. وفي ظل هذه التفاعلات الكثيفة نقرأ البنود التي قدمتها الوثيقة، وفرص نجاحها، والآراء حولها، والتحفظات عليها، وسيناريوهات المستقبل..
خلفيات الأزمة الأخيرة للسودان:
نحو 6 أشهر مرت على اندلاع الأزمة السياسية بين مكونات الحكم في السودان وظلت تراوح مكانها، رغم المحاولات الداخلية والإقليمية والدولية الحثيثة لإنهائها. وتلك الأزمة اندلعت منذ 25 أكتوبر الماضي، عندما خرجت احتجاجات رافضة لإجراءات استثنائية اتخذها البرهان آنذاك، أبرزها فرض حالة الطوارئ وحل مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين. ومقابل اتهامات له بتنفيذ انقلاب عسكري، قال البرهان، إنه اتخذ هذه الإجراءات لـ”تصحيح مسار المرحلة الانتقالية”، مُتعهدًا بتسليم السلطة إما عبر انتخابات أو توافق وطني. وقبل تلك الإجراءات، كان السودان يعيش منذ 21 أغسطس 2019 مرحلة انتقالية تستمر 53 شهر تنتهي بإجراء انتخابات مطلع 2024. وكان يُفترض أن يتقاسم السلطة خلال تلك المرحلة كلٌّ من الجيش وقوى مدنية وحركات مسلحة وقَّعت مع الحكومة اتفاق سلام في 2020. وبالإضافة للأزمة السياسية، يعاني السودان من أزمات اقتصادية متلاحقة وأزمات في غاز الطهي والكهرباء والمياه. وارتفع معدل التضخم بالسودان في مارس الماضي إلى 263.16%، على أساس سنوي، مقارنةً مع 258.40% في فبراير السابق له.[1]
محاولات لحل الأزمة:
خلال الآونة الأخيرة نشطت الجهود الدولية والإقليمية لحل الأزمة من خلال طرح مبادرات للحل إلا أنها لم تُثمر عن شيء، وتزامنت هذه المبادرات مع مقترحات داخلية للحلول من الأطراف السودانية ونالها نفس النصيب من عدم التوفيق. ولعل أبرز هذه المحاولات هي مبادرة بعثة الأمم المتحدة (يونيتامس) ومبادرة الاتحاد الإفريقي ومبادرة الهيئة الحكومية للتنمية (إيجاد)، التي توحَّدت في “الآلية الثلاثية” لحل الأزمة السياسية. ففي 12 أبريل الماضي، طرحت الآلية الثلاثية للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية للتنمية بشرق إفريقيا (إيجاد)، 4 محاور أساسية لحل الأزمة السياسية بالسودان. والمحاور الأربعة هي “ترتيبات دستورية، وتحديد معايير لاختيار رئيس الحكومة والوزراء، وبلورة برنامج عمل يتصدى للاحتياجات العاجلة للمواطنين، وصياغة خطة محكمة ودقيقة زمنيًا لتنظيم انتخابات حرة ونزيهة”. وشدَّد فريق العمل المشترك للآلية الثلاثية على “وجوب توفير الإجراءات الضرورية لتهيئة المناخ للحوار بما فيها إطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين ورفع حالة الطوارئ وإلغاء كافة القوانين المقيدة للحريات وضمان عدم حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان”. كما جرت لقاءات مُكثَّفة خلال شهر إبريل الماضي بين مسؤولين دوليين وإقليمين مع مسؤولين حكوميين سودانيين وقوى مدنية في إطار حل الأزمة المتفاقمة. فمثلًا بحث رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) مع الآلية الثلاثية التي تضم، رئيس بعثة (يونيتامس)، فولكر بيرتس، ومبعوث الاتحاد الإفريقي، محمد حسن ولد لبات، ومبعوث الإيجاد، إسماعيل أويس، الجهود التي تبذلها “الآلية” بشأن تسهيل الحوار بين الأطراف السودانية. وغداة تلك المباحثات، أكد الاتحاد الاوروبي في بيان، استمرار دعمه للحوار مع كل الأطراف السودانية، وترحيبه بكل الجهود لحل الأزمة في البلاد. وكشفت قوى الحرية والتغيير عن عقدها لقاء مع فولكر بيرتس وولد لباد وأويس ممثلي الآلية الذين قدموا الدعوة لاجتماع مشترك لأطراف الأزمة، إلا أن قوى الحرية والتغيير طلبت وقتًا لتدارس الأمر والرد عليه. وفي 6 أبريل الجاري، اعتبرت وزارة الخارجية الأمريكية، أن العملية السياسية التي تيسرها بعثة الأمم المتحدة لدعم الانتقال في السودان (يونيتامس) “تقدم أفضل فرصة لاستعادة المسار الديمقراطي” في البلاد. وقبل ذلك بيوم، أكدت دول الترويكا (المملكة المتحدة والولايات المتحدة والنرويج)، دعمها لتفويض بعثة الأمم المتحدة لدعم عملية الانتقال في السودان (يونيتامس) وعمل رئيسها فولكر بيرتس.[2]
وثيقة توافقية لحل الأزمة:
تم يوم 19 إبريل بمنبر وكالة السودان للأنباء التوقيع والإعلان على الوثيقة السودانية التوافقية لإدارة الفترة الانتقالية، وذلك بمبادرة من المركز الإفريقي لدراسات الحوكمة والسلام والتحول ومركز دراسات السلام والتنمية بجامعة بحري. وأوضح مدير المركز الإفريقي لدراسات الحوكمة والسلام والتحول الدكتور محمود زين العابدين محمود لدى استعراضه الوثيقة أنها مبادرة سودانية وطنية توافقية مُوحدة، تُعبِّر عن رؤي قوى سياسية ومجتمعية متعددة لتجاوز الأزمة السياسية الراهنة، وتحقيق الانتقال الآمن للوصول إلى الحكم المدني الديمقراطي بالبلاد عبر انتخابات حرة ونزيهة. وأشار زين العابدين إلى أن الدعوة شملت جميع أصحاب المبادرات الوطنية، واستجابت معظمها وهو يُمثِّل منصة وطنية مفتوحة يشارك فيها الجميع دون شرط أو قيد، وما زال الباب مفتوحًا، وبلغ العدد حتى الآن 76 مبادرة فيما بلغ العدد الكلي للتيارات المشاركة 32 ضمَّت قوى سياسية ومجتمعية وأكاديمية وأهلية وشخصيات قومية. وقال زين العابدين أن من موجهات المبادرة تهيئة المناخ العام للممارسة السياسية الديمقراطية، وإعادة الثقة بين كافة المُكوِّنات، فيما حدَّدت المبادرة مهام الفترة الانتقالية وطبيعتها ومدتها والشراكة في إدارتها بين المُكوِّن المدني والمُكوِّن العسكري وأطراف العملية السلمية طوال الفترة الانتقالية على أساس من الثقة والإخلاص والوفاء، مع تحديد مهام وصلاحيات وسلطات مُحدَّدة ودقيقة لتمكينها من أداء أدوارها. وحدَّدت الوثيقة نظام الحكم الفيدرالي مع الالتزام بما ورد في اتفاق سلام جوبا بشأن نوع الحكم (أي الحكم الفيدرالي)، كما حدَّدت مؤسسات ومستويات الحكم في المستوى الاتحادي والولائي والمحلي، على أن يتكوَّن مجلس الوزراء من 20 وزير مُمثِّلًا كافة ولايات السودان، مع تسمية رئيس وزراء من الكفاءات الوطنية بالتشاور الواسع مع القوى السياسية. وحول نقاط الاتفاق، أكد أن هناك إجماع على مستوى الاتفاق بنسبة 70% في كل المبادرات مثل ديمقراطية الفترة الانتقالية والحكم المدني، الفيدرالية والعدالة الانتقالية، كما أن هناك رأي غالب حول تكوين مؤسسات الحكم الانتقالي وسودنة الحلول للأزمة السودانية وسياسة خارجية غير متجاوزة.[3]
في إطار سعيها لحل الأزمة الداخلية: هل تسعى السودان لإعادة التموضع إقليميًا؟
قراءة في بنود الوثيقة:
وقَّع الوثيقة عددٌ من الأطراف الهامة كان من ضمنها، حزب الأمة القومي، الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، إلى جانب مجموعة التوافق الوطني بقوى الحرية والتغيير، إضافةً إلى حركة تحرير السودان المجلس الانتقالي، وتجمُّع قوى تحرير السودان، وحركة العدل والمساواة، وشملت 40 مادة، تناولت أبرز النقاط الخلافية. وعالجت الوثيقة عدد من القضايا الخلافية. أولها؛ مدة الفترة الانتقالية: بعد الإطاحة بحكم البشير وبموجب تعديل الوثيقة الدستورية حدَّدت 39 شهر تسري من تاريخ التوقيع على الوثيقة الدستورية لإنهاء الفترة الانتقالية، والتي مُدَّت في اتفاق جوبا، ليبدأ حساب الـ 39 شهر من تاريخ التوقيع على اتفاق جوبا للسلام في السودان، وعليه يكون تاريخ تسليم رئاسة مجلس السيادة للمكون المدني في يوليو 2022. وتقترح الوثيقة الجديدة تمديد الفترة الانتقالية لتنتهي في مايو 2024، وهذا يعني أن الوثيقة تقترح تمديد في فترة الانتقال شهور إضافية، وهذا يثير مخاوف المُكوِّن المدني بشأن توقيت استلامه رئاسة المجلس السيادي، لاسيما في ظل حالة عدم الثقة التي يعيشها الفصيلين، وهو السبب الجوهري لاعتراض قوى الثورة على الوثيقة. وثانيها؛ تشكيل المجلس السيادي: نصَّت الوثيقة على تشكيل مجلس السيادة من 11 عضو، 4 من العسكريين ومثلهم من المدنيين وثلاثة أعضاء من أطراف اتفاق جوبا للسلام، وبذلك يتغير عن شكل التشكيل الحالي للمجلس، إذ يتشكَّل مجلس السيادة السوداني من 5 أعضاء عسكريين و5 مدنيين، إضافةً إلى عضو عسكري متقاعد. التشكيل المُقترح يعطي مساحة لتخفيض المكون العسكري في المجلس، وهذا يُعتبر محاولة لاحتواء غضب الأطراف المدنية من غلبة الفصيل العسكري في اتخاذ قرارات المجلس السيادي الحالي. وثالثها؛ تشكيل الحكومة: وتقترح الوثيقة تشكيل حكومة من 20 وزير يُمثِّلون ولايات البلاد (18 ولاية)، مع تسمية رئيس وزراء من الكفاءات (بلا انتماء حزبي)، بالتشاور الواسع مع القوى السياسية، بينما اقترحت عدد 300 عضو للمجلس التشريعي. وتشكيل الحكومة الحالية يختلف عن المقترحة؛ حيث تتكوَّن الحكومة الحالية من 15 وزير في الحكومة، وهذا يعني زيادة أعضاء الحكومة، كما ستختلف آلية تشكيلها. وبالرغم من عدم إيضاح دافع الزيادة العددية لأعضاء الحكومة، لكن يجدر الإشارة إلى أن اقتراح تشكيل الحكومة بالشكل التشاوري، اقتراح إيجابي يتناسب مع طبيعة المرحلة التي يُشكِّل الخلاف حول الحكومة أهم ما يميزها، ويعني فتح حلقات حوار مع جميع الأطراف حول تشكيل الحكومة، الأمر الذي إذ جرى وفقًا لضوابط التمثيل العادل للفصائل المشاركة، يزيد من احتمالية أن تكون للحكومة شرعية واسعة. أما عدد أعضاء مجلس التشريع، فاقترحت الوثيقة تخفيض عددهم إلى 300 عضو، لم تقدم الوثيقة توضيحًا ولم يعقب أعضاءها على الرقم المُقترح للأعضاء، كما لم تعرض الوثيقة الآلية المناسبة لتجاوز مسألة التأجيل التي يعاني منها المجلس التشريعي، بالرغم من أن المجلس التشريعي لم يرى النور منذ أن حدَّدته الوثيقة الدستورية الخاصة بإدارة الفترة الانتقالية في السودان، عقب سلسلة من التأجيلات.[4]
التوقيع على الوثيقة:
وقَّع على الوثيقة مجموعات موالية للعسكريين وحزب المؤتمر الوطني المحلول -الحزب الحاكم السابق- بالإضافة إلى رئيس حزب الأمة المُكلَّف فضل الله برمة. لكن يبدو أن التحالف الناشئ سرعان ما انفرط عقده، حيث شهدت الساعات التي أعقبت إعلان الوثيقة، انسحابًا واسعًا للعديد من المجموعات والأحزاب المُوقِّعة عليها والتي أكَّدت أنها لا تُمثِّلها. وبعد اعتذاره وتأكيده على أنها لا تمثل رؤيته، قال حزب الأمة القومي في بيان له، إنه عقد اجتماعًا طارئًا، لمناقشة تداعيات توقيع رئيسه على الوثيقة التي وصفها بالمحاولة اليائسة لإكساب السلطة الانقلابية شرعية زائفة، لن يشارك فيها حزب الأمة القومي والقوى الوطنية الديمقراطية المشاركة في الحراك الثوري الشعبي المستمر. وأكَّد أن توقيع رئيس الحزب المُكلَّف فضل الله برمة على هذه الوثيقة كان بمبادرة منه على اعتقاد أنها تجميع لكل المبادرات في الساحة السياسية دون الخوض في تفاصيلها، الأمر الذي لا يتسق مع رؤى الحزب وخريطة الطريق التي توافق عليها. وكذلك أعلن برمة في بيان منفصل، أنه وقَّع على الوثيقة بشكل مُنفرد وأنها لا تعني الحزب في شيء. ونفت حركة تجمع قوى تحرير السودان، وحركة تحرير السودان المجلس الانتقالي، الأعضاء في الجبهة الثورية، المشاركة في التوقيع على الوثيقة التوافقية لإدارة الفترة الانتقالية. وقالت إنها ملتزمة بمبادرة الجبهة الثورية لإيجاد مخرج للأزمة السياسية السودانية، وتسعى لتحقيق توافق سياسي وفقًا لبرنامجها المطروح. وكذلك انسحبت وتحفَّظت على الوثيقة أحزاب موالية للعسكريين مثل حزب الأمة الإصلاح والتجديد برئاسة مبارك الفاضل الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل برئاسة محمد عثمان الميرغني. والفاضل، الذي كان وزيرًا للاستثمار في حكومة البشير الأخيرة، ويرى ضرورة أن تُدار الفترة الانتقالية وفق سلطة عسكرية ودون مشاركة الأحزاب وصولًا للانتخابات، قال إنه تحفظ على الوثيقة لجهة إهمالها نقاط كثيرة يرى حزبه أنها مهمة وأساسية لحل الأزمة. وبعد أن تبرَّأ من وثيقة الانتقال، قدَّم الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، مبادرة جديدة للقائد العام للجيش عبد الفتاح البرهان، قال إعلام المجلس السيادي أنها تتعلق بمبادرة حل الأزمة السياسية في البلاد وتحقيق الوفاق الوطني الشامل، مشيرًا إلى أنها تأتي ضمن مبادرات عديدة مطروحة لحل الأزمة السودانية.[5]
تحفُّظات على الوثيقة:
تُشكِّل بنود الوثيقة نقطة توقف حتى لبعض الداعمين للتفاوض في أوساط القوى السياسية بالسودان. وقال حزب الأمة السوداني قيادة مبارك الفاضل المهدي إنه كان جزء من مشاورات قادت لهذه الوثيقة في جامعة بحري ومركز الحوكمة، لكنه اعتذر عن التوقيع عليها، مُعتبرًا أنها أعادت الشراكة بين العسكريين والمدنيين لإدارة الفترة الانتقالية بذات الشكل السابق الذي أفرز الأزمة الحالية. كما أبقت الوثيقة، وفق حزب المهدي، على اتفاق جوبا للسلام كما هو دون إلغاء لمسار الشرق، وأقرَّت مجلس سيادة مُترهِّل من 11 عضو، في حين كانت الدعوة لمجلس مُصغَّر وتقليص صلاحياته، وتكوين حكومة محاصصات حزبية لتقود إلى فشل آخر وكان المرجو حكومة كفاءات. وتحفَّظ حزب الأمة أيضًا على نص الوثيقة وتحديدًا حول تمديد عمر الفترة الانتقالية، وهو تمديد بلا سند دستوري حيث كانوا يأملون استكمال الفترة الانتقالية المُحدَّدة سلفًا والاحتكام للانتخابات. وتتصدَّر المشهد المُعارض للوثيقة قوى حديثة ترفع شعار ما يعرف باللاءات الثلاثة “لا تفاوض، لا شراكة، لاشرعية” وتقود حراكًا في الشارع، وهي لجان المقاومة السودانية، وتحالف الحرية والتغيير؛ الشريك المدني السابق للعسكريين في السلطة الانتقالية، والتي تتخذ موقفًا رافضًا للوثيقة التوافقية حتى اللحظة.[6]
آراء مُتفاوتة حول الوثيقة:
ورغم التباين الملحوظ للمكونات السودانية حول الوثيقة، لكنها -وفق مراقبين- حرَّكت جمود العملية السياسية، وفتحت آفاق للحوار بين أطراف الأزمة بعد أن ظل التواصل السياسي منقطعًا لأشهر. وتُقر الوثيقة شراكة الحكم الانتقالي بين المدنيين والعسكريين وتمديد الفترة الانتقالية والمضي قدمًا في تنفيذ اتفاقية جوبا للسلام بالخرطوم، واتخاذ إجراءات تهيئة المناخ كإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ورفع حالة الطوارئ، وغيرها، ويُعوِّل أصحابها على أن تُشكِّل أساسًا لعملية تفاوضية تُخرج السودان من أزمته. وبينما يرى البعض أن أي تجمُّع أو تكتُّل بين قوى سياسية مهما كان وزنها أمر إيجابي، كونه يُفعِّل لغة الحوار الغائبة منذ أشهر بالسودان، وهو ما سيصب في صالح مساعي حل الأزمة الراهنة بالبلاد. حيث إن الحوار غائب حتى بين التحالفات السياسية، وهو ما قاد لتشظيها والتأثير سلبًا على مُجمل الأوضاع، لذلك فإن أي حراك تكتلي جديد يُمثِّل بارقة أمل كبيرة لوحدة هذه القوى حول قضايا الوطن ومعالجة الأزمة. إلا أن البعض الآخر يعتبر أن كافة القوى المشاركة في توقيع الوثيقة التوافقية ليست في خلاف مع السلطة الحالية بالبلاد إن لم تكن حليفة لها. وحتى حزب الأمة القومي المحسوب على القوى الثورية؛ سارع بنفض يده من الوثيقة مبكرًا -على حد قول هؤلاء-. الأمر الذي يُرجِّح أن هذه الوثيقة ستُحدث ارتباكًا في المشهد السوداني، وربما يتم استغلالها من بعض الجهات في ضرب وحدة القوى السياسية عقب بروز عمليات التخوين وغيرها، لذلك قد تساهم بشكل كبير في زيادة السيولة، ومزيد من تعقيد الأزمة أكثر من حلها.[7]
مستقبل الوثيقة:
تواجه الوثيقة ثلاثة سيناريوهات؛ أولها؛ قبولها والعمل بها: ويفترض هذا السيناريو أن هذه الوثيقة ستلقى قبولًا مصحوبًا بالتنفيذ، ويستند هذا السيناريو على ترحيب متوقع من المجلس السيادي بالوثيقة، والقوة العددية للأحزاب الموقعة والمبادرات الأخرى المتوافقة علي الوثيقة، وهذا السيناريو يحمل بداخله سيناريوهان الأول أن يتم العمل بها في ظل توافق تام بين كل المكونات، وهذا يعني أن مجهودًا سيُبذل لإقناع تحالف الحرية والتغيير، ولجان المقاومة بها، أما السيناريو الآخر فيُرجِّح قبول الوثيقة والعمل بها بالرغم من وجود اعتراضات عليها، وهذا ما يجر السودان لحلقة أخرى مفرغة من الخلافات، وهذا السيناريو بطريقيه مُرجَّح. وثانيها؛ الرفض: ويتوقَّع هذا السيناريو أن تُرفض هذه الوثيقة، وهذا بالاستناد إلى الانسحابات التي شهدتها القوى المُوقِّعة على الوثيقة وإعلان عدم انضمامها لها، بجانب اعتراض لفصائل المُعارضة الرئيسية، وهذا السيناريو يعني أن المُوقِّعين على الوثيقة فشلوا في إقناع الجميع بها، وهو ما يؤدي إلى رفضها بشكل قطعي، وهذا السيناريو غير مُستبعد. وثالثها؛ التجاهُل: وهذا السيناريو يُرجِّح أن يكون مصير المبادرة النسيان والتجاهل على غرار عدد من المبادرات السابقة، ولا يؤخذ إي إجراء حيالها، وهذا السيناريو يعني ردًا وخطوات غير حاسمة من المجلس السيادي حيال المبادرة، وألا تتجاوز الوثيقة الطرح إعلاميًا ومن بعض الاحزاب، وهذا السيناريو مُستبعد.[8]
الخُلاصة:
منذ 25 أكتوبر الماضي، حين أصدر قائد الجيش قرارات قضت بحل الحكومة، وفرض حالة الطوارئ، وتجميد بعض بنود الوثيقة الدستورية؛ تعيش السودان أزمة استدعت مبادرات محلية، وجهود إقليمية عبر عملية تشاورية تستهدف الوصول إلى بر الأمان في بلد تطوقه التقلبات والتحديات. وفي هذا الإطار جاء طرح الوثيقة التوافقية لإدارة الفترة الانتقالية في السودان، والتي يُمكن القول إنها لا تعدُ عن كونها مجرد محاولة لملء الفراغ السياسي الراهن، في وقتٍ يبدو أن سلطات الأمر الواقع لا تستطيع إدارة البلاد، وستواصل العمل على هذه المبادرات في محاولة للخروج من الأزمة. وأن هذه الوثيقة قامت بها مجموعة من الأحزاب والمجموعات المحسوبة على النظام السابق والمجموعة الانقلابية، في محاولة لتكوين تحالف سياسي في ظل غياب حاضنة للانقلاب لملء الفراغ الذي تركه إبعاد المُكوِّن المدني في الحكومة الانتقالية (قوى الحرية والتغيير)، لكن هذه المحاولات أثبتت عدم جدواها لكونها في غالبها مصنوعة من المُكوِّن العسكري، وتفتقر للرؤية السياسية وغير قادرة على التأثير على الوقائع الأساسية. إلا أنه من المُتوقَّع تقديم المزيد من المبادرات والمحاولات لخلق تحالفات سياسية تقوم على مساعٍ لحل الأزمة بتشجيع من المُكوِّن العسكري، لكنها ستظل بعيدة عن الشارع ومطالبه الواضحة والمُحدَّدة بإسقاط الانقلاب وإبعاد العسكر عن السياسة، واشتراطاته الواضحة؛ لا شراكة لا شرعية لا تفاوض، مع قادة الانقلاب. وربما يكون المقصد غير المُعلن للوثيقة هو إيجاد منبر موازٍ لمسار الآلية الثلاثية، وأنها كانت تراهن بشكلٍ أساسي على ثقل ثلاثة أطراف أحدها موجود في سلطة الانقلاب وهي الجبهة الثورية ومكونان خارجها هما حزب الأمة القومي والاتحادي الأصل، إلا أن إعلان الأمة والاتحادي الأصل أن التوقيع عنهما تم بشكل فردي ودون موافقة المؤسسات وإعلان أطراف من الجبهة الثورية عدم توقيعها على تلك الوثيقة جعلها مولدًا لتجمُّع حلفاء المؤتمر الوطني، وبالتالي وُلدت هذه الوثيقة ميتة. ويبقى رغم كل هذا من المؤكد أن هذه الوثيقة لن تمر إلا بتوافق حقيقي جوهري، إلا إذا حدث توافق حولها من كافة المكونات، بما فيهم قوى الثورة مُمثَّلة بالأساس في لجان المقاومة والقوى الثورية الأخرى وقوي الحرية والتغير. ويضع الرفض وسلسلة الانسحابات من الوثيقة تحديًا كبيرًا أمام القوى المُوقِّعة في تحقيق الشرط الرئيس لقبول الوثيقة، أي شرط التوافق.
[1] “أزمة السودان.. هل تخترق الجهود الدولية والإقليمية 6 أشهر من الجمود؟”، الخليج الجديد، 18/4/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/0WVJH
[2] “أزمة السودان.. هل تخترق الجهود الدولية والإقليمية 6 أشهر من الجمود؟”، مرجع سبق ذكره.
[3] “التوقيع على الوثيقة السودانية التوافقية لإدارة الفترة الانتقالية”، وكالة السودان للأنباء SUNA، 19/4/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/Hdpxh
[4] حسناء تمام كمال، “الوثيقة التوافقية الانتقالية المُقترحة: هل يتجه السودان نحو اتفاق آمن أم تعثر جديد”، مركز شاف للدراسات المستقبلية وتحليل الأزمات والصراعات (الشرق الأوسط وإفريقيا)، 29/4/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/vBItJ
[5] ميعاد مبارك، “السودان: ما مصير مبادرات وتحالفات الموالين للعسكر؟”، القدس العربي، 22/4/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/8FI6I
[6] مرتضى كوكو، “”وثيقة توافقية”.. هل ينفذ السودان عبر بوابة الحوار؟”، العين الإخبارية، 20/4/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/5EiyS
[7] مرتضى كوكو، مرجع سبق ذكره.
[8] حسناء تمام كمال، مرجع سبق ذكره.