شهدت العاصمة التشادية نجامينا وعدة مدن أخرى بالبلاد، في 14 مايو 2022، تظاهرات واسعة ضد استمرار الوجود الفرنسي في البلاد، مُتَّهمين باريس بدعم المجلس العسكري الانتقالي الحاكم، برئاسة محمد إدريس ديبي (كاكا)، وهي الاحتجاجات التي نظمتها تنسيقية منصة المجتمع المدني “واكيت تاما”، فضلًا عن مشاركة عدد من النقابات والجمعيات والأحزاب المعارضة وكذا طلاب المدارس والجامعات. وكان من اللافت أن المتظاهرين رفعوا العلم الروسي، وحرقوا العلم الفرنسي. فبعد 60 عامًا من الاستعمار و60 أخرى من استغلال الشعوب الإفريقية ومُقدَّراتها، تواجه فرنسا رفضًا غير مسبوق لاستمرار وجودها في مستعمراتها السابقة. فماذا يحدث في تشاد؟ وما أسباب تفجُّر الأوضاع هناك؟ وما هي التداعيات المُحتملة على الداخل التشادي؟ وكيف يُمكن قراءة الأحداث في إطار السياسة الفرنسية في إفريقيا؟ تلك هي التساؤلات التي سنسعى للإجابة عليها خلال هذا التقرير..
أولًا: تفجُّر الأوضاع في الداخل التشادي: الأسباب والتداعيات:
في الأيام الأخيرة، نظَّمت جمعيات وأحزاب تشادية معارضة مظاهرة للمطالبة بإنهاء الوجود العسكري الفرنسي في أراضيها، وإنهاء تدخل باريس في شؤونها الداخلية. ووفق وزارة الأمن التشادية، حطَّم متظاهرون محطات خدمة السيارات التابعة لشركة توتال الفرنسية. واستمرت المظاهرات 3 أيام على الأقل، وشملت عدة مدن بالإضافة إلى العاصمة نجامينا واعتُقل فيها العشرات، بينهم 5 من قيادة المجتمع المدني الذين شاركوا في التظاهر. ويقود الاحتجاجات تحالف يُطلق عليه اسم “واكت تاما” ويعني بالعربية المحلية في تشاد “انتهى الوقت”؛ وهو تحالف من أحزاب سياسية وجماعات مدنية معارضة للمجلس العسكري تدعمه قطاعات عريضة من التشاديين الذين يرون الوقت قد حان للتخلص من الهيمنة الفرنسية الممتدة لأكثر من قرن، وبالتالي من الهيمنة العسكرية المحلية. ويُطالب المُحتجُّون بمجموعة من المطالب؛ أولها؛ خروج فرنسا من تشاد، وكانت شعارات الاحتجاجات واضحة “فرنسا ارحلي” و “لا للاستعمار”. وثانيها؛ وضع إطار قانوني للمرحلة الانتقالية ينتهي بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية وإنهاء سيطرة المجلس العسكري الحاكم. هذا في حين رفض المُحتجُّون ما يسمونه الانقلاب المؤسساتي بتولِّي المجلس العسكري الحكم ونيته المُبيَّتة للاستمرار عبر حوار يستوعب فيه بعض الحركات المتمردة من دون التصريح بتسليم السلطة لحكومة مدنية مُنتخبة وعودة الجيش إلى ثكناته.[1] وسعى المجلس العسكري الحاكم في نجامينا، برئاسة كاكا، إلى استيعاب المُحتجِّين، وهو ما وضح في البيان الصادر عن الحكومة التشادية، والذي طالبهم بالهدوء، كما دعا الأطراف التشادية كافة إلى الانضمام إلى الحوار الشامل المزمع عقده في الفترة المقبلة. وفي المقابل، رفض المجلس العسكري التجاوب مع مطلب المُحتجِّين برحيل القوات الفرنسية، وهو ما اتضح في إعلان وزير الاتصالات التشادي، عبد الرحمن كلام الله، عن تقدير السلطات التشادية بدور المجتمع الدولي وشركاء نجامينا الدوليين، مثل فرنسا، في تقديم الدعم لتشاد خلال الفترة الانتقالية، وهو ما يعد مؤشرًا على تمسك السلطات الحاكمة بعلاقتها الوثيقة بباريس.
-
أسباب تفجُّر الاحتجاجات:
ثمَّة العديد من المُحدِّدات الداخلية والخارجية التي يُمكنها تفسير التصعيد الحالي في الموقف الداخلي في تشاد؛ أولها؛ تعثُّر الحوار الوطني الشامل: حيث أعلنت السلطات التشادية، في 8 مايو الجاري، تأجيل جلسات الحوار الوطني الشامل، والذي كان من المُفترض أن ينعقد في نجامينا في 10 من الشهر ذاته، وذلك بناءً على طلب الوسيط القطري، حيث تستضيف الدوحة جلسات الحوار التمهيدي بين ممثلي الحكومة التشادية وعشرات من حركات المعارضة المسلحة. وعلى الرغم من مرور شهرين على بداية جلسات الحوار التمهيدي، فإنها لم تفرز أي نتائج حقيقية، وذلك نظرًا لرفض السلطات الحاكمة في نجامينا مطالب المجموعات الثلاث لحركات المعارضة المسلحة، على الرغم من التوافق في عدد من النقاط. وثانيها؛ حصول فرنسا على قواعد إضافية: أشارت بعض التقارير المحلية في تشاد خلال الأيام الأخيرة إلى أن المجلس العسكري الحاكم سمح لفرنسا بإنشاء خمس قواعد عسكرية جديدة على أراضيها، وهو ما لاقى اعتراضات واسعة لدى قوى المعارضة. وبالرغم من نفي باريس هذه التقارير، إلا أن المعارضة تؤكد صحتها بناءً على تطورات الوضع في مالي. فقد ربطت قوى المعارضة بين هذه الأخبار وإنهاء مالي مؤخرًا اتفاقيات التعاون العسكري المُوقعة مع باريس، والتي مثَّلت الإطار القانوني الحاكم للحضور العسكري الفرنسي في مالي، وهو ما يُعزِّز من اتجاه باريس للبحث عن تمركزات أخرى في المنطقة غير باماكو، وتُعد تشاد من بين هذه الدول المُرشحة لاستقبال القوات الفرنسية. وثالثها؛ دعم باريس لنظام ديبي: حيث تُمثِّل تشاد أهمية خاصة للاستراتيجية الفرنسية في الساحل الإفريقي، فتُعد نجامينا مقر القيادة المركزية لعمليات فرنسا في الساحل لمكافحة الإرهاب، وهو ما يُفسِّر الدعم الواسع الذي يحظى به النظام القائم في نجامينا، سواء في فترة إدريس ديبي الأب، أو حتى ما قبله، حيث تدخَّلت باريس في عدة مرات لإنقاذ نظام إدريس ديبي من السقوط، وهو الأمر الذي يستمر حاليًا مع ديبي الابن، ولذلك اتجهت باريس لدعم نقل السلطة للابن بشكل غير دستوري. ورابعها؛ تدهور الأوضاع الاقتصادية: فبالرغم من تمتُّع تشاد بثروات نفطية، إلا أن الأوضاع المعيشية تعاني تدهورًا حادًا، حيث بلغ نسبة المواطنين تحت مستوى خط الفقر نحو 86% من إجمالي حوالي 16 مليون نسمة، منهم حوالي 63% يعانون الفقر المدقع. وفي هذا الإطار بات هناك اقتناع داخلي في تشاد بأن الوجود الفرنسي في البلاد يستهدف استغلال ثروات تشاد لصالح باريس.[2]
-
أهمية تشاد لفرنسا:
بعد الاستقلال سنة 1960 ظلت تشاد تابعة لفرنسا شأنها شأن المستعمرات الفرنسية في إفريقيا؛ ويُمكن القول إن تشاد كانت الأكثر تبعية، وتجلَّى ذلك من خلال الحضور الفرنسي في الأحداث بنجامينا واحباطها لعدة انقلابات عسكرية استهدفت موالين لها في تشاد. وتُعد تشاد العمود الفقري للاستراتيجية الفرنسية وسط إفريقيا، وهي ساحة مفتوحة لتدخلات فرنسا بإذن وبدون إذن، فضلًا عن كونها نقطة انطلاق لها لمراقبة منطقة الساحل والصحراء في إفريقيا. وارتبطت تشاد مع فرنسا بعد الاستقلال باتفاقية مساعدات عسكرية متعددة الأطراف فيها دول مثل إفريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية والغابون. وأعطت هذه الاتفاقية للفرنسيين قواعد عسكرية ومنحتهم حق مُطلق للتحليق فوق البلاد مُقابل دفاع فرنسا عن هذه الدول وحمايتها من أي تهديد خارجي.[3] ويُعتبر جيش تشاد إحدى أهم الركائز الفرنسية لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، وتُعد القوة التشادية من أولى البعثات العسكرية المُشاركة في قوة مينوسما التي يقدَّر عددها بنحو 15 ألف عنصر، كما تُعد نجامينا مركز القيادة المركزية لقوة برخان الفرنسية لمكافحة الإرهاب في المنطقة، حيث يتمركز هناك نحو 1000 جندي، إلى جانب عدد من طائرات ميراج المقاتلة البالغة نحو 2000 طائرة، لذلك تُصرُّ باريس على دعم نظام الحكم في تشاد.[4] فمع مطلع عام 2019 ساعدت فرنسا الرئيس الراحل إدريس ديبي –أحد أبرز حلفائها الأفارقة– عبر قصف المتمردين التشاديين الذين دخلوا من ليبيا إلى شمال شرق البلاد. والتحكم الفرنسي في شؤون تشاد وصل إلى مستويات غير مسبوقة؛ عندما عمدت باريس إلى تغيير الدستور التشادي عام 2006 من أجل أن يواصل ديبي بقاءه الحكم. وبعد مقتل ديبي وسيطرة الجيش على السلطة في تشاد عام 2021؛ ناقضت فرنسا مبادئها الديمقراطية ودعمت المجلس العسكري الانتقالي بقيادة محمد إدريس ديبي (نجل الرئيس السابق) من أجل مواصلة نهج والده في التعامل مع فرنسا باعتبارها حليفًا وشريكًا إستراتيجيًا. علاوةً على ذلك فإن القواعد الفرنسية العسكرية المنتشرة في ربوع تشاد، والتي تضم مئات الجنود الفرنسيين لا تزال شاهدة على السيطرة الفرنسية على البلد الإفريقي الذي عمدت فرنسا إلى إفقاره على الرغم من تمتُّعه بثروات اقتصادية هائلة.[5]
-
التداعيات المُحتملة للأحداث:
يلاحظ أن هناك عددًا من الانعكاسات المحتملة التي يمكن أن تفرزها حالة الاحتقان القائمة؛ أولها؛ تعزيز الانقسامات المجتمعية: تتسم تشاد بتنوع إثني وديني كبير، حيث تتشكل من حوالي 200 إثنية مختلفة، تتحدث أكثر من 100 لغة، فضلًا عن الانقسامات الدينية بين مناطق الجنوب ذات الأغلبية المسيحية من القبائل الإفريقية التي تمتهن الزراعة وتحظى بأوضاع اقتصادية وتعليمية أفضل، ومناطق الشمال والشرق ذات الطبيعة الصحراوية، والتي تقطنها أغلبية مسلمة من القبائل العربية على غرار قبيلة الزغاوة التي ينتمي إليها إدريس ديبي، والتي تسيطر على حكم البلاد حاليًا. ويعزز من هذه الانقسامات تدهور الأوضاع المعيشية، فضلًا عن خسارة مناطق الجنوب هيمنتها على المشهد بعدما ظلت مُسيطرة على الحكم طيلة العقدين الأولين من استقلال تشاد عن فرنسا. وثانيها؛ تكرار سيناريو مالي: تتشابه الاحتجاجات الراهنة في تشاد مع تلك التي شهدتها مالي وبوركينا فاسو في وقتٍ سابق، والتي انتهت بحدوث انقلابات عسكرية أنهت هيمنة السلطات القائمة التي كانت قريبة من باريس، مقابل تمدُّد النفوذ الروسي في هذه الدول. ومن أبرز القواسم المشتركة حضور العلم الروسي في الاحتجاجات، فقد عمد المُحتجُّون إلى إحراق العلم الفرنسي، وإنزال علم باريس من على القواعد التي تمت مهاجمتها، كما رفع المُحتجُّون، في المقابل، العلم الروسي، في تكرار للمشهد ذاته الذي شهدته الاحتجاجات السابقة في بعض دول الساحل الإفريقي. ويجب الأخذ في الاعتبار وجود حالة من الانقسام داخل أسرة ديبي، سواء من قِبل هؤلاء المقيمين في نجامينا، على غرار إبراهيم كورسامي، صهر دوسا ديبي، الأخ الأكبر للرئيس السابق، إدريس ديبي، أو حتى من قِبل تيمان إرديمي، ابن عم رئيس المجلس العسكري الحاكم، محمد إدريس كاكا، بل أن إرديمي كان قد طلب دعمًا مباشرًا من عناصر فاغنر الروسية في فبراير الماضي، للتخلُّص من نظام ديبي الابن حليف فرنسا. ويجيء هذا التطور في الوقت الذي تسعى فيه باريس لإعادة تشكيل قوة إقليمية جديدة بديلة عن مجموعة الخمس، تكون نواتها تشاد والنيجر، وربما تُضاف لها دول جديدة، وذلك بعد خروج مالي من المجموعة، وبالتالي يبدو أن باريس لن تتخلى بسهولة عن نفوذها الراهن في نجامينا. وثالثها؛ تداعيات مُباشرة على الحوار: قد تكون لاحتجاجات نجامينا انعكاسات على الحوار التمهيدي الذي تستضيفه الدوحة، سواء من خلال إمكانية الضغط على السلطات التشادية لتقديم تنازلات للمعارضة المسلحة، لتجنُّب خروج الأوضاع عن السيطرة، أو من خلال اتجاه بعض الحركات للانسحاب حال فشل التوصل لنتائج ملموسة خلال الأيام المقبلة، والاتجاه لدعم الاحتجاجات الداخلية، لزيادة حدة الضغط على المجلس العسكري الحاكم، خاصةً أن المجموعات الثلاث المشاركة في الحوار شكَّلت مؤخرًا لجنة موحدة من 15 عضوًا ممثلين عن الحركات الـ 52 المشاركة في الحوار، في محاولة ربما تكون الأخيرة للتوصُّل إلى تفاهمات مع السلطات الحكومية. ورابعها؛ تحديات أمام المعارضة التشادية: لا يزال المجلس العسكري الحاكم في نجامينا يُعوِّل على الوقت لتعزيز سلطته داخليًا وخارجيًا، مُستفيدًا من الدعم الفرنسي الواسع، بيد أن تصاعد حدة الغضب الداخلي من الوجود الفرنسي ذاته ربما يضيق الخناق على السلطات التشادية الحالية، خاصةً إذا ما تواصلت الاحتجاجات، بصورة تُشجِّع الجيش التشادي على القيام بانقلاب. ومع ذلك، فإن هناك عاملًا يصب في صالح النظام وهو تشرذم المعارضة، سواء الداخلية والخارجية.[6]
ثانيًا: المأزق الفرنسي في إفريقيا: الملامح والأسباب:
تعالي صوت الغضب التشادي ضد الوجود الفرنسي في البلاد، هو جزء من غضب عام تواجهه باريس في عدد من الدول الإفريقية في الفترة الأخيرة، على خلفية اتهامات بالتدخل في شؤون البلدان ودعم الأنظمة الاستبدادية. تذكّرنا هذه الاحتجاجات الشعبية المناوئة للوجود الفرنسي في تشاد، بما حدث في مالي من مظاهرات احتجاجية تشارك فيها فئات شعبية مختلفة تنديدًا بالحضور الفرنسي في بلادها، وقد تمَّ في تلك المظاهرات أيضًا حرق علم فرنسا. تؤكد هذه المظاهرات المأزق الكبير الذي وقعت فيه فرنسا في عدة بلدان إفريقية، فإضافة إلى مالي وتشاد تواجه فرنسا رفضًا كبيرًا في بوركينافاسو وإفريقيا الوسطى وليبيا والجزائر، نظرًا إلى سياستها الاستعمارية الهادفة إلى التحكم في قرار الدول الإفريقية السيادي ونهب ثرواتها. وتُظهِر عدة معطيات سعي شعوب الدول الإفريقية وبعض قادتها للابتعاد عن فرنسا، والاتجاه نحو تحالفات جديدة على غرار تركيا وروسيا التي تسعى لتعزيز نفوذها ومكانتها السياسية في منطقة الساحل والصحراء لعدة أسباب، منها السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني. وتتطلَّع بعض الدول الإفريقية التي سبق أن وقَّعت اتفاقيات دفاعية مع فرنسا، كالكاميرون والنيجر ونيجيريا ومالي وموريتانيا، إلى توقيع اتفاقيات دفاعية -أو وقَّعت فعليًّا- مع كلٍّ من روسيا وتركيا، خاصةً أن هاتين الدولتين تُعرفان بإنتاجهما لأسلحة متطورة بأثمان رخيصة مقارنة بالأسلحة الفرنسية. هذه الأزمات الخارجية المتتالية في إفريقيا من شأنها أن تضعف الجبهة الداخلية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بداية ولايته الرئاسية الثانية، خاصةً أن الدبلوماسية الفرنسية تشهد أحلك فتراتها في التاريخ المعاصر.[7]
-
ملامح المأزق الفرنسي في إفريقيا:
ويُمكن هنا التركيز على ملمحين رئيسيين: أولهما؛ انهيار المنظومة الأمنية الفرنسية بالساحل: حيث أصبحت المنظومة الأمنية التي وضعتها فرنسيا في منطقة الساحل الإفريقي 2013، تتداعى بسرعة وتتساقط حجارتها الواحدة تلو الأخرى، بعد انتقال المظاهرات المناوئة لتواجدها في المنطقة إلى تشاد، وانسحاب مالي من مجموعة الساحل، وإعلان رئيس النيجر موت هذا التحالف. قرابة 10 سنوات من التدخل العسكري الفرنسي في منطقة الساحل أثبت لشعوب المنطقة فشل باريس في جلب الاستقرار وتداول السلطة بالمنطقة، بعد أن تمدَّدت الجماعات المُسلحة إلى مناطق لم تكن تحلم بها قبل 2013. فقرار فرنسا في يونيو 2021، إنهاء عملية برخان العسكرية، وسحب نحو نصف قواتها من المنطقة والمقدرة بـ5100 عنصر، دون التشاور مع باماكو، دفع المجلس العسكري الحاكم في مالي، لاتخاذ عدة خطوات تصعيدية. آخر هذه الخطوات انسحاب مالي من مجموعة الخمسة ساحل، ومن قوتها العسكرية المُكلَّفة بقتال الجماعات المسلحة في المنطقة، بعدما سبق لها وأعلنت إلغاء الاتفاقيات الأمنية المُوقَّعة مع فرنسا، وطالبتها بسحب كامل قواتها من أراضيها. هذا الوضع دفع رئيس النيجر محمد بازوم، إلى وصف مجموعة الساحل خمسة التي تضم كلًّا من بلاده وتشاد وبوركينا فاسو وموريتانيا، بالإضافة إلى مالي بأنها “ميتة”. كما لم تخف موريتانيا، انزعاجها من انسحاب مالي من مجموعة الخمسة ساحل واعتبرته “غير مُبرر”، وسيؤثِّر على الوضعية الأمنية في المنطقة.[8] وثانيهما؛ الحصار الروسي التركي لفرنسا في دول الساحل: لا يُمكن قراءة المشهد الحالي في الساحل الإفريقي، وخصوصًا الأزمة التشادية، بمعزل عن التطورات التي تشهدها الساحة العالمية؛ فالصراع الغربي الروسي لم ينته عند حدود أوكرانيا وسوريا، أو ليبيا؛ بل امتدَّ حتى منطقة الساحل الإفريقي. فروسيا تُحيط بالنفوذ الفرنسي بتشاد من مختلف الجوانب، عبر مستشاريها العسكريين ومُرتزقة شركة فاغنر، المنتشرين في جمهورية إفريقيا الوسطى من الجنوب، وإقليم فزان الليبي من الشمال، وإقليم دارفور السوداني من الشرق، ومالي من الغرب، حيث لا يفصلها عن الحدود التشادية سوى النيجر. وسبق أن اتهمت الولايات المتحدة الأمريكية شركة فاغنر الروسية بدعم هجوم المتمردين التشاديين على نجامينا، في أبريل 2021، والذي انتهى بمقتل الرئيس إدريس ديبي. وإذا انسحبت فرنسا من تشاد في هذا التوقيت، وهو أمر مستبعد، فإن ذلك يُهدِّد بسقوط نظام ديبي الابن، بدعم روسي للمعارضة المدنية والمسلحة، أو تحالفه مع موسكو، وفي كلا الحالتين لن يخدم ذلك مصالح باريس في المنطقة. حيث تُصر فرنسا على إبقاء قواعد عسكرية لها في الساحل، مع تقليص تدخُّلها في الحرب على الجماعات المسلحة، ما يُقلِّص حجم خسائرها البشرية والمادية.[9] دولة أخرى تشكل خطرًا على النفوذ الفرنسي في تشاد؛ هي تركيا؛ التي تعمل بقوتها القصوى من أجل وضع قدمٍ في إفريقيا ومنافسة كل من فرنسا وروسيا هناك؛ عبر عرضها المستمر مساعدات عسكرية واقتصادية للمجلس العسكري الانتقالي التشادي؛ وكان آخر فصولها استقبال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لرئيس المجلس العسكري الانتقالي التشادي، محمد إدريس ديبي، في 27 أكتوبر 2021، وعرضه تطوير التعاون العسكري والأمني مع نجامينا.[10]
-
أسباب المأزق الفرنسي في إفريقيا:
وهنا يُمكن الحديث عن عدة نقاط هامة. أولها؛ ازدواجية الخطاب الفرنسي: ثمَّة خطاب فرنسي يتَّسم بالازدواجية، ففي الوقت الذي يتبنَّى فيه الرئيس ماكرون خطابًا رسميًّا يدعو إلى إعادة التوازن في العلاقات والشفافية وشراكة الكسب المشترك، فإن الواقع والممارسة يؤكدان استمرار الممارسات القديمة، والسلوك المُتعجرف في بعض الأحيان. لقد صُدِم الأفارقة، على وجه الخصوص، بالرغبة في نقل صناعات معينة إلى فرنسا، مع استنزاف مواهب إفريقيا من خلال خطط الهجرة الاقتصادية إلى باريس. كل ذلك في ظل طموحات الشركات الفرنسية لمواصلة بيع المنتجات المصنَّعة ذات القيمة المضافة العالية، بدءًا من الرادارات إلى القطارات ومرورًا بالطائرات والقوارب. وثانيها؛ تراجع الدبلوماسية الاقتصادية الفرنسية: في عام 2018، لم تُمثِّل إفريقيا سوى 2.4٪ من التجارة الخارجية الفرنسية مقارنةً بـنسبة 35٪ بعد الاستقلال. والمثير للتأمل أن ألمانيا أصبحت أول دولة أوروبية مصدّرة إلى إفريقيا جنوب الصحراء، وهو ما يعني بروزها كمنافس قوي لفرنسا في فضائها الإقليمي السابق. وذلك على الرغم من اعتماد الرؤساء الفرنسيين منذ ساركوزي على القطاع الخاص لإعادة الاعتبار لديناميكيات العلاقة الفرنسية الإفريقية. وثالثها؛ إعادة التشكيل الجيوسياسي لإفريقيا: لقد دفعت موجات الانقلابات الأخيرة في الساحل وغرب إفريقيا، التي ارتبطت بالأزمة الاقتصادية الناجمة عن جائحة كوفيد-19، وتصاعُد المد الإرهابي في المنطقة، عددًا من الدول الإفريقية إلى إعادة التركيز على جداول أعمالها المحلية والتحوُّل إلى شركاء خارجيين قادرين على تزويدها باستجابات عملية لمشاكل عاجلة وملحة. جسَّد ذلك بوضوح ظهور خطاب شعبوي جديد في المنطقة مناهض لفرنسا ومؤيد للوجود الروسي كما تعكسه خبرة دولة مالي. من جهة أخرى؛ طبقًا لبعض الكُتّاب حدثت تصدعات في مناطق الفرنكفونية السابقة. كما في المنطقة المغاربية حيث اشتداد التنافس والعداء المزمن بين الجزائر والمغرب في السنوات الأخيرة، وكذلك في منطقة الساحل التي تعاني من الانقسامات الداخلية والاختراقات الخارجية بالإضافة على الأوضاع الأمنية المتردية. ورابعها؛ عسكرة السياسة الفرنسية: تمارس فرنسا منذ الاستقلال الزائف الممنوح لمستعمراتها السابقة في عام 1960 ما يُمكن تسميته بالخداع التاريخي. في نظر الجماهير الإفريقية، ولاسيما الشباب منهم، فلم يعد يتم التعبير عن القوة الفرنسية إلا من خلال المنظور العسكري منذ الاستقلال، حيث قامت فرنسا بأكثر من 70 عملية عسكرية في إفريقيا. علاوةً على ذلك، هناك اتفاقيات تعاون مع الجيوش الإفريقية لا تخضع للمساءلة أو الشفافية. هذه العسكرة خلقت في منطقة اللاوعي الإفريقي الجماعي، رفضًا لفرنسا وطريقة عملها. وتعكس كارثة التدخل الفرنسي في منطقة الساحل المأزق الذي تجد فرنسا نفسها فيه.[11]
الخُلاصة؛ يُراهن المجلس العسكري في تشاد على الوقت للتمديد وتعويم مطالبات المعارضة بالاستجابة لبعضها التي لا تؤثر على استمراره في الحكم، مُستغلًا دعم فرنسا بسبب حاجتها له في ترتيب أوراقها التي بدأت تتبعثر على مستوى القارة. ويتضح من الأحداث في تشاد أنه هناك إمكانية لتكرار ما حدث في مالي وبوركينا فاسو وغينيا في الحالة التشادية، في ظل تصاعُد الاحتجاجات، والتراجُع الملحوظ في النفوذ الفرنسي وشعبيتها في الساحل، إلا إذا نجح ديبي في احتواء المعارضة الداخلية، وتوصَّل إلى تفاهمات سريعة مع حركات المعارضة المسلحة. والمشهد الحالي في الساحل الإفريقي، يُعيد تشكيل نفسه من خلال تراجع النفوذ الفرنسي في ظل ما تمر به فرنسا من مأزق؛ حيث انهيار استراتيجيتها الأمنية في الساحل الإفريقي، وتصاعُد النفوذ التركي والروسي في المنطقة رغم انشغال موسكو بالحرب في أوكرانيا. هذا بينما تُحاصر الانقلابات العسكرية الديمقراطيات الناشئة بالساحل الإفريقي، ما يعطي للجماعات المسلحة فرصة لتكثيف نشاطها، وسط هذا التدافع الإقليمي والدولي على مناطق النفوذ.
[1] محمد صالح عمر، “احتجاجات تشاد.. هل تواجه فرنسا مرحلة جديدة في إفريقيا؟”، الجزيرة، 19/5/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/YYHcW
[2] منال مصطفى هارون، “أبعاد الاحتجاجات الراهنة في تشاد ضد الوجود الفرنسي”، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 24/5/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/ENJe8
[3] محمد صالح عمر، مرجع سبق ذكره.
[4] عائد عميرة، “عداء شعبي لفرنسا.. هل يتكرَّر سيناريو مالي في تشاد؟”، نون بوست، 19/5/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/08605
[5] عبد القادر بن مسعود، “مظاهرات غير مسبوقة.. هل تلحق تشاد بمالي وتخرج من العباءة الفرنسية؟”، ساسة بوست، 16/5/2022.
[6] منال مصطفى هارون، مرجع سبق ذكره.
[7] عائد عميرة، مرجع سبق ذكره.
[8] “مظاهرات تشاد تضعف محاولة فرنسا إعادة الانتشار بالساحل (تحليل)”، وكالة الأناضول، 23/5/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/TFvPG
[9] “مظاهرات تشاد تضعف محاولة فرنسا إعادة الانتشار بالساحل (تحليل)”، مرجع سبق ذكره.
[10] عبد القادر بن مسعود، مرجع سبق ذكره.
[11] د. حمدي عبد الرحمن، “نهاية الزمن الفرنسي في إفريقيا”، قراءات إفريقية، 15/5/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/JVSAo