الانتخابات الموريتانية: قراءة في الخلفيات والنتائج

تقدَّم العديد من السياسيين في موريتانيا لخوض النزال السياسي للفوز بمنصب رئيس الجمهورية في انتخابات 29 يونيو، التي تأتي في سياق إقليمي لا يطبعه التجانس بين الدول المجاورة لموريتانيا والمؤثرة بحكم المصالح المشتركة والتداخل المجتمعي. ففي الجنوب استطاعت المعارضة السنغالية انتزاع السلطة عبر إرادة الناخبين وصناديق الاقتراع، أما في الشرق فما زالت مالي تُكرِّس مسيرة الانقلابات والأحكام العسكرية التي تُميِّز الكثير من دول غرب إفريقيا. وفي ظل هذه الظروف وعلى وقع أزمة انعدام الثقة بين الأحزاب السياسية واللجنة المُستقلة للانتخابات التي وُجِّهت لها تهم المشاركة في التزوير بالانتخابات التشريعية والبلدية عام 2023، أعلن 8 مرشحين عزمهم خوض الانتخابات في 29 يونيو 2024. ويُشار إلى أن البلاد شهدت بين عامي 1978- 2008 سلسلة من الانقلابات العسكرية ولم تعرف تبادلًا للسلطة بين رئيسين منتخبين إلا في سنة 2019. فما هو تاريخ التجربة الديمقراطية في موريتانيا؟ وكيف يُمكن قراءة نتائج الانتخابات الأخيرة وتداعياتها؟ وموقف الإسلاميين منها؟ تلك هي التساؤلات التي سنسعى للإجابة عليها خلال هذا التقرير..

أولًا التجربة الديمقراطية في موريتانيا..

يُعتبر تاريخ الديمقراطية في موريتانيا أحد التجارب المُعقدة في القارة الإفريقية، حيث شهدت البلاد سلسلة من التغيرات السياسية والاجتماعية عبر السنوات..

1. تاريخ الديمقراطية في موريتانيا: كانت موريتانيا قد عرفت الحياة الديمقراطية مع دستور 1991 الذي وضع قواعد الدولة الديمقراطية المعاصرة حيث أسس لما بات يعرف بمسلسل التحول الديمقراطي ونص على إنشاء هيئات تشريعية ودستورية. وخلال الفترة الممتدة بين 1992- 2024 عرفت موريتانيا 30 عملية انتخابية تنوعت بين اقتراعات رئاسية، واستفتاءات دستورية، وانتخابات تشريعية وبلدية. ورغم أن التحول نحو الحياة الديمقراطية واستقطاب الجميع نحو المشاركة السياسية جاء بهدف القطيعة مع الأحكام العسكرية وإنهاء انتزاع السلطة بوسائل القوة، فإن البلاد عرفت انقلابين عسكريين أحدهما عام 2005 والآخر في 2008، كما شهدت العديد من المحاولات الانقلابية. وبعد الإطاحة بنظام معاوية ولد الطايع عام 2005 تقدم “المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية” الحاكم حينها بتعديلات دستورية -تمَّت الموافقة عليها في 25 يونيو 2006- جاءت بتحسينات كبيرة للنظام الديمقراطي في البلاد؛ إذ نصَّ على تقليص فترة الرئاسة إلى 5 سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، ومنع الترشح على من تجاوز عمره 75 عام. وفي سبيل استقلال السلطة من التأثير والخضوع للضغوط السياسية التي تفرضها الانتماءات الحزبية والأيدلوجية، حظرت التعديلات الدستورية عام 2006 على من يتولى منصب رئيس الجمهورية شغل أي منصب حزبي. وقد اتفقت الأطراف السياسية بعد انقلاب 2006 على تشكيل جهاز مستقل لإدارة الانتخابات تكون قياداته من الشخصيات المعروفة بالاستقلالية والنزاهة، فتم إصدار قانون بإنشاء “اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات” وأشرفت على عدة اقتراعات وصفت بالحياد والشفافية، أبرزها الانتخابات الرئاسية عام 2007 التي فاز فيها أول مدني منتخب في تاريخ موريتانيا الرئيس الراحل سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله. لكن الانقلاب المفاجئ الذي قام به العسكريون عام 2008 على الرئيس حينها ولد الشيخ عبد الله سجّل ضربة قوية للديمقراطية الوليدة. وتداركًا لمظاهر الديمقراطية التي تم تشويهها بالانقلاب المذكور، تقدمت السلطات الحاكمة بتعديلات دستورية عام 2012 تجرِّم انتزاع العسكريين للسلطة وتمنع الترحال السياسي حيث يبقى المنصب الانتخابي للحزب إذا قرر صاحبه التحول نحو حزب سياسي غير الذي نجح منه. لكن اللجنة المستقلة للانتخابات التي كان يُعهد إليها بضمان سير الانتخابات بشفافية ونزاهة تأثَّرت بهذه التحولات، فتمَّ تشكيلها على أساس محاصّة بين بعض الأحزاب، إذ عُيِّن عليها عام 2018 محمد فال ولد بلال وزير الخارجية الأسبق. وفي عام 2022 تم تغيير لجنة الانتخابات من جديد وعين عليها الداه ولد عبد الجليل وزير الداخلية الأسبق في عهد نظام ولد الطايع الذي يصفه بعض أعضاء الحكومة الحالية بزمن الاستبداد والفساد. وخلال الانتخابات البرلمانية عام 2023 تم تسجيل العديد من حالات التزوير تقدمت بها أحزاب الأغلبية والمعارضة وأقرت بها لجنة الانتخابات، لكن الحكومة لم تُقل اللجنة وتركت لها الإشراف على الانتخابات الرئاسية التي جرت نهاية الشهر المنصرم.[1]

2. التحولات الديمقراطية في موريتانيا 2019: تاريخ الديمقراطية الموريتانية المُعقد يتجلَّى بوضوح في مسار الانتخابات الرئاسية، والتي شهدت في العام 2019 بعضًا من أبرز التحولات التي تستحق النظر. حيث شهدت موريتانيا تحولات ملحوظة في عملية الانتخابات الرئاسية، والتي أثارت تساؤلات كثيرة حول مستقبل البلاد السياسي. أولها؛ انتقال سلمي للسلطة: لقد كان انتقال السلطة في موريتانيا بمثابة إنجاز هام، خاصةً مع التاريخ السابق للانقلابات العسكرية والتحولات غير الديمقراطية. الانتقال السلمي للسلطة يعكس إرادة الشعب في تحقيق تغيير حقيقي من خلال آليات ديمقراطية. وثانيها؛ زيادة في نسب المشاركة: شهدت الانتخابات الرئاسية في 2019 زيادة ملحوظة في نسب المشاركة، مما يعكس تفاعلًا إيجابيًا من قِبل الشعب الموريتاني في العملية السياسية. هذا الارتفاع يُمكن أن يُنظر إليه على أنه علامة على الوعي السياسي المُتزايد والرغبة في المشاركة الفعَّالة. وثالثها؛ دور النساء: لقد شهدت الانتخابات الرئاسية في موريتانيا زيادة في مشاركة النساء، وهو تطور إيجابي يعكس التحول التدريجي نحو تعزيز دور النساء في الحياة السياسية، والذي يُعتبر خطوة مهمة نحو بناء مجتمع أكثر توازنًا وتنمية مستدامة. ورابعها؛ تنوُّع المرشحين: كانت الانتخابات ميدانًا لتنوُّع خلفيات المرشحين، مما يعكس تطورًا في الديمقراطية والتنوع في الرؤى السياسية والبرامج المُقدمة للناخبين. وخامسها؛ التحديث التقني: شهدت العملية الانتخابية استخدامًا متزايدًا للتكنولوجيا والابتكارات الرقمية، مما ساهم في تعزيز الشفافية وتقليل فرص التزوير.[2] وهكذا؛ فمنذ عام 2019 تسير موريتانيا على مسار تدريجي من الانفتاح السياسي، عندما احترم الرئيس محمد ولد عبد العزيز حدود ولايته وتنحى عن الرئاسة. تُمثِّل استقالة الرئيس عزيز من منصبه أول انتقال سلمي للسلطة في تاريخ موريتانيا، ولاسيما منذ وصوله إلى السلطة في انقلاب عام ٢٠٠٨. فاز الغزواني، خليفة عزيز الذي اختاره بنفسه ورئيس أركان القوات المسلحة السابق، في انتخابات ٢٠١٩ بنسبة ٥2% من الأصوات. وتتمتَّع موريتانيا بإرث طويل من الانقلابات العسكرية والحكم الاستبدادي، مما أدى إلى سلسلة من الحكومات العسكرية أو المدعومة من الجيش منذ عام ١٩٧٨.[3]

3. الوضع السياسي والاقتصادي في موريتانيا: في الانتخابات التشريعية التي أجريت في مايو ٢٠٢٣، والتي تنافس فيها ٢٥ حزبًا، حصل حزب الإنصاف الذي يتزعمه الغزواني على ١٠٧ مقعد من أصل ١٧٦، وحصل حزب تواصل الإسلامي على ١١ مقعد، وحصل حزب الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدُّم على ١٠ مقاعد. وشهدت الانتخابات أيضًا تشكيل ائتلاف معارضة جديد يضم جماعات مستقلة وجماعات حقوقية تتمحور حول حزب الجود. وقد أدَّى نظام التمثيل النسبي القائم على القوائم الوطنية والقبلية والبرلمانية –الذي تم اعتماده بمساهمة من أحزاب المعارضة في عام ٢٠٢٢– إلى زيادة تمثيل الأقليات. وأُعيد تشكيل اللجنة الانتخابية الوطنية المستقلة في عام ٢٠٢٢، ويُنظر إليها الآن على أنها أكثر حيادية. في عام ٢٠٢٣، اتفق الإنصاف وأحزاب المعارضة الرائدة على ميثاق التفاهم الوطني فيما يتعلَّق بمبادئ الوحدة الوطنية والحوكمة السياسية والاقتصادية. ومع ذلك، فإن معظم الأحزاب السياسية الموريتانية ضعيفة وتفتقر إلى القدرة التنظيمية أو الموارد اللازمة لشن الحملات الوطنية. لم تحظر موريتانيا العبودية رسميًا إلا في عام ١٩٨١، وكانت آخر دولة في العالم تفعل ذلك، على الرغم من استمرار هذه الممارسة حتى اليوم. هناك بيئة إعلامية مفتوحة نسبيًا، على الرغم من أن انتقاد الحزب الحاكم يُمكن أن يؤدي إلى المضايقات والاعتقال. لقد كان الفساد تاريخيًا مشكلة في موريتانيا. وبينما تم إحراز تقدُّم هامشي في السنوات الأخيرة، هناك مخاوف من أن الغزواني يستخدم تدابير مكافحة الفساد لاستهداف المعارضين السياسيين. ويُشكِّل العنف المتصاعد في مالي، والذي يتوسَّع غربًا، تهديدًا أمنيًا متزايدًا لموريتانيا. ووقعت عدة حوادث أمنية على الحدود في عام ٢٠٢٣، وتستضيف موريتانيا حاليا أكثر من ١٠٠ ألف لاجئ فروا من العنف. عانت موريتانيا من تهديدات التنظيمات المتطرفة العنيفة (VEO) المستمرة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ومع ذلك، يُنسب الفضل إلى موريتانيا على نطاق واسع في شن حملة فعالة لمكافحة العنف المتطرف، تضمنت تحسين الاحتراف العسكري، وتعزيز قدرات الاستخبارات والمراقبة، والتوعية الاستباقية لمكافحة التطرف على مستوى المجتمع. وبالنسبة للوضع الاقتصادي في موريتانيا: ستُمكِّن استثمارات شركتي BP وKosmos Energy في خط أنابيب الغاز الطبيعي الكبيرTortue Ahmeyim موريتانيا من إمداد أوروبا والأسواق العالمية الأخرى. وتُعد موريتانيا أيضًا هدفًا استثماريًا رئيسيًا للهيدروجين الأخضر، بما في ذلك من الإمارات العربية المتحدة. إن مساحة موريتانيا الشاسعة وتوافُر الطاقة الشمسية وطاقة الرياح تجعلها قادرة على إنتاج ٨ ملايين طن متري من الهيدروجين الأخضر سنويًا، مما يجعل موريتانيا مركزًا مُتزايد الأهمية للطاقة. إلى جانب إجراء الانتخابات.[4] ورغم كل ذلك؛ يُعاني نصف السكان في موريتانيا من الفقر مُتعدد الأبعاد، وفقًا للأمم المتحدة.[5]

ثانيًا: المرشحون لانتخابات الرئاسة الموريتانية 2024..

يُعد أبرز من يخوض انتخابات الرئاسة الموريتانية 6 مرشحين هم: الرئيس المنتهية ولايته محمد ولد الشيخ الغزواني، وبيرام الداه اعبيد ومحمد الأمين المرتجي الوافي، ورئيس حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية حمادي ولد سيدي المختار، والأستاذ الجامعي أوتاما سوماري، ورئيس حزب التحالف من أجل العدالة والديمقراطية بامامادو بوكاري، والنائب العيد ولد محمدن ولد امبارك. ويُشارك أكثر من 20 مُراقب من 16 دولة إفريقية في بعثة الاتحاد الإفريقي لمراقبة الانتخابات الرئاسية في موريتانيا.[6] وقد أنهى الفرز الأول لنتائج الانتخابات الرئاسية المنظمة فوزا هادئا للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بنسبة 56% من أصوات الناخبين، حاسمًا بذلك الشوط الأول، فيما حلَّ منافسه بيرام ولد اعبيد في الرتبة الثانية بحوالي 22.1%، ليحل مرشح حزب تواصل حمادي ولد سيدي المختار في الرتبة الثالثة بحوالي 12.76% من الناخبين.[7] ويُمكن تقسيمهم كالتالي..

1. المرشحون من داخل النظام: وهما مرشحان رئيسيان: أولهما؛ محمد ولد الشيخ الغزواني: الذي قدَّم ملفه لدى المجلس الدستوري كأول مترشح للمنصب. وولد الغزواني يبلغ من العمر 67 عام، وهو مُرشح الأغلبية الحاكمة، تولَّى رئاسة البلاد سنة 2019 وما زال الدستور يسمح له بولاية ثانية. وقد دخل السياسة قادمًا من المؤسسة العسكرية التي تقاعد منها برتبة جنرال، وكان قائدًا للأركان العامة للجيش ومديرًا عامًا للأمن الوطني في عهد الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، وله معرفة واسعة بالخريطة السياسية والاجتماعية. ويُعتبر الرئيس ولد الغزواني من أبرز القادة العسكريين الذين قادوا الانقلاب عام 2008 ضد سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله أول رئيس مدني مُنتخب في تاريخ موريتانيا، كما شارك قبل ذلك في الانقلاب على العقيد معاوية ولد سيدي أحمد الطايع 2005. ويحظى الجنرال غزواني بدعم المؤسسة العسكرية والطبقة السياسية التقليدية المُتمثِّلة في رجال الأعمال وشيوخ القبائل والأحزاب القريبة من السلطة. وينحدر من عائلة صوفية لها مريدون ومحبون في عموم موريتانيا، ولديه روابط بمختلف الحركات الصوفية ذات التأثير والتوجيه. وتُواجه ولد الغزواني صعوبات مُتعددة؛ أهمها انتشار البطالة في صفوف الشباب، وزيادة الأسعار، وملف الهجرة الذي تمَّ توقيعه مؤخرًا مع الاتحاد الأوروبي وتسبَّب في لغط كبير بين النخب السياسية والحقوقية في البلاد. وقد زادت التوترات الأمنية مع دولة مالي من حدة الانتقادات المُوجهة له، إذ تستضيف حكومته قرابة 200 ألف لاجئ من مالي، بينما تقوم قوات محسوبة على باماكو باختطاف رعايا موريتانيين من حين لآخر على الحدود المشتركة بين البلدين. كما أن عودة رموز الأنظمة السابقة لمشهد السلطة والسياسة في عهده جعل الكثير من معارضيه يتهمونه بالهدنة مع المفسدين والعودة بالبلاد إلى مربع الفوضى وغياب الإرادة في البناء والتطوير. وثانيهما؛ محمد الأمين المرتجى ولد الوافي: وهو شاب صديق للنظام، ومن ضمن المرشحين المحسوبين على دائرة النظام الحاكم، سبق وأن ترشح في انتخابات 2019 ولم يحصل على درجة 1% وقد أودع ملفه لدى المجلس الدستوري في 3 مايو، ليكون الثاني بعد الرئيس ولد الغزواني. وقد حصل على التزكيات اللازمة من طرف العديد من المستشارين التابعين للحزب الحاكم في موريتانيا. وفي تصريحات له، قال ولد الوافي إنه مصمم على النجاح منذ انتخابات 2019، ويرى مراقبون أن السلطة الحاكمة هي من تقف وراء ترشيحه من أجل زيادة عدد المتنافسين في السباق الرئاسي.[8]

2. المُرشحون من المعارضة: ويُمكن إجمالهم في أربعة رئيسيين: أولهم؛ ولد سيدي المختار: وهو زعيم المعارضة ومُرشح الإسلاميين، بعد فترة من التحفظ على تقديم مُرشح خاص والاكتفاء بدعم أحد المعارضين قرَّر حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية (الإسلامي) ترشيح رئيسه أمادي ولد سيدي المختار الذي يتولى رئاسة مؤسسة المعارضة الديمقراطية بحكم نتائج الانتخابات البلدية والتشريعية 2023ـ حيث جعلت حزبه الأكثر تمثيلًا في قائمة الأحزاب المعارضة، إذ يمتلك 11 مقعد من أصل 176. وقبل أن يكون سياسيًا يُعتبر ولد سيدي المختار فقيهًا وواعظًا ومرشدًا، وهو من أبناء الحركة الإسلامية المُهتمة بالمشاركة السياسية. وهو من مواليد عام 1975 في ولاية لعصابة (600 كيلومتر شرق العاصمة نواكشوط)، وهي ذات الولاية التي ينتمي لها رئيس الدولة الحالي ولد الغزواني، وقد نشأ ولد سيدي المختار في أسرة علمية محافظة تشتهر بالمعرفة ويقصدها الناس في طلب العلم. وقد تلقَّى مُعظم تعليمه في المحاظر (الكتاتيب) حتى أصبح من رموز الفقه والدعوة في منطقته، وبعد ذلك انتسب للتعليم النظامي وتخصَّص في الشريعة الإسلامية. ومن مجالس الإرشاد والوعظ والتربية، صعد ولد سيدي المختار إلى منابر السياسية وانتُخب نائبًا برلمانيًا لمرتين متتاليتين عن دائرة مقاطعة كيفه في الشرق الموريتاني. وإثر أزمة انسحابات مر بها حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية (تواصل) منذ سنة 2019 اختير ولد سيدي المختار لرئاسته عام 2022 وفاز بنسبة 86% من أصوات المؤتمرين. ويتميز ولد سيدي المختار بخطابه المُعتدل وله قبول شعبي لعبت فيه مكانته الفقهية دورًا كبيرًا. ويواجه زعيم المعارضة تحديات جمة تتمثَّل في تفكُّك قيادات حزبه، إذ انضم عدد منهم للنظام الحاكم، بينما أسَّس رئيسه السابق محمد جميل منصور حزبًا جديدًا وأعلن أيضًا عن دعمه للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني. وثانيهم؛ بيرام الداه اعبيد: من مواليد عام 1965 ويحمل شهادة الدراسات المُعمَّقة في التاريخ، وعمل في أروقة المحاكم ككاتب ضبط منذ عام 1988. وقد برز نجمه السياسي عام 2007 حيث كان ناطقًا إعلاميًا في حملة المرشح الرئاسي حينها الزين ولد زيدان. وبعد ذلك عارض الرؤساء وصادقهم ثم عارضهم ورفع شعار محاربة الفساد واختلاس الأموال العمومية، بالإضافة لقضيته الجوهرية المُتمثِّلة في مناهضة العبودية ومحاربة آثار الاسترقاق. وفي سبيل قضيته، تمَّ اعتقاله أكثر من مرة، وانتُخب نائبًا في البرلمان مرتين متتاليتين. وفي 24 أبريل الماضي أعلن برام في مهرجان حاشد ترشحه لرئاسيات 29 يونيو المقبل، ووصف نفسه بمرشح القطيعة مع أكلة المال العام. وسبق لولد اعبيد أن ترشح في انتخابات 2014، وكذا انتخابات 2019 التي حصد فيها المركز الثاني بنسبة 18.58%، ويمتلك بيرام خطابًا مُؤثرًا إذ يُركِّز على الفساد والرشوة والنفوذ القبلي، لكنه يواجه صعوبات تتمثَّل في حرقه للكتب الفقهية ووصفه لعدد من العلماء برموز السوء. وثالثهم؛ العيد ولد امبارك: محامي وسياسي صاعد ومن مواليد عام 1979 وانتسب للهيئة الوطنية للمحامين في عام 2006. انتُخب نائبًا في البرلمان عام 2018، وتمَّ اختياره عضوًا ونائبًا لرئيس محكمة العدل السامية، وأُعيد انتخابه في البرلمان سنة 2023. ويحظى ولد محمدن بعلاقات جيدة في الوسط الأكاديمي والحقوقي، ويتميَّز بخطابه المُعتدل في القضايا الوطنية. ويواجه العيد تحديات متعددة تتمثل في انعدام التجربة داخل السلطة، إذ لم يسبق له أن تقلَّد منصبًا حكوميًا. ورابعهم؛ ولد عبد العزيز: ويُعد من أبرز المترشحين للانتخابات المرتقبة، وهو الرئيس السابق الذي يقبع في السجن منذ عامين. فبعد خروجه من الحكم، اتهمته لجنة تحقيق برلمانية بإساءة استخدام السلطة واختلاس الأموال العمومية، وحكمت عليه محكمة ابتدائية بالسجن 5 سنوات ومُصادرة الممتلكات المُتحصل عليها بطرق غير شرعية، وهو الأمر الذي نفاه أنصاره واعتبروا أنه ضحية لتوجهاته السياسية. ورغم أن ولد عبد العزيز حصل من القضاء على شهادة السلامة من السوابق العدلية التي تُعتبر شرطًا في قبول ملف الترشح، فإنه قد يصطدم بالدستور الذي ينص على أن الرئيس ينتخب لولايتين فقط. لكن فريقه القانوني يرى أن النص الدستوري يمنع أكثر من ولايتين متتاليتين فقط، وليس لديه مانع من الترشح لولاية ثالثة منفصلة.[9]

ثالثًا: نتائج الانتخابات وتبعاتها..

صاحبت ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية في موريتانيا أعمال عنف وأجواء من الفوضى والتوتر أسفرت عن سقوط قتلى من المدنيين وإصابات وجروح في صفوف قوات الأمن. ومع تدافع الاتهامات حول الفوضى وتزوير الانتخابات والتدخل في مسار العملية الديمقراطية بين وزارة الداخلية وزعيم حركة “إيرا” بيرام الداه اعبيد -الذي حل ثانيًا في اقتراع 29 يونيو الماضي- عادت البلاد من جديد إلى دوامة العنف الانتخابي، وخطابات العنصرية، والمشكلات الإثنية والعرقية.

1. نتائج الانتخابات والموقف منها: كان سيد أحمد ولد محمد المدير العام لحملة المرشح محمد ولد الشيخ الغزواني قد قال أثناء الحملة الانتخابية “إن الوطن لا يُمكن أن تُسلّم قيادته لأشخاص ليست لديهم تجربة في قيادة الجهاز الحكومي”، مما يعني أنه كان هنالك قرارًا تمَّ اتخاذه بعدم السماح لنجاح شخصيات معينة، وإذا نجحت فلن تسلم لها السلطة إطلاقًا. وقد أثارت التصريحات غضبًا واستياءً في الأوساط السياسية مما جعل المترشح بيرام الداه اعبيد يُلوِّح بتثوير الشعب ضد من يقف في وجه إرادته. وشكَّلت تصريحات الوزير حرجًا كبيرًا للنظام مما جعل الرئيس ولد الغزواني يعتذر عنها ضمنيًا في المهرجان الذي تمَّ تنظيمه في العاصمة الاقتصادية نواذيبو، حيث أكَّد أنه سيغادر دون ضجيج إذا تمَّ انتخاب غيره وسيكون أول المهنئين والمباركين لمن يختاره الشعب. وبعد خروج النتائج وإعلان فوز الغزواني لمأمورية ثانية اعترض المرشح بيرام الداه اعبيد ودعا أنصاره للخروج سلميًا، وردًا على تلك الدعوة قال وزير الداخلية الموريتاني إنه لن يسمح بأي مساس بالأمن الوطني مهما كلف ذلك من ثمن. وبعد يومين أعلنت الداخلية عن وفاة 3 محتجزين في مدينة كيهيدي التي شهدت الكثير من أعمال العنف والتخريب حسب معطيات السلطة الموريتانية. وبينما قال وزير الداخلية في نواكشوط إن الاحتجاجات تحوَّلت إلى فوضى تقف وراءها حركات عنصرية دنيئة وجهات محسوبة على مرشح بعينه، وصف المرشح الخاسر ولد اعبيد تصريحات الداخلية بـ”الكاذبة”، وزعم أنه لا يوجد تخريب في الممتلكات العامة أو الخاصة. وقال ولد اعبيد إن السلطة قطعت الإنترنت واستخدمت القوة للتنكيل بآلاف المعتقلين، وتحدَّث عن الكثير من الإصابات والتعذيب لمن وصفهم بالمواطنين الذين خرجوا للتظاهر سلميًا بعدما يئسوا من النظام الحاكم. وفي خطوة وُصفت بالمُتسرعة بارك رئيس حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية نتائج الانتخابات، حيث هاتف ولد الغزواني وهنأه بالفوز مما يعني اعتراف الحزب بالانتخابات. وكانت المعارضة تعمل على الخروج بموقف مُوحَّد من نتائج السباق الرئاسي، لكن مواقفها بدت مُتباينة وينقصها التنسيق والعمل المشترك. ويُشار إلى أن النظام الحالي نجح في تشتيت جهود المعارضة وسحب الكثير من قياداتها إلى صفوفه. وفي السياق، طالب رئيس حزب تواصل الإسلامي -الذي حلَّ ثالثًا في السباق الرئاسي- بتنظيم حوار وطني شامل، وهو نفس الطلب الذي تقدم به مؤخرًا النائب بيرام واعتبره سبيلًا للخروج من الأزمة الحالية، لكن وزير الداخلية الموريتاني قال إن تنظيم الحوار تحت مظلة الأزمات مرفوض لأن البلاد لا تعيش مشكلة تضغط على السلطة بقبول التفاوض. واعتبر وزير الداخلية المسؤول عن استتباب الأمن الوطني أن الأوضاع عادية، وأضاف أنه إذا كان رئيس الجمهورية قد تعهّد بحوار فسيتم دون ضغوط أو مقايضة وليس مع جهة واحدة.[10]

2. مُلاحظات حول العملية الانتخابية: هناك عدة مُلاحظات هامة يُمكن رصدها من خلال متابعة العملية الانتخابية في موريتانيا: أولها؛ تأثير العرق على الانتخابات: جاءت النتائج التي حصل عليها المرشح بيرام ولد الداه ولد اعبيد لتعكس حجم التمايز العرقي داخل المجتمع الموريتاني، حيث استطاع ولد اعبيد الحفاظ على تفوقه في ولاية نواكشوط الجنوبية ومدينة نواذيبو، حيث تتمتَّع الأولى بأغلبية من مكون اجتماعي مُعين، فيما تُعتبر الثانية مدينة عمالية، كما استطاع الحفاظ على نسبة عالية في كيهدي وسيلبابي وروصو ليحل ثانيًا بعد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بعد أن كان صاحب الرتبة الأولى في انتخابات 2019. ويُمكن ببساطة من خلال نتائج السبخة وكيهيدي وسيلبابي ملاحظة تأثير ناخبي حركة افلام، من نتائج مرشحيها السابقين، فقد مروا وبقي الأثر. كما تعكس أيضًا النسب القليلة التي حصل عليها بيرام في الحوضين وتكانت وآدرار مستوى حضوره هنالك، وتُقدِّم صورة أيضًا عن التمايز العرقي داخل هذه الولايات. وثانيها؛ حصد النظام لضعف أداء حملته: أظهرت النتائج التي حصدها النظام والتي جاءت عكس توقعات كثير من أنصاره الذين كانوا يراهنون على نسبة تقترب من 70% تعيد اكتساح نيابيات وبلديات 2023. وقد أظهرت النتائج تأثيرًا محدودًا للسياسة التي انتهجها ولد الشيخ الغزواني في مواجهة المسألة العرقية، وتأثيرًا أقل أيضًا في برامج تآزر التي توجَّهت التوجه نفسه، دون أن تحقق عائدًا سياسيًا مناسبًا. وأظهرت أيضًا حالة من الغضب الشعبي تجاه إخفاق سياسات الحكومة في علاج الأمن الغذائي والحد من ارتفاع الأسعار، وتردِّي الخدمات الصحية، وانعدام التعليم خصوصًا في المدن الكبرى. وإلى جانب ذلك كانت حملة الرئيس الغزواني لهذه السنة من أكثر الحملات فشلًا، حيث شكا المُنسِّقون المحليون والجهويون من بخل شديد من إدارة الحملة المركزية، وهو ما أثَّر سلبًا على المشاركة، حيث عجز عدد كبير من فرقاء حزب الإنصاف عن إيجاد وسائل نقل لأنصاره في القرى من أجل إيصالهم إلى مكاتب التصويت، إضافةً إلى خذلان شديد من رجال الأعمال وخصوصًا من المقربين اجتماعيًا من رئيس الجمهورية للمكاتب والقطاعات السكانية التي أُسندت إليهم. وباستثناء القوة المالية والعلاقات التقليدية للسلطة، وارتباط مصالح الوجهاء بالسلطة واستمرارها، ومخاوف عدد كبير من المواطنين من مواجهة انتخابية ذات بعد عنصري، فإن مُرشح السلطة محمد ولد الشيخ الغزواني قد كان في سباق انتخابي عسير. وثالثها؛ النظام والمعارضة الناطحة:يُمكن القول إن النظام يعيش بين تيارين سياسيين أحدهما يدفع إلى التهدئة مع المعارضة، ويملك قنوات اتصال مستمرة، وينتمي إلى هذا التيار عدد من مستشاريه وكبار الشخصيات السياسية الداعمة للرئيس، فيما يدفع تيار آخر من أجل “تقليم أظافر” القوى الأكثر حدة تجاه النظام، وفيما يصدر التيار الأول عن خلفية سياسية، فإن التيار الثاني يستند إلى موقف وتقدير أمني. ولم يحسم ولد الشيخ الغزواني الخيار بين الطرفين رغم خطورة ذلك في ظل التأزم السياسي جراء ارتفاع الأسعار وتردي الخدمات.[11]

الخُلاصة؛ جاءت الانتخابات في ظل تحولات جديدة على المشهد السياسي الموريتاني، إذ أعلن رأس المعارضة التقليدية ورئيس تكتل القوى الديمقراطية أحمد ولد داداه دعمه للرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني وانخراطه في صفوف الموالاة، فيما أعلن رئيس حزب اتحاد قوى التقدم والمرشح السابق للرئاسيات الدكتور محمد ولد مولود دعمه للمحامي العيد ولد امبارك. وضمن هذه التحولات جاء انسحاب عدد من رموز الإسلاميين المحسوبين على الإخوان من صف المعارضة والتنسيق مع المرشح والرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني. وبالرغم من الوعي الشبابي واهتمام المواطنين بالقضايا السياسية؛ فقد كان مرشح النظام هو الأوفر حظًا بفعل سيطرة الدولة على أدوات التأثير التقليدية المتمثلة في شيوخ القبائل ورجال الأعمال. وربما تكون الأزمة الحالية لموريتانيا ليست إلا ظرفًا مؤقتًا للتعبير عن جزء كبير من الأزمات التي صاحبت البلاد منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960، وهي تُمثِّل مظهرًا من مظاهر الهشاشة الاجتماعية والأمنية، وأن البلاد تعيش مِحنًا متنوعة مثل الشرائحية وخطابها، وكذا أزمة الهوية التي لم تحسم الدولة أمرها عمليًا بعد. فقد أصبحت الانتخابات منذ عام 2019 في موريتانيا موسمًا لتأجيج الصراع الشرائحي والعنصري، وهو الأمر الذي تسكت عنه السلطات الحاكمة، إذ لكل فئة من المجتمع مرشح تبارك الدولة ترشيحه. وهكذا؛ فقد أصبحت المشكلة العرقية في موريتانيا مصدرًا للعديد من المشكلات الأكثر عُمقًا وحساسية. ومن ثمَّ؛ فإن لم تحصل معالجات عميقة لمشاكل الفساد والشرائحية والهوية فإن موريتانيا مُقبلة على مشاكل وأزمات وقلاقل قد تؤدي بها إلى الانهيار.

ويبقى موقف الإسلاميين في موريتانيًا مُتخبطًا مائعًا للحد الذي يجعلهم ينتقدون سياسات الرئيس ويدفعون بمرشحهم أمامه رفضًا لسياساته تارة، ثم يعودون فيباركوه ويهنئوه بنتائج شهد الجميع على عدم نزاهتها تارةً أخرى، وهو الأمر الذي بدا في تصريحات رئيس حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية بعد إعلان نتائج الانتخابات التي وُصفت بالمُتسرعة، دون انتظار موقف موحد للمعارضة قد يُمثِّل أرضية فيما بعد للخروج ببعض المكاسب من الحوار الذي دعا له الحزب نفسه.


[1] حبيب الله مايابي، “مزاعم العنف والفوضى.. نظرة على أزمة الانتخابات الراهنة في موريتانيا”، الجزيرة نت، 6/7/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/J2aLS44f

[2] صباح موسى، “انتخابات موريتانيا.. تناقضات مميزة ومسار ديمقراطي «منقوص»”، العين الإخبارية، 16/5/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/DRy6U2C3

[3] “موريتانيا: ٢٢ يونيو”، مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية، ١٥/2/٢٠٢٤. متاح على الرابط: https://2u.pw/DSc1nsOv

[4] “موريتانيا: ٢٢ يونيو”، مرجع سبق ذكره.

[5] أحمد حامد دياب، “تفاصيل انطلاق الانتخابات الرئاسية في موريتانيا بمشاركة 20 مراقبا دوليا”، الوطن، 29/6/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/s2habQEy

[6] أحمد حامد دياب، مرجع سبق ذكره.

[7] “موريتانيا.. انتخابات رئاسية أم استفتاء عرقي”، الفكر، 1/7/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/PbT78r3d

[8] “انتخابات موريتانيا الرئاسية.. قراءة في حظوظ المرشحين وخلفياتهم”، الجزيرة نت، 7/5/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/Bbh1vai2

[9] “انتخابات موريتانيا الرئاسية.. قراءة في حظوظ المرشحين وخلفياتهم”، مرجع سبق ذكره.

[10] حبيب الله مايابي، مرجع سبق ذكره.

[11] “موريتانيا.. انتخابات رئاسية أم استفتاء عرقي”، مرجع سبق ذكره.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022