قراءة في صعود حزب العمال البريطاني وتأثيره على إفريقيا

شهدت بريطانيا في 4 يوليو 2024 انتخابات عامة مبكرة دعا إليها، في 22 مايو الماضي، رئيس الوزراء، زعيم حزب المحافظين السابق، ريشي سوناك، تجنبًا لمحاولة إطاحته من داخل حزبه بعد أدائه المتواضع الذي أفقد الرأي العام البريطاني الثقة كليًا بحكم المحافظين المستمر منذ عام 2010. وكان إعلان سوناك عن إجراء انتخابات عامة مفاجئًا للشارع وللأوساط السياسية والاقتصادية في بريطانيا، وحتى للمحافظين أنفسهم، فلم يكن الوقت كافيًا للاستعداد لحملة انتخابية صعبة، في ضوء الخسارة الكبيرة التي مُنيَ بها المحافظون في الانتخابات المحلية التي جرت في 2 مايو الماضي. ويبدو أن تفاقم الصراعات داخل حزبه، والتي أدَّت إلى تغيير أربعة رؤساء حكومة في ثلاث سنوات، دفعته إلى تقديم موعد الانتخابات. وقد جاءت نتائج الانتخابات مُتوافقة مع التوقعات، إذ فاز حزب العمال بأغلبية ساحقة (411 مقعد من أصل 650)، في حين مُنيَ المحافظون بأسوأ هزيمة في تاريخهم. ويُمثِّل هذا الفوز لحزب العمال، بقيادة السير كير ستارمر، تحولًا كبيرًا في السياسة البريطانية، ومن المُتوقَّع أن يكون لهذا التغيير آثارًا كبيرة على إفريقيا، نظرًا للعلاقات التاريخية والاقتصادية والسياسية بين المملكة المتحدة والعديد من الدول الإفريقية. فكيف يمكن قراءة نتائج تلك الانتخابات وتأثيرها على السياسة الخارجية البريطانية لاسيما على إفريقيا؟ هذا هو ما سنُناقشه خلال هذا التقرير..

أولًا: قراءة في نتائج الانتخابات..

أسفرت الانتخابات عن صعود حزب العمال، وتولِّي كير ستارمر رئاسة الوزراء. وبدأ ستارمر حياته المهنية كمحامٍ في التسعينيات، وعُيِّن مديرًا للنيابة العامة (أعلى مدعٍ عام جنائي في إنجلترا وويلز)، في عام 2008. انتُخب لأول مرة في دائرة هولبورن وسانت بانكراس في شمال لندن عام 2015، وتولَّى قيادة حزب العمال بعد الانتخابات العامة السيئة للحزب عام 2019، مُتعهِّدًا ببدء “حقبة جديدة” بعد القيادة اليسارية لجيريمي كوربين. وأُعيد انتخاب ستارمر في نفس الدائرة الانتخابية هذه المرة، قائلًا في خطاب الفوز الذي ألقاه إن الناس “مستعدين للتغيير” ووعد “بإنهاء سياسة الأداء”. وقال “التغيير يبدأ هنا لأن هذه هي ديمقراطيتكم ومجتمعكم ومستقبلكم”، “لقد قمتم بالتصويت، لقد حان الوقت الآن لكي نُحقِّق النتائج”. زار ستارمر ملك بريطانيا لتلقِّي دعوة رسمية لتشكيل حكومة جديدة، قبل أن يلقي خطابه خارج مبنى رئاسة الحكومة.

1. توزيع المقاعد: بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات نحو 60%، وهي الأقل منذ عام 2001 (59.4%). فاز فيها حزب العمال بأغلبية ساحقة بحصوله على 411 مقعدًا، بزيادة 209 مقعد على إجمالي المقاعد التي حصل عليها في انتخابات عام 2019، في حين حصل المحافظون على 121 مقعد بخسارة 244 مقعد، في واحدة من أسوأ النتائج لهم منذ أكثر من قرن. وتُعد نتائج العمال الأفضل منذ عام 1997، عندما فاز رئيس الوزراء الأسبق توني بلير بـ 417 مقعد. وحصل الديمقراطيون الليبراليون على 72 مقعد، مُقارنةً بـ 11 مقعد في انتخابات 2019، بينما تراجعت مقاعد الحزب الوطني الإسكتلندي إلى تسعة مقاعد، بخسارته 39 مقعد. ودخل حزب الإصلاح اليميني المتطرف، بزعامة نايجل فراج، البرلمان أول مرة بحصوله على خمسة مقاعد (أقل مما توقَّعت الاستطلاعات)، في حين فاز حزب الخضر في إنجلترا وويلز بـأربعة مقاعد. كان لافتًا للانتباه أنه على الرغم من حصول العمال على أغلبية مُطلقة من المقاعد، فإن نسبة الأصوات التي فازوا بها لم تتجاوز 34% من مجموع المُقترعين، لأن النظام الانتخابي البريطاني يقوم على مبدأ أن الفائز يحصل على كل شيء “Winner Takes All”. ومع أن فوز العمال بـ 411 مقعدًا يضمن لهم أغلبية برلمانية قوية تسمح لهم بتمرير أجندتهم في البرلمان من دون صعوبات، فإن تدنّي نسبة الأصوات التي حصلوا عليها تجعل حصة حكومة الحزب من الأصوات هي الأدنى التي حصلت عليها أي حكومة أغلبية من حزب واحد في تاريخ المملكة المتحدة، إذ توزّعت الأصوات على بقية الأحزاب، وشهدت الأحزاب الصغيرة والمُرشحون المستقلون ارتفاعًا كبيرًا في دعمهم الشعبي. وقد حقَّق الديمقراطيون الليبراليون وحزبا الإصلاح والخضر تقدُّمًا لافتًا. فقد حصل الحزب الثالث تقليديًا في بريطانيا (الديمقراطيون الليبراليون) على زيادة كبيرة في عدد المقاعد، فارتفعت حصته من 11 مقعد فقط فاز بها في الانتخابات العامة عام 2019 إلى 72 مقعد. وفاز حزب الإصلاح اليميني المتطرف بـخمسة مقاعد، ودخل البرلمان أول مرة، لكنه حصل في المقابل على 14% من أصوات الناخبين؛ ما جعله ثالث أكبر حزب من حيث الكتلة الناخبة بعد العمال والمحافظين وقبل الديمقراطيين الليبراليين. وقد أدى ذلك إلى تقسيم أصوات اليمين، وساهم في خسارة المحافظين. أما في إسكتلندا، فقد مُنيَ الحزب الوطني الإسكتلندي بخسارة كبيرة؛ إذ انخفض عدد مقاعده إلى تسعة فقط من 48 مقعد في عام 2019، نتيجة مجموعة من الفضائح التي ألمّت به في الفترة الأخيرة، وأصبح حزب شين فين أكبر حزب في إيرلندا الشمالية، حيث فاز بسبعة مقاعد من أصل 18 مقعد مُخصصة لإيرلندا الشمالية. وقد أسفرت الانتخابات أيضًا عن حصول حزبي العمال والمحافظين على أدنى حصة مُجتمعة من الأصوات منذ عام 1945. وكان ذلك بفعل التأثير المُشترك للتقدم الذي أحرزه الديمقراطيون الليبراليون (12%)، والأصوات التي حصل عليها حزب الإصلاح (14%)، وزيادة الأصوات لحزب الخضر (7%)، فضلًا عن تصويت أعلى من المعتاد لصالح المستقلين من بين جمهور حزب العمال.[1]

2. أبرز العوامل المؤثرة في النتائج: يُمكن تحديد جملة من العوامل التي أسهمت في تحديد نتائج الانتخابات، وشكّلت قضايا رئيسة حكمت سلوك الناخب البريطاني فيها: أولها؛ الأزمة الاقتصادية وسوء الخدمات العامة، حيث عانى البريطانيون خلال السنوات القليلة الماضية، خصوصًا بعد أزمة كورونا (2019-2021)، ارتفاعًا غير مسبوق في تكاليف المعيشة. وقد تولّى المحافظون السلطة في ذروة الأزمة المالية العالمية، وفازوا بثلاثة انتخابات منذ ذلك الحين. لكن هذه الفترة تميَّزت بالركود الاقتصادي، وتدهور الخدمات العامة، وسلسلة من الأزمات السياسية، التي جعلت المحافظين هدفًا سهلًا للانتقادات من اليسار واليمين على السواء. وثانيها؛ ارتباط سمعة حزب المحافظين وحكومته على نحوٍ مُتزايد بالفضائح التي تفجّرت في عهد رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، وخليفته ليز تراوس التي استمرّت حكومتها 44 يوم فقط، والتي تسبَّبت في فوضى للاقتصاد والأسواق المالية. وكانت آخر الفضائح التي تعرّض لها المحافظون تلك المُتعلقة بالرهانات، حيث جرى الكشف في يونيو الماضي عن مشاركة أعضاء في الحزب، بمن فيهم مُقرّبون من سوناك، في رهانات على تحديد موعد الانتخابات العامة، ما دفع عديدين منهم إلى الاستقالة أو الانسحاب. وثالثها؛ شكّل التعامل مع أزمة الهجرة عاملًا آخر مهمًّا في تدهور الثقة بحكم المحافظين، فقد أثارت خطط الحزب المُثيرة للجدل، والتي تقضي بإرسال المهاجرين غير النظاميين إلى رواندا حتى الانتهاء من النظر في طلبات لجوئهم، انتقادات واسعة، باعتبارها تنتهك القانون الدولي، وغير إنسانية، فضلًا عن تكلفتها المادية الباهظة. في المقابل، قاد اليمين المتطرّف المعادي للهجرة حملة أعطت انطباعًا أن الحكومة فقدت السيطرة على الحدود. ورابعها؛ تزايد الصراعات والتناقضات داخل حزب المحافظين؛ فمنذ بدء الاستعداد لإجراء انتخابات عامة مبكّرة، واجه سوناك أزمة داخل حزب المحافظين الذي يتزعمه، إذ انسحب عدد كبير من الأعضاء الفاعلين في دوائر انتخابية مختلفة من الترشح للانتخابات في أكبر انسحاب منذ عام 1997، وذلك بسبب تقديم موعد الانتخابات، حيث عبّر بعض المُنسحبين عن عدم استعدادهم للدخول في الحملة الانتخابية بسبب قصر الفترة الزمنية، في حين انسحب آخرون بسبب عدم قدرتهم على توفير التمويل اللازم لإدارة حملاتهم. وقد بلغ عدد النواب المنسحبين من السباق الانتخابي 78، متخطّيًا الرقم القياسي في “حقبة الخروج التاريخي” البالغ 72 نائبًا قبل الانتخابات العامة في 1997. إضافة إلى ذلك، يعاني حزب المحافظين مشكلةً في القيادة، حيث تغيّرت قيادته أربع مرات خلال ثلاث سنوات، كما أنه تلقّى ضربة قاسية بحلوله ثالثًا بعد حزب العمال، والديمقراطيين الليبراليين، في الانتخابات المحلية التي جرت في مايو 2024.[2]

3. سقوط للعديد من الأسماء الكبيرة: وكان أبرزها هزيمة ليز تروس، التي عملت رئيسة الوزراء سابقًا لمدة 49 يوم فقط قبل أن يُطيح بها حزبها، حيث فقدت مقعدها في وقت مبكر من صباح الجمعة في دائرتها الانتخابية بجنوب غرب نورفولك. وكان جاكوب ريس موغ، وزير الأعمال المحافظ السابق والمؤيد لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أحد أكبر الأسماء التي عانت من الهزيمة أيضًا، وقد خسر مقعده في شرق سومرست وهانهام لصالح حزب العمال. وقال لبي بي سي إنه لا يستطيع “لوم أحد سوى نفسه” في الخسارة لكنه أخذ “جانبًا صغيرًا من الأمل” من حقيقة أن المحافظين سيكونون “على الأقل المعارضة الرسمية”، في إشارة إلى المخاوف من أنهم لن يكونوا حتى كذلك. وبدا جرانت شابس، وزير الدفاع، مُنزعجًا بعد أن فقد مقعده في جنوب إنجلترا. كما خسرت رئيسة مجلس العموم بيني موردونت، التي تنافست مع ريشي سوناك على زعامة الحزب قبل أن يصبح رئيسًا للوزراء، مقعدها أيضًا. فاز سوناك بمقعده في يوركشاير بأغلبية مريحة بلغت حوالي 12000 صوت، لكنه أدلى بخطاب قبل فيه التنازل والتأكيد على خسارة حزبه في الانتخابات.[3]

ثانيًا: تأثيرات صعود حزب العمال على سياسات بريطانيا الداخلية والخارجية..

يحمل صعود حزب العمال في بريطانيا معه العديد من الوقعات ببعض التغييرات في سياسات بريطانيا الداخلية والخارجية، ويُمكن إجمالها في التالي..

1. على المستوى الداخلي: الخطوات التي تلي هذا الفوز الكبير لـ ستارمر وحزب العمال؛ هي: سيختار رئيس الوزراء أعضاء مجلس حكومته لقيادة مجالات مُحدَّدة مثل الصحة والدفاع والبيئة. وسيشهد مقر الحكومة الكثير من الحركة من أعضاء البرلمان يأتون ويذهبون قبل وخلال إعلان أعضاء مجلس الوزراء، وسيتلقى رئيس الوزراء المزيد من الإحاطات الإعلامية من المستشارين، ويحدد أولويات سياسته. وبعد اجتماع مجلس العموم للمرة الأولى؛ حيث يُنتخب رئيس مجلس العموم قبل أن يؤدي النواب اليمين الدستورية. سيفتتح الملك البرلمان رسميًا بخطاب الملك، الذي سيُلقيه في 17 يوليو. وبعد هذا الفوز؛ بات على حزب العمال العمل على تنفيذ التعهُّدات التي تحدَّث عنها في بيانه الانتخابي. وكان أبرزها: أولًا؛ توفير الاستقرار الاقتصادي من خلال قواعد واضحة بشأن الضرائب والإنفاق، وتشمل عدم زيادة معدلات ضريبة الدخل الحالية أو التأمين أو ضريبة القيمة المضافة. وثانيًا؛ تحسين الخدمات الصحية، وزيادة البدالات للعمل في عطلات نهاية الأسبوع والعمل المسائي. وثالثًا؛ إنشاء قيادة أمن الحدود بصلاحيات مُماثلة لصلاحيات محاربة الإرهاب بهدف وقف عصابات الاتجار بالبشر وتهريبهم. ورابعًا؛ إنشاء شركة طاقة نظيفة مملوكة للقطاع العام، بهدف خلق فرص عمل والاستثمار في الطاقة النظيفة. وخامسًا؛ معالجة السلوكيات المعادية للمجتمع من خلال 13 ألف ضابط شرطة إضافي وضباط دعم مجتمعي في إنجلترا وويلز. وسادسًا؛ توظيف 6500 معلم إضافي وتقديم نوادي إفطار مجانية في كل مدرسة ابتدائية في إنجلترا.[4]

2. على المستوى الخارجي: أغلب أساسيات السياسة الخارجية البريطانية، لاسيما ما يتعلَّق بحلف شمال الأطلسي وأوكرانيا والعلاقات مع الولايات المتحدة والصين، في الغالب ستتمتع بقدر كبير من الاستمرارية لنهج الحكومة الجديدة على خُطى القديمة، لذا ستتيح قمة الناتو لستارمر فرصة مُبكرة لإعادة تأكيد دعم حزب العمال للحلف. كما أن الدعم البريطاني لأوكرانيا لن يتراجع، كما قال ستارمر للرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في مكالمة هاتفية مساء دخوله إلى مقر الحكومة، فضلًا عن احتفال وزير الدفاع الجديد، جون هيلي، مع زيلينسكي، في السابع من يوليو، بيوم البحرية الأوكرانية في أوديسا، وإعلانه عن شحنة جديدة من صواريخ بريمستون المضادة للدبابات، و90 قطعة مدفعية ذاتية الدفع ومعدات أخرى. ويبدو أن حزب العمال عازم على إبقاء العلاقة الأنجلو أمريكية على الطريق في حالة خسارة جو بايدن الانتخابات في نوفمبر المقبل. لذا سعى ديفيد لامي وزير الخارجية، الذي يزور واشنطن بشكل مُتكرِّر، إلى بناء جسور مع دائرة ترامب، وقال إن الدول الأوروبية سيُطلب منها المساهمة بشكل أكبر في الدفاع عن القارة، أيًّا كان الفائز. أما بالنسبة للعلاقات مع الصين، فقد وعد حزب العمال بإجراء مراجعة كاملة لعلاقته مع البلاد، ومن المُرجَّح أن يستمر مسار سياسة المحافظين، وهذا يعني ضمنًا محاولة الحفاظ على الانفتاح تجاه تجارة السلع الاستهلاكية (على الرغم من أن راشيل ريفز، وزيرة الخزانة الجديدة، تتبنَّى وجهة نظر مُتشكِّكة في الاستثمار الصيني في الطاقة النووية والاتصالات وغيرها من المجالات الحساسة). ويُعد التحول الأكثر إلحاحًا أمام حزب العمال هو العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، حيث يأمل الحزب في علاقات أكثر دفئًا، فعلى الرغم من استبعاد حزب العمال العودة إلى الاتحاد الأوروبي، أو السوق الموحدة، أو الاتحاد الجمركي (لو كان ذلك مطروحًا)، فإنه بالإضافة إلى الاتفاقيات المُتعلِّقة بتجارة المواد الغذائية عبر الحدود، والعلاقات الأوثق في التعليم والبحث، فهو يريد “شكلًا جديدًا” من اتفاقيات التعاون الأمني والدفاعي. لكن أوروبا ليست المنطقة الوحيدة التي سيظهر فيها تغيُّر في شكل السياسة الخارجية ولهجتها، فبعد أن خسر حزب العمال على نحوٍ ملحوظ دعم الناخبين المسلمين البريطانيين في الانتخابات، بسبب غموض الحزب بشأن الحرب الصهيونية على غزة، لجأ ستارمر إلى التأكيد لمحمود عباس، الرئيس الفلسطيني، يوم 7 يوليو، على أن إقامة الدولة “حق لا يُمكن إنكاره” للفلسطينيين. إلا أن كل ذلك يجب ألا يخرج عن إطار أن التغيير الفوري لا يتعلَّق بمبدأ حزب العمال بقدر ما يتعلَّق بمكانة بريطانيا الدولية.[5]

ثالثًا: نتائج الانتخابات البريطانية وإفريقيا..

من المعروف أنه منذ الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام 2016، تراجعت إفريقيا على قائمة الأجندة السياسية في المملكة المتحدة. وعلى سبيل المثال أدى تفكيك وزارة التنمية الدولية ودمجها في وزارة الخارجية والكومنولث والتنمية الجديدة في عام 2020، فضلًا عن تقويض المساعدات لصالح تلبية الاحتياجات البريطانية الداخلية، إلى رحيل العديد من الموظفين ذوي الخبرة الذين حافظوا على العلاقات مع السياسيين وقادة المجتمع المدني الأفارقة. كما ركزت المناقشات الأخيرة حول إفريقيا على نقل بعض المهاجرين إلى رواندا، أي النظر إلى إفريقيا بحسبانها مصدر تهديد.

1. السياق التاريخي للعلاقات البريطانية- الإفريقية: إن علاقة إفريقيا مع المملكة المتحدة مُتجذّرة بعمق في ماضيها الاستعماري. وتتمتَّع دول مثل نيجيريا وغانا وسيراليون وكينيا بعلاقات طويلة الأمد مع المملكة المتحدة، والتي لا تزال تؤثِّر على معالمها السياسية والاقتصادية والثقافية. وإجمالًا، تنتمي 21 دولة إفريقية من أصل 56 إلى منظمة الكومنولث، بما في ذلك الدول الأكثر اكتظاظًا بالسكان والقوة مثل نيجيريا وجنوب إفريقيا. وتُعد اللغة الإنجليزية هي لغة رسمية في جميع هذه البلدان، باستثناء موزمبيق، حيث اللغة البرتغالية هي لغة المجتمع. أما في الكاميرون ورواندا، تُعد اللغتان الإنجليزية والفرنسية لغتين رسميتين. لقد كانت أحد الركائز الأساسية لسياسة حزب المحافظين في إفريقيا هي محورية الشراكات الاقتصادية. إذ بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سعت المملكة المتحدة إلى توقيع اتفاقيات التجارة الثنائية مع الدول الإفريقية. وكان ذلك بهدف تأمين أسواق جديدة للسلع والخدمات البريطانية، وضمان الوصول إلى الموارد الطبيعية الغنية في إفريقيا. وتتجلَّى هذه الاستراتيجية في مبادرات مثل قمة الاستثمار البريطانية الإفريقية التي عُقدت عامي 2020 و2024، والتي سلَّطت الضوء على فرص الاستثمار والتعاون الاقتصادي. ومع ذلك، يرى البعض أن هذا التركيز الاقتصادي غالبًا ما يعطي الأولوية للمصالح البريطانية على مصالح الدول الإفريقية. إن طبيعة هذه الاتفاقيات التجارية تعكس في بعض الأحيان أنماطًا تاريخية من الاستغلال، حيث يتم استخراج الموارد الإفريقية بأقل فائدة للمجتمعات المحلية. وهناك أيضًا مخاوف من أن الضغط من أجل التحرير الاقتصادي وإلغاء القيود التنظيمية قد يؤدي إلى تقويض الصناعات المحلية، ويؤدي إلى زيادة عدم المساواة. ومن الممكن أن تُبشِّر عودة حزب العمال إلى السلطة بعد 14 عامًا من المعارضة بتغييرات كبيرة في هذه العلاقات، وخاصةً في مجالات مساعدات التنمية والسياسة الخارجية.[6]

2. مجالات التعاون البريطاني الإفريقي المُتوقَّع تأثُّرها بنتائج الانتخابات: هناك عدة مجالات تُعد من أهم المجالات الرئيسية التي من المُتوقَّع أن يكون لحكومة حزب العمال تأثير فيها: أولها؛ المساعدات التنموية: فتاريخيًا، أظهرت حكومات حزب العمال التزامًا قويًا بالتنمية الدولية. على سبيل المثال، أسهمت إدارة توني بلير بدور فعال في إنشاء وزارة التنمية الدولية في عام 1997، والتي أدَّت إلى زيادة كبيرة في مساعدات المملكة المتحدة للدول النامية. وفي المقابل، في ظل حكومة المحافظين، تم دمج وزارة التنمية الدولية مع وزارة الخارجية في عام 2020، وتم تخفيض ميزانية المساعدات الخارجية من 0.7٪ إلى 0.5٪ من الدخل القومي الإجمالي. وقد تم انتقاد هذا التخفيض لأنه يُقلِّل من دور المملكة المتحدة في دعم السكان الأكثر ضعفًا في العالم. ويشير بيان حزب العمال إلى تراجع محتمل عن هذه التخفيضات وإعادة برنامج مساعدات أكثر قوة، مع التركيز على تخفيف حدة الفقر والتنمية المُستدامة في إفريقيا. وثانيها؛ السياسات التجارية: تُعتبر التجارة مجالًا حاسمًا آخر، حيث قد يُؤثِّر فوز حزب العمال على العلاقات التجارية مع إفريقيا. ولا تزال السياسات التجارية في المملكة المتحدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي تتطور، ومن المُمكن أن يُقدِّم نهج حزب العمال شروطًا أكثر مُلاءمة للدول الإفريقية. ويُؤكِّد بيان حزب العمال على ممارسات التجارة العادلة وتعزيز الشراكات الاقتصادية التي تعود بالنفع على كلا الطرفين. ويُمكن أن يُترجم ذلك إلى تحسين وصول المنتجات الإفريقية إلى الأسواق ودعم الصناعات المحلية، وتعزيز النمو الاقتصادي والتنمية. وثالثها؛ الهجرة وحرية الحركة: من المُتوقَّع أن تكون سياسات الهجرة في ظل حكومة حزب العمال أكثر شمولًا مُقارنةً بإدارة المحافظين. وكانت حملة القمع التي شنتها حكومة المحافظين ضد الهجرة، وخاصةً على الطلاب والعمال المهرة، قضية مُثيرة للجدل. وقد تأثَّر النيجيريون، وهم ثاني أكبر مجموعة من المهاجرين من خارج الاتحاد الأوروبي إلى المملكة المتحدة، بشكلٍ كبير بهذه السياسات. ويُشير بيان حزب العمال إلى تحوُّل نحو السياسات التي يُمكن أن تسمح بهجرة أكثر توازنًا، مع التركيز على المهاجرين المهرة واحتمال تخفيف القيود المفروضة على لم شمل الأسر. ورابعها؛ دعم العلاقات الدبلوماسية: يُمكن أن تشهد العلاقات الدبلوماسية بين المملكة المتحدة والدول الإفريقية تحولًا إيجابيًا في ظل حكومة حزب العمال. ومن المُتوقع أن تُركِّز سياسة حزب العمال الخارجية على التعددية، وحقوق الإنسان، والتعاون الدولي. ومن المُمكن أن يُعزِّز هذا النهج مشاركة المملكة المتحدة مع الدول الإفريقية في القضايا العالمية مثل تغير المناخ والأمن والصحة. ويُمكن لإفريقيا الاستفادة من هذه الفرصة للتفاوض على اتفاقيات أكثر قوة ومفيدة للطرفين مع المملكة المتحدة.[7]

الخُلاصة؛ حملت نتائج الانتخابات العامة الأخيرة في بريطانيا هزيمة غير مسبوقة لحزب المحافظين، بعد 14 عام قضاها في الحكم، وقد خسر الحزب ثُلثَي المقاعد التي كانت في حوزته، ما دفع سوناك إلى الاستقالة من زعامته تاركًا وراءه حزبًا ممزقًا. وقد عبَّرت نتائج الانتخابات عن الرغبة في التغيير، ومُعاقبة حزب المحافظين بعد سنوات مضطربة تلت خروج بريطانيا في عهده من الاتحاد الأوروبي، إضافةً إلى سوء إدارته أزمات كورونا والهجرة والتضخم. وقد أعطت نتائج الانتخابات مؤشّرًا على تشرذُم الأصوات بين الأحزاب وترهُّل النظام الانتخابي التقليدي في بريطانيا القائم على الثنائية الحزبية.

وبالنسبة لإفريقيا؛ فإن فوز حزب العمال في المملكة المتحدة يحمل في طياته تداعيات كبيرة بالنسبة لإفريقيا. حيث إن الزيادات المُحتملة في مساعدات التنمية، وسياسات التجارة الأكثر عدالة، وقواعد الهجرة الأكثر شمولًا، وتعزيز العلاقات الدبلوماسية يُمكن أن تُعزِّز علاقة أكثر قوة وشراكات تعاونية بين المملكة المتحدة والدول الإفريقية. ومع ذلك، فإن تحقيق هذه الفوائد سيتطلَّب مشاركة استراتيجية ومفاوضات من جانب القادة الأفارقة لضمان تمثيل مصالحهم ومعالجتها بشكل مناسب. وبينما تتشكَّل الحكومة الجديدة في لندن، يجب على إفريقيا أن تظل سبَّاقة في مشاركتها للاستفادة من هذا التحوُّل السياسي في المملكة المتحدة؛ فعلى الرغم من هذه الفوائد المحتملة، لا تزال هناك تحديات. فمن المُحتمل أن يحد الوضع الاقتصادي في المملكة المتحدة، وخاصة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وفي أعقاب جائحة كوفيد-19، من حجم المساعدات والاستثمارات التي يُمكن أن تُقدِّمها. علاوةً على ذلك، يتعيَّن على إفريقيا أن تُشكِّل جبهة مُوحَّدة لتعظيم قدرتها على التفاوض. وستكون المطالب الواضحة والمُتماسكة من الدول الإفريقية فيما يتعلَّق بسياسات التجارة والمساعدات والهجرة حاسمة في تشكيل شراكة مفيدة مع حكومة حزب العمال.


[1] عمر كوش، “بريطانيا بعد فوز “العمّال” في الانتخابات الثأرية”، العربي الجديد، 8/7/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/1R8E3hu0

[2] عمر كوش، مرجع سبق ذكره.

[3] غرايم بيكر، مات ميرفي، “الانتخابات البريطانية: ماذا الذي حدث، وما المتوقع بعد ذلك؟”، عربي BBC News، 5/7/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/qALXdXc7

[4] غرايم بيكر، مات ميرفي، مرجع سبق ذكره.

[5] “ماذا يعني فوز حزب العمال في السياسة الخارجية البريطانية؟”، عربي BBC News، 10/7/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/CuxJ1vCe

[6] د. حمدي عبد الرحمن حسن، “ماذا يعني فوز حزب العمال البريطاني لإفريقيا؟”، قراءات إفريقية، 7/7/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/hKPXGInH

[7] د. حمدي عبد الرحمن حسن، مرجع سبق ذكره.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022