ليبيا .. الإشكاليات السياسية والعسكرية التي قد تعيد النزاع المسلح

 

بعد حالة من التفاؤل بإمكانية حل الأزمة الليبية على خلفية توقف القتال العسكري بين أطراف الصراع المتمثلة في قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر المتواجدة في الشرق، وقوات حكومة فايز السراج الشرعية المتمركزة في الغرب، والتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار برعاية اقليمية ودولية (خاصة من تركيا ومصر وأمريكا وروسيا)، وتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة حازت لأول مرة على ثقة مجلس النواب. لكن لا تزال هناك مجموعة من الإشكاليات السياسية والعسكرية التي قد تعيد الأمور مرة أخرى إلى المربع الأول وتتسبب في عودة الصراع العسكري مرة أخرى بين الطرفين، ويأتي على رأس تلك الإشكاليات؛ ملف إقرار ميزانية الدولة، وإصدار قوانين الانتخابات التي ستجرى على أساسها الانتخابات المقررة في 24 ديسمبر 2021، وتوحيد المؤسسة العسكرية، وإخراج المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا. وهو ما سيتم توضيحه بمزيد من التفاصيل في السطور القادمة..

 

أولًا: الإشكاليات السياسية:

ليبيا .. الإشكاليات السياسية والعسكرية التي قد تعيد النزاع المسلح

لاتزال هناك حالة من الصراع السياسي بين الأطراف الليبية، خاصة بين مجلس النواب برئاسة عقيلة صالح وحكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة. ويعتبر ملف ميزانية الحكومة من بين الملفات الأكثر جدلاً بين الحكومة ومجلس النواب، إذ جرى تأجيل النظر فيه والتصويت عليه خلال أكثر من جلسة، حتى إن الحكومة أجرت تعديلات على حجم الميزانية سبع مرات منذ إبريل 2021. وكان صالح كشف، خلال زيارته للواء المتقاعد خليفة حفتر في مقره العسكري في الرجمة منتصف يوليو 2021، عن الأسباب الحقيقية التي تقف وراء عرقلة تمرير الميزانية، والمتمثلة في مطالب منح قيادة مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر “ميزانية مقدرة ومحترمة”، على حد قوله[1].

وتمثلت أخر فصول الصراع بين مجلس النواب وحكومة الدبيبة في دعوة مجلس النواب الحكومة للمثول أمام النواب في جلسة، تم تحديدها في 30 أغسطس 2021، وقد شدد المجلس على ضرورة حضور الحكومة للجلسة في موعدها المحدّد، ملوحاً بإمكانية سحب الثقة من الحكومة “إذا لم تكن إجاباتها مقنعة” للنواب. وذلك بعد طلب 29 نائباً بسحب الثقة من الحكومة في بيان مشترك، في 24 أغسطس 2021، لأنها “لم تقدم أبسط الخدمات للمواطن، ولم توحّد مؤسسات الدولة”، وأنها “زادت الهوة بين أبناء الوطن وزرعت الكره بينهم”، واتهموا الدبيبة بالتعامل مع إقليم برقة بـ “مبدأ العقاب والهزيمة”، وبأنه “أصبح طرفاً” في الصراع، وأن حكومته أصبحت “تهدد الأمن والسلم الأهلي في ليبيا”.

وفى المقابل، فهناك رفض ضمني من جانب الحكومة لحضور تلك الجلسة، حيث أعلن رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة أنه سيكون “خلاج البلاد” في اليوم الذي حدّده مجلس النواب لعقد جلسة لاستجواب الحكومة، معبراً عن استغرابه لسعي المجلس لـ “محاسبة الحكومة” قبل أن تصرف لها الميزانية العامة، كما حث على ضرورة اتفاق النواب على استجواب الحكومة في تلميح من الدبيبة لرفض بعض النواب لاستجواب الحكومة وأن الاستجواب أصبح مجرد وسيلة في يد النواب المحسوبين على عقيلة صالح وخليفة حفتر لعرقلة عمل الحكومة.

أكثر من ذلك، فقد تحدى الدبيبة مجلس النواب عبر الاجتماع بمجموعة من النواب في طرابلس، وحرص على مشاركة رئيس المجلس الرئاسي في الاجتماع، وكأن الدبيبة يريد أن يقول لمجلس النواب إذا فكرت في سحب الثقة، فعليك إقالة المجلس الرئاسي، وأن من جاء بالسلطة التنفيذية هو ملتقى الحوار السياسي، وليس مجلس النواب[2].

وبجانب الصراع بين الحكومة ومجلس النواب، فهناك صراع بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة في عدة ملفات، أهمها ملف المناصب السيادية، لا سيما مع إصرار المجلس الأعلى على استبعاد رئيس المفوضية العليا للانتخابات عماد السائح، الموالي لعقيلة صالح، من منصبه[3]. بجانب، تحالف حكومة الدبيبة مع محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير ورئيس ديوان المحاسبة خالد شكشك ضد رئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله في إطار حرب صلاحيات تحاول وزارة النفط ذات العلاقة المباشرة مع ديوان الحكومة كسبها، وهي وزارة تم تأسيسها في إطار التشكيل الأخير لتكون عنصر تجاذب مع المؤسسة المركزية[4]. أضف إلى ذلك، رفض المجلس الأعلى للدولة لتفرد مجلس النواب بإصدار قوانين الانتخابات التي ستجرى على أساسها الانتخابات المقررة في 24 ديسمبر 2021، والتأكيد على ضرورة مشاركته في اصدار هذه القوانين مع مجلس النواب كما نص الاتفاق الصادر عن ملتقى الحوار السياسي[5].

والمراقب للمشهد الليبي سيرى أن هناك ما يشبه التنافس الانتخابي المبكر للفوز بالانتخابات المقررة في ديسمبر 2021، إذ إن هناك حرص من قبل حكومة الدبيبة للحصول على التصديق على الميزانية ما سيعطي للحكومة القدرة على الظهور القوي، وبذلك تتعزز فرص القيادات السياسية في الغرب الليبي، وخاصة رئيس الحكومة الوطنية عبد الحميد الدبيبة في الانتخابات القادمة. كما أن مشهد رئيس حكومة الوحدة الوطنية في يوم الشباب العالمي، وهو يعِد الشباب بمنح للزواج والسكن يمثل مشهداً انتخابياً بامتياز[6].

كما يرى بعض المراقبين أن التسريبات الحديثة حول تعيينات دبلوماسية ينوي الدبيبة تمريرها خلال الأيام القادمة، ولاسيما في عواصم ذات تأثير بالغ في القرار الدولي، تؤكد أنه يرغب في إحاطة نفسه بحزام داعم على مستوى العلاقات الخارجية، يكون مرتبطا به شخصيا وبمكتبه وليس بوزارة الخارجية التي تديرها نجلاء المنقوش الوزيرة المثيرة للجدل والمرفوضة من قبل الدبيبة وداعميه نظرًا لأدائها ومواقفها خاصة بعد حديثها عن رفض التواجد العسكري التركي في ليبيا[7].

ومن ناحية أخرى، فأن خطاب حفتر الذي يوجهه لأنصاره بأنه لا يخضع لأي سلطة ما هو إلا محاولة للاستمرار في المشهد والتهيؤ للانتخابات كرقم صعب لا يمكن الوصول للاستقرار إلا من خلاله. كما جعل حفتر أتباعه في مجلس النواب ومنهم رئيس المجلس عقيلة صالح يحرصون على وضع قانون انتخاب يسمح لمزدوجي الجنسية والعسكريين بالدخول للانتخابات حتى دون استقالة من الخدمة العسكرية، وهذا تفصيل لشروط الانتخاب على مقاس حفتر[8].

لم يكتف حفتر بهذا بل عين رئيس الحكومة المؤقتة السابق عبدالله الثني على رأس إدارة استحدثها في جيشه تسمى الإدارة السياسية، استعدادا لتشكيل الاثنين حكومة موازية لحكومة الوحدة الوطنية وعودة الانقسام مرة أخرى. عاونه في ذلك رئيس “برلمان طبرق” عقيلة صالح وحليف حفتر، بإعلانه نيته تشكيل حكومة جديدة موازية في الشرق، حال تأجلت الانتخابات. صالح قال لوكالة “رويترز” 28 يوليو 2021: “إذا تعطلت الانتخابات سوف نرجع للمربع الأول”، محذرا من أن حكومة جديدة موازية ستظهر في الشرق[9].

وفي الوقت نفسه، خرج سيف الإسلام القذافي وبشكل مفاجئ، في حوار مطول مع صحيفة نيويورك تايمز، ليفصح عن سردية كثيراً ما يرددها أنصار النظام السابق بأن الشعب قد يلجأ لأنصار القذافي على أنهم الحل لمشاكل البلاد، بعد أن فشلت الثورة والدولة وكل القوى على الساحة في إيجاد حل للأزمة الليبية. لكن لا يزال الخلاف الكبير حول أن من صدر بحقه حكم بات أو مطلوب للجنائية الدولية أنه لا يحق له المشاركة في الانتخابات، وهذا ما صرح به رئيس مجلس النواب عقيلة صالح عقب يوم من تصريحات سيف الإسلام معمر القذافي.

هنا يبرز الصراع بين حفتر وسيف الإسلام، واستخدام حفتر لمؤسسات الدولة للبقاء في المشهد والسيطرة عليه حتى من خارجه، وهذا تحدٍّ كبير لسيف الإسلام وأنصار النظام السابق؛ يؤكد أن ما صدر من تصريحات للرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول محاولته إقناع حفتر بدعم سيف الإسلام في الانتخابات جزء من السياق الخفي للمشهد الليبي ومساعي روسيا لوضع رجالها في الانتخابات القادمة[10]. ولا يزال موقف حكومة الدبيبة غامض من ترشح نجل القذافي، ففي حين يعلن رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة أنه لا يمانع ترشح سيف الإسلام القذافي للانتخابات، ففي ذات الوقت يصدر المدعي العام العسكري الخاضع لسيطرة الحكومة أمرا بضرورة ضبط وإحضار ابن الزعيم السابق[11].

ثانيًا: الإشكاليات العسكرية:

ليبيا .. الإشكاليات السياسية والعسكرية التي قد تعيد النزاع المسلح

على الرغم من التقدم الذي أحرزته اللجنة العسكرية المشتركة (5+5)، والمتمثل في إعلانها، في 30 يوليو 2021، عن إعادة فتح الطريق الساحلية الرابطة بين شرق ليبيا وغربها، بعد إغلاقها لأكثر من عامين. ومؤخرًا، أعلنت اللجنة، في 14 أغسطس 2021، إن أعضاءها اتفقوا على “وضع تدابير وخطة مستعجلة لإخراج المرتزقة والمقاتلين الأجانب والقوات الأجنبية دون استثناء لأحد وفي أسرع وقت”. وأضافت أنها “خاطبت المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية بضرورة تجميد الاتفاقات العسكرية لأي دولة كانت، ومذكرات التفاهم وفق ما ورد في بنود اتفاق وقف إطلاق النار الموقَّع في جنيف”. وأكدت اللجنة اتفاق أعضائها على بدء إجراءات فتح الطريق الرابط بين بلدة أبوقرين، غرب سرت، ومناطق الجفرة، بالإضافة إلى بدء وضع الترتيبات اللازمة لاستكمال المرحلة الثانية من إزالة الألغام من جانبي الطريق الساحلية[12].

وفى حين يعتبر البعض أن اللجنة، من وراء خطوتها هذه، تحقق نوع من التوازن في الأولويات، ما بين إخراج المرتزقة الذي يقدّمه حفتر على أيّ مطلب آخر، وما بين توحيد المؤسسة العسكرية الذي يوليه الدبيبة الاهتمام الأكبر[13]. وفي حين، أصدر 13 تكتلا سياسيا بيانا مشتركا لتأييد بيان اللجنة العسكرية، وتأكيد مطلب اللجنة بشأن تجميد الاتفاقات العسكرية.

وأشاد البيان الذي حمل توقيعات التكتلات السياسية، بعضها معروف بميله لمعسكر شرق ليبيا، بـ”المواقف الوطنية للجنة العسكرية ودورها في الحفاظ على اتفاق وقف إطلاق النار”، مؤكدا تأييدها في ما صدر عنها من مطالب “تجميد كل الاتفاقيات العسكرية الأجنبية في كل أنحاء ليبيا، وخاصة مع تركيا وروسيا، ومطالبتها باتخاذ التدابير اللازمة لإتمام خروج المرتزقة وكل القوات العسكرية الأجنبية، وبضرورة إقرار القاعدة الدستورية، وتحذيرها من انهيار وقف إطلاق النار في حال تعطلت الانتخابات”. واعتبر بيان التكتلات السياسية أن مطالب اللجنة العسكرية “هي مطلب شعبي”، محذرا “أية جهة رسمية أو سياسية من التخاذل أو الاعتراض على ذلك”، وطالب بسرعة إنجازها[14].

ففي المقابل، فقد أعربت رئاسة الأركان العامة في الجيش الليبي (طرابلس) في بيان نشرته، في 18 أغسطس 2021، عن استغرابها إزاء خطوات اللجنة العسكرية المشتركة، وطالب بيان رئاسة الجيش «المجلس الرئاسي ورئيس الحكومة ووزير الدفاع بالتدخل لوقف هذه التجاوزات التي لا تخدم حالة السلم السياسي والمجتمعي».

وكانت غرفة عمليات تحرير سرت ــ الجفرة (تتبع الجيش)، قد أعربت في بيان، في 17 أغسطس 2021 عن استنكارها لما ورد في مراسلات اللجنة، حول جملة من المطالبات منها تجميد الاتفاقيات التي أبرمتها البلاد مع دول أخرى، ووصفتها بـ«التجاوزات»؛ وأوضحت أن مراسلات اللجنة العسكرية «لم تُشِر إلى القرارات الصادرة أخيراً عما يسمى بالقيادة العامة بالمنطقة الشرقية وتعديها على صلاحيات المجلس الرئاسي كقائد أعلى للجيش الليبي وعدم التزامها بمخرجات جنيف»، وفق البيان[15]. ورغم أن اللجنة العسكرية مشكلة من عشرة ضباط، يمثل كل خمسة منهم طرفا من أطراف الصراع، فإن الممثلين عن معسكر غرب البلاد لم يصدر عنهم أي موقف حيال بيان اللجنة، باستثناء اللواء مصطفى يحيى، الذي يشغل أيضا وظيفة مقرر اللجنة، حيث أكد تحفظه على ما جاء في البيان[16].

كما طالب المجلس الأعلى للدولة الليبي، في 15 أغسطس 2021، اللجنة العسكرية المشتركة بضرورة “النأي بنفسها” عن الحديث في الشأن السياسي والاتفاقيات الدولية بالبلاد. وشدد مجلس الدولة في بيان له “على ضرورة التزام اللجنة باختصاصها، والنأي بنفسها عن الحديث في الشأن السياسي أو الاتفاقيات الدولية المحفوظة طبقا لخارطة الطريق المنبثقة عن الحوار السياسي”. وأكد أن “الاتفاقيات الأمنية والحدودية التي أبرمتها حكومة الوفاق الوطني كانت تعبيرا عن إرادة الدولة الليبية، والسلطة الشرعية صاحبة الاختصاص الأصيل”. وأوضح البيان أن الاتفاقيات “محصنة من المساس بها وفق مخرجات الحوار السياسي، ويسري ذلك إلى حين وجود سلطة تنفيذية وتشريعية منتخبة”[17].

وقد تم توجيه العديد من الانتقادات إلى اللجنة العسكرية، وقد اعتبر المنتقدون أن مطالب اللجنة، التي احتواها بيانها الموجّه للمجلس الرئاسي والحكومة والبعثة الأممية، انحياز لمعسكر شرق ليبيا، من خلال مطالبتها بتجميد الاتفاقيات العسكرية، ومساواتها بين الوجود العسكري التركي الشرعي والروسي غير الشرعي. وهناك انتقادات بأن كفة صنع القرار داخل اللجنة باتت راجحة لصالح ممثلي حفتر، بعد حالة التشظي التي تعيشها مكونات غرب ليبيا العسكرية، ليصبح الخمسة الآخرون في اللجنة من دون مرجعية محددة لهم، وهو ما نتجت عنه مطالبات بإعادة النظر في تشكيلتها ورفض قراراتها.

وإضافة للتجاوزات الإجرائية التي كشف عنها البيان، ومنها أن اللجنة مؤلفة من ضباط، ولا يجوز لهم مخاطبة المجلس الرئاسي بصيغة التوجيهات والطلب، كونه القائد الأعلى للجيش، فقد أظهر نيّة للانقلاب على نصوص اتفاق وقف إطلاق النار، الذي وقّعته اللجنة في أكتوبر 2020، ومنها طلبها من الحكومة تجميد الاتفاقيات العسكرية “إلى حين انتخاب رئيس للدولة من الشعب مباشرة”، على الرغم من درايتها بأن نص الاتفاق أكد تجميد الاتفاقيات العسكرية “إلى حين استلام الحكومة الجديدة الموحدة لأعمالها”، ما يعني أن إدارة حكومة الوحدة الوطنية لهذه الاتفاقيات شرعي وقانوني.

أكثر من ذلك هو تحديدها لطريقة انتخاب “رئيس الدولة بشكل مباشر من الشعب”، في تماهٍ مسبق مع قانون الانتخابات الذي أقره مجلس النواب بعد البيان بأربعة أيام، وطلبها، في الوقت نفسه، من البعثة الأممية الضغط على أعضاء ملتقى الحوار لإنجاز القاعدة الدستورية للانتخابات، المفترض أنها من يحدد طريق انتخاب رئيس الدولة ونظام الحكم. ويبدو أن الرسالة النهائية التي حملها البيان هي “شهادة وفاة اتفاق وقف إطلاق النار”، من خلال تحذيرها من “انهيار” الاتفاق إذا لم تُجرَ الانتخابات، والمعنى إما انتخاب رئيس الدولة بشكل مباشر أو انتهاء العمل بهذا الاتفاق[18].

وعلى الرغم من أن اللجنة العسكرية في مطالبتها بتجميد الاتفاقات العسكرية قامت بتسمية كلًا من “تركيا وروسيا” كدولتين معنيتين بالتواجد العسكري في ليبيا. ولأول مرة، تسمي جهة رسمية في ليبيا روسيا ضمن الدول التي تحتفظ بتواجد عسكري في البلاد. وأن تسمية روسيا الذى جاء بالتزامن مع  زيارة المنقوش لموسكو توضح بشكل أكثر جلاء عزم الحكومة على البدء في خطوات عملية في هذا الشأن. خاصة بعد مطالبة المنقوش، خلال مؤتمر صحافي عقدته في موسكو مع نظيرها الروسي سيرغي لافروف، روسيا بلعب دور أكبر في إخراج المرتزقة، مشيدة بتجاوبها واستعدادها للتشاور حول وضع آلية لانسحاب المرتزقة.

ولكن، في حين اعترف لافروف ضمناً بوجود عسكري لبلاده في ليبيا، خلال تعليقه على الوجود التركي العسكري في البلاد بطلب من حكومة الوفاق السابقة، قائلا إنه “كان مساعدة عسكرية في جزء من المنطقة، لكن الجانب الثاني الذي لا يقل شرعية وهو البرلمان في طبرق، طلب مساعدة عسكرية من مصادر أخرى”، في إشارة إلى أن الوجود العسكري الروسي جاء بطلب من مجلس النواب. وفيما انتقد لافروف “محاولات تحويل النقاش إلى الحديث عمّن هو الشرعي ومن غير الشرعي”، معتبرا أن الأهم هو أن ينظم الانسحاب “خطوة بخطوة وفي تزامن، دون خلق أي ميزة في صالح أي أحد”[19]. وهو ما يشير إلى تمسك روسيا بعدم إخراج قواتها إلا بالتزامن مع إخراج تركيا لقواتها من ليبيا، وأنه في حالة رفض تركيا لذلك بدعوى أن تواجدها شرعي بناء على اتفاقيتها مع حكومة السراج، فإن روسيا هي الأخرى سترفض الخروج بدعوى أن تواجدها العسكري هو الأخر جاء بشكل شرعي بناءً على دعوة مجلس النواب.

ويرى البعض أن روسيا تجعل من التواجد العسكري التركي مجرد حجة لعدم انسحابها من ليبيا، خاصة أن روسيا تهدف إلى ترسيخ تواجدها في ليبيا لتحقق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية المتمثلة في: دعم القادة المتماهين مع المصالح الروسية، وتقوية الوجود الروسي في المنطقة بما يسمح بتعظيم نفوذها عالميا، وتعزيز مصالحها الاقتصادية، وتأمين وجودها الأمني في المتوسط لأجل توسيع رقعة المواجهة مع الولايات المتحدة بعيدا عن البحر الأسود.

وفي الحالة الليبية فإن حفتر قدم لروسيا ما تريد من الولاء ظهر في تمكينها من مناطق حيوية جدا في البلاد، والموقع الجغرافي لليبيا معلومة أهميته القريبة من الخاصرة الجنوبية لأوروبا وحلف الناتو، ومصالحها الاقتصادية معلومة أيضا وهي لا تقتصر على مشاريع السكك الحديدية أو صفقات السلاح، فسياسة بوتين تتجه إلى التحكم في قدر كبير من إمدادات النفط الليبي، ذلك أن الوجود الروسي في ليبيا يتمركز حول حقول وموانئ النفط[20].

وتأتى قرارات اللجنة العسكرية في ظل وجود اصرار من قبل حفتر، وبدعم مصري وإماراتي بالأساس، لبقاء قواته مستقلة عن جيش حكومة الوحدة الوطنية المدعومة من تركيا في هذه المرحلة الانتقالية. فرغم تمرير حكومة الدبيبة مليار دينار لقوات حفتر في مشروع الموازنة المقدم لمجلس النواب من أصل 2.5 مليار تطالب بها، لدفع رواتب المليشيات التابعة له، إلا أن حفتر رفض الاعتراف بحق الدبيبة كقائد أعلى للجيش.

وذلك بعدما رفض المجلس الرئاسي الليبي تعيينات وترقيات أعلنها حفتر في قواته بالشرق، باعتبار ذلك من اختصاص المجلس، وفق اتفاق الأمم المتحدة، لكن حفتر تحدى الجميع وأعلن أن قواته لن تخضع لأي سلطة في ليبيا غيره. خلال كلمته في ذكرى تأسيس الجيش الليبي 10 أغسطس 2021.

وبالتالي، فإن إصرار حفتر على صيغة “جيش مواز” وتعريف نفسه على أنه “قائد الجيش” يدفع بليبيا نحو الاقتتال مجددا، وفق مراقبين. كما أن إعلانه عدم خضوع قواته لأي سلطة مدنية يجعل إمكانية إجراء انتخابات حرة في المناطق الخاضعة لسيطرته أمرا مشكوكا فيه، بل وتزويرها لصالحه[21].

ومن ناحية أخرى، يبدو أن هناك اصرار من قبل رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة على التمسك بمنصب وزير الدفاع، وهو ما ظهر في رفضه لطلب المجلس الرئاسي، في 29 يونيو 2021، بضرورة تعيين وزير للدفاع بدل استمراره في تولي المنصب إلى جانب رئاسته للحكومة. ويصر الدبيبة على البقاء وزيرا للدفاع لأسباب عدة، بعضها كان فسره أمام مجلس النواب في منتصف مارس 2021 عندما قال إن التجاذبات الداخلية والخارجية دفعته إلى تولي المنصب بصورة مؤقتة، وبعضها الآخر يعود إلى أن حقيبة الدفاع من حق إقليم فزان، ولا يرغب الدبيبة في التنازل عن هذا المنصب إلا إذا كان سيؤول إلى شخصية محسوبة على تياره مثل صلاح الدين النمروش وزير الدفاع في حكومة السراج، وهو ما لا يقبله الطرف المقابل في المنطقة الشرقية.

وقد تسبب حرص الدبيبة على تأكيد دوره كوزير للدفاع في إحراجه في كثير من المناسبات من قبل اللجنة العسكرية المشتركة، ففي 20 يونيو 2021، ذهب الدبيبة إلى غرب سرت ليعلن من هناك عن فتح الطريق الساحلية، ولكن الافتتاح الفعلي لم يتم إلا في 30 يوليو 2021، بما يعني أن حركته كانت استعراضية بالدرجة الأولى ودون تنسيق يطلبه الموقف والوضع الميداني مع اللجنة العسكرية المشتركة “5+5”.

وعندما دعت اللجنة العسكرية المشتركة إلى ضرورة انسحاب كافة المقاتلين الأجانب دون استثناء، وتعليق التعامل بالاتفاقيات ومذكرات التفاهم مع جميع الدول، بما في ذلك المذكرة المبرمة بين فايز السراج وأردوغان في نوفمبر 2019، وجدت نفسها في عين العاصفة وتعرضت إلى سيل عارم من الانتقادات، ولم يكن الدبيبة بعيدا عن تلك المواقف، حيث أكد لعدد من أعضاء اللجنة ضرورة التنسيق المسبق معه في الإجراءات المتخذة والقرارات ومراجعتها لتكون متجانسة مع خطة الحكومة، وذلك في إشارة منه إلى رفض هذه القرارات[22].

 

 

[1] “مجلس النواب الليبي يستجوب الحكومة… ما الذي يخفيه صراع الكواليس؟”، العربي الجديد، 23/8/2021، الرابط: https://bit.ly/3mB6LKz

[2] “ليبيا: مطالب الاستجواب وسحب الثقة ترفع وتيرة الخلافات بين الحكومة ومجلس النواب”، العربي الجديد، 26/8/2021، الرابط: https://bit.ly/2WrtJIY

[3] “مجلس النواب الليبي يستجوب الحكومة… ما الذي يخفيه صراع الكواليس؟”، مرجع سابق.

[4] ” الدبيبة وإدارة حرب التناقضات للبقاء في الحكم”، العرب، 24/8/2021، الرابط: https://bit.ly/3sKtF3f

[5] “المشري لكوبيش: مجلس النواب لم يراعِ الاتفاق السياسي فيما يتعلق بإصدار قانون الانتخابات”، بوابة الوسط صوت ليبيا الدولي، 24/8/2021، الرابط: https://bit.ly/3mrzTnA

[6] “بين تهديدات حفتر وتناقضاته، وظهور القذافي الطامح لاستعادة إرث أبيه.. إلى أين تسير ليبيا قبيل الانتخابات؟”، عربي بوست، 18/8/2021، الرابط: https://bit.ly/38h0ZoU

[7] ” الدبيبة وإدارة حرب التناقضات للبقاء في الحكم”، مرجع سابق.

[8] “بين تهديدات حفتر وتناقضاته، وظهور القذافي الطامح لاستعادة إرث أبيه.. إلى أين تسير ليبيا قبيل الانتخابات؟”، مرجع سابق.

[9] ” بعد تجميد حفتر أكثر من عام.. لماذا أعاده ابن زايد والسيسي للمشهد الليبي؟”، صحيفة الاستقلال، 16/8/2021، الرابط: https://bit.ly/3gzgVYj

[10] “بين تهديدات حفتر وتناقضاته، وظهور القذافي الطامح لاستعادة إرث أبيه.. إلى أين تسير ليبيا قبيل الانتخابات؟”، مرجع سابق.

[11] ” الدبيبة وإدارة حرب التناقضات للبقاء في الحكم”، مرجع سابق.

[12] “لجنة 5+5 الليبية تُعلن اتفاقها على تدابير وخطة مستعجلة لإخراج المرتزقة والقوات الأجنبية”، العربي الجديد، 15/8/2021، الرابط: https://bit.ly/3DkeSRw

[13] “ليبيا | حفتر يحرف مسار «اللجنة العسكرية»”، الأخبار، 21/8/2021، الرابط: https://bit.ly/3sMAHoa

[14] “انقسام ليبي بشأن بيان لجنة (5+5) ومطالبتها بتجميد الاتفاقات العسكرية”، العربي الجديد، 17/8/2021، الرابط: https://bit.ly/3zhPUjz

[15] “ليبيا: استنكارٌ عسكري لـ«تجاوزات» اللجنة العسكرية المشتركة”، الأخبار، 18/8/2021، الرابط: https://bit.ly/3DjiUcY

[16] “انقسام ليبي بشأن بيان لجنة (5+5) ومطالبتها بتجميد الاتفاقات العسكرية”، مرجع سابق.

[17] ” “الأعلى الليبي” يطالب لجنة “5+5” بعدم التدخل بالشأن السياسي”، عربى21، 16/8/2021، الرابط: https://bit.ly/3koutab

[18] “طعنة لوقف النار في ليبيا”، العربي الجديد، 19/8/2021، الرابط: https://bit.ly/38c9XE1

[19] ” عودة ملف القوات الأجنبية في ليبيا للواجهة وسط تجاوب روسي.. هل تنقذ جهود الحكومة الانتخابات؟”، العربي الجديد، 20/8/2021، الرابط: https://bit.ly/3D9UJxA

[20] ” ليبيا في عمق الاستراتيجية الروسية تجاه حوض المتوسط”، عربى21، 23/8/2021، الرابط: https://bit.ly/2Wt7oeq

[21] ” بعد تجميد حفتر أكثر من عام.. لماذا أعاده ابن زايد والسيسي للمشهد الليبي؟”، مرجع سابق.

[22] ” الدبيبة وإدارة حرب التناقضات للبقاء في الحكم”، مرجع سابق.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022