أزمة القمح العالمية وانعكاساتها على مصر

 

 

ارتفعت أسعار القمح عالميا خلال نوفمبر الجاري “2021” إلى مستويات قياسية لم تحدث منذ 13 سنة؛ وذلك بعد تجدد المخاوف بشأن الإمدادات العالمية في أعقاب تعليقات لوزير الزراعة الروسي ديمتري باتروشيف، بشأن تحديد حصة لصادرات الحبوب وزيادة محتملة في رسوم التصدير. وارتفعت عقود قمح الطحين لأقرب استحقاق في مارس 2022، وهي العقود التي تشهد النشاط الأكبر في بورصة يورونكست ومقرها باريس، بمقدار 8.25 يورو أو 2.9 في المائة عند التسوية مساء الأربعاء 10 نوفمبر 2021م؛ ليقفز سعر توريد القمح عالميا إلى 289.75 يورو (335.07 دولار) للطن. وبلغت العقود في أواخر التعاملات 290 يورو للطن، وهو أعلى سعر منذ فبراير 2008م.

مخاوف موسكو من تزايد معدلات التضخم في أسواقها المحلية دفعها إلى وضع قيود صارمة على تصدير القمح وذلك من خلال تغيير المعادلة التي تستخدمها لحساب الضرائب على صادرات القمح في حالة حدوث زياردة كبيرة في الأسعار بالأسواق العالمية، وبلغت الضريبة 69.9 دولار للطن في الفترة من 10 – 16 نوفمبر الجاري. وقال الوزير إن بلاده التي تعتبر أكبر مصدر للقمح في العالم وخاصة إلى دول المنطقة العربية وشمال أفريقيا، تعتزم تحديد حصة لصادرات الحبوب في النصف الأول من 2022، بما يشمل الحصة المحددة للقمح، لتأمين المعروض المحلي. وأضاف أن حجم الحصة سيتقرر بنهاية ديسمبر بناء على محصول روسيا في 2021 ووتيرة الصادرات منذ يونيو،  عندما بدأ موسم التسويق الحالي 2021 – 2022م. وتسعى روسيا لكبح ارتفاع الأسعار محليا غير أن تدخلها في صادرات الحبوب تسبب في اضطراب سوق القمح العالمي التي تعاني بالفعل من تراجع المعروض في دول مصدرة رئيسية أخرى.[[1]]

ويعزو خبراء ومراقبون أسباب ارتفاع أسعار القمح عالميا إلى عدة أسباب أبرزها تفشي جائحة كورونا عالميا وما ترتب على ذلك من توقف خطوط الإمداد العالمية. وهناك أيضا تغير المناخ على نحو أضر بالمحاصيل الزراعية كما حدث في كندا من ارتفاع درجات الحرارة بصورة نادرة الحدوث. السبب الثالث لارتفاع أسعار القمح عالميا هو قيام دول منتجة للحبوب باستخدام نسبة كبيرة من فائضها المحلي من الحبوب في إنتاج الوقود الحيوي نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة في الأسواق العالمية. والسبب الرابع هو شراء الصين كميات كبيرة من الحبوب للتوسع في إنتاج اللحوم الحمراء والبيضاء. والسبب الخامس هو ارتفاع أسعار الشحن بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، وكلها عوامل أفضت إلى ارتفاع أسعار القمح عالميا وهو ما يهدد الأمن القومي للدول الهشة التي لم تضع الاكتفاء الذاتي من الغذاء على رأس أولوياتها وأبرزها مصر والدول العربية والإفريقية.

هذه التطورات تحمل أخبارا سيئة لمصر؛ أكبر دولة مستوردة للقمح في العالم. ذلك أن الهيئة العامة للسلع التموينية كانت قد حجزت في الأول من نوفمبر 2021م نحو 180 ألف طن قمح روسي مطحون مقابل 332.55 دولارا للطن (يتضمن مصاريف الشحن)؛  وهو سعرٌ أغلى بخمسة دولارات مما كانت تدفعه الهيئة لموردي القمح الرئيسيين، روسيا ورومانيا وأوكرانيا، قبل أسبوعٍ واحد فقط. كما أنّ أحدث سعرٍ للطن يُعتبر أغلى بنحو 80 دولاراً مما توقعته الحكومة في موازنتها للسنة المالية 2020-2021م، التي حددت سعر القمح بـ255 دولارا للطن.

فجوة تسعير القمح في الموازنة

هذه الفجوة الكبيرة بين سعر القمح المقدر في الموازنة وسعره الحالي الذي يزيد حتى كتابة هذه السطور بنحو 80 دولارا للطن قابلة للزيادة تعكس التحديات التي يفرضها تغير المناخ على قدرة البلدان لا سيما الفقيرة منها على تأمين احتياجاتها الغذائية بحسب تحليل لموقع “Middle East Eye” البريطاني. ووفقا لتصريحات محمد القرش، المتحدث باسم وزارة الزراعة المصرية: “تسبّب تغيّر المناخ في خسائر فادحة للإنتاج الزراعي، ليس هنا فقط، بل في جميع أنحاء العالم. ويجب أن يتحرّك العالم؛ من أجل الحيلولة دون أن تلقي ظاهرة التغيّر المناخي بظلالٍ أكبر على مستقبلنا”.

مصدر الخطورة على مصر أنها إذا استوردت نفس الكمية التي اشترتها العام الماضي “2020/2021″، فسترتفع قيمة فاتورة استيراد القمح بنحو مليار دولار[[2]]، في ظل أزمة كبرى في توفير النقد الأجنبي مع تراجع إيرادات الدولة في ظل تفشي جائحة كورونا. كما ستتفاقم الأضرار المالية على البلاد في حال ارتفع سعر القمح أكثر خلال الأسابيع المقبلة، خاصةً مع التوقعات المتشائمة حول الإنتاج العالمي وزيادة الطلب؛ حيث تسبّبت ظاهرة الاحترار العالمي في دمارٍ هائل للإنتاج الزراعي الخاص بالمحاصيل المهمة، مثل المانجو والزيتون. كذلك يُهدّد ارتفاع درجات حرارة الأرض بإغراق بعض الأراضي المنخفضة في مصر بالقرب من ساحل البحر المتوسط الشمالي. هذا السيناريو قد يعني فقدان مصر أكثر أراضيها الزراعية خصوبة، خاصةً في دلتا النيل، وربما يتسبّب في نزوح عددٍ كبير من سكان الدلتا. وقد استشهد بعض الحاضرين في “مؤتمر جلاسكو” بمصر وهم يدقون نواقيس الخطر بشأن أضرار تغيّر المناخ على المناطق الساحلية.

وعلى المستوى المحلي زرعت مصر نحو 3.4 مليون فدان بالقمح في 2020، بينما بلغ حجم إنتاج القمح المحلي 8.9 مليون طنٍ العام الماضي. لكن هذا الإنتاج لا يُغطّي سوى أقل من 50% من الاستهلاك السنوي في البلاد، مما يُجبر مصر على الاعتماد بشدة على الشراء من الخارج؛  لأن مصر تستهلك نحو 18 مليون طن سنويا، معنى ذلك أن هناك نحو 9 ملايين طن يتم استيرادها من الخارج ؛ حيث تستورد مصر من روسيا بنسبة 43% وأوكرانيا بنسبة 23% وأمريكا 12% ورومانيا بنسبة 11% وفرنسا بنسبة 8% سنويا.[[3]]

إجراءات الحكومة

وارتفعت أسعار الدقيق في مصر منذ أغسطس 2021م بشكل ملحوظ، وواصلت الأسعار ارتفاعها بالتزامن مع ارتفاع الطلب المحلي بسبب بدء الموسم الدراسي في أكتوبر، وقفزت الأسعار منذ ذلك التاريخ بأكثر من 25%، ويتراوح سعر الطن ما بين 7 آلاف جنيه و9 آلاف جنيه (الدولار يساوي 15.7 جنيها) للطن الواحد ارتفاعا من 5500 جنيه و7 آلاف جنيه للطن بحسب النوع والجودة. ووبحسب وكالة “بلومبيرج”، ارتفع متوسط السعر الذي تدفعه الحكومة المصرية منذ بدء عمليات الشراء لهذا الموسم بنحو مئة دولار للطن، بالإضافة إلى مشكلة ارتفاع تكاليف الشحن، في وقت يواجه فيه العالم أسوأ أزمة جوع منذ 15 عامًا وأزمة طاقة تهدد بجعل الأمور أسوأ. وتبلغ فاتورة استيراد القمح نحو 3 مليارات دولار سنويا، وتستورد مصر نحو 12 مليون طن سنويا (حكومي وخاص)، وتستهلك قرابة 20 مليون طن من القمح سنويا من بينها نحو 9 ملايين طن لإنتاج الخبز المدعوم الذي يُصرف على البطاقات التموينية لإنتاج ما يقرب من 270 مليون رغيف يوميا.[[4]]

وفي سبيل الحد من الأزمة اتخذت حكومة السيسي عدة إجراءات:

أولا، في مواجهة نقص المياه، تدرس مراكز الأبحاث القومية سلالات قمح جديدة مقاومة للجفاف وأقل استهلاكا للمياه من الأنواع التقليدية. وتعمل مراكز الأبحاث القومية على أن تكون إنتاجية هذه الأصناف الجديدة 24 أردبا للفدان بدلا من 18 أردبا للفدان بنوعية الأقماح الحالية. كذلك ضرورة جودة التخزين لتقليل حجم الفاقد وذلك ببناء شبكة صوامع قومية تستخدم أفضل طرق التخزين المعتمدة دوليا. أضف إلى ذلك أن متوسط استهلاك المواطن المصري سنويا من القمح يصل إلى 180كجم، بينما يقل متوسط نصيب  الفرد عالميا إلى 70 كجم فقط! وهو ما يحتاج  إلى توضيح من جانب الحكومة؛ حول أسباب الاستخدام المفرط للقمح في مصر والذي يؤدي إلى ارتفاع فاتورة الاستيراد إلى مستويات مخيفة جعل مصر  تحتل صدارة الدول المستوردة للقمح في العالم.

ثانيا، أبرمت الحكومة ما تسمى بعقود التحوط لاستيراد القمح؛ وذلك بعدما ألغت الحكومة أربع مناقصات لشراء القمح في 2021 بسبب ارتفاع الأسعار. والهدف من ذلك هو تجنُّب تعطيل الإمداد من الأسواق العالمية، بالتعاون مع بنك استثمار دولي من أجل توقيع عقود تحوُّط لاستيراد القمح. إذ يتوقع وزير التموين، من هذه العقود أنها سوف تحمي مصر من تقلبات الأسعار العالمية مستقبلاً؛ لا سيما وأن أسعار المواد الغذائية تواصل الارتفاع دون توقف منذ عدة شهور، وأمام انخفاض المعروض وزيادة الطلب قد يؤدي ذلك إلى فتح الباب على مصراعيه أمام موجة تضخم جديدة لا يمكن تجنبها أو احتواء توابعها الكارثية.

ثالثا، التوجه نحو استيراد القمح من أسواق جديدة لا تضع قيوادا صارمة على تصدير القمح مثل روسيا؛ حيث كشف أحمد العطار رئيس الإدارة المركزية للحجر الزراعي،  لوكالة رويترز يوم الجمعة 29 أكتوبر 2021م أن القاهرة ستعتمد على دولة لاتفيا كمصدر جديد يمد مصر بالقمح من الخارج بعد التأكد من سلامته ومطابقته للشروط المصرية، وأن وفدا مصريا قد سافر إلى لاتفيا من أجل الاتفاق.[[5]]

رابعا، تشجيع الحكومة للفلاحين من أجل زراعة القمح؛  حيث كشف السيد القصير، وزير الزراعة واستصلاح الأراضي  ــ في 12 نوفمبر 2021 ــ  أن الحكومة تدرس رفع أسعار توريد القمح محليا من أجل تشجيع الفلاحين على زراعته، وهو ما تم بالفعل حيث حددت الحكومة 820 جنيها للأردب (يساوي نحو 150 كجم) لأجود أنواع القمح وأعلاها نظافة، وذلك مقابل 725 جنيها الموسم الماضي بارتفاع قدره 13% فقط.[[6]] وقد ارتفع سعر الطن محليا في بداية نوفمبر 2021 إلى 5.800 جنيه بزيادة تصل إلى ألفي جنيه عن أسعار العام الماضي حيث كان سعر الطن 3.800 جنيه.[[7]] ورغم ذلك فإن هذا السعر يقل بنحو ألف جنيه عن السعر العالمي الذي وصل إلى نحو 300 دولار بخلاف مصاريف الشحن والتي تصل إلى نحو 100 دولار أخرى بمعنى أن الطن يتكلف نحو 400 دولار، وهو ما يساوي 6.800 جنيه. السعر الحكومي لتوريد  القمح (820 جنيها للأردب) لاقى انتقادات حادة من الفلاحين والخبراء؛ لأن الحكومة كانت ترفض باستمرار نظام الزراعة بالتعاقد المسبق مع الفلاحين، وعندما رأت أن مصلحتها في ذلك طبقته على الفور. معنى ذلك أن السعر المحلي للطن سيصل إلى 5400 جنيه، وهو القمح المصري أعلى جودة عالميا، وهو نفس سعر طن القمح الروسي (الرديء)، ومع توقعات بارتفاع الأسعار مجددا الموسم المقبل فإن السعر الحكومي المعلن مجحف للفلاحين. ومن المتوقع أن ترتفع فاتورة استيراد القمح نحو مليار دولار، وأن تصل قرابة 4 مليارات دولار مقارنة بنحو 3 مليارات نتيجة ارتفاع متوسط أسعار طن القمح الروسي والأوكراني والروماني (الرديء) 100 دولار على الأقل، حيث وصلت الأسعار إلى أعلى مستوى منذ عام 2012م. واشترت مصر في آخر مناقصة 240 ألف طن من القمح الروسي والروماني بمتوسط سعر 320.51 دولار للطن تسليم ظهر السفينة، و351.61 دولار للطن شاملة التكلفة والشحن. [[8]]

غياب الإرادة السياسية

السبب الرئيس والأول في أزمة القمح في مصر هو السياسات الزراعية العليا التي ترسمها ما تسمى بالأجهزة السيادية وعلى رأسها مؤسسة الرئاسة وجهاز المخابرات العامة. فعلى مدار العقود الماضية ومنذ انقلاب 23 يوليو 1952م، تحولت مصر من بلد زراعي يحقق الاكتفاء الذاتي من الغذاء لمواطنينه إلى بلد مستهلك يستورد أكثر من 65% من غذائه من الخارج. ولا سيما المحاصيل الإستراتيجية كالقمح والفول والعدس واللحوم والزيوت.

وحتى ندرك أزمة التوجهات العليا  في القطاع الزراعي الحاكمة للدولة المصرية تحت حكم الجيش في مصر ؛ فإن هناك معادلة غير مكتوبة بين النظام والقوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية تقتضي بأن تبقى مصر دائما في حاجة إلى استيراد الغذاء والسلاح، وفي حاجة مستمرة للعالم الخارجي.

  • أولا، يبرهن على ذلك تصريح سابق للرئيس السوداني السابق عمر البشير الذي كشف فيه أنه «كان قد عرض على الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك منحه مليون فدان في السودان لزراعتها قمحا، ورد الرئيس مبارك عليه بأن ذلك يغضب الأمريكان، مما دفعه لعدم قبول العرض السوداني!».[[9]]
  • ثانيا، بعد ثورة 25 يناير، تم نشر روايات عن إصرار مبارك على عدم التوسع في زراعة القمح لحل مشكلة القمح في مصرحتى تظل مصر تحت وطأة التبعية الاقتصادية والسياسية لأمريكا، فقد ذكر الدكتور محمد سليم العوا، المفكر الإسلامي والمرشح الرئاسي السابق في انتخابات 2012، أن «أحد أساتذة كلية الزراعة زرع 150 فداناً بنوعية عالية الجودة من القمح أعطت إنتاجاً رائعاً، فجاء وزير الزراعة يوسف والي ليرى التجربة ووعد بتقديم جائزة للأستاذ، وبعد أيام فوجئنا بالبلدوزرات تقتلع القمح وحولت المزرعة إلى خرابة وكان الذي أرسلها هو يوسف والي وزير الزراعة حينها».[[10]] وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أنه كان هناك إمكانية لحل مشكلة الفجوة الغذائية من القمح في مصر، ولكن الإرادة السياسية للنظام لم تكن تريد لمصر أن تحقق الاكتفاء الغذائي، وفضلت استمرار التبعية الاقتصادية للدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وغيرها؛ معنى ذلك أن مبارك فضَّل أن تبقى مصر تحت رحمة الأجانب خوفا من أن تنقلب عليه أمريكا.
  • ثالثا، يبرهن على ذلك أيضا، أن الرئيس الشهيد الدكتور محمد مرسي، عندما أعلن بوضوح كامل أن برنامجه يقوم على تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء والدواء والسلاح، انقلبوا عليه بعد عام واحد فقط بالحكم رغم أنه الرئيس الوحيد في تاريخ مصر الذي جرى انتخابه بإراردة الشعب الحرة النزيهة. ثم بعد ذلك ساموه سوء العذاب ولفقوا له التهم الكيدية حتى لقي ربه شهيدا بعد ست سنوات في سجون الجنرالات  في يونيو 2019م.

الخلاصة أن ارتفاع أسعار القمح عالميا جعلت نظام السيسي يواجه مشكلة مزدوجة، من جهة أولى تتعلق بتوفير القمح بوصفه عنصر الغذاء الرئيس على مائدة المصريين. ومن جهة ثانية، متصلة بارتفاع سعره، مما يشكل ضغوطا كبيرة على الموازنة التي تعاني من العجز المستمر، وستنعكس بالسلب على أسعار الغذاء في مصر وارتفاع التضخم.

وارتفاع أسعار القمح عالميا تعزز انتهاز الحكومة للفرصة وفرض قرار برفع أسعار الخبز المدعوم، فالحكومة تدرس منذ شهور قرارا بهذا الشأن، لكنها كانت تخشى العواقب على الأمن الداخلي في ظل تزايد معدلات الفقر وتراجع دخول المواطنين في أعقاب اتفاق الحكومة مع صندوق النقد الدولي في نوفمبر 2016م، وزادت أوضاع المواطنين سوءا بتفشي جائحة كورونا، لكن نظام السيسي ــ على ما يبدو ــ لا يكترث لهذه المعطيات، والبرهان على ذلك أن حصيلة الضرائب في العام المالي 2020/ 2021 زادت بنحو 97 مليار جنيه عن العام الذي قبله ما يعني أن النظام لم يراع ظروف المواطنين في أزمة كورونا ومارس نفس سياساته الجبائية. وخصصت الحكومة 3.3 مليار دولار من موازنة 2021-2022 لدعم الخبز، بزيادة نحو 300 مليون دولار عن العام الماضي. وتضم منظومة التموين أكثر من 70 من سكان مصر، البالغ تعدادهم 102 مليون نسمة. وهناك مخاوف من أن خطوةً مثل هذه قد تُؤجّج الغضب في الشارع المصري، خاصةً مع ارتفاع أسعار السلع الأخرى -وبالتحديد المواد الغذائية- في مختلف الأسواق المحلية. وبحسب محمد العسقلاني، رئيس جمعية “مواطنون ضد الغلاء” غير الحكومية، لموقع “ميدل إيست آي” البريطاني فإن «الحكومة  ستواجه خطراً كبيراً في حال قرّرت رفع أسعار الخبز. ومن المحتمل أن يتسبّب الغضب العام حينها في تهديد أمن الدولة».

رفع أسعار الخبز يتفق مع توجهات السيسي التي أعلن عنه في أغسطس 2021م، عندما قال إن “خفض دعم رغيف الخبز أصبح مسألة وقت وسيكون كبيرا، والحكومة تسعى لخفضه من أجل تخفيف الضغط على الموازنة”. وأضاف أن الوقت حان لزيادة سعر رغيف الخبز المدعم، وإعادة تسعيره مرة أخرى، مشيرا إلى أن “رغيف الخبز يكلف الدولة 65 قرشا، وهذا الأمر (الدعم) يجب أن يتوقف”. وقد يكون دعم الخبز بطرق ملتوية وغير مباشرة مثل حرمان المواليد الجدد والأطفال بعد طفلين من عدم أسرهم، وحذف عدد إضافي من المستفيدين، وخفض وزن رغيف الخبز.

توجهات النظام برفع سعر الخبز مدفوعة باعتبارات سياسية لها علاقة بطبيعة الاقتصاد السياسي الذي يهمين عليه العسكر، والذي يعتمد على الدين بدلاً من استغلال العمل كمحرك للنمو الاقتصادي. ويتوقع أن تؤدي زيادة سعر الخبز إلى رفع معدلات الفقر ما بين أربعة إلى خمسة بالمائة، وهي الزيادة الثالثة في أسعار الخبز التي يفرضها السيسي، بعدما جاءت الزيادة الأولى في 2017م بخفض وزرنه من 130 جراما إلى 110 جراما. ثم الزيادة الثانية في أغسطس 2020مـ، بخفض وزنه مرة آخرى من 110 جراما إلى 90 جراما. ووفقاً لبيانات الموازنة العامة للدولة، كانت قيمة الدعم لرغيف الخبز في العام المالي 2018-2019 نحو 42.3 مليار جنيه، وبلغ عدد المستفيدين 74 مليون فرد. وتطورت قيمة الدعم المخصص لرغيف الخبز خلال السنوات المالية التالية، حتى وصلت في العام المالي الحالي إلى 44.9 مليار جنيه، فيما بلغ عدد المستفيدين 66.7 مليون فرد.

كما ستفضي أسعار القمح المرتفعة إلى رفع أسعار خبز “الفينو” الذي تنتجه مخابز خاصة ويستخدم في صناعة الساندويتشات لتلاميذ المدارس؛ حيث يستورد القطاع الخاص في مصر نحو 5 ملايين طن قمح سنويا، وهو ما يرهق الأسر المصرية من الطبقتين الفقيرة والمتوسطة.

سيترتب على ارتفاع أسعار القمح عالميا زيادة تكلفة فاتورة الاستيراد، وفي ظل تراجع إيرادات الدولة فإن النظام سيلجأ كعادته إلى المزيد من الاقتراض الخارجي، لا سيما من صندوق النقد الدولي تحت شروط أبرزها المزيد من تقليص الدعم القائم.

الأهم أنه يتعين على النظام أن يتخلى عن توجهاته العليا  التي لا تعتبر الاكتفاء الذاتي من الغذاء أولوية عليا لحماية الأمن القومي للبلاد، وأن يدرك أن مصلحة الوطن تستوجب عدم الإذعان للقوى الخارجية ومؤسسات التمويل الدولية المحكومة من هذه القوى.  فالاكتفاء الذاتي من الغذاء يؤدي إلى التقليل من مستوى التبعية السياسية والاقتصادية للدول الأخرى وبالتالي تحقيق درجة أعلى من الاستقلالية للبلاد في قراراتها ومواقفها الدولية والداخلية، والاكتفاء الذاتي لا يعني بأي حال من الأحوال وقف أو قطع التبادل التجاري مع الدول الأخرى وإنما إعداد وتأمين شروط وظروف داخلية وطنية لتحقيق ربحية أعلى للتبادل الاقتصادي عبر قنوات تقسيم العمل الدولي وذلك رغبة منه في تنمية الإنتاج المحلي كما ونوعا.

كما يتعين تقديم المزيد من الدعم للمواطنين خلال هذه الفترة الحرجة، ما يعني أن قرارا برفع الخبز سيكون بالغ الخطورة في ظل هذه الظروف، وإن كان ذلك لا يمنع من  «ضرورة إعادة النظر في آليات الدعم الحالية لضعف كفاءتها وتبعاتها السلبية على الإنتاج الزراعي المحلي، وتردي الخبز المدعوم والفساد المنتشر في منظومة الدعم. والبديل هو تحويل الدعم من عيني إلى نقدي مع ربط ذلك بالأسعار العالمية فيرتفع الدعم بارتفاعها ويقل بانخفاضها. وأن يتم توجيه الدعم إلى المزارعين من أجل تنشيط القطاع الزراعي وحماية مصر من مآلات كارثية لغياب الإرادة السياسية في ملف الاكتفاء الذاتي من الغذاء. كما أن هناك حاجة إلى تغيير العادات الاستهلاكية بحيث يتوجه الناس في عالمنا العربي إلى التخفيف من استهلاك الخبز في الوجبات التي تحتوى على مواد غذائية متشابهة المحتوى كالأرز والبرغل والبطاطس».[[11]]

معنى ذلك أن وضع إستراتيجية لتحقيق الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي من الغذاء هي أولوية مطلقة من خلال دعم الفلاح المصري واهتمام الدولة بالزراعة وزيادة مخصصات مراكز البحوث الزراعية، ومشاركة القطاع الخاص في مشروعات الزراعة. إضافة إلى خلق الوعي الاستهلاكي بين المواطنين والعمل على العادات السيئة المنتشرة في مجتمعانا التي تساهم في خلق سياسة الإسراف في الغذاء. والعمل على مواجهة الزيادة السكانية بفتح المزيد من المشروعات الإنتاجية لزيادة الإنتاج والقضاء على البطالة بدلا من المشروعات المعمارية (العاصمة الإدارية ــ العلمين الجديدة وغيرها) التي يتم إهدار تريليونات الجنيهات عليها بلا جدوى اقتصادية. والسعي لتحقيق الزراعة التعاقدية واستهداف زيادة الإنتاج من المحاصيل الإستراتيجية.

 

 

[1] «قيود روسية» تشعل أسواق القمح الأوروبية/ الشرق الأوسط ــ الجمعة 12 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15690]

[2] “تهديد لملايين الفقراء”.. هكذا تتضرّر مصر بشدة من ارتفاع أسعار القمح عالمياً، وهذه خيارات الدولة لحمايتهم/ عربي بوست ــ 12 نوفمبر 2021م

[3] محرم الجهيني/ الزراعة التعاقدية لـ «القمح» تجنب مصر مخاطر أزمة نقص الغذاء العالمية/ بوابة أخبار اليوم ــ الثلاثاء، 19 أكتوبر 2021

[4] أكبر مستورد في العالم.. هل ستواجه مصر أزمة في توفير القمح؟/ الجزيرة نت ــ 18 أكتوبر 2021م

[5] مصر تتجه لـ«لاتفيا» كمنشأ جديد لاستيراد القمحالمصري اليوم نقلا عن رويترز ــ  الجمعة 29 أكتوبر 2021م

[6] أزمة القمح تدفع الحكومة المصرية للمرة الأولى لهذا القرار/ “عربي 21” ــ  السبت، 13 نوفمبر 2021

[7] أميرة عاصي/ زيادة أسعار القمح محليا مع موجة الارتفاعات العالمية بنسبة 50%/ بوابة الشروق ــ الثلاثاء 2 نوفمبر 2021

[8] أزمة القمح تدفع الحكومة المصرية للمرة الأولى لهذا القرار/ “عربي 21” ــ  السبت، 13 نوفمبر 2021

[9] ممدوح الولي/ مكانة متميزة للولايات المتحدة في الاقتصاد المصري/ “عربي 21” ــ الأحد، 08 نوفمبر 2020

[10] من سلة غذاء العالم إلى دولة مستوردة للغذاء.. أين ذهب قمح مصر؟/ مجلة تبيان

[11] تحليل: ارتفاع تكاليف استيراد القمح وتحديات دعم سعر الخبز/ دويتش فيله الألماني ــ 08 نوفمبر 2021م

 

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022