جاء مشهد افتتاح عبد الفتاح السيسي “مسجد مصر الكبير”، و”المركز الثقافي الإسلامي”، بالعاصمة الادارية الجديدة، في أول ليالي رمضان، لتعيد للواجهة ترهات السيسي الدينية ومشروعه لتسييس الدين لخدمة استبداده، والخلافات التي لم تتوقف منذ سنوات بين السيسي وشيخ الأزهر أحمد الطيب، حول الرؤى الدينية للسيسي، في إطار إخضاعه كافة مؤسسات الدولة الدينية والثقافية والسياسية..
أيضا عبر الافتتاح الملكي لـ”مسجد مصر الكبير” عن كم كبير من الإنفاق البذخي للسيسي في وقت يعاني فيه المصريون من أزمات اقتصادية كبيرة، تستوجب ترشيد الإنفاق، بدلا من الإسراف على تشييد مسجد كبير بالقرب من مسجد “الفتاح العليم”، وسط تصريحات مستفزة من السيسي بالتوجيه نحو التوسع في بناء مساجد كبيرة بالمحافظات..في وقت تغلق فيه آلاف المصانع والشركات، على وقع الأزمات المالية والاقتصادية التي تعيشها الدولة المصرية..
دلالات المشهد:
أولا: مساجد فارهة رغم الأزمات الاقتصادية:
وعلى الرغم من أزمات الاقتصاد المصري الكارثية، بنى السيسي مسجد مصر الكبير في العاصمة الإدارية الجديدة، على مساحة 19 ألفاً و100 متر مربع، ونفذته شركة “المقاولون العرب” تحت إشراف الهيئة الهندسية للقوات المسلحة (الجيش)، بتكلفة تخطت 800 مليون جنيه.
واستمع السيسي إلى حديث لأحد قيادات الجيش، أكد فيه حصول “مسجد مصر” على 3 شهادات من موسوعة غينيس للأرقام القياسية، الأولى بشأن أكبر منبر في العالم مصنوع يدوياً بارتفاع 16 متراً، والثانية والثالثة للنجفة الرئيسية بوصفها أثقل نجفة في العالم بوزن 50 طناً، والأكبر بقطر 22 متراً على 4 أدوار.
ويسع المسجد الواقع في قلب الصحراء لنحو 130 ألف مصل، ويحتوي على 3 مداخل رئيسية تعلوها قبب إسلامية، بالإضافة إلى مدخل خدمي رابع.
ويتكون المسجد من صحن للصلاة بمساحة 9600 متر مربع، تعلوه قبة إسلامية رئيسية بقطر داخلي 29.5 متراً، و6 قاعات تبلغ مساحة القاعة الواحدة 350 متراً مربعاً، تعلو كل منها قبة إسلامية.
ويواجه السيسي اتهامات بإهدار أموال الدولة على بناء القصور الرئاسية والمساجد الفخمة، عوضاً عن تطوير المدارس والمستشفيات، وخدمات البنى التحتية المتدهورة في البلاد.
وتضم العاصمة الإدارية الجديدة، التي تقع على بعد 45 كيلومتراً شرق العاصمة القاهرة، واحداً من أكبر المساجد على مستوى العالم، وهو مسجد الفتاح العليم المقام على مساحة 106 أفدنة، بينها فدانان تقريباً لمبنى المسجد الذي تعلوه 21 قبة، ويضم 7 قاعات مناسبات. وافتتحه السيسي في يناير 2019، بالتزامن مع افتتاح كاتدرائية “ميلاد المسيح” يوم عيد الميلاد.
فيما تواجه مصر أزمة اقتصادية طاحنة جراء فقد عملتها أكثر من نصف قيمتها في غضون عام، ومواجهة الجنيه ضغوطاً شديدة تدفعه إلى مزيد من التراجع، إثر تسجيل الدولار 41 جنيهاً في العقود الآجلة، مقارنة مع سعر رسمي يبلغ 30.95 جنيهاً في البنوك. ويعاني المصريون من ارتفاع مستمر في أسعار جميع السلع والمنتجات الأساسية، وتراجع دخولهم بصورة غير مسبوقة بفعل التضخم، الذي ارتفع معدله إلى 40.3% خلال فبراير الماضي، مقارنة مع 31.2% في يناير السابق عليه، وفقاً لبيانات البنك المركزي المصري.
ثانيا: إهانات لشيخ الأزهر بالعاصمة الجديدة:
وقد شهدت فعاليات حفل الافتتاح للمسجد والمركز الثقافي بالعاصمة الإدارية، عدد من المواقف المسيئة لشيخ الأزهر والمؤسسة التي يملها؛ منها:
- تقديم أسامة الأزهري على الشيخ الطيب:
وكان من الأمور اللافتة، ذي الدلالات الكاشفة، هو الحضور اللافت لمستشار السيسي للشؤون الدينية، الشيخ أسامة الأزهري، على حساب ظهور شيخ الأزهر أحمد الطيب.
حيث بدأ الأزهري هو من يرافق السيسي ويشرح له التفاصيل الانشائية للمسجد والمركز وأهدافه الإسلامية، فيما اقتصر موقف الطيب على سلام باهت من السيسي دون أن يعطيه اهتماما يذكر، خلال فعاليات الافتتاح، سوى من كلمة قصيرة متأخرة بوقتها، عطلت أذان الفجر في وقته.
ولم تتعدَّ خطبة شيخ الأزهر إلا دقائق معدودة خلال الاحتفال الذي استمر 3 ساعات فجر اليوم الأول من رمضان، قبل دقائق معدودة من الأذان داخل “مسجد مصر”، مما بعث مؤشرات على أن الخطبة كانت بمثابة حدث هامشي، وتسببت في تأخير رفع أذان الفجر، وظهر على شيخ الأزهر، أحمد الطيب، بوادر عدم الارتياح، خصوصاً أنه قال كلمته التي لم تخلُ من رسائل سياسية على عجل.
فقد أكد شيخ الأزهر أن “العلم النافع في الإسلام، الذي ينجي صاحبه يوم القيامة هو العلم الذي قُصد به وجه الله ونفع الإنسان، وكل ما خرج عن هذه الغاية ضلالة وضياع، كما أن العبادة التي لا ترتبط بهذا الهدف النبيل هي هباء في مهب الريح”.
وتماشى المغزى من الحديث حول جدال واسع في المجتمع المصري حول أهداف المركز وتكلفته الباهظة التي بلغت 800 مليون جنيه، في وقت تعاني فيه البلاد أزمة اقتصادية طاحنة.
- تعظيم دور المركز الثقافي على حساب مؤسسة الأزهر، والتي تم تهميشها ابتدءا:
كما أن إنشاء المركز والترويج له، باعتباره نافذة للمعرفة والخطاب الديني المستنير، إذ ارتبط هذا التوصيف بمؤسسة الأزهر على مدار تاريخها الذي يتجاوز ألف عام من الزمان.
ومن خلال المقدمات ومعطيات وقائع العلاقات بين السيسي وشيخ الأزهر، يبدو أن الهدف من إنشاء المركز والمسجد الكبير.سيلعبان دورا على حساب الأزهر الشريف، الذي يسعى السيسي منذ وقت لتحييد الأزهر عن قضايا المجتمع المصري.
كما أن السيسي يستهدف الترويج لنفسه بالمنطقة، وتقديم نفسه كراعي للوسطية والاسلام ومحاربة التطرف والإرهاب..من خلال الترويج لنشر التعاليم الدينية الوسطية؛ ليكون امتداداً للدور الذي تلعبه مصر منذ تأسيس الأزهر الشريف، وأن المركز سيتولى مهام مرتبطة بدعم مسألة تجديد الخطاب الديني، ليكون بمثابة منارة ثقافية دينية بديلة، تتماشى مع الحداثة التي تمثلها العاصمة الإدارية الجديدة.
وعلى الرغم من أن الأزهر الشريف يعد أقدم وأهم مؤسسة دينية في مصر- تأسس عام 972 ميلادية، إلا أن المركز يستهدف الاضطلاع بنفس المهام، متجاوزا دور الأزهر، الذي باتت أفكار شيخه وعلمائه لا تتوافق مع رؤية السيسي، وهو ما بدا واضحا في تقديم شخصية أسامة الأزهري على شخصية شيخ الأزهر.
ويتولى الأزهر الشريف بالفعل مهمة نشر الثقافة الإسلامية داخلياً وخارجياً من خلال المعاهد الأزهرية الموجودة في كل أنحاء مصر.
والأزهر الشريف يعد أقدم مؤسسة في مصر وأهمها وينص الدستور في مادته السابعة على أن “الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة، يختص دون غيره بالقيام على كل شؤونه، وهو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشئون الإسلامية، ويتولى مسئولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم، وتلتزم الدولة بتوفير الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه، وشيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، وينظم القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء..
لذلك جاء الحديث عن هيئة جديدة تتمثل في مركز مصر الإسلامي؛ لتتولى نشر سماحة الدين الإسلامي على المستوى الخارجي، لتأكيد هذا التوجه نحو تنحية أو تهميش دور الأزهر الشريف.
- ابتعاد الأزهر عن خطوات تأسيس المركز الثقافي:
وتبقى الدلالة الأكبر على تهميش الأزهر، هو إبعاد الأزهر عن خطوات تأسيس المركز الإسلامي وعلى الرغم من أن المعلن هو أدوار المركز الجديد تتكامل مع مهام مؤسسة الأزهر التي تُعد الهيئة الدينية الأكبر في البلاد، وأن مرجعيته الرئيسية تتمثل في نشر مبادئ الإسلام الوسطي، وأن إدارة المركز منبثقة من المشيخة، لكنها تخضع لإشراف الرئاسة المصرية من خلال الشيخ أسامة الأزهري. وفي الظاهر يبدو أن المركز لا ينتقص من دور الأزهر، لكنه الباطن ليس كذلك، حيث جرى إبعاد الأزهر عن خطوات تأسيسه.
فيما يتركز اهتمام الأزهر على عدم المساس بالثوابت الدينية، وإذا قام المركز الإسلامي بدوره في نشر صحيح الدين، فإن ذلك يدعم أدوار المؤسسة الدينية، وكذلك أدوار القوى الناعمة المصرية في الخارج، والتي تشكل أداة مهمة لتعريف العالم بالمنارات الإسلامية على الأراضي المصرية.
ثالثا: ملفات ملتهبة بين الطيب والسيسي:
وسبق ذلك محاولات عديدة لـ”قصقصة أجنحة” المؤسسة الدينية الأكبر في مقدمتها؛ مساعي تعديل قانون الأزهر بما يتيح لرئيس الجمهورية إقالة شيخ الأزهر من منصبه، إلى جانب فصل دار الإفتاء عن وزارة العدل ومنحها الاستقلالية، وأصبح اختيار المفتي من اختصاص الرئيس بدلاً من هيئة كبار العلماء.
- النزاع حول الطلاق الشفوي وقانون الأحوال الشخصية:
كان النزاع حول ما يُعرف بالطلاق الشفوي أحد المحطات الرئيسية للخلافات بين السيسي وشيخ الأزهر. وعند اندلاع الخلاف بين السيسي والإمام حول الطلاق الشفوي ظهرت مطالبات إعلامية باستقالة الطيب، بسبب إصراره على وقوع الطلاق الشفوي، ورفض مطلب السيسي بعدم اعتبار الطلاق نافذاً إلا في حال توثيقه. ولا يمكن افتراض أن دعوة عمرو أديب لاستقالة شيخ الأزهر عام 2017 بسبب الطلاق الشفوي مجرد حماسة من الإعلامي المحسوب على الدولة، أو موقف تقدّمي من الرجل الذي سبق أن دافع عن مبارك، ثم عاد وانتقد فور سقوط حكمه.
ورغم الهجمة الإعلامية الكبيرة التي تعرّض لها شيخ الأزهر، وتجديد السيسي للحديث في الموضوع خلال احتفالية عيد الشرطة، في 25 يناير 2017، وضرورة تقنين الطلاق الشفهي “لإعطاء الناس فرصة لمراجعة أنفسهم بدلاً من أن يتم الطلاق بكلمة يقولها الزوج، هكذا في أي لحظة”، فقد أصرّ الشيخ على موقفه. ففي مواجهة كلام الجنرال اعتصم الشيخ بمؤسسته وما يوصف بإجماع العلماء، وصدر عن هيئة كبار العلماء بالأزهر بيانٌ، بَدَا فيه الأزهر مُصراً على موقفه، ولكنه في الوقت ذاته أعطى بعض الحقوق للسلطة السياسية في المسألة المثيرة للجدل.
إذ قال البيان إن الأزهر يُصر على وقوع الطلاق الشفهي، إلا أنه يشير في الوقت ذاته إلى حق “ولي الأمر”، أي الحاكم السياسي شرعاً، باتخاذ إجراءات لتوقيع عقوبة على مَن لا يوثّق الطلاق الشفهي.
وأكد بيان الهيئة “وقوع الطلاق الشفهي المستوفي أركانه وشروطه، والصادر من الزوج عن أهلية وإرادة واعية، و بالألفاظ الشرعية الدالّة على الطلاق، وهو ما استقرَّ عليه المسلمون منذ عهد النبيِّ… دونَ اشتراط إشهاد أو توثيق“ وانتهى البيان إلى أن هذا الرأي هو: “الرأي بإجماع العلماء على اختلاف مذاهبهم وتخصصاتهم“. وردَّت الهيئة على كلام السيسي قائلة إن “ظاهرة شيوع الطلاق لا يقضي عليها اشتراط الإشهاد أو التوثيق، لأن الزوج المستخفّ بأمر الطلاق لا يعيبه أن يذهب للمأذون أو القاضي توثيق طلاقه“.
ولكن السيسي لم يتوقف، أو يستسلم لرأي المؤسسة الأكبر في مصر، فلجأ إلى مؤسسة دار الإفتاء ، التي قبل شوقي علام، المفتي العام، برؤية السيسي، عبر إيجاد مخارج دينية لآراء السيسي، التي ضمنها في قانون الأحوال الشخصية الجديد، الذي قدمته الحكومة للبرلمان متجاهلة مشروع القانون المودع البرلمان لدراسته، وتم تقنين عدم الاعتراف بالطلاق الشفوي، وهو ما تبرأ منه شيخ الأزهر، خلال مارس 2023.
ومثل قرار السيسي عدم الاعتداد بالطلاق الشفهي بعيدا عن الأزهر خلال احتفاله بيوم الأم قمة التحدي رأي المؤسسة الدينية. وأعاد السيسي الخلاف مع الأزهر إلى الواجهة مرة أخرى بتأكيده أن مسألة إلغاء الطلاق الشفهي واستبداله بالطلاق الموثق أصبحت أمراً لا مفر منه، في تحدٍّ واضح وصريح لآراء هيئة كبار العلماء التي أدلت برأيها في تلك القضية خلال العام 2017، ومنح السيسي مجلسَ النواب الضوء الأخضر لتمرير قانون الأسرة المصرية الذي يتضمن إلغاء الطلاق الشفهي، وذلك خلال مشاركته في احتفالية المرأة المصرية. ويتضمن القانون المقترح بنوداً حول الاعتراف فقط بالطلاق الموثق، وعدم الاعتراف بالطلاق الشفهي ما لم يتم توثيقه،
وقد نجح السيسي في ازاحة الأزهر عن تصدر مشهد تعديل قوانين الأحوال الشخصية ذات الارتباط المباشر بالأسرة خلال الاحتفالية التي غاب عنها شيخ الأزهر أحمد الطيب، وكان فاعلاً فيها مفتي الديار المصرية شوقي علام، وأن تأكيده على أنه سيتحمل الذنب إذا جرى تمرير القانون يعد بمثابة مطلب مباشر من الأزهر؛ لأنه يبتعد عن القضية، بعد أن وقف الأزهر ضد قانون حاولت الحكومة تمريره في البرلمان منذ عامين وأظهر تحدياً واضحاً للسلطة.
- مرجعية السُّنة النبوية :
كان الموقف من السنة النبوية واحداً من أهم الخلافات بين السيسي وشيخ الأزهر حيث طالب السيسي بإصلاح الخطاب الديني، ورغم أن السيسي لم يدخل في التفاصيل، ولكن ما فُهم من تصرفات النظام أن لديه موقفاً من السنة النبوية.قد يكون هذا الموقف لأسباب ليست دينية في الأساس، ولكن قد يكون للأمر بُعد أمني وسياسي، باعتبار أن كثيراً من المرجعيات الدينية للجماعات المعارضة، سواء معتدلة أو متطرفة نابعة إلى حد ما من تفسيرات للسنة النبوية.
فُهم موقف النظام من هذه القضية من خلال سماحه بتلميع خطاب معادٍ للسنة النبوية وتصرفات مثل العفو عن إسلام البحيري، أشهر منتقدي صحيح البخاري بعد الحكم بالسجن عليه، وأحاديث وزير الأوقاف المقرب للسيسي، المطالبة بتجديد السنة النبوية وفقاً لمتطلبات العصر. ولكن رد شيخ الأزهر كان مدوياً.
فقد وقف الرجل في أحد الاحتفالات بذكرى المولد النبوي موجهاً نقداً شديداً للمنكرين للسنة النبوية، بينما يجلس السيسي وحاشيته مضطرين لسماع هذا الكلام كالتلاميذ المشاغبين في حضرة شيخهم.
وكان نقد الطيب لمنكري السنة النبوية الذي استمر أكثر من عشر دقائق لاذعاً وربط بينهم وبين الاستعمار. إذ قال إن الدعوة لتهميش وإنكار السنة النبوية، والاعتماد على أخذ الدين من القرآن فقط بدأت في الهند في القرن التاسع عشر، من قِبل عدد من المفكرين المرتبطين بالاستعمار، ومنهم من ادّعى النبوة.
وحذَّر من أن هذه الدعوة تعني ضياع ثلاثة أرباع الدين، لأن سلخ القرآن عن السنة يضعه في مهبّ الريح، ويفتح الباب للعبث بآياته وأحكامه وتشريعاته.
وضرب لذلك مثلاً بالصلاة، التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام. مشيرا إلى أنه من المعلوم أن الصلاة ثابتة بالقرآن، ولكن لا توجد آية واحدة في طول القرآن وعرضه يتبيّن منها المسلم كيف يصلي. فهذه التفاصيل لا يمكن معرفتها إلا من السنة النبوية، التي هي المصدر الثاني من مصادر التشريع في الإسلام.
ثم تطرّق شيخ الأزهر للعلاقة بين منكري السنة وبين الجهاد، وهي مسألة حساسة للسيسي والأجهزة الأمنية. إذ قال: “وفي هذا الاتجاه سار كثير من المقربين للاستعمار في الهند، فأنكروا آيات الجهاد، و أفتوا بحرمة محاربة الاحتلال، وأنكروا كل ما تنكره الثقافة الغربية ولو كان ديناً، وأثبتوا ما تُثبته هذه الثقافة حتى لو جاء صادماً للإسلام وإجماع المسلمين”.
وقوبل حديث شيخ الأزهر بتصفيق الحضور، وتأييد شعبي واسع النطاق، لكن السيسي لم يسكت. فأثناء إلقاء كلمته، أضاف تعليقات مرتجَلة إلى النص المُعَدّ مسبقاً، حسب تقرير لمركز كارنيغي، مؤنِّباً الطيب بصورة غير مباشرة إنما بكلام واضح لالبس فيه.
ولم يُشكّك السيسي في صحة الحديث (فهذا جسرٌ لم يكترث السيسي لعبوره)، لكنه اعتبر أنه لا أهمية للمشكلة، منبّهاً إلى أن التهديد الحقيقي لا يتأتى من التشكيك بالحديث بل من التفسيرات المشوَّهة للدين. فقد قال السيسي: “الإشكالية في عالمنا الإسلامي حالياً ليست في اتباع السنّة النبوية من عدمها، لكن المشكلة هي القراءة المخطئة لأصول ديننا”، قبل أن يسأل: “مَن أساء إلى الإسلام أكثر: الدعوة إلى ترك السنّة النبوية أم الفهم المخطئ؟”.
- تكفير الجماعات المسلحة:
وهي إحدى المعارك الرئيسية بين الأزهر وشيخه وبين السييسي ومؤسساته، وهي قضية لها بُعد خارجي في ظل انتشار آفة الإرهاب في العالم كله. فعقب المجزرة الإرهابية التي وقعت في نوفمبر عام 2018، في مسجد قرية الروضة في بئر العبد بشمال سيناء، عادت سهام الأذرع الإعلامية، بما في ذلك ما يُوصف بالكتائب الإلكترونية للأجهزة الأمنية المصرية لتنتقد الأزهر وشيخَه بصورة أشدّ من ذي قبل، لعدم تكفيره “داعش”، رغم إدانته للجريمة، وتأييده لما يقوم به الجيش والشرطة. وعادت هذه المطالب بتكفير “داعش” تحديدا بعد رفض وكيل الأزهر الشيخ عباس شومان آنذاك لتكفير التنظيم المتطرف. إذ قال في مداخلة هاتفية في برنامج تلفزيوني: “الأزهر لا يمكنه تكفير مُنفِّذي حادث مسجد الروضة، فالأزهر لا يُصدر أيَّ أحكام، لأن ذلك يفتح أبواباً لا يمكن غلقها“. وشنّ عمرو أديب هجوماً شديد اللهجة على الأزهر وشيخه، ودعا إلى مساءلة شيخ الأزهر، واستدعاء البرلمان له وسؤاله عمّا فعل لمواجهة الإرهاب.
وقال: “الأزهر عمل إيه، ووكيل الأزهر بيقول دول ضالين وخلاص وفكرهم فاسد هنعمل لهم إيه؟ إمال إنت هتعمل إيه؟ وفين خطط الأزهر لمواجهة الإرهاب؟ هو إيقاع الأزهر ده هو إيقاع المرحلة“.
- المسئولية عن أخلاق المجتمع ودينه:
ومن ضمن الملفات الخلافية، بين الطرفين، التي أعلنها تكرار السيسي بأنه هو المسئول عن أخلاق المصريين ودينهم..فيما يرى شيخ الأزهر أن السلطة السياسية للسيسي متوغلة في أمور دينية بمنظور قد يضر بالدين نفسه فيما مقاربة الأزهر الحذرة للإصلاح الديني وتمسّكه باستقلالية المؤسسة، يتنافيان مع جهود السيسي المحلية والدولية الرامية إلى تنصيب نفسه نموذجاً للاعتدال ورأس الحربة في استئصال الإرهاب.
ففي الخلاف حول ضرورة توثيق الطلاق لكي يكون نافذاً كما يريد السيسي، الطريقة، نصّب السيسي نفسه مدافعاً عن الأسرة المصرية ونصير حقوق المرأة المصرية في آن واحد، حسب تقرير لموقع كارنيغي. فالخلاف بين السيسي والطيب دينيٌّ وسياسي على السواء، يتمحور حول القيادة والأدوار النسبية لكل من السلطات المدنية التي تقود المنظومة السياسية، والعلماء الدينيين المدرَّبين على تفسير النصوص.
ويقود الجانبان حرباً طاحنة في المواقف من الإشراف على الخطب الدينية في المساجد، إلى إصدار الفتاوى، وإصلاح المنهاج المستخدَم في تدريب الأئمة. الخلاف ليس فقط لأن الأزهر مازال المؤسسة الوحيدة التي تحتفظ ببعض الاستقلال في دولة أحكم الأمن قبضته على كل شيء، ولكنه خلاف بين رجل دين يعتبر نفسه أميناً على أعرق مؤسسة إسلامية في زمان محنة وبين رجل سياسة يعتبر نفسه فيلسوفاً مؤهلاً ليوجه المجتمع أخلاقياً وسلوكياً ودينياً.
فعلى الرغم من تظاهر السيسي بتدينه، إلا أنه أكبر خصومه هو الإسلام السياسي الذي انقلب عليه السيسي بعدما تقارب مع الإخوان بناء على هذه الخلفية الدينية على الأرجح. وبالتالي هو يريد الدخول مع هذا الإسلام السياسي في منافسة لإعادة تفسير التراث الديني، وهو أمر يقف الطيب حائلاً ولو جزئياً أمام تحقيقه، علماً بأن مواقف الطيب الرافضة لهيمنة السلطة على المجال الديني لا تأتي من تعاطف محتمل مع الإسلام السياسي، الذي كان الطيب خصمه في ذروة قوته.
- رغبة السيسي في عزل شيخ الأزهر:
ومنذ سنوات، ترددت أنباء مرات عدة عن احتمال عزل شيخ الأزهر، أو إجراء تعديل دستوري مثل الذي اقترح في بداية 2019 ولا يبقيه مدى الحياة في منصبه، على غرار كل مناصب الدولة (رغم أن العرف في معظم المناصب الدينية في العالم أن تكون بنوع من الانتخاب أو الاختيار، مع البقاء مدى الحياة، مثل الفاتيكان والكنيسة القبطية والمرجعيات الشيعية وقبيل التعديلات الدستورية التي مررت عبر استفتاء في أبريل 2019، ومدّدت ولاية السيسي، قدّم النائب السابق محمد أبو حامد اقتراحاً في هذا الإطار.
ولكن اللافت أنه سرعان ما تم نفي احتمال أن تتضمن التعديلات الدستورية إمكانية عزل شيخ الأزهر، أو إلغاء تحصين المنصب، وأن يكون منصبه لفترة محدودة. وبدا هذا مجرد إنذار من الجنرال للشيخ. ونقل موقع “مدى مصر” عن مصادر قريبة من مشيخة الأزهر إن وساطة مشتركة قام بها وزير خارجية الإمارات، عبدالله بن زايد، والرئيس المؤقت سابقاً عدلي منصور، أدت إلى إلغاء إدراج الأزهر في التعديلات الدستورية التي أجيزت في فبراير 2019.
إذ تم التوافق على خطوات متوازية بين كل من السلطة التنفيذية ومشيخة الأزهر، لحذف مادة كانت قد اقترحت في التعديلات الدستورية، التي نظرها البرلمان، كان من شأنها أن تُنهي استقلال الأزهر بالعودة إلى وضع سلطة اختيار شيخه الأكبر في يد رئاسة الجمهورية، كما كان الحال قبل 2012، وإنهاء اختياره بالانتخاب من قبل هيئة كبار علماء الأزهر. وقبل ذلك كان النائب محمد أبو حامد المحسوب على الأجهزة الأمنية قد طرح في عام 2017، مشروع قانون يحدد مدة ولاية شيخ الأزهر ويمكن من محاسبته، كما يقترح المشروع فصل الكليات غير الدينية عن الأزهر إضافة إلى جعل هناك دور للدولة في إدارته عبر ممثلين لوزارات وشخصيات عامة، ولكن سرعان ما تم التراجع عن المقترح بل تبرأ منه بعض مؤيديه في البرلمان. ولكن العقوبة الحقيقية لشيخ الأزهر لم تكن العزل، بل محاولة فرض العُزلة عليه.
بدأ ذلك من خلال إقالة كبار مساعديه وأبرزهم عباس شومان. فقد قاوم الطيب خطة السيسي وأجهزته الأمنية للسيطرة على الأزهر بمساعدة رجاله المخلصين، وعلى رأسهم وكيل الأزهر السابق الدكتور عباس شومان، والمستشار القانوني للمشيخة السابق محمد عبدالسلام، لكن مقاومته لم تستمر طويلاً، إذ نجحت الأجهزة الأمنية في إقناع السيسي بعدم التجديد لشومان في منصبه، كما تم الضغط على الطيب لعدم التجديد لعبد السلام، وبذلك فقد الشيخ قطبين مهمين كان يعتمد عليهما في المشيخة.
وتردد أن الطيب قبل بإقالة الرجلين ضمن الصفقة التي تمت بوساطة إماراتية أدت إلى تخلي السيسي عن فكرة إلغاء استقلال الأزهر، التي كانت ستُدرج بالتعديلات الدستورية ولكن الأسلوب الثاني للعقاب كان فرض العزلة الإعلامية، ووصل الأمر إلى أن شيخ الأزهر شكا من الاضطهاد الإعلامي وهذه العزلة الإعلامية، قائلاً إن القنوات ترفض ظهور علمائنا للرد على مهاجمى الأزهر وذلك في وقت يقوم الإعلام بعملية تلميع واسعة النطاق لمختار جمعة، وزير الأوقاف، الذي يقال إنه مقرب من السيسي، وإنه مكلف بملف الإصلاح الديني وفقاً لرؤية السيسي.
- 6- نزع السيسي سلطة الأزهر على دار الافتاء:
وتم إقرار قانون دار الإفتاء الجديد، في يوليو 2020 رغم اعتراضات الأزهر، حيث تم نقل تبعيتها لوزارة العدل بدلًا من الأزهر الشريف وهو ما تعتبره هيئة كبار العلماء عدوانًا على الأزهر وتعد الخطوة مخالفة دستورية تجعل دار الإفتاء كيان مواز، وخلال جلسة الموافقة على القانون، قال ممثل الأزهر محمد الضويني الأمين العام لهيئة كبار العلماء إن القانون يعتدي على اختصاصات الأزهر، مشيرا إلى أن أي هيئة دينية يتم إنشاؤها تعد جزءا لا يتجزأ من رسالة الأزهر “ومن يقُل بغير ذلك يشكل مخالفة صريحة للدستور” مطالبا بأن تكون تبعية دار الإفتاء للأزهر الشريف، وحذر الضويني من تغول دار الإفتاء على الأزهر بقوله “إذا زرعت الفتنة والخلاف بين الأزهر الشريف والمؤسسات الدينية، وسمح لدار الإفتاء بالتغول على اختصاصات الأزهر الشريف، فلن نجني إلا خطابا متباينا“ مشيرا إلى أن دار الإفتاء ليس لها استقلالية الرأي الشرعي، وأن هناك مسائل يتم العودة فيها في الأساس لهيئة كبار العلماء، وأن هذا القانون -بالإضافة إلى مخالفته للدستور- يعمل على إنشاء كيان مواز للأزهر، وهو ما يتجاوز حدود الخلاف على الاختصاص.
وأرسل الأزهر رسالة لرئيس البرلمان أنذاك، علي عبد العال، يتضمن رأي هيئة كبار العلماء في القانون، مؤكدا أن مواد هذا المشروع تخالف الدستور وتمس باستقلالية الأزهر والهيئات التابعة له، وعلى رأسها هيئة كبار العلماء وجامعة الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية فيما الدستور نصّ على أن الأزهر هو المرجع الأساس في كل الأمور الدينية والشرعية التي في صدارتها الإفتاء وأضاف أنه غير صحيح ما ذكر في مقدمة القانون من أن هناك فصلا بين الإفتاء والأزهر منذ نحو 700 عام، وأن هناك كيانا مستقلا (دار الإفتاء) مؤكدا أن مقر الإفتاء في القدم كان في الجامع الأزهر كما أن جميع مناصب الإفتاء في مصر طوال العصر العثماني كانت في يد علماء الأزهر: وأشهرها إفتاء السلطنة والقاهرة والأقاليم، موضحا أن مشروع القانون المقترح تضمن عُدوانا على اختصاص هيئة كبار العلماء بالأزهر واستقلالها.
- المركز الثقافي كمرجعية بديلة للأزهر:
هذه الخلافات والمواقف دفعت جهات حكومية نحو حتمية إنشاء المركز لوضع حد لنفوذ الأزهر بعد أن وقف في وجه مساعيها لوضع قانون للأحوال الشخصية، وترى أنه بات معرقلاً لمحاولة مسايرة التطورات الاجتماعية، وترفض أن يتحول الأزهر إلى سلطة موازية في المسائل المرتبطة بالنواحي الاجتماعية وتوظيف الفتوى لتحقيق مزيد من النفوذ والتغلغل بشكل يحقق أهدافه الفكرية ومن المتوقع أن يقع صدام مباشر بين السلطة والأزهر، لكنه سوف يحمل هذه المرة أبعاداً دينية حساسة، ولن تكون في مواجهة الأزهر فقط، لكنها سوف تصطدم برفض مجتمعي دائماً ما ينحاز إلى رؤية الأزهر التي تعبّر عن مخاوفهم من توظيف الدين لخدمة السياسة، كما الصراع المكتوم حالياً يوسع الفجوة بين السلطة والأزهر، ما يعيد الاستقطاب الديني إلى الواجهة من جديد، في وقت تواجه فيه الحكومة المصرية حالة من الغضب المجتمعي جراء الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
رابعا: أسباب الصراع بين الطرفين:
- شعبية الشيخ الطيب:
عائلة الطيب من العائلات وثيقة الصلة بالسلطة كأغلب عائلات الصعيد الكبرى كما أن الطيب ليس معارضاً على الإطلاق، ولكنه يعرف قيمة المنصب الكبير، ويعتبره اختباراً له. فهو يحترم رئيس الجمهورية وصلاحيته السياسية، ولكنه يريد أن يحترم السيسي نطاق صلاحيات الأزهر في الوقت ذاته، أي مجال العمل الديني، لكن ما حدث أن صمود شيخ الأزهر بدبلوماسية أمام ضغوط الجنرال زاد من شعبيته، وهذا أمر لا يجب أن يزعج السيسي، لأن الطيب لا ينافسه على الزعامة، بل على العكس، فإن تزايد شعبية شيخ الأزهر يخصم من شعبية الإسلام السياسي.
ولكن الملاحظ أن الشيخ في النهاية يعرف حدوده مع الجنرال، كما أن الجنرال يعرف قامة الشيخ فالرجل لم يعد فقط شخصية ذات شعبية في الداخل الأزهري والمصري، ولكنه نجح في استعادة رونق المنصب إسلامياً وعربياً ودولياً فالعالَمان العربي والإسلامي الباحثان عن زعامة دينية وجدا في اعتدال الرجل المتحفظ قامة تذكّرهم بصورتهم المتخيلة عن الأزهر، زعامة جزئية بعيدة عن الحركية الإسلامية ، أو المرفوضة حالياً بدول الخليج، وعن السلفية المتهمة بالتطرف.
ويبدو هذا واضحاً في الاحتفاء الإماراتي الكبير بالطيب، خاصة في ضوء جذور الشيخ الصوفية التي تتلاقى مع توجهات الإمارات، لإعلاء الصوفية في مواجهة الإخوان والسلفيين ولذا تربط الطيب علاقة وثيقة مع الإمارات، خاصة مع إمارة الشارقة، ويعتقد أن لهذه العلاقة دور في تخفيف الخلافات بين السيسي وشيخ الأزهر، كما سبق الإشارة ولكن الأهم أن المؤسسات الدولية أن محاربة الإسلام السياسي يكمن في وجود مرجعية سنية قوية تتعامل معها كند ونظير.
وأهم ما يميز شيخ الأزهر أنه في انفتاحه العربي والإسلامي والعالمي يتعامل بخلطة من التواضع والندية، كشريك وليس مجاملاً، وهذا يزيد من شعبية الرجل في الخارج، خاصة أن قدرته على الرد الصارم والدبلوماسي في الوقت ذاته التي أثبتها الشيخ مع الجنرال، تظهر أيضاً في كثير من مواقفه الخارجية، سواء بانتقاده الصريح لدعوة الرئيس التونسي السابق الباجي قايد السبسي للمساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، أو في موقفه اللافت في دفاعه عن الإيغورالصينيين، المتباين تماماً مع الموقف المصري الصامت عن القمع الصيني، وكذلك في ضغطه على السلطات المصرية لعدم تسليم الطلاب الإيغور لبكين.
كما تظهر استقلالية الشيخ حتى أمام أصدقائه الإماراتيين في تبرئه من نتائج مؤتمر غروزني عاصمة الشيشان، الذي نظمته الإمارات وروسيا عام 2016، وأعلن فيه أن السلفيين والإخوان لا ينتمون لأهل السنة والجماعة كما أن حرص الرجل على تطوير الأزهر من الداخل والاستفادة من علاقاته الخارجية لتحقيق ذلك على البعثات على سبيل المثال تعوّض تحفظ الرجل في مجال الإصلاح الديني..
كما يتمتع الرجل بتأييد واسع النطاق في الداخل من خريجى وأعضاء هيئة التدريس والطلاب بالأزهر، وله شعبية بين المواطنين المصريين خاصة في الصعيد ويرى تقرير لمركز كارنيغي إن ملايين الخرّيجين من مؤسسات الأزهر التعليمية، وأعضاء الجمعيات الصوفية والقبائل المرتبطة بالإمام الأكبر في جنوب مصر، والرأي العام المتديّن المستاء من العنف الذي لجأ إليه النظام في العام 2013، سوف يرصّون صفوفهم ليس بدافع تحدّي النظام إنما للدفاع عن الطيب ومكانته.
لكن لا تجب المبالغة في تقييم قدرة هؤلاء المؤيدين على حماية شيخ الأزهر، فقد أثبت النظام قدرته على سحق أي معارضة، ولكن هذه الشعبية التي يحظى بها الطيب في الداخل والخارج تجعل التكلفة المعنوية لإقصائه كبيرة على النظام، ولذلك يبدو أن السيسي يفضل أن يخوض معه معركة بالنقاط عكس معاركه الصفرية مع حلفائه السابقين.
- إصرار السيسي على نزع سلطة الأزهر:
وعبر سنوات سيطرة السيسي، لم يترك السيسي فرصة إلا ووجه انتقاده للدين والأزهر ومؤسساته، محملا إياهم مسؤولية المشاكل الاجتماعية والاقتصادية وغيرها وابتدأ السيسي صراعه مع مؤسسة الأزهر، التي تعد المؤسسة الوحيدة التي تحظى بجزء من استقلاليتها، بعد إخضاع كافة مؤسسات الدولة لسلطة السيسي وقد ألغى السيسي كل الحصانات التي ابتدأ بها انقلابه العسكري، كحصانة وزير الدفاع السابق شريكه بالانقلاب، صدقي صبحي.. ولم يتبق إلا شيخ الأزهر واستعمل السيسي سلاح “تجديد الخطاب الديني“ واتضح خلال مسار السجال، أن الحكومة المصرية ليس لديها رغبة حقيقية في تجديد الخطاب الديني الذي يعبر عن جوهر الخلاف الحالي، لأن ذلك يكون بحاجة إلى مناخ عام يمكن فيه إثراء نقاشات حقيقية، وهو أمر لا يتوفر في الحالة المصرية الراهنة، لكن يتم توظيف التجديد والإصلاح كأداة ضغط على الأزهر، ودائماً ما تعول الحكومة على أن الأزهر مؤسسة دينية ليس لها علاقة بالسياسة أو تجيد ألاعيب لتمرير رؤيتها، لكنها تصطدم في كل مرة بسلوك قوى يُفقدها القدرة على استمرار الضغط ويجبرها على التراجع.
لذلك اتبع السيسي خطوات متسارعة لمحاصرة الأزهر من جوانب عديدة، فهي من ناحية تهدده بوجود منابر دينية أخرى قوية وتروّج لقدرتها القيام بدوره، سواء كان ذلك عبر توظيف وزارة الأوقاف ودعم سيطرتها على المساجد أو من خلال دار الإفتاء التي استقلت عن الأزهر ونهاية بالمركز الثقافي الإسلامي الجديد، كما أن الأزهر يجد نفسه في معركة أخرى لا تقل ضراوة ترتبط بتنحيته عن تعديل قوانين الأحوال الشخصية.
- دماء رابعة العدوية:
ولعله مما يمكن استقرؤوه في مسار الخلاف بين الأزهر والسيسي، كانت مشاركة الطيب في مشهد الانقلاب العسكري ضد الرئيس الشرعي محمد مرسي، حيث كان شيخ الأزهر أحد أبرز المشاركين في الجلسة الشهيرة التي أعدّها قادة الجيش المصري، في 3 يوليو 2013، لكن بعد بضعة أسابيع كان أول وأشهر خلاف بين الطيب والجنرال السيسي، نشب الخلاف جراء موقف شيخ الأزهر الذي أدان فيه مذبحة رابعة، التي راح ضحيتها اكثر من الف قتيل من أنصار الرئيس الراحل محمد مرسي.
وكان لافتاً حدة خطاب الطيب، الذي لم يساوِ بين الجلّاد والضحية، كما تبرّأ من هذه الدماء وأكد أن الأزهر ليس لديه علم بما حدث، ثم إعلانه الاعتصام إلى أن تزول الغمة ويأتي موقف شيخ الأزهر رغم أنه كان مناوئاً للإخوان في ذروة نفوذهم في مصر، بعد ثورة يناير 2011. وكان واضحاً أن جزءا من جهوده الإصلاحية، عبر ما عُرف بوثائق الأزهر، إنما كان يهدف إلى منع ما يخشاه من توغّلٍ إخواني أو تيار سياسي آخر للسيطرة على الأزهر.
فالرجل الذي يعلم قيمة منصبه الديني وقد أزعجه على ما يبدو حُرمة الدماء باعتبارها خطاً أحمرَ في الشريعة الإسلامية، وإذا كان أيّد الانقلاب على مرسي حقنا لهذه الدماء فإن هذا نفس موقفه من رابعة.
- معركة استقلال الأزهر:
الاستقلال الناقص الذي يحاول الطيب استكماله منذ قيام حركة الضباط، التي أطاحت بالملكية المصرية في 1952، وحتى قبلها، كان هامش الاستقلالية لشيوخ الأزهر محدوداً في الأغلب فطبيعة المؤسسة الدينية في العالم السُّني، ولاسيما مصر مقر الأزهر، كانت تعطي استقلالية محدودة لرجال الدين، وزاد الأمر في ظل الحكم العسكري الذي أنهى استقلال كل مؤسسات المجتمع المدني، وألغى الحياة الحزبية، أي أمَّم الحياة العامة لصالح سيطرة كاملة للدولة ورغم ذلك حافظ شيوخ الأزهر على هامش محدود من الحرية، أو الصمت أحياناً الأمر الذي حفظ بعض الاحترام للأزهر، وليس الاستقلال.
ولكن في عهد الأسبق حسني مبارك تراجع هذا الهامش جراء دور شيخ الأزهر الراحل محمد سيد طنطاوي، الذي رأى كثيرٌ من المتابعين للأزهر، لاسيما من علماء الدين، أنه بالَغ في تبرير تصرفات السلطة، وتقديم الفتاوى الممالئة لها، مثل فتواه بتحليل فوائد البنوك، ولقاءاته مع حاخامات إسرائيليين، وغيرها من التصرفات التي يرى كثيرون أنها أدّت إلى تراجع مكانة الأزهر في نظر العامة..ومع تراجع مرجعية الأزهر أتاح لمرجعيات أخرى أن تنافسه على الجاذبية الشعبية، على رأسهم السلفيون، وحتى السلفية الجهادية.
وعندما جاء أحمد الطيب، من رئاسة جامعة الأزهر وأمانة السياسات بالحزب الوطني إلى مشيخة الأزهر، لم يبد أن هناك شيئاً قد تغير، وقد يكون هذا سبب تعيين الرئيس مبارك له في المنصب، فهو مجرد عالم دين موالٍ للسلطة ( او هكذا بدا في طلته الأولى)، وعزز موقف الطيب الرافض لثورة يناير قبل نجاحها هذا الافتراض.
وكانت ثورة يناير نفسها فرصة كبيرة للطيب من وجهين:
الأول: كان انخراط الإسلاميين في العمل السياسي، وخاصة السلفيين، مؤدياً لتراجع تأثيرهم الديني، فقد أصبحوا طرفاً سياسياً يتعرض لهجوم الإعلام، خاصة في ظل التصريحات المرتبكة، لبعض القيادات السلفية، وهو الأمر الذي أزال هالة كبيرة كانت مرسومة حولهم من قِبل العوام، وأعطى دفعة لمرجعية الأزهر الدينية، التي التفتَ إليها كثيرٌ من مناوئي الإسلام السياسي، وروَّجوا لها إضافة إلى المتدينين غير المؤدلجين.
أما الوجه الثاني: فهو استفادة الطيب من مناخ الحريات والحوارات خلال هذه الفترة، لترسيخ استقلالية الأزهر، وهي استقلالية كان يرمي شيخ الأزهر لأن تقف في وجه الإخوان في البداية، ولكن سرعان ما حاول ترسيخها أو على الأقل الإبقاء عليها حتى بعد الانقلاب العسكري، وزوال الديمقراطية معه.
وتبقى المفارقة أن القدر الحالي من استقلالية الأزهر الذي يفوق كل مؤسسات الدولة ويفوق حتى استقلالية وضع الأزهر في عهد مبارك قد جاء بالأساس من رغبة الطيب والمجلس العسكري الحاكم بعد سقوط مبارك، في مواجهة احتمال تغلغل نفوذ الإخوان في المؤسسة الدينية التي بطبيعة الأمور هم قريبون من فكرها ففي يناير 2012، أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة –الذي كان يتمتع آنذاك بسلطة رئاسية بعد إطاحة حسني مبارك في العام السابق– بصورة مفاجئة قانوناً جديداً، بموجب مرسوم نصّ على إعادة إنشاء هيئة كبار العلماء التي حُلَّت في الستينيات، على أن يكون دورها الإشراف على مؤسسة الأزهر. وقد قام الطيب، بتعيين الأعضاء الأوائل في الهيئة، وبعدها أصبحت المواقع الشاغرة تُملأ من داخل الهيئة نفسها.
كذلك أوكِل إلى هيئة كبار العلماء تعيين الإمام الأكبر ورئيس دار الإفتاء، الذين كان يُعيّنهما الرئيس المصري في السابق، بموجب تعديلات 2012، احتفظ الإمام الأكبر بسلطة اختيار رئيس جامعة الأزهر، أو توخّياً للدقة، كان يقوم بإرسال الأسماء التي يختارها إلى الرئيس المصري الذي يمتلك سلطة تعيين شكلية وحسب، وأتاحت الهيئة، وعلى الرغم من عدم اكتمال عضويتها، للإمام الأكبر أن يحيط نفسه بالحكمة الجماعية للفقهاء المتبحّرين عند الضرورة.
إذن، عندما استولى السيسي على السلطة في العام 2014، وجد نفسه يواجه الأسيجة نفسها التي بنيت حول الدين من أجل إبعاد سلفه الإسلامي واللافت أن شيخ الأزهر كان حريصاً على الحفاظ على الحد الأدنى من هذه الاستقلالية، حتى بعد أن بدأ نظام السيسي في تصفية كل مراكز القوى في الدولة التي كانت حليفة له في المعركة ضد الإخوان مثل القضاء والإعلام ولم تقتصر مواقف شيخ الأزهر المناوئة للسيسي على الموقف من مذبحة رابعة، بل سرعان ما توسعت لتضم قضايا دينية اعتبرها شيخ الأزهر خطوطاً حمراء، والأهم، أراد الطيب القول إن استقلالية الأزهر مستمرة بشكل أو بآخر، حتى بعد زوال استقلال كل مؤسسات البلاد.
- الانتقادات العلنية بين الطرفين:
فقد وجّه السيسي سهام انتقادات إلى الأزهر عموماً على خلفية ما يعتبره البعض تقصيراً من طَرَفه في تطبيق إصلاحات بنّاءة للمناهج التعليمية بل إن السيسي وجّه بعض كلماته إلى الطيب شخصيّاً فقد سبق أن قال السيسي للطيب “تعبتني يا فضيلة الإمام”، وهي كلمات ظنّ الناس بعدها أن الإمام سيصمت، أو أن الجنرال سيعزله على طريقته، وقد يضعه في غياهب السجون كما فعل مع قائده السابق سامي عنان، رئيس الأركان المصري السابق، ولكن كلمات السيسي أعادت للأذهان السؤال القديم عن سر تجدد الخلافات بين السيسي وشيخ الأزهر؟ في المقابل لم يتوانَ الأخير عن الرد على هذه الانتقادات مراراً وتكراراً، مشدّداً على أن الأزهر يتابع هذه القضية كما ينبغي بطريقته الخاصة، ومُلمحاً ضمنياً أنه لا يحتاج إلى تعليمات من شخصية تفتقر إلى أوراق اعتماد أزهرية، حسب وصف تقرير لمركز كارنيغي.
خاتمة:
ومع استمرار السجال بين الطرفين، فإن فرص عزل شيخ الأزهر تبقى قائمة ، حتى على المستوى الإعلامي والسياسي، بل قد يصل الأمر لامتناع الطيب نفسه عن المشاركة في فعاليات ينظمها السيسي، احتفالات إفطار الأسرة المصرية أو ليلة القد او غيرها فيما قد تتصاعد الضغوط الاماراتية للبقاء على شيخ الأزهر ولكن صفو العلاقة سيبقى صعب المنال.
فيما من المتوقع أن يستمر السيسي في إضفاء نزعة دينية ما على مشاريعه أو أفعاله، التوسع في بناء المساجد الكبيرة بالمحافظات، لمحاولة التغطية على جرائم هد الالاف المساجد في محافظات البحيرة والاسكندرية، وعلى امتداد الرياح البحيري او عدة محافظات تم منع اقامة الصلوات فيها، بدواعي مكافحة الارهاب، او المخالفات.. أو القصف العسكري على المساجد بسيناء وصولا إلى حضور السيسي لتدريبات عسكرية على قصف واقتحام المساجد!!!
كما أن السيسي سيستمر في التضييق على شيخ الأزهر، دفعه للاستقالة وعندها تشن الحملات الاعلامية على الطيب، وعندها سيعين السيسي بديلا له، باشتراطات جديدة وتوجهات تخدم مشروع العلمنة وعزل الدين عن واقع المجتمع المصري.