وجود دولة حديثة قوية ومستقرة وفاعلة، مدمجة في المجتمع، ولديها قدرة عالية على الوصول للموارد شرط ضروري لبناء نظام سياسي ديمقراطي. كذلك يعد وجود مجتمع مدني نشط وفاعل، وتصورات واضحة، تحظى باعتراف شعبي واسع، بخصوص منظومة قيم حقوق الإنسان، تعد أيضًا شروط ضرورية لبناء علاقة الدولة بالمجتمع على أساس ديمقراطي؛ بالتالي يصعب الحديث عن تحول ديمقراطي في المنطقة العربية، دون الأخذ في الاعتبار هذه الاشتراطات اللازمة والضرورية. ولعل ذلك يفسر فشل محاولات التحول الديمقراطي عقب الاحتجاجات العربية في نهايات 2010، وبدايات 2011، وكذلك الموجة الثانية من الاحتجاجات في 2019. وهي المحاولات التي لم تنتهي فقط بالفشل، بل في أحيان أخرى، انزلقت تلك المجتمعات إلى عتبات الحروب الأهلية وانهيار الدولة.
لعل صعوبة الديمقراطية تكمن في احتياجها لكل هذا الشروط القبلية، ليس هذا فقط، إنما تظل على الرغم من ذلك يتهددها جملة من التحديات أثناء التطبيق، وهو ما نستعرض في هذه السطور، إذ نتناول المخاوف التي تهدد الديمقراطية كما يراها عدد من المفكرين الأوروبيين، والمقترحات التي قدموها لحماية الديمقراطية.
الديمقراطية المؤسسة على الفردانية عند جون ستيوارت مل:
يرى1 جون ستيوارت مل أن الألم والمتعة هما المحدد للسلوك الإنساني، إلا أنه يرى أن اللذة أوسع من مجرد اللذة الحسية المباشرة، إذ هناك متع عليا، عقلانية وروحانية كـ “الفنون، الفلسفة”؛ أما لما يحتاج الإنسان إلى متع عليا؛ فلأن لديه قيم تدفعه للبحث عن هذه المتع؛ فالإنسان ليس مجرد حيوان ناطق. والسعادة تتحقق عند ستيوارت مل إذا كانت حياة الإنسان ذات متع وبدون آلام، وبقدرته على الوصول إلى المتع العليا، حتى وإن كلفت آلاما أو تنازلات عن متع أدنى.
المتعة والألم مشاعر فردية، بالتالي أية منظومة رشيدة، تستلزم حماية الفردانية، وحماية الفردانية تستلزم بدورها حماية الحرية. كما أن الفردانية تستلزم بالضرورة قيمة التسامح؛ والتسامح أن تقبل المختلف مهما تيقنت من خطأ مواقفه واختياراته، وأهمية التسامح؛ أنه يحمي المجتمع من السقوط في منحدر الحرب الأهلية؛ إذ تفتح الفردانية المجال أمام تنوع واسع ويكاد يكون لا نهائي.
المجتمع الأمثل لتحقيق اللذة وتقليص الألم عند “ستيوارت مل” هو المجتمع المؤسس على الفردانية؛ الذي يضمن للأفراد حرية البحث عن السعادة؛ ومطاردة اللذة والفرار من الألم. بما أن
أما النظام الأمثل عند “مل” فهو الذي يفتح المجال لتحقيق أقصى متعة وأقل ألم، للعدد الأكبر من البشر، والنظام الأقدر على تحقيق ذلك هو المجتمع الليبرالي الديمقراطي؛ لأنه النظام الوحيد المكون من المحكومين أنفسهم؛ بالتالي لن يتبنوا سياسية تتعارض مع متعتهم أو تقودهم إلى الألم؛ فإن يحكم الشعب نفسه هو الضمانة الوحيدة لحفظ حقوقه؛ لأن حكم الفرد وإن كان عادل، يظل يعني أن حرية الأفراد مرتهنة بموقف السلطة الحاكمة؛ فالحكم الاستبدادي يعني انصياع وخضوع المحكوم للحاكم، وتسليمهم زمام أمرهم ما يفقدهم فاعليتهم واستقلاليتهم.
ويرجح “مل” الديمقراطية التمثيلية على الديمقراطية المباشرة؛ جراء أعداد المواطنين الكبيرة، وصعوبة إن لم يكن استحالة جمعهم في مكان واحد، ولصعوبات الانتقال، وصعوبة مشاركة الجميع في صنع القرار، والخوف من ذوبان ذوي الكفاءة في الجموع؛ لكل ذلك يرجح مل الديمقراطية التمثيلية.
في الأخير، تبقى ديمقراطية “مل” منقوصة؛ لأنه قدم ذوي الخبرة والكفاءة وهم ذوي الدخل الأعلى على غيرهم؛ لكنه لتقليص هذا التناقض؛ جعل سلطة الحكم التنفيذية ذات طبيعة كفؤة وبيروقراطية لكنه فتح المجال للبرلمان/ممثل الجموع الرقابة على الحكومة النخبوية الضيقة.
الديمقراطية عند ماكس فيبر:
أعرب ستيوارت “مل” عن خوفه على الديمقراطية من ديكتاتورية الأغلبية؛ لذلك أكد على الفردانية والحريات الفردية. في حين يشترك ماكس فيبر مع ستيوارت مل؛ في خوفهم على الديمقراطية من بيروقراطية الدولة، لذلك شدد “مل” على أهمية المشاركة السياسية والرقابة على الحكومة. أما “فيبر” فقد تركزت مخاوفه على التهديدات القادمة من الجهاز الحكومي ونخب الحكم، من البيروقراطية2 والتكنوقراطية3 والأوليغارشية4.
والديمقراطية لدى فيبر هي الضمانة التي تمنع تحول السلطة إلى ممارسة متخصصة محتكرة من قبل المتخصصين وكبار البيروقراطيين؛ فالديمقراطية لدى فيبر تحقق “التوازن ما بين القوّة والحق،ّ السلطة والقانون، حُكم الخبراء والسيادة الشعبيّة5“.
والترجمة الرئيسية للديمقراطية هي مؤسسة البرلمان، وترجع أهميته المركزية لدى فيبر؛ لكونه يحول دون هيمنة البيروقراطية والأوليغارشية؛ من خلال الآليات الرقابية، والمساءلة.
يعتقد فيبر أن فاعلية السلطة السياسية مرهونة بقلة عدد القائمين بالحكم؛ ما يعطيهم فاعلية أعلى وقدرة أكبر على المناورة، بالتالي من الصعب مشاركة الجماهير في صنع السياسة، لكن يمكنهم القيام بأدوار رقابية، من خلال البرلمان، الذي يكفل أيضًا درجة من النفوذ والوصول إلى الحكومة، ويمثل حيّز تجربة، قوامه النقاش البرلماني ومهارات الخطابة المطلوبة للإقناع لدى مرشحي المناصب القيادية، يطرحوا مواقفهم ورؤاهم، ويحشدون رأياً عاماً لصالحهم و ليقدموا برامجهم السياسية، وهو كذلك فرصة للتفاوض ما بين المواقف المتضادّة6.
على الرغم من مخاوف ماكس فيبر من التهديد الذي تمثله البيروقراطية على الديمقراطية، وخوفه من وقوع سلطة الدولة في ديكتاتورية الموظفين، إلا أنه أكد على أهمية البيروقراطية ومركزيتها؛ إذ هي بمثابة العقلانية وقد تم مأسستها؛ إذ العقلانية لدى فيبر هي “مدّ المنطق التقني ليشمل مساحات أوسع من فضاء الحياة”، وهي أيضًا أن يلعب العلم والتكنولوجيا أدواراً أكثر أساسيّة في الحياة، وهي كل الأشكال التنظيمية القائمة على العقلنة، وتشمل “الدولة والشركات والصناعة والنقابات والأحزاب والجامعات”، فهي مؤسسات تنفيذية، تقنية، متخصصة، تتولى تنفيذ السياسات، مستندة إلى ما تمتلك من تخصصات ومهارات.
ولعل رفض ماكس فيبر للحلول الاشتراكية؛ يقرأ باعتباره تخوفًا من التأثيرات سلبية للحلول الاشتراكية على الديمقراطية؛ فإن “إلغاء الرأسماليّة الخاصة يؤدي لهيمنة البيروقراطيّة على القرار الأعلى في الشركات المستملَكة والمؤمَّمة، كما أنّ إلغاء السوق يعني خسارة ثقل مضاد لهيمنة الدولة7“.
في طرح ماكس فيبر يحاول الوصول إلى نقطة اتزان بين بيروقراطية الدولة وممارسة الديمقراطية؛ بشكل يضمن فاعلية واستقرار البيروقراطية، دون أن يحرم المجتمع من حقه في مساءلة السلطة والرقابة عليها.
نقد ماركس للديمقراطية الليبرالية:
الدولة -في حد ذاتها- في تصور ماركس، منحازة لمن يملك، ففي البيان الشيوعي «السلطة التنفيذية في الدولة الحديثة ليست إلا لجنة تُدير القضايا المشتركة لكل البرجوازية». فالدولة ليست تعبيرا عن الإرادة العامة، إنما “جسم طفيلي على المجتمع المدني”، تنسق الحياة السياسية، حسب مصالح الطبقة المهيمنة من المجتمع، فهي “تابعةٌ لمن يمتلك ويسيطر على وسائل الإنتاج”؛ إذ أن سياساتها العامة يجب أن تتناسب مع أهداف الصناعيين والتجار على المدى الطويل؛ فهي تخدم مصالح الطبقة الاقتصادية المهيمنة بشكل مباشر.
لكنه يعود ويؤكد أن الدولة تظل على الرغم من ذلك تظل “مصدرٌ مستقل للفعل السياسي في آنٍ معاً”، وتمتلك درجة من الاستقلالية عن المجتمع، وحتى في علاقتها بالبرجوازية هي لا ترتهن لكل قطاعات البرجوازية، إنما هي ترتبط بمن يمتلك الاقتصاد؛ فالعلاقة داخل الطبقة البرجوازية ليست علاقة تعاونية بالضرورة، إنما هي تنافسية في كثير من الأحيان، بالتالي تبعية الدولة ليست للطبقة البرجوازية، إنما للشرائح الأقوى فيها.
لذلك يرى ماركس أن قيام حكومة ديمقراطية في مجتمع رأسمالي هو أمر مستحيل؛ فلا قيمة للمساواة في المجال السياسي ما لم تكن ترجمة أمينة للمساواة في الثروة. بالتالي وجود ديمقراطية حقيقية عند ماركس يستلزم وجود مجتمع اشتراكي. وفي كتابه عن الحرب الأهلية في فرنسا، نجد أن فكرته المركزية تتمحور حول التمييز بالتضاد بين الديمقراطية التمثيلية الليبرالية البرجوازية من جهة، والديمقراطية العمّالية التشاركية المباشرة8. وبالمحصلة، التخطيط المركزي، والمُلكية الجماعية لوسائل الإنتاج، والديمقراطية المباشرة، هي الأفكار المركزية التي تُشكّل المفهوم الماركسي للاشتراكية، وبالتالي الديمقراطية.
كارل شميت والنقد اليميني للديمقراطية الليبرالية
يرى كارل شميت أن الديمقراطية الليبرالية ليست ديمقراطية حقيقية؛ إذ في الديمقراطية الليبرالية يتقرر مصير المواطنين في اللجان المركزية للأحزاب، أو في اللجان المركزية للتحالفات الحزبية؛ فلا وجود للنقاش حقيقي؛ وما السياسات إلا نتيجة توافقات وتحالفات تجري في الغرف المغلقة، والنائب المنتخب يلتزم الانضباط الحزبي أكثر من التزامه تمثيل مصالح الشعب. فالتفاعلات البرلمانية تأتي تعبيرا عن التوافقات والتحالفات والصراعات الحزبية أكثر من كونها تعبير عن مصالح تكوينات الشعب.
كما أن الليبرالية نفسها إنما هي حماية الفردانية، ومنع أية تدخلات قد تحول دون تحرر المجتمع البرجوازي، لذلك فالدولة وفق التصور الليبرالي، كما يراه شميت، دولة تمارس السياسة في حدها الأدنى، حيث “كل تدخّل وكل مسّ بالحرية الفردانية اللامحدودة والملكية الخاصة والتنافسية الحُرّة، يُقدَّم على أنه فعل عنف من قبل الدولة. الليبرالية لا تقبل من وظائف الدولة إلا ضمانات شروط الحرية9“.
ما البديل الذي يقدمه شميت؟ كل ما سبق يعد نقيضا للسياسة كما يتصورها شميت؛ إذ السياسة في تصوره هي محاربة الفردانية التي تُذيب الروابط الإنسانية؛ لذلك يفترض ضرورة أن تستعيد الدولة دورها، ليس باعتبارها في مواجهة المجتمع كما يفترض التصور الليبرالي، وليس باعتبارها تمثيل للمجتمع وتكثيف وتجسيد لمصالحه وتفاعلاته، إنما باعتبارها جزء من المجتمع، فـ “الدولة ليست إلا تنظيماً ذاتياً للمجتمع”.
وفي تصوره ليس هناك مجال للمجتمع المدني، وليس هناك متسع للتعبير عن التنوع الاجتماعي والثقافي؛ إذ الدولة هي الترجمة الوحيدة للمجتمع، وإذ التصنيفات الاجتماعية يمكن اختزالها في تصنيفين (صديق – عدو)؛ فهو لا يؤسس الاجتماع السياسي على الحرية وإنما على المساواة؛ والمساواة تكون بين المتجانسين، في حين يجب استبعاد وإقصاء المغاير. والتجانس يكون بين أبناء الأمة الواحدة/ الأمة الألمانية، أمة متماثلة؛ بدون أية تباينات.
ويكون التعبير عن الإرادة العامة، “في لحظات قليلة مهمة، وأن ترد بـ «نعم» أو «لا» على المسائل الأساسية، أي الاستفتاء كأسلوب أساسي في التعبير العام”، كذلك من خلال الاحتجاج العام؛ هذه الوسائل هي التي تعبر عن إرادة عامة، أما أشكال التعبير التمثيلية ليست ممثلة في حقيقتها. ما يعني أن حضور الشعب حضور استثنائي يصعب مأسسته، وممارسة السياسة من جانب الشعب تبقى استثناء محدود.
الخاتمة:
قدمت الورقة تصور 4 مفكرين أوروبيين كبار للديمقراطية؛ اعتبر إثنان منهم، هما جون ستيوارت مل، وماكس فيبر، أن الديمقراطية ممكنة في ظل المجتمع الليبرالي، على الرغم من المخاطر المحيطة بها. فيما اعتبر كارل ماركس أن وجود مجتمع اشتراكي شرط لازم لتحقيق الديمقراطية، ويصعب الحديث عن ديمقراطية حقيقية في ظل مجتمع طبقي. أما كارل شميت فقد اعتبر -فيما نرى- أن الديمقراطية تصور يصعب تحقيقه واقعيا.
1 بابلو سيمون، الديمقراطية عند جون ستيوارت ميل، ترجمة: ياسين السويحة، 8 يوليو 2014، الجمهورية، في: https://tinyurl.com/24r4spws
2 البيروقراطية هي الشكل أو النمط التنظيمي الذي تستخدمه الحكومة الحديثة لأداء وظائفها العديدة المُتخصصة والمُتضمَنة في النظام الإداري والتي تتجسد في نظام الخدمة المدنية بوضوح، وأنها “اتجاه رسمي يهدف إلى تنفيذ الوظائف المرجوة مع التزام التخلي عن الإنسانية والتمسك بالشكليات دون أدنى اعتبار لما قد ينجم عن هذا الاتجاه من آثار ونتائج”، وهي “القوة والنفوذ اللذان يُمارسهما رؤساء الحكومة وموظفو الهيئات الحكومية”. أنظر: الموسوعة السياسية، البيروقراطية – Bureaucracy، في: https://tinyurl.com/28ynt87w
3 هي شكل من أشكال الحكومات حيث يتم اختيار صانعي القرار لسُدَّة الحكم استناداً إلى خبرتهم التقنية وخلفياتهم. وبذلك تكون الحكومة التكنوقراطية مختلفة عن الحكومة الديمقراطية التقليدية في اختيار الأفراد المنتخبين لدور قيادي من خلال عملية تؤكد على مهاراتهم ذات الصلة و أداءهم المثبت، في مقابل ما إذا كانوا يملكون مصالح الأغلبية للسكان أم لا. وتستند القرارات التي يتخذها التكنوقراطيين إلى معلومات مستمدة من المنهجية العلمية بدلاً من الرأي العام. أنظر: الموسوعة السياسية، حكومة التكنوقراط – Technocrat Government، في: https://tinyurl.com/2bqqghwc
4 الأوليغاركية Oligarchy أو حكم الأقليِّة، وهي شكل من أشكال الحكم بحيث تكون السلطة السياسية محصورة بيد فئة صغيرة من المجتمع تتميز بالمال أو النسب أو السلطة العسكرية. أنظر: الموسوعة السياسية، الأوليغارشية – Oligarchy، في: https://tinyurl.com/2c9elaxa
5 بابلو سيمون، الديمقراطية عند ماكس فيبر، ترجمة: ياسين السويحة، الجمهورية، 22 يوليو 2014، في: https://tinyurl.com/28trlbsg
6 المرجع السابق.
7 المرجع السابق.
8 المرجع السابق.
9 بابلو سيمون، الديمقراطية عند جون كارل شميت، ترجمة: ياسين السويحة، الجمهورية نت، 3 فبراير 2024، في: https://tinyurl.com/2d5qj7lh