يقودنا الحديث عن الاستبداد العربي، وفشل محاولات التحول نحو الديمقراطية، وعدم بروز مجتمع مدني فاعل وقوي، وهامشية منظومة حقوق الإنسان، يحيل كل ذلك إلى الحديث عن دور الدين والبنى الثقافية والتراثية العربية، وكيف أنها ترسخ كل القيم والتصورات المناهضة للتنوير، بحسب الرؤية الاستشراقية عن الاستثناء العربي، ويمثل الخطاب الإسلامي أبرز الشواهد المستخدمة في التدليل على صحة هذا التفسير.
كما يقودنا ذلك للحديث عن التفسيرات (السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية) والتي يغلب عليها اللون اليساري، الذي يربط بين غلبة الاستبداد وفشل محاولات التحديث وبين أنماط الإنتاج التقليدية. وهناك كذلك التفسير الذي يربط فشل محاولات التحديث بالدور الذي تلعبه قوى الاستعمار ومن بعدها منطق الهيمنة في الاستبقاء على المنطقة في علاقة تبعية للمركز الرأسمالي.
هذه التفسيرات تفترض أن المشكلة تعود إلى تقليديتنا وفشلنا في توطين التحديث في مجتمعاتنا، وهو ما يبدو متناقضا مع حداثة مؤسسات الضبط والمراقبة في مجتمعاتنا، وفي تبنيها استراتيجيات حديثة، وفي دخول أنماط الحداثة والحياة الحديثة إلى مجتمعاتنا، مع اختلاف في معدلات التحديث باختلاف الشرائح الاجتماعية وتباين مواقعها الطبقية.
نشير كذلك إلى التفسيرات التي ترد فشل الدولة العربية الحديثة إلى كونها بنية مستوردة، غريبة عن المجتمعات العربية. نضيف إلى ما سبق ما أثاره معلقين من أن هذه الدولة موروثة عن المرحلة الاستعمارية1، وبالتالي رغم تغير النخبة الاستعمارية بنخبة وطنية، إلا أن الدولة ظلت محتفظة باستراتيجياتها القمعية، وكثير من أدواتها العنيفة، فاستمر العداء والتوجس المتبادل بين الدولة والمجتمع.
في المقابل هناك من يرد فشل تأسيس دولة عربية حديثة تدفع عجلة تحديث المجتمعات العربية، إلى البنى والترتيبات والقيم والتصورات الاستبدادية الموروثة عن الدولة السلطانية، التي كانت بدورها مزيج يجمع بين الملك الدهري الذي عرفته الجزيرة العربية قبل البعثة النبوية، ونمط التنظيم الآسيوي الذي ورثته وتمثلته الدولة الإسلامية عقب حركة الفتوح؛ وفق هذا التصور فإن هذه الموروثات مع بعض مدخلات عمليات التحديث غير المكتملة والمشوهة؛ أنتج الدولة العربية الحديثة2. هناك كذلك من يرى أن مشكلة الاجتماع السياسي العربي الحديث والمعاصر يكمن في الدولة ذات المرجعية الوستفالية نفسها؛ فهي سر الانهيار والعنف والتراجع في مجتمعاتنا3.
نستعرض في السطور التالية إلى ثلاث تفسيرات حاول أصحابها الإجابة على سؤال فشل الدولة العربية في إنتاج التحديث والتحول الديمقراطي ومنظومة حقوق إنسان متطورة ومجتمع مدني قوي وفاعل.
- تضخيم الدولة العربية4:
عشر سنوات قضاها نزيه الأيوبي في دراسة التاريخ الحديث للمجتمعات العربية، في (مصر، الشام، العراق)، حاول أن يستكشف خلالها جذور الاستبداد، والعجز المستمر في التحول إلى الديمقراطية، وغياب الحريات. لم يدرس أثر الاستعمار على فشل التحول نحو الديمقراطية، أو أثر الثقافة والدين والتراث، إنما درس الاقتصاد السياسي والحراك الاجتماعي وارتباطهما بالتحول الاقتصادي العالمي.
استند الأيوبي إلى التفسير الماركسي الكلاسيكي، الذي يرى أن نمط الإنتاج الأسيوي يفسر ويبين نشوء واستمرار الاستبداد الشرق، حيث يرده إلى حتمية ذات طبيعة اقتصادية، لكنه في الوقت ذاته لم يغفل الدور الذي تلعبه الأفكار والثقافة والأديان، والتي إن كانت نتاج نمط الإنتاج السائد، إلا أنها قادرة على تجاوز الشرط الاقتصادي والتاريخي.
يرى الأيوبي أن المجتمعات العربية تكونت من أنماط إنتاج متنوعة وواسعة، منعت من مراكمة الثورة وسيادة تشكيل اجتماعي وحيد، ومنع من ظهور اقتصاد احتكاري، فإذا أضفنا إلى ذلك استقلال السياسي عن مصالح المجتمع، يكشف لنا لما غاب نمط الإنتاج الرأسمالي عن مجتمعاتنا؛ في حين أن النمط الرأسمالي ينتج عنه مكون برجوازي يعاد حوله تشكيل الاجتماع والسياسة.
في المجتمعات العربية الحديثة، (1) مع عدم بروز تشكيل طبقي راكم رأس المال، وأعاد تشكيل المجتمع بما يضمن له استمرار الهيمنة، ومع وجود تنوع في أنماط الإنتاج، صارت ماكينة الدولة التي تحتكر العنف هي باب التغيير ومدخله، وصارت تبني علاقات زبائنية مع الشرائح والمجموعات المتحالفة معها. (2) مع غياب تشكيل اجتماعي مهيمن، صارت الدولة تعوض غياب هذا التشكيل، وتضفي الوحدة على تشكيلات اجتماعية متعددة بشكل واسع، من ثم أصبح للدولة هذه الأهمية الحاسمة، وهيمن العنصر السياسي، ومن ثم بات لدينا دولة مهيمنة ومجتمع ضعيف؛ دولة تعبر عن شرائح ضيقة، مع إدعاء تمثيل أوسع للمجتمع. (3) ثم جاء الاستعمار، الذي ألحق ألحق الدولة والمجتمعات العربية بالنظام الرأسمالي العالمي.
- ولادات متعسرة: العبور إلى الحداثة في أوروبا والمشرق5:
في إجابته على سؤال لماذا عبرت أوروبا ولم نعبر رغم تشابه البدايات، رفض عصام خفاجي التفسير الخطي للتاريخ ونظرية التقدم، معتبرًا أن فشل التحديث العربي يعود إلى أنه تحديث بمعزل عن المجتمع؛ فهو تحديث إجرائي وتقني لتطوير جهاز الدولة وتعظيم قدرته على القسر والعنف؛ حيث جهاز بيروقراطي خاضع لسيطرة السلطة، جيش حديث، وبنية تحتية زراعية وصناعية تخدم الجيش، فضلا عن تعليم يخدم البيروقراطية القائمة.
أما القوى الحديثة -الأفندية- التي أنتجها مشروع الدولة، سرعان ما انقلبت على القوى التقليدية التي دفعت التحديث الأول، ومن ثم حالت دون المجتمع وبين الحداثة؛ حتى تستبقي سطوتها ونفوذها. ثم جاء الاستعمار، الذي أبقى بدوره المجتمعات العربية في علاقة تبعية للمراكز الرأسمالية في الغرب؛ فهي تصدر الخامات وتستورد السلع النهائية؛ ما يستبقي علاقات التبعية.
كيف حدث ذلك؟ كيف بقي المجتمع بمعزل عن التحديث؟ إن ارتفاع معدلات البطالة في بدايات التحديث، ومع عدم وجود فرص عمل بديلة للمجال الزراعي، وإصدار تشريعات تمنع الفلاحين -رغم معدلات البطالة المرتفعة- من مغادرة بلادهم؛ كل ذلك استبقى العلاقات الما قبل الرأسمالية ورسخ بقائها. أما القوى البرجوازية المالكة للأراضي بدورها؛ لم تجد دافع لضخ رؤوس الأموال المتراكمة لديها، في أسواق صغيرة لا تغري بالمغامرة ولا تعد بالربح، وهو بدوره أيضًا، حافظ على استمرار ما قبل الرأسمالية. ومع قدوم الاستعمار، وحرصه على تعطيل وإجهاض محاولات التصنيع المحلي، وفتح الأسواق المحلية أمام السلع المستوردة الجيدة والرخيصة، أهدر أية إمكانية تحول إلى الرأسمالية.
هيمنة الأرستقراطية الزراعية كان وراء سيطرتها على المجال السياسي، كما أعادت تشكيل أدوار ووظائف المجتمع ككل، حيث “هيمن كبار ملاك الأراضي الزراعية على الحياة الاقتصادية لبلدان المشرق، وفي غياب مصادر الدخل المستقلة للحكومات لعب كبار الملاك دورا شديد الأهمية في تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع”.
ترييف الدولة: مع رفع القيود عن هجرة الفلاحين، واستمرار الفقر في الريف؛ زادت الهجرة من الريف للمدينة، فيما كانت الكراهية والازدراء المتبادل هي الحاكمة لعلاقة المهاجرين الريفيين بسكان المدن. إلا أن الجيل الثاني من الريفيين كانوا هم المحرك للتغيير بعد ذلك؛ “عبر حضورهم الكثيف في أجهزة الدولة الإدارية والقوات المسلحة”؛ إذ مثل المهاجرين الريفيين الطبقات الوسطى الجديدة، والذين سيطروا على جهاز الدولة، ومع الثورات التي قادوها، ومع تشظي الشرائح الاجتماعية القديمة، سعدت الدولة المسيطرة ذات الطابع الريفي، وفشلت محاولات التحديث.
- الدولة التسلطية:
إمتدادًا للحديث السابق عن ترييف الدولة العربية الحديثة، وكيف ساهم هذا الترييف، فضلا عن عوامل أخرى في فشل محاولات التحديث في بلادنا، يؤكد خلدون النقيب، في تفسيره للاستبداد العربي، على الدور الذي لعبته الطبقات الوسطى في المدن، ذات الأصول الريفية؛ في دعم الانقلابات التي شهدتها المنطقة العربية في الخمسينات وما بعدها.
فيما أشار في الوقت ذاته إلى أن الطبيعة العسكرية للنخب الجديدة، كرس أكثر من الطبيعة الاستبدادية للدولة في المنطقة العربية،فقد أسسوا موقفهم من إدارة السلطة على رؤية مفادها، أن “سبب فقدان الأمن وعدم الاستقرار… هو تعدد الآراء واختلاف الميول وتكاثر الأحزاب والتنظيمات…، ولذلك حتى يتحقق الأمن والاستقرار فلابد من حل الأحزاب، وإن كان لا بد من وجودها فيتم التضييق عليها وخنقها تدريجيا، لمصلحة الحزب الحاكم أو التنظيم الذي يدعمه العسكر6“.
الخاتمة… ماذا بعد:
هل يمكن أن تستمر الدولة العربية في ظل وضعها الراهن، هل يمكن أن تستمر تجربة الفشل إلى الأبد، وتظل النخب السلطوية والعسكرية الحاكمة في مواقعها، بصرف النظر عن تكلفة استمرارها على الدولة والمجتمع، وعلى فرص التحديث في بلادنا؟
يبدو أن ذلك مستبعدا، فالتغيير حتميًا. لا يقود المسار بالضرورة إلى التحديث، بل قد يقود إلى مزيد من الفشل والتفسخ، أو الانقطاع في تجربة الدولة الحديثة في بلادنا، مفسحة المجال لأشكال حكم جديدة، حتى وإن أخذت الشكل الخارجي للدولة.
1 محمد عفان، الدولة العربية الحديثة: عن التحديث الاستعماري، 4 أبريل 2016، في: https://bit.ly/40f2ksQ
2 يوسف محمد، الولاية العربية: لماذا فشل العرب في تأسيس الدولة الحديثة؟، إضاءات، 30 أغسطس 2019، في: https://bit.ly/4hgN6JF
3 إبراهيم البيومي غانم، ترِكة الاستبداد: من الدولة السلطانية للدولة الحديثة، إضاءات، 12 فبراير 2018، في: https://bit.ly/3UmsMNf
4 شريف مراد، دولة ضارية ومجتمع مهمَّش.. كيف فسّر عالم الاجتماع نزيه الأيوبي مُعضلة تخلُّف العرب؟، 10 سبتمبر 2021، في: https://bit.ly/48lcUR8
5 شريف مراد، فلاحون غاضبون: جذور هيمنة الريف على المدينة في المشرق العربي، 2 أكتوبر 2021، في: https://bit.ly/48ycGGt
6 شريف مراد، الدولة التسلطية.. رحلة الأنظمة العربية من الدستورية الهشة إلى القمع العنيف، الجزيرة نت، 31 ديسمبر 2021، في: https://bit.ly/3YzIYxe