تصريحات السيسي حول حوكمة وسائل التواصل الاجتماعي – الدوافع والدلالات

 

 

على الرغم من موجات الاعتقال والتضييق والحجب لمواقع الانترنت وملاحقة النشطاء ومن يعبر عن رايه عبر شبكات التواصل الاجتماعي، واغلاق مواقع الصحف والمواقع الالكترونية المستقلة والمعارضة، والذي وصلت أعدادهم أكثر من 34 ألف موقع وحساب وصفحة -وفق تقديرات حقوقية- والتي كانت مثار انتقاد من قبل حكومات دول العالم ومنظمات حقوقية  ومنصات اعلامية دولية خلال الفترات الماضية، الا ان السيسي ما زال يرى في  الاجراءات القمعية التي يتخذها نظامه في التضييق على حرية الرأي والتعبير، غير كافية، لوقف الأصوات المعارضة لسياساته، وهو ما  قد يفسر على أنه تمهيد لموجات اوسع لقضم الحريات العامة بصورة اكبر خلال الفترة المقبلة.

وجاء تصريح السيسي الصادم، خلال كلمته، في اجتماع لرؤساء المحاكم الدستورية والمجالس الدستورية الأفريقية، دعا خلاله إلى “حوكمة قانونية لوسائل التواصل الاجتماعي، ومحتواها، الذي يؤثر بصورة كبيرة على الداخل والخارج” معتبرا أن “تنامي قدرة الأفراد على التواصل الرقمي يمثل تهديداً على الحكومات والأنظمة، ويتطلب محاولة ضبط هذا التواصل عن طريق إقرار التشريعات اللازمة لذلك، في إطار تنظيم التعاملات والتفاعل الرقمي للأفراد والكيانات الخاصة”.

وحاول السيسي تغليف تصريحه المنذر بكوارث حقوقية، بالحديث عن بعض التشريعات التي اتخذها لمواجهة كورونا، مطالبا بـ “التفكر والتدبر بصورة جماعية في كيفية التعامل مع التحديات الناشئة عن الجائحة، من منظور قانوني ودستوري، إلى جانب التحديات التقليدية الأخرى”، كما دعا إلى تأمين توافر البنية التحتية الدستورية العصرية القادرة على التعامل مع التحديات الناجمة عنها، بما فيها تنظيم التعاملات والتفاعل الرقمي للأفراد والكيانات، ووضع الإطار القانوني المنظم للتعامل معها.

 

دلالات التوجهات الجديدة

-فشل سياسات القمع الالكتروني السابقة والحالية

وتؤكد التصريحات الأخيرة الكاشفة عن نوايا السيسي الكثر قمعا، انه لم يتعلم الدروس نهائيا،  إذ يصر على نفس السياسات التي أنتجت فشلا، على السير فيها متوقعا تحقيق نتائج أخرى مغايرة، وهو ما يؤكد فشل السيسي، والذي أكدته نتائج دراسة برلمانية،جرت عقب  أحداث احتجاجات سبتمبر 2020، حيث أقر نواب في البرلمان المصري، بفشل النظام في مواجهة الانتشار الواسع للمنشورات والفيديوهات المعارضة على مواقع التواصل الاجتماعي، رغم القمع الأمني والترهيب الإعلامي والهجمات الإلكترونية ضد المعارضين.

وأشارت الدراسة، التي أعدتها لجنة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بمجلس النواب إلى إن شهري أغسطس وسبتمبر الماضيين، شهدا بث 2850 مقطعا مصورا، وصفتها بأنها “ضد الدولة”، وهو التعبير الذي يستخدمه النظام للإشارة إلى ما يبثه المعارضون من انتقادات لسياساته أو كشف لوقائع فساد، وأظهرت وصول منشورات المعارضة إلى ملايين المستخدمين على مواقع التواصل المختلفة، في حين حققت بعض الفيديوهات مشاهدات تجاوزت أكثر من 2 مليون مشاهدة للمقطع الواحد.

وأقرت الدراسة  بفشل الفيديوهات الداعمة للنظام في مجابهة الانتشار الواسع للفيديوهات المعارضة، وكانت  شركة “فيسبوك”، أعلنت في أغسطس الماضي، وأكتوبر الجاري، حذف مئات الصفحات والحسابات المرتبطة بمصر والسعودية والإمارات، بسبب تورطها في حملات دعائية منسقة لصالح الأنظمة الحاكمة في هذه الدول، لتضليل مستخدمي منصات التواصل، وفي محاولة لإثناء المصريين عن مشاركة الفيديوهات المعارضة للنظام، هدد رئيس لجنة تكنولوجيا الاتصالات بمجلس النواب أحمد بدوي، بأن قيام الكثير من رواد “فيسبوك” و”تويتر” و”يوتيوب”، بمشاركة هذه المقاطع يعرضهم للمساءلة القانونية، وفقا لقانون الجريمة الإلكترونية الصادر من مجلس النواب (في يونيو 2018).

وينص القانون المذكور على عقوبات تصل إلى السجن وغرامة مالية، قد تبلغ 5 ملايين جنيه، بحق مستخدمي الإنترنت والشركات مقدمة الخدمة في حال مخالفة أحكام هذا القانون، ويمنح جهات التحقيق المختصة حق حجب موقع أو عدة مواقع أو روابط أو محتوى، وواجه القانون اعتراضات حقوقية لتأثيره السلبي على حرية الرأي والتعبير، وتقنينه المراقبة الشاملة على الاتصالات في مصر، حيث يعطي القانون للنظام الخاكم  سلطة إغلاق المواقع على الإنترنت، ورفع شكاوى جنائية على المنابر والمواطنين الذين يتهمون بجرائم، مثل تحريض الناس على انتهاك القوانين، والتشهير بالأشخاص والأديان، ولم يترفع السيسي نفسه عن الانشغال بما يحدث على المنصات الاجتماعية، حيث ألمح أكثر من مرة إلى متابعته لما يتم تداوله عبرها، بل إنه أبدى غضبا شديدا في يوليو 2018 بسبب هاشتاج حمل عنوان “ارحل يا سيسي” وسبق ذلك تهديد صريح منه بتكميم صوت الإعلام الجديد، فقال في إبريل 2016 “أنا ممكن بكتيبتين أدخل على النت وأعملها دايرة مقفولة، وأخلي الإعلاميين ياخدوا منها أخبار وشغل”.

 

-تأثير النشطاء المتصاعد

وأفادت “ورقة تحليلية” أن الملاحقات الأمنية الإلكترونية التي تتم يوميًّا للنشطاء، بإغلاق صفحاتهم؛ حتى يتوقفوا عن النشر، وإذا لم يتوقفوا يتم البحث عنهم، واعتقالهم؛ حتى لا يفاجأ العسكر بدعوات جديدة للحشد يمكن أن تهدد بقاؤهم في السلطة، وكشف الورقة التي جاءت تحت عنوان “تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على صانع القرار في مصر” أن النظام  متأكد من جود غضب في الشارع المصري؛ نتيجة القرارات الخاطئة والمشاريع الفاشلة، وتأثر حياتهم سلبيًّا بسبب هذه السياسات، بالإضافة إلى سلسلة الاعتقالات التي لا تتوقف، وأنه “بالرغم من حركة الاعتقالات والرقابة الإلكترونية التي أطلقتها -ومازالت تطلقها- أنظمة الحكم الاستبدادية، إلا أنها لم تستطع وقف تأثير مواقع التواصل الاجتماعي؛ نتيجة للتكنولوجيا الحديثة في التخفي الإلكتروني، والدخول لشبكة الإنترنت بأكثر من هوية، بالإضافة إلى عدم معرفة مدى الانتشار الذي يمكن أن تحققه دعوات الرفض التي يتم إطلاقها”.

وقالت الورقة إن وسائل التواصل الاجتماعي بدأت في الضغط على صانع القرار خلال العقد الأخير، وذلك مع الاحتجاجات التي ظهرت في الدول العربية ”ثورات الربيع العربي”، واعتماد نشطائها على المنصات الرقمية، وفي مصر تم الاستفادة من هذه الوسائل؛ لكشف القصور والتجاوزات الموجودة في المنظومة الأمنية، فتم نشر فيديوهات وصور تثبت تجاوز ضباط الشرطة تجاه المواطنين، وتداول النشطاء هذه الفيديوهات محليًّا وعالميًّا، وأضافت أن “وسائل التواصل الاجتماعي” سهلت عملية تواصل المحتجين بالميادين؛ للمطالبة بحقوقهم الإنسانية والاجتماعية، وتحقيق مبدأ الحشد الجماهيري؛ للضغط على صانع القرار، حتى أجبره على الانهيار والتنحي.

وقالت الورقة إن أنظمة الحكم في العالم العربي تمارس السيطرة على هذه الوسائل بنفس الأسلوب بشكل عام، فتبدأ السيطرة عادة باعتقالٍ واسع للنشطاء الإلكترونيين وتكثيف الضغط عليهم، وكان تقرير “فريدوم هاوس” قد أشار لعدة حالات اعتقال طالت المتظاهرين لأسباب تتعلق بتبادل الرسائل إلكترونيًّا، وأضافت أنه للسيطرة على محيط السوشيال ميديا “تلجأ الحكومات أيضًا لبناء لجان إلكترونية تروج لما تريد الحكومات تسويقه، وتهاجم المعارضين وتشوههم.. إلخ. فلم تكتفِ فقط بقمع مستخدمي هذه الوسائل الجديدة، إنما حاولت أن تؤسس سلطتها داخل هذا المجال؛ ليصبح خاضعًا لها، وليس مساحة مجهولة لا تحسن التعاطي معها”، كما تحاول السلطات استخدام أنظمة التجسس التي تضمن للحكومات والنظم مصادر لا تنضب من البيانات، ليس فقط عن المعارضين، إنما على المجتمع الذي تحكمه ككل، والمزاج العام للمحكومين، والرأي العام السائد في هذه الفضاءات الجديدة تجاه سياسات الحكومة.

 

-اختبار قدرات بايدن واستراتيجياته

وتأني تلك التصريحات في توقيت مهم، حيث يمكن اعتبارها  من ضمن سياسات السيسي ونظامه لاختبار إلى أي مدى يمكن ان يذهب الرئيس الامريكي الجديد جو بايدن في التعامل مع الانتهاكات الحقوقية التي يقترفها السيسي، وفي هذا الاطار، حملت السياسة المصرية خلال الفترة الماضية جملة مؤشرات ، ما بين الاسترضاء والتنمر والاستفزاز من قبل السيسي ونظامه، من عينة تحريك قضايا عدد من المحاكمين المجمدة وصلت لنحو200 قضية، وظهور عدد من المختفين قسريا  لفترات طويلة امام المحاكم، واطلاق سراح بعض المعتقلين ،   وان كان بعضهم لم يخرج ختى الان كاليوتيوبر شادي سرور، وأمام محاولات الاسترضاء، جاءت سياسات الاعتقال المهندسة التي طالت اقارب الناشط الامريكي من اصل مصري، محمد سلطان، بعد ان تم الافراج عنهم، عقب بدء تولي بايدن السلطة في امريكا… وطالت سياسات الانتقام من اسر واقارب المعارضين بالخارج نحو 200 أسرة.

وكانت صحيفة “واشنطن بوست” قد انتقدت في 19 فبراير الجاري، قرار إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” بالموافقة على صفقة عسكرية لمصر بقيمة 197 مليون دولار، في ظل استمرارعبدالفتاح السيسي في تحدي “بايدن” في الملف الحقوقي، على حد وصفها، وذكرت الصحيفة “بايدن” بتصريحاته السابقة خلال حملته الانتخابية، والتي قال فيها إنه “لن يمنح شيكات مجانية لديكتاتور ترامب المفضل”، في إشارة إلى “السيسي”، وتساءلت “واشنطن بوست”: “ما هو رد فعل الإدارة الجديدة على اعتقال أقارب الناشط محمد سلطان، ” مردفة: “الجواب هو إعلان وزارة الخارجية الأمريكية يوم الثلاثاء الماضي عن موافقتها على صفقة بـ197 مليون دولار لبيع صواريخ بحرية-جوية لنظام السيسي”.

ومع الموافقة على الصفقات تحدثت وزارة الخارجية  وبنفس الخطاب عن “مناقشة التقارير مع الحكومة المصرية ولن نتسامح مع الهجمات والتهديدات من حكومات أجنبية لمواطنين أمريكيين وعائلاتهم”، وقال “برايس”: “تصرف كهذا هو ضد قيمنا ومصالحنا ويضعف الشراكة الثنائية حول العالم”.، وتمضي الصحيفة الأمريكية معلقة: “لكن الكلمات لا تعني شيئا للسيسي، لو استمر المال والسلاح الأمريكي بالتدفق، فالجنرال السابق الذي قاد انقلابا دمويا في 2013 ضد الحكومة المنتخبة ديمقراطيا، يعتمد على الجيش الذي يعتمد بدوره على (قطار العسل) الأمريكي من المساعدات”، واستدركت “واشنطن بوست”: “حتى يكون الرئيس الجديد فعالا عليه أن يقرن القول بالفعل. والبداية الجيدة هي التشاور مع تجمع حقوق الإنسان في مصر بالكونجرس وربط صفقات الأسلحة القادمة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين بدءا من أقارب سلطان”.

وجاء  اعتقال اقارب سلطان، والمطالبة بتقنين جديد للانترنت وشبكات التواصل في مصر عقب الموافقة الامريكية الاخيرة على صفقة صواريخ لمصر، فسرتها الادارة الامريكية بانها حماية للامن القومي الامريكي ، وانها مستمرة في مراقبة ملف مصر الحقوقي..وهو نهج معروف عن الادارات الامريكية الديمقراطية السابقة، حيث المصالح الاستراتيحية مع دول وحكومات الشرق الاوسط، تسير في طريقها، رغم ثلة من الانتقادات والملاحظات الحقوقية وفتح المجال للمنافذ الحقوقية والاعلامية لصب الانتقادات على الادارات المستبدة..وهو نفس ما مارسه الرئيس الامريكي الأسبق اوباما مع انقلاب السيسي على الرئيس مرسي في 2013، وتبقى المخاوف كبيرة خلال الفترة المقبلة ازاء نشاط معارضي السيسي على وسائل الميديا والسوشيال ميديا.

 

-التمهيد لقمع اوسع لتمرير سياسات متوحشة

 

ولعل القمع المتزايد لحرية الاعلام  والتعبير والرأي القائم في مصر والذي لاتغفله عين، وما تحمله التصريحات الاخيرة للسيسي حول التشريعات المرتقبة لحصار الفضاء الالكتروني وحريات التعبير، قد يحمل في طياته كثير من التجهات المتوحشة لنظام السيسي، بفرض مزيد من الجبايات من جيوب المصريين، سواء عبر القرارات الجديدة بالزامية التسجيل العقاري للوحدات السكنية  مقابل  أموال  طائلة، بجانب الزام اصحاب الوحدات بالتصالح على مخالفات البنائ، وفي وقت لاحق ادخال تلك الوحدات ضمن منظومة الضرائب، والتي يعتمدها السيسي ونظامه كمورد أساس لموازنة مصر، حيث صرخ وزير المالية محمد معيط بأن  الضرائب تمثل 80% من موارد مصر.

وفي هذا السياق، فرض السيسي مؤخرا العديد من الاتاوات والرسوم على المصريين، لتمويل صناديق تحيا مصر، وصندوق ضحايا العمليات الامنية للجيش والشرطة، وتمويل  علاج الدولة لفيروس كورونا، وفرض رسوم على طلاب المدارس والجامعات لتمويل نفس الصناديق..بجانب ضريبة القيمة المضافة والضريبة على الدخل، وافتراس منازل وعقارات المصريين  بعد انتهاء فترة السماح بالتصالح على مخالفات البناء في مارس المقبل، وتطبيق سيل الرسوم الجديدة على تراخيص السيارات وراديو السيارات وغيرها من السياسات المتوحشة، التي لا شك تثير غضبا واسعا لدى الجماهير، أغلبه يتم توجيهه عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

ولعله من أخطر ما ينتظر المصريون من سياسات كارثية، في الفترة المقبلة، ردود الفعل الصرية على استكمال بناء سد النهضة، وهو ما تذهب ازاءه حكومة السيسي، وفق المؤشرات الحالية نحو رفع اسعار المياة والكهرباء، والتهجير القسري واعادة توطين سكان دلتا النيل، وهو ما يحتمل الكثير من الازمات المجتمعية ، التي يستعد السيسي للتعامل معها بعصا القمع.

 

الدوافع

-قلق متوايد من التواصل الاجتماعي

وتعبر التصريحات التي يكمن وراءها المزيد من التشريعات القانونية المضيقة على هامش الحريات المعدوم بمصر عن قلق متزايد للسيسي ونظامه من دور وسائل التواصل الاجتماعي بمصر، وهذه ليست المرة الأولى التي يهاجم فيها “السيسي” مواقع التواصل الاجتماعي، إذا اعتاد التكهم عليها والسخرية منها، قبل التحذير من محتواها.

ومنتصف العام الماضي، كتب موقع “ميدل إيست آي” أن “حرية الإنترنت لا مكان لها في مصر السيسي”، لافتا إلى تطبيق البلاد لقوانين قاسية لتقييد الحريات الرقمية، لقمع المعارضين،وبموجب قوانين وسائل الإعلام الاجتماعية الجديدة في مصر، يمكن أن يواجه المستخدمون الذين لديهم أكثر من 5 آلاف متابع غرامات أو حظرا إذا كانوا يعتبرون “تهديدا للأمن القومي”.

 

-استباق الانفجار الشعبي

ويمكن قراءة دوافع السيسي والاسباب الكامنة وراء تصريحاته، في ضوء القلق الذي يكتنف نظامه من انفجار الأوضاع بمصر، والذي قد يتبعه تغيير دراماتيكي في مواقف امريكا والغرب ازاء نظام السيسي ، ومؤخرا تحدث السيسي عن أن الثورة ما زالت قائمة في مصر، محذرا داعميه بعدم التخلي عن دعمه ماليا وسياسيا واقتصاديا، فقبل أيام من تصريحات السيسي، قالت مجلة فورين بوليسي الأمريكية إن السيسي لم يتعلم سوي الدروس الخطأ من سقوط مبارك، وديكتاتوريته غير مستقرة وطاقة انفجار الغضب ضده تتسارع. وتحت عنوان (السيسي لم يتعلم سوى الدروس الخطأ من سقوط مبارك) قالت المجلة إن عبد الفتاح السيسي قلص منذ وصوله إلى الحكم في 2014، جميع أشكال الخطاب العام والمعارضة، معتقدا على ما يبدو أن مثل هذه المساحة من الحرية والمعارضة، مهما كانت صغيرة، كانت أكبر خطأ فادح لمبارك، وأدت إلى ثورة 25 يناير وسقوط نظامه.

وأشارت إلى أنه رغم الطبيعة الاستبدادية لنظام مبارك لمدة 30 عاما، وعدم سماحه بأي معارضة قد تعرض سيطرته للخطر، إلا أنه ترك بعض أشكال الحرية للصحف والمواطنين، وسمح ببعض الانتقادات حول الصعوبات اليومية الشائعة في الصحف والخطاب العام، طالما أن الأصوات المعارضة لا تستهدفه بشكل مباشر أو تعرض نظامه للخطر، فساعد هذا على بقائه في السلطة لعقود، وشددت أن نظام السيسي هو ببساطة تكرار أكثر عنفا لسنوات مبارك، وقالت: “على عكس ما يعتقده السيسي، بأن الانتفاضة الشعبية التي أدت في النهاية إلى زوال مبارك كانت نتيجة القمع غير الكافي، بل كانت بسبب التدهور الطويل في الظروف الاجتماعية والاقتصادية للمصريين العاديين والاعتماد على الدولة البوليسية التي فشلت في حل المشاكل اليومية للمصريين”، وأن “فشل السيسي في تحسين سبل عيش المصريين واعتقالهم وقتلهم بسبب الشكوى من ذلك، فهو يعمل فقط على تسريع تراكم طاقة الغضب الحتمية ضده”.

وقالت: “رغم امتلاء السجون بعشرات الآلاف من السجناء السياسيين وبالرغم من ذلك كله ديكتاتورية السيسي غير مستقرة وتفتقر إلى الثقة بالنفس” ولعل سبب القلق والتشدد الذي سيتخذه الصيسي من سياسات في الفترة المقبلة، مرجعه النتيجة التي وصلت إليه  الـ”فورين بوليسي” بأن ما يجري من قمع متزايد لن يؤدي سوي لتسريع تراكم طاقة الغضب والاقصاء الحتمية ضد نظام السيسي في نهاية الأمر، حيث “يؤدي القمع الوحشي إلى زيادة الضغط وتسريع الانتفاضة المقبلة”، وركز السيسي في بداية  استيلائه على السلطة، على جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها، وسرعان ما امتد قمع النظام ليشمل أي شخص أو حركة سياسية تشكك في الوضع الاجتماعي والاقتصادي الراهن، من المعارضين السياسيين والنشطاء العلمانيين والعاملين في مجال حقوق الإنسان والفنانين والصحفيين والأكاديميين وحتى مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي غير السياسيين، بالإضافة إلى الأطباء الذين يشككون في تعامل الحكومة مع وباء كورونا.

 

استراتيجية الصوت الواحد

ولعل ما يفسر اصرار السيسي في حربه على الانترنت بكافة أشكاله، هو  رغبته الجامحة في تأميم الاعلام والفضاء الالكتروني ، ووأد أي اعلام بديل، وهو ما بلورته حملات تخريب القنوات والصحف الخاصة ، ثم شرائها من أصحابها ، عبر أجهزة المخابرات والأمن الوطني والداخلية، كشركات فالكون جروب، واعلام المصريين، وسينرجي…وباتت النشرات والتنويهات والبرامج توجه عبر رسالة من جهاز سامسونج، وجرى ضم الاعلاميين ومقدمي البرامج وكتاب السلطة في جروب على الواتس آب “فرسان الكلمة” لتلقي التوجيهات الامنية فيما يخص القضايا الاعلامية والسياسية المعروضة على الشاشات والمواع والصحف.

ووفق الكاتب بلال فضل ، بمقاله “حرب السيسي على الانترنت”، بـ”العربي الجديد”، فبراير، 2015، “لا يمكن أن تفصل  الديكتاتورية والقمع عن سعي نظام السيسي إلى تحجيم دور الإنترنت، لكي لا يُستخدم كسلاح لتقوية الذاكرة الشعبية، أو كإعلام بديل غير قابل للشكم، حيث يتفنن ترزيته القانونيون في إصدار تشريعات تحلم بالسيطرة على فضاء الإنترنت الرحب، آخرها إصدار قانون تجرم بعض مواده الإرسال الإذاعي عبر الإنترنت للقضاء على الإذاعات الشبابية المزعجة. وفي الطريق قانون آخر يبيح حجب مواقع إنترنت معينة، بعد استصدار أحكام تتهمها بدعم الإرهاب والسعي إلى إسقاط الدولة” وهو ما جرى أكثر منه منذ 2015.

كما يأتي في هذا السياق، حديث السيسي منذ بدايات انقلابه العسكري، عن تمنيه ان يكون لديه اعلام كما كان في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر،  إلا أن وجود الإنترنت الآن يجعله أصعب، ليعرقل كثيرا من محاولات إفلات السيسي، بكثير من أكاذيب وجرائم نظامه، وهو ما يدفع نحو مزيد من التشريعات الجديدة، التي تسير عكس اتجاه البشرية نحو مزيد من الحرية والتحرر، وتضع منظمة “صحفيون بلا حدود”، مصر في المرتبة 161 من بين 180 بلدا عبر العالم، من حيث حرية التعبير، واصفة إياها بأنها “أحد أكبر سجون العالم للصحفيين”.

 

-هل تفلح سياسات السيسي القمعية؟

وعلى الرغم من تنوع سياسات القمع ، بالاعتقال أو اغلاق المجال العام أو تضييق الحريات وحجب المواقع والسيطرة على الفضاء الالكتروني، فإن مقتضيات الواقع وتطورات الأخحداث محليا واقلينيا ودوليا، تؤكد أن سياسات السيسي القامعة للحريات لن تنجح في اسكات المعارضين ورافضي حكم السيسي، فالثورة التكنولوجية باتت كالشمس لا يمكن حجبها، وبات انتشار التلفون والانترنت كالماء في المجتمعات الفقيرة والغنية، كل سواء.

وطالما بقيت سياسات الفشل الاقتصادي والسياسي قائمة؟، فإن تعبير المواطنين عن آلامهم لن يتوقف..وهو ما شاهده السيسي بنفسه في 20 سبتمبر الماضي، حينما خرجت ثورة الجلابية من الريف ومن الصعيد، دون خوف من بطش القوى الأمنية، وتأكد الأجهزة الأمنية أن الثائرين مجرد مواطنين عاديين لا ينتمون لأي فصيل سياسي، فلم تعد المعركة معركة نخبة ، أو تيارات سياسية مع نظام قمعي، بل بات الصراع بين عموم المجتمع بأفراده ومناطقه وفصائله ونظام قمعي فاشل اقتصاديا وسياسيا.

ووفق تقديرات سياسية، فإن ما حدث في 25 يناير 2011 خلق حالة من الذعر للأنظمة الاستبدادية..وهو ما ترجمه السيسي حرفيا في خطاباته التي انتقلت من الحرب على الإرهاب إلى حروب الجيل الرابع، والتركيز عل مخاطر تتهدد الأمن القومي إثر التدوينات والتواصل الاجتماعي – بحد زعمه، ونظرا لأن وسائل الإعلام الجديد لها ميزة أنها غير نخبوية بصورة كبيرة؛ حيث يشارك فيها الجميع باختلاف انتماءاتهم الثقافية والطبقية والدينية، وتأثيرها أقوى من وسائل الإعلام التقليدية المتعارف عليها، ولها دور بارز في الاهتمام بالواقع السياسي والتأثير فيه وحشد أعداد كبيرة من الآراء والتوجهات لا سيما على “فيسبوك” و”تويتر”، تتزايد توجهات النظام في الخرب عليها، واستحداث العديد من القوانين والتشريعات المضيقة على حرية الرأي والتعبير.

 

حرية الإنترنت في خطر

وعلى الرغم من أن سيناريو الفشل هو السيناريو الاقرب للسيسي إزاء حربه على التواصل الاجتماعي وحرية الانترنت، إلا أن المخاطر باقية وتهدد بمزيد من التضييق على الفضاء الالكتروني بمصر، وهو ما أشار إليه تقرير “صندوق حرية الإنترنت العالميOTF  ” في العام 2019 و”صندوق حرية الإنترنت” هو برنامج تموله الحكومة الأمريكية منذ عام 2012 لدعم تقنيات حرية الإنترنت العالمية، وذهب الصندوق إلى أن  ملاحقة الحكومة المصرية لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي وعلى رأسها فيسبوك تصاعدت منذ عام 2011، وأصبحت أسوأ حالة لحقوق الإنسان في تاريخها منذ 2013 وحتى 2019.

وأكد أن النظام الحالي سجن الآلاف من النشطاء السياسيين، لاستخدامهم مواقع التواصل للتعبير عن آرائهم، بعدما سيطر على المشهد الإعلامي، وسعى لـ”تأميم الكلام” للحد من وصول أي خطاب سياسي بديل لوسائل الإعلام والشعب، وأوضح التقرير أن سعي السلطات المصرية منذ انقلاب 2013 للسيطرة على وسائل الإعلام التقليدية، دفع السياسيين والنشطاء إلى الاعتماد على منصات التواصل الاجتماعي كوسيلة للتعبير عن أنفسهم، وهو ما ردت عليه السلطة بتقييد تلك المنصات بالحجب والاعتقالات.

وعدّد التقرير ثلاث آليات حكومية لتقييد حرية استخدام المصريين للإنترنت؛ أولها: استخدام ادوات ووسائل تكنولوجية جديدة لحجب المواقع الإخبارية والحقوقية والمدونات، والثاني: إضفاء الشرعية على الحجب والرقابة بتشريع عدة قوانين تجيزهما، مثل: قانون جرائم الانترنت، وقانوني الصحافة والإعلام، التي تضمنت اعتبار ما ينشره أي مصري لديه أكثر من 5 الاف متابع على فيس بوك بمثابة صحيفةيعاقب بسبب ما ينشره عليها من آراء معارضه بتهمة الكذب. ولثالث: اعتقال من يمارس حرية التعبير على الإنترنت، وتوجيه اتهامات له بـ”إساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي ونشر أخبار كاذبة والانضمام إلى جماعة محظورة”، والتي باتت تهمة ثابته لك النشطاء الذين اعتقلوا مؤخرًا، برغم تعدد مشاربهم السياسية.

 

ثلاث خطط لملاحقة نشطاء “التواصل”

وقد حدد التقرير ثلاث خطط تتبعها الحكومة المصرية لملاحقة مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي خلال فترات تزايد التوتر السياسي.

الخطة الأولى: الاعتقالات الجماعية، والثانية: استهداف النشطاء والشخصيات السياسية المعروفة، والثالثة: هي اصطياد الأفراد أصحاب المشاركات العالية والمؤثرة على مواقع التواصل التي تراها السلطة ذات تأثير ضار عليها، ومن أخطر القوانين المكممة للحريات قانون الصحف والفضائيات الصادر 10 يونيه 2018، و”قانون جرائم الإنترنت الجديد 5 يونيه 2018، المكون من 59 مادة تتضمن عقوبات للمعارضين الذين يكتبون عبر شبكة الإنترنت ويرتكبون ما يسمى “جرائم” على الشبكة، فبموجب هذا القانون جرى تقنين حجب قرابة 540 موقعًا على الإنترنت سبق حجبها منذ 2017 دون سند قانوني، أغلبها مواقع إخبارية ك BBC، ومواقع منظمات حقوقية ومدونات.

وفي مايو 2020، وتحت عنوان “لا تسر عدو ولا حبيب”، أصدرت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان (منظمة مجتمع مدني مصرية)، رصدت إن عدد المسجونين من الصحافيين العاملين بالصحافة وصل إلى 39 صحافيًا، فيما تم تسجيل عدد (17) حالة اعتقال جديدة بحق صحافيين وعاملين بالصحافة بأنواعها المختلفة في عام 2019 وحده، ووصل عدد المواقع المحجوبة في مصر إلى أكثر من 500 موقع.

وعن توقف قنوات ومنع إعلاميين، رصد التقرير أنه في 4 فبراير 2019، صدر حكم ضد الناشر خالد لطفي، مؤسس دار تنمية للنشر، في محاكمة عسكرية بالسجن 5 سنوات، بتهمة “إفشاء أسرار عسكرية” و”بث شائعات”، بعد نشره كتاب “الملاك” الممنوع من النشر في مصر. وكان الفيلم المأخوذ عن الكتاب قد مُنع أيضاً من البث، لما يتناوله عن قصة حياة أشرف مروان زوج بنت جمال عبد الناصر، ويصفه بالجاسوس المصري لإسرائيل.

ورصد التقرير أنه في 25 مايو ، قررت نقابة الإعلاميين وقْف الإعلامية بسمة وهبة، مقدمة برنامج “شيخ الحارة” الذي يعرض يوميًا، وكان قرار الوقف بسبب حلقتين للإعلامية تسببتا في مشاكل، وأعلنت النقابة إيقافها قبل أن يفصل المجلس الأعلى في الشكاوى المقدمة ضدها، وذلك بسبب تبين عدم وجود قيد للإعلامية في النقابة. وفي 4 ديسمبر ، أعلنت قناة Ten الفضائية توقف عملها بالكامل في نهاية شهر ديسمبر 2019، بسبب صعوبات مادية وأسباب تمويلية وإعلانية.

كما رصد التقرير رفع أسعار الصحف القومية، حيث قررت الهيئة الوطنية للصحافة في بيان لها زيادة أسعار الصحف اليومية والإصدارات الأسبوعية جنيهاً واحداً، جاء بهدف “تعويض جزء يسير من الخسائر التي تتكبدها المؤسسات الصحافية”، وتشهد الصحف الورقية بشكل عام وخاصة القومية خسائر كبيرة نظراً لقلة الإقبال عليها.

وعن القضايا الأكثر تأثيراً في حرية التعبير، سرد التقرير “عام 2019 شهد تدهورًا واضحًا في حالة المدافعين عن حقوق الإنسان، حيث شهد 56 حكمًا بالسجن والحبس الاحتياطي لمدافعين عن حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير بشكل خاص، كما شهد انتهاكات متعددة بحق حقوقيين ومدافعين من منع من السفر والتصرف في الأموال، واعتداءات بدنية، فضلاً عن التشهير والتهديدات العلنية بالقتل، والحبس الاحتياطي، بل والاختفاء القسري، وغيرها من الانتهاكات التي رصدتها الشبكة العربية في تقرير منفصل عن حالة المدافعين في 2019 ووصفتها بأكثر من صعبة”، وهكذا تحول العمل الاعلامي والتعاطي عبر الانترنت خطرا داهما لكل مصري، يعرضه للمساءلة بل والاعتقال واحيانا القتل خارج اطار القانون، من اجل ان ينعم النظام المستبد براحة لبعض الوقت، تحت سمع وبصر المنظمات والحكومات العالمية.

 

 

 

 

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022