بين كل ما تمر به السودان من أزمات اقتصادية وسياسة على المستويين الداخلي والخارجي، وبين تصاعد الانقسام بين المكونين العسكري والمدني في مجلس السيادة السوداني؛ طفا إلى السطح في الأيام الأخيرة انقسام جديد داخل المكون العسكري، شجعته الأحداث في الشرق، وبرز خلال محاولة للانقلاب العسكري على مجلس السيادة السوداني. فماذا حدث؟ وماذا كانت خلفية الأحداث؟ وما هي مآلات الوضع في السودان؟ تلك هي التساؤلات التي سنسعى للإجابة عليها..
ماذا حدث؟
شهد السودان يوم الثلاثاء 21 سبتمبر، محاولة انقلاب فاشلة قامت بها مجموعة من الضباط، قبل أن يلقى القبض عليهم ويحالوا إلى التحقيق. فقد أفادت معلومات عسكرية بأن محاولة الانقلاب تلك جرت فجرًا من قِبل ضباط في سلاح المدرعات، مستغلين الأحداث الأخيرة التي وقعت في البلاد لا سيما الاضطرابات شرقًا، وكانت معلومات بشأن المحاولة الانقلابية قد توفرت للحكومة مساء اليوم السابق الاثنين، مما ساعد على إحباطها بسرعة. كما أوضحت المصادر أن عددًا من الضباط (يُقدَّر بأكثر من 20)، بقيادة اللواء عبد الباقي بكراوي، سيطروا على سلاح المدرعات التابع للجيش السوداني، قبل أن يتم اعتقالهم.
إلى ذلك، أشارت إلى أن قادة الانقلاب خططوا لاعتقال أعضاء مجلس السيادة، والمجلس العسكري، على أن تنطلق العملية الانقلابية من أكثر من نقطة. كذلك أكد مصدر حكومي رفيع، أن منفذي العملية حاولوا السيطرة على مقر الإعلام الرسمي لكنهم فشلوا. كما أشار مصدر رسمي آخر بأن محاولة الانقلاب تضمَّنت مساعي للسيطرة على إذاعة أم درمان التي تقع على الضفة الأخرى من النيل قبالة العاصمة الخرطوم. حيث تحركت دبابات من أمام السلاح الطبي وأغلقت الطريق نحو كوبري أم درمان القديم، في جوار البرلمان السوداني، وسط انتشار كثيف للقوات العسكرية في المنطقة. بالتزامن، وجه محمد الفكي سليمان، عضو مجلس السيادة السوداني والناطق الرسمي باسم المجلس، مناشدة لجميع السودانيين، من أجل الدفاع عن البلاد. وقال في تعليق على حسابه على فيسبوك: “هبوا للدفاع عن بلادكم وحماية الانتقال”. إلا أنه عاد وأضاف في تعليق لاحق: “الأمور تحت السيطرة والثورة منتصرة”.[1]
خلفيات اليوم السابق للانقلاب:
كانت بعض المناطق شرق السودان، الذي يضم ولايات البحر الأحمر وكسلا والقضارف، شهدت توترات واشتباكات على خلفية رفض بعض القبائل لاتفاق السلام. وأغلق محتجون ميناء البلاد الرئيسي على البحر الأحمر مجددًا، والطريق الذي يربط مدينة بورتسودان ببقية ولايات البلاد، احتجاجًا على اتفاق السلام الذي وقعته الحكومة العام الماضي في ظل اعتراضات من قبائل في الشرق. في حين أوضح سيد أبو أمنه، القيادي بالمجلس الأعلى للقيادات الأهلية والذي يقود الاحتجاجات أنه منذ الجمعة الطريق الذي يربط بورتسودان مع بقية البلاد مغلق، كما تم إغلاق الموانئ الرئيسية للحاويات وتصدير النفط، وأنه لن يتم رفع الإغلاق إلا بتحقيق المطالب، وعلى رأسها إلغاء مسار شرق السودان (اتفاق السلام). الذي وقَّعته الحكومة الانتقالية السودانية في مدينة جوبا في أكتوبر 2020، مع عدد من الحركات التي حملت السلاح في عهد الرئيس السابق عمر البشير، بسبب التهميش الاقتصادي والسياسي لهذه المناطق. وبعد التوقيع، قامت قبائل البجه شرقي البلاد الذي يعتبر من أفقر أجزاء السودان، بالاحتجاج وإغلاق ميناء بورتسودان لعدة أيام، اعتراضًا على عدم تمثيلهم في الاتفاق المذكور.[2]
التفاصيل المُعلنة في بيان الحكومة: أعلنت الحكومة السودانية تفاصيل تتعلق بعملية الانقلاب الفاشلة، وقال بيان تلاه وزير الثقافة والإعلام والناطق الرسمي باسم الحكومة السودانية، حمزة بلول: “تمت السيطرة فجر اليوم الثلاثاء 21 سبتمبر 2021 على محاولة انقلابية فاشلة قام بها مجموعة من ضباط القوات المسلحة من فلول النظام البائد”. وأضاف: “نؤكد في الحكومة الانتقالية والأجهزة النظامية بأننا نعمل بتنسيق تام، ونطمئن الشعب السوداني أن الأوضاع تحت السيطرة التامة حيث تم القبض على قادة المحاولة الانقلابية من العسكريين والمدنيين، ويتم التحري معهم حاليًا، بعد أن تمت تصفية آخر جيوب الانقلاب في معسكر الشجرة، وتواصل الأجهزة المختصة ملاحقة فلول النظام البائد المشاركين في المحاولة الفاشلة”.
وتابع البيان: “الثورة باقية وماضية في تحقيق غاياتها ومؤسسات الحكم المدني محروسة، بإرادة قوى الثورة وجماهير الشعب السوداني الأبي”. وطالب “كل قوى الثورة من لجان مقاومة وقوى سياسية ومدنية وأطراف السلام والأجسام المهنية والنقابية وكل قطاعات الشعب السوداني إلى توخى اليقظة والانتباه إلى المحاولات المتكررة التي تسعى لإجهاض ثورة ديسمبر المجيدة”. وشدَّد على أن مؤسسات الحكم المدني “لن تفرط في مكتسبات الشعب وثورته وأنها ستكون على خط الدفاع الأول لحماية الانتقال من قوى الظلام المتربصة بالثورة”، حسبما نقلت وكالة الأنباء السودانية. وهدأت بعدها الأوضاع في محيط القيادة العامة بالخرطوم، لكن تقارير تحدثت عن مقاومة الانقلابيين في بعض المناطق العسكرية البعيدة نسبيًا عن القيادة العامة في وسط الخرطوم خصوصًا سلاح المدرعات في جنوب العاصمة.[3]
تصريحات مجلس السيادة:
في اليوم التالي للمحاولة الانقلابية؛ أكد رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، أن هناك قوى سياسية تهاجم المجلس، مشيرًا إلى أن المجلس لن يقبل توجيه الإساءات له، وأن من واجبه منع استئثار جهة سياسية واحدة بالسلطة خلال الفترة الانتقالية. وأضاف البرهان أن “إجهاض القوات المسلحة للانقلاب يأتي من باب القناعة بالتحول الديمقراطي”، مؤكدًا أن “الجميع يريد الدولة المدنية والديمقراطية التي تأتي عبر الانتخابات”، مشيرًا إلى عدم استطاعة أي جهة أن تبعد القوات النظامية من المشهد بالسودان خلال الفترة الانتقالية “لأنه ليس هناك حكومة منتخبة”. وأكد البرهان أن القوات النظامية تتعرض لحملة ممنهجة لن تتوقف، متحدثًا عن أن “هناك أقلام مأجورة بأموال من جهات خارجية تسيء لنا”.
ورأى البرهان أن ما يحدث في شرق السودان “هو أمر سياسي يتعلق بقسمة السلطة والثروة”، نافيًا الأخبار التي تتحدث عن دعمه. وقال إن “هناك من يسعى للجلوس على الكراسي ولم نر قوى سياسية تتحدث عن الانتخابات أو هموم المواطنين وحل مشاكلهم”، مضيفًا أن شعارات الثورة السودانية في الحرية والعدالة والسلام “ضاعت وراحت تحت كراسي السلطة”. من جهته، اتهم نائب رئيس مجلس السيادة السوداني محمد حمدان دقلو “حميدتي”، السياسيين في البلاد بأنهم “سبب الانقلابات العسكرية”. جاء ذلك في كلمته خلال حفل تخريج قوات عسكرية غربي العاصمة الخرطوم؛ غداة الإعلان عن محاولة انقلابية فاشلة من قبل بعض العسكريين. وقال حميدتي إن “أسباب الانقلابات العسكرية هم السياسيون الذين أهملوا خدمات المواطن وانشغلوا بالكراسي وتقسيم السلطة”. وأضاف: “دعمنا مبادرة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، للتوافق، لكنهم مارسوا الإقصاء وكل طرف يحفر للآخر”. وأردف: “ينبغي أن نتواثق حول برنامج وطني ونترك أساليب التخوين”، فيما اعتبر أنّ “الأزمة في السودان لن تحل إلا عبر توحيد الكلمة والعمل بروح وطنية”.[4]
مآلات الوضع في السودان:
كتب ياسر عرمان، وهو مستشارٌ سياسي لرئيس وزراء السودان عن احتمالات وقوع انقلابٍ يطيح حكومة الفترة الانتقالية الحالية، أن الانقلاب فكرة مستحيلة. فعلى الرغم من الصعوبات التي تعترض مسيرة الفترة الانتقالية التي جاءت بها انتفاضة شعبية في السودان، وأسقطت نظام عمر البشير، وكان أفدح تلك الصعوبات تشتُّت الشارع السوداني من الضائقة المعيشية، فإن عرمان يؤكد أن ليس من مجالٍ لانقلاب عسكري يتولى حكم البلاد، غير أن العين الفاحصة سترى في الحيثيات ما يقطع أن الاستحالة التي قال بها ذلك المستشار قد لا تسندها، في الظاهر، وقائع حاضرة أو واقع ماثل، بل الذهنية العسكرية، خاصةً في دول العالم الثالث، لا تملك ما يعينها على الصبر، وتحمُّل عثرات النخب المدنية في إدارة أحوال بلدانها السياسية والاقتصادية، فتجنح النخب العسكرية إلى المغامرة بتحريك المدرعات، والشروع في حمل أسلحتها والاستيلاء على السلطة، بليلٍ أو بنهار.
فيجمع المُحللون السياسيون على أن وقوع الانقلابات العسكرية في بلدان العالم الثالث قد جاء، في معظمه، بحيثياتٍ حملت إدانة للنخب المدنية التي تولت إدارة بلدانها وإطاحتها، لكنها سرعان ما تحوَّلت إلى أنظمة ديكتاتورية وشمولية غاشمة. وفي السودان لحق اضطرابٌ في أداء الدولة، بسبب ضبابيةٍ اكتنفت الوثائق الدستورية والقانونية التي صيغت لحكم الفترة الانتقالية، ما أسفر عن ثغرات وتوترات وتضارب واختلاف، خصوصًا في ما يتصل بإحلال السلام في ربوع البلاد، والملفات الأمنية والاقتصادية المتصلة به. تلك الضبابية تركت كلا المكونين المدني والعسكري يسعيان إلى إخفاء ذلك الاضطراب، بشكل حافظ على الحد الأدنى من التماسك بينهما، لكنه لم يخفِ بالكامل خطورة تداعياته وتفاقم مهدداته. وما يقول به المستشار السياسي لرئيس الوزراء السوداني، من استحالة فكرة الانقلاب العسكري، هو قولُ من يرى مخاطر ذلك، والذي قد يدخل البلاد إلى أجواء حروب داخلية، وربما إلى تشظٍ وانقسامات، إن لم يترك البلاد لقمة سائغة لأطرافٍ في المجتمع الدولي لها من المطامع ما لها.[5]
الخُلاصة؛ تظل المشاكسات بين المكونين، المدني والعسكري، في السودان مرشحة لمزيدٍ من التصعيد، ولمزيد من تكاثر الزعازع التي ستضعف من قدرات المكون المدني، مثلما نرى من تطوراتٍ بالغة الخطورة في شرق السودان وأيضًا في غربه، من كياناتٍ ترفع رايات التمرد على الحكومة المركزية في الخرطوم، بما قد يهيئ البلاد لخيارات كارثية، أقلها الانقلاب العسكري الأبيض الذي قد يتوسل لقوى الحراك الشعبي لتتسيَّد قيادة الدولة مع الإبقاء على مجلس للوزراء، يسيطر عليه مجلس سيادي عسكري بالكامل. أما أسوأ السيناريوهات، فهو أن يعمد المكون العسكري لتولي قيادة البلاد، مع تجاهل المكون المدني وإقصائه تمامًا فيكون الحكم عسكريًا محضًا، يشجِّع قيامه ضعف الاتحاد الإفريقي إزاء الانقلابات التي شهدتها القارة الإفريقية أخيرًا، كما قد لا تعارضه بعض الأنظمة القائمة في دول تجاور السودان. وهكذا تبدو الصورة في السودان قاتمة، وغير ما كان يتوقع لها المجتمع الدولي، بعد حراك شعبه الذي أنهى عزلته، وأعاده بلدًا فاعلًا في محيطه الأقرب، وفي تعامله مع المجتمع الدولي المتعاطف، فإذا هو الآن في وضع أقرب إلى التشاؤم منه إلى التفاؤل.
[1] “السودان.. الإعلان عن اعتقال جميع المشاركين في المحاولة الانقلابية وبدء التحقيق معهم”، الجزيرة نت، 21/9/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/sQoq3
[2] “محاولة انقلاب شرق السودان.. والفكي “هبوا للدفاع عن بلدكم””، العربية، 21/9/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/WJ2Uw
[3] “السودان.. كشف تفاصيل محاولة الانقلاب الفاشلة”، عربية Sky News، 21/9/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/ATX7O
[4] “البرهان: لا أحد يستطيع إبعاد القوات النظامية خلال الفترة الانتقالية”، العربي الجديد، 22/9/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/YjC3V
[5] جمال محمد ابراهيم، “الانقلابُ في السودان فِكرةٌ مُستحيلة”، العربي الجديد، 22/9/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/ANKgr