ازدادت الأزمة السودانية احتقانًا في ظل تظاهرات ضخمة وصلت إلى قرب القصر الرئاسي، رافضةً لاتفاق رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك مع رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، وتزايد احتمالات حدوث مواجهة حادة بين المحتجين وقوات الجيش. حيث شهد السودان الأحد 19 ديسمبر 2021، احتجاجات واسعة؛ تمكَّن خلالها المتظاهرون، للمرة الأولى، من اختراق الحواجز الأمنية الكبيرة حول القصر الرئاسي، وتلك المؤدية إليه، رغم إطلاق الشرطة والقوات الأمنية الرصاص وقنابل الغاز بكثافة على أجساد المحتجين مباشرة، ما أدى إلى إصابات عديدة. كل هذا بالتزامن مع فشل حمدوك في تشكيل حكومة كفاءات مستقلة، بعد إبعاد قادة الانقلاب لأعضاء حكومته من قوى الحرية والتغيير، وعدم وجود حاضنة سياسية لحكومته المنتظرة، مع تخوُّف المرشحين للمناصب الوزارية من الأوضاع الدقيقة في البلاد وطلبهم ضمانات لقبول الترشيح، فضلًا عن خلافات بين حمدوك والحركات المسلحة بخصوص حصصها الوزارية حسب اتفاق سلام جوبا، خاصةً الحركات التي ساندت الانقلاب. الأمر الذي دعا حمدوك للتلويح باستقالته، وتسريب الخبر لوكالة رويترز. فما هي احتمالات استقالة حمدوك؟ وكيف يُمكن قراءة هذا التلويح؟ تلك هي التساؤلات التي سنحاول الإجابة عنها..
ظروف وأسباب التلويح بالاستقالة:
أكد مصدران لوكالة رويترز، ليلة الأربعاء 22 ديسمبر، أن رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك، يعتزم الاستقالة من منصبه خلال ساعات، وذلك بعد نحو شهر على اتفاق مع قائد الجيش عبد الفتاح البرهان على تشكيل حكومة جديدة. وقال مصدر مُقرَّب من مكتب حمدوك إن رئيس الحكومة السودانية كان “يعتزم خلال الأسبوعين المقبلين تقييم موقف شراكته مع الشق العسكري الذي وقَّع معه اتفاقًا سياسيًا في 21 نوفمبر؛ لكن طريقة التعامل الأمني مع المحتجين، والتقارير التي تحدثت عن قمع مفرط وقتل واغتصاب بحق المحتجين، جعلته يفكر في تسريع استقالته”. فمنذ توقيعه على الاتفاق مع البرهان، يتعرض حمدوك لضغوط كبيرة من الشارع السوداني، الذي خرج في عدة مسيرات احتجاجية كان أضخمها تلك التي وصلت إلى محيط القصر الرئاسي الأحد 19 ديسمبر، لكنها تعرضت لقمع مفرط من قبل الأجهزة الأمنية، مما أثار انتقادات دولية ومحلية واسعة. وطالبت المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بالتحقيق السريع في تقارير خطيرة تلقتها عن عمليات قتل واغتصاب وعنف مفرط طالت المئات من السودانيين. وكشفت المفوضية خلال مؤتمر صحفي عقدته بجنيف عن تلقي مكتب حقوق الإنسان المشترك في السودان تقارير تتعلق بتعرض 13 امرأة وفتاة للاغتصاب أو الاغتصاب الجماعي، إضافةً إلى عمليات تحرش جنسي من قبل قوات الأمن ضد النساء اللواتي كن يحاولن الفرار من المنطقة المحيطة بالقصر الرئاسي. وأشارت المفوضية إلى مقتل اثنان من المتظاهرين بعد إطلاق النار عليهما، وإصابة نحو 300 آخرين بالذخيرة الحية وقنابل الغاز المسيل للدموع أو الضرب المبرح من قبل أفراد الأجهزة الأمنية.[1] وترجع أسباب رغبة حمدوك في الاستقالة إلى ضيقه من ابتعاد مجموعة الحرية والتغيير الحاضنة السياسية السابقة لحكومته، ورفضها التعاون معه، أو المشاركة في صياغة إعلان سياسي جديد كان يرتب له. كما أنه يجد صعوبة في تشكيل وزارة تكنوقراط، لعزوف معظم المكون المدني عن التعامل معه في ظل الاتفاق الذي أبرمه مع قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان.[2] وعزا مصدران بمجلس الوزراء السوداني، توجه حمدوك للاستقالة إلى اعتراضه على تدخلات العسكريين في تعييناته قيادات الخدمة المدنية. وبحسب المصدران: كان هناك خلاف دبَّ بين حمدوك والمكون العسكري في مجلس السيادة حول قرار رئيس الوزراء الأخير الخاص بإعادة لقمان أحمد، لمنصب مدير هيئة التلفزيون السوداني بعد استبعاده خلال الفترة الماضية. وأضافا أن إعادة لقمان كانت أحد مطالب حمدوك، في وقت يرفض المكون العسكري ذلك، ويتمسك بأن يكون مدير هيئة التلفزيون يخضع في عمله لسلطة إدارة التوجيه المعنوي التابعة للجيش السوداني. وأفصحت المصادر أن من بين الأسباب الأخرى التي دفعت حمدوك إلى التهديد بالاستقالة هو أنه لا يشعر بقدرته على إحداث توافق سياسي مع تصاعد الاحتجاجات الرافضة للاتفاق مع رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان.[3]
قراءة في تلويح حمدوك بالاستقالة:
تلويح رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بالاستقالة ربما تكون خطوة تتضمن عدة رسائل: أولها؛ رسالة للقوى السياسية والمهنية والشبابية التي تعارض اتفاق ٢١ نوفمبر، مفادها إما تدعموا الاتفاق وتتجهوا نحو اتفاق سياسي شامل وفق مبادرات رئيس الوزراء والمبادرات الأخرى دعمًا للانتقال الديمقراطي، وإما الاستقالة وفي استقالة حمدوك في الوقت الراهن تفقد قوى الحرية والتغيير أكثر مما تكسب؛ بينما لم يتبقى من قرارات البرهان الانقلابية سوى هيكلة مجلس السيادة، ولجنة التفكيك والتي يرى البعض أنها قادمة بقوة ضمن الاتفاق السياسي الشامل الذي يريده حمدوك ويشرف عليه منذ اتفاق ٢١ نوفمبر. وثانيها؛ رسالة للجنرالات بأنه ماضي في ممارسة صلاحياته كرئيس للوزراء وأي عرقلة في ذلك سيقدم الاستقالة، وهي رسالة لتمرير عدة قرارات مقبلة كانت موقوفة بسبب العسكر، وإذا استقال سيضعهم أمام ضغط الشارع والضغط الدولي، لذلك فهم متمسكون به ليعبر بهم بالمرحلة وينجيهم من الضغوطات الداخلية والدولية. وثالثها؛ رسالة للمجتمع الدولي، بأنه إن كان خيارهم فعليهم دعمه فورًا وفك تجميد التمويل الدولي حتى يستطيع مواصلة وإكمال ما بدأه من إصلاحات اقتصادية قبل انقلاب البرهان، وحتى يستطيع أن يقنع الشارع المتوهج برفضه لاتفاق ٢١ نوفمبر. ونشر خبر التلويح بالاستقالة في وكالة رويترز؛ القصد منه التأثير القوي والسريع وإيصاله لقادة المجتمع الدولي الداعمين للانتقال في السودان.[4]
هل يستقيل حمدوك؟
يرى البعض أن حمدوك يغازل المانحين والداعمين للموازنة القادمة بعد توقُّف الدعم الخارجي، ويرى هؤلاء أن التسريبات باستقالة حمدوك تشمل رسالة داخلية للقوى السياسية وخاصةً الحرية والتغيير المجلس المركزي مفادها أن حمدوك يغازل المعارضة بأن تتقدم للحوار على برنامج يفضي إلى انتخابات مقابل الدعم لحكومته المقبلة. والتسريبات تأتي غداة إلغاء قرارات أصدرها القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الحالي، وهو ما يُعتبر مغازلة وتهديد بتمرير هذه القرارات وعدم الاعتراض عليها، وكان حمدوك قد ألغى قبل ساعات قرارات تتعلق بهيئة الإذاعة والتلفزيون والبنك الزراعي وغيرها من القرارات. واعتبر هؤلاء أن استقالة حمدوك في هذا التوقيت غير واردة، وإن حدثت ستكون نهاية لحمدوك نفسه وستبعد المجلس المركزي للحرية والتغيير عن المشهد بشكل كبير، وأن الاستقالة تعني تمديد الفترة الانتقالية لعامان إضافيان وستربك المشهد وستقلبه رأسًا على عقب.[5] وهذا هو الأرجح. في حين يرى آخرون أن حمدوك لن ينجح لوحده وقد يستقيل بعد أيام، حيث تفكيك الوضع الراهن في السودان يتطلب توحيد قوى الثورة واستمرار معركتها في الشارع، بينما يواصل حمدوك عمله على عدم سقوط الجهاز التنفيذي للدولة في يد الانقلابين، الذي يُعتبر أمرًا بالغ الخطورة. ودور حمدوك مرحلي ويرتبط بالأساس بمنع اكتمال الانقلاب وانتزاع المزيد من الصلاحيات، بالإضافة إلى إنجاز ما يمكن إنجازه من مهام الانتقال وإيصال البلاد بشكل آمن للانتخابات. واستقالة رئيس الوزراء ستخلق فراغًا واسعًا، واختيار بديل له سيحتاج لوقت طويل بسبب مشاكل عدم وجود الحد الأدنى من التوافق، الأمر الذي سيزيد من تعقيد المشهد السياسي الراهن.
تراجُع حمدوك عن الاستقالة:
تناقلت أخبار عن تراجع رئيس الوزراء عبد الله حمدوك عن استقالته، وكشف مسئول سوداني عن موافقة حمدوك على عدم تقديم استقالته؛ بعدما أجرى عدد من الشخصيات السياسية والمسئولين في الحكومة، اتصالات معه وطلبوا منه عدم الاستقالة والاستمرار في منصبه. وأضاف أن رئيس الوزراء استجاب لتلك المطالب ووافق على الاستمرار في المنصب من أجل استقرار البلاد، ولفت إلى عقد اجتماع عاجل يضم القوى السياسية للوصول إلى تفاهمات مشتركة بين الطرفين حول الفترة المقبلة. فيما أفصح مصدر آخر عن لقاء تم فجرًا جمع حمدوك ورئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لبحث الاستقالة.[6] وحسب تصريحات صحافية للقيادي في حركة العدل والمساواة الداعمة للانقلاب محمد زكريا، تقدَّم حمدوك فعلاً باستقالته منذ الاثنين 20 ديسمبر “بسبب شعوره بالإحباط ورفض جزء كبير من القوى السياسية الاتفاق الموقع بينه وبين البرهان بالإضافة لعدم الوصول لتوافق حول ميثاق سياسي يمكنه من تشكيل حكومته”. وأكد أن “حمدوك تراجع عن الاستقالة واشترط عدم اعتراض المتظاهرين والسماح لهم بالتعبير” مشددًا على أنهم “كتلة منفصلة عن المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير ولا يجب تجاوزها”.[7]
سيناريوهات الأزمة السودانية:
من الواضح أن التظاهرات في السودان أصبحت عفوية، وأنها لم تعُد لها قيادة مما يجعل من الصعب إقناع المتظاهرين بالعودة إلى بيوتهم، بعد أن فقدوا الثقة تمامًا في قيادة الجيش، وأصبح من غير المقبول بالنسبة لهم الثقة بما يسمى بالشراكة بين المدنيين والعسكريين بعد انقلاب 25 أكتوبر الذي أطاح بحمدوك، كما أن الأخير فقد قدرًا كبيرًا من حيثيته الشعبية. وبات من الواضح أنه لا خيار أمام البرهان وحميدتي بعد تزايد احتمال استقالة حمدوك وإصرار المتظاهرين على إنها الحكم العسكري، إلا اللجوء للعنف للتصدي للتظاهرات أو الاستقالة، ولكن الخيار الأخير قد يكون مخيفًا بالنسبة لهم بالنظر إلى احتمال تعرضهم للمحاكمة حال تخليهم عن الحكم مثلما حدث للبشير، خاصةً أن قائمة الجرائم التي يمكن أن يُتهموا بها تتزايد، ولم تعد تقتصر على مذبحة القيادة العامة عام 2019. في المقابل، فإن خيار العنف لسحق المظاهرات قد يأتي بنتيجة عكسية، فبالإضافة إلى أنه قد يؤدي إلى استنكار دولي، قد يضاعفه استقالة حمدوك المحتملة، فإنه لا يمكن ضمان استمرار ولاء الضباط خاصةً صغارهم في حال استمرار سفك الدماء، وهو ما بدأت مؤشراته تظهر مما حدث خلال مظاهرات القصر الجمهوري، حيث كان واضحًا أن هناك امتعاضًا من بعض العسكريين من توريطهم في مواجهة مع المدنيين. وبالتالي قد يرفضون مواصلة طاعة الأوامر بالتصدي للمظاهرات، أو قد يأتي ضابط ليعزل البرهان مثلما فعله قادة الجيش السوداني مع البشير. وتبدو المشكلة أكبر مع حميدتي الذي يقود قوات الدعم السريع التي تدين له بالولاء الشخصي، وهي قوات تعود جذورها لميليشيات الجنجاويد، التي ارتكبت فظائع من قبل في إقليم دارفور. وتتسم علاقة حميدتي بهذه القوات بأنها ليست علاقة عسكرية احترافية، بل هي ولاء شخصي وقبلي وقبل كل شيء مادي مرتبط بقدرات حميدتي المالية المتأتية من دوره في استخراج وتهريب الذهب السوداني. وعبر صمته الواضح في الأزمة الحالية، من الواضح أن حميدتي قد يسعى للنأي بنفسه عن البرهان مثلما فعل مع البشير الذي كان يثق فيه ثقة عمياء، ولكنه انقلب عليه بعد الثورة السودانية 2019، ثم انقلب على وزير الدفاع السوداني الذي عزل البشير في ذلك الوقت عبد الرحمن بن عوف، ليتحالف مع البرهان. ولكن اللافت أنه هذه المرة يبدو حميدتي محط تركيز من قبل المحتجين رغم صمته، ولا ينسون دوره في تفجير أزمات شرق البلاد، التي أدت لإغلاق الموانئ، من أجل إضعاف الحكومة المدنية.[8]
الخُلاصة؛ التعقيدات الراهنة في السودان ستجعل دفع عجلة الانتقال الديمقراطي هناك أمرًا متعثرًا للغاية ما لم يتم حسم مسألة الجيوش المتعددة، وإصلاح الجهاز التنفيذي للدولة والمؤسسات السياسية، بالإضافة لحل الأزمة الاقتصادية الراهنة. ويظل أفضل حل لأزمة السودان، إجراء انتخابات مبكرة بإشراف دولي، وترتيبات واضحة لخروج العسكريين من السلطة. فمحاولة القوى المدنية تأسيس حكم انتقالي مدني غير منتخب بديلًا للعسكريين ليست فقط أمرًا صعب تحقيقه، ولكن إن تحقق، فسيفتح الباب على أزمات أخرى؛ لأن السودان ليس فقط القوى المدنية والمهنية التي تقودها الأحزاب السياسية والتيارات اليسارية، وإنما بلد كبير به إسلاميون وقوى مناطقية وقبلية وعرقية ومؤسسة عسكرية كبيرة، وكل هؤلاء لديهم أطماعهم وأهدافهم، ولن يقبلوا بسيطرة نخبة معزولة على الحكم عن طريق الشارع، خاصةً أن لكل من هذه القوى شارعها، ولذلك لا بديل عن حكم جديد تأتي شرعيته من الصندوق الانتخابي.
[1] كمال عبد الرحمن، “حمدوك يعتزم الاستقالة وسط خلافات سودانية وقمع للمحتجين”، عربية Sky News، 22/12/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/HqJUl
[2] محمد أمين ياسين، “إصرار حمدوك على الاستقالة يعيد خلط الأوراق في السودان”، الشرق الأوسط، 22/12/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/rcFQq
[3] ميعاد مبارك، “السودان: التعيينات ووزراء الحركات المسلحة وراء تلويح حمدوك بالاستقالة”، القدس العربي، 22/12/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/5BjiI
[4] أبو بكر فضل، “قراءة في تلويح حمدوك بالاستقالة”، فيس بوك، 22/12/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/3ccyo
[5] “إعلامي : تهديد حمدوك بالاستقالة خطاب للمانحين وجلب المجلس المركزي للحوار و لتمرير إلغاء قرارت البرهان”، الرائد، 23/12/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/J4tjV
[6] “لماذا تراجع حمدوك عن الاستقالة؟”، الراكوبة، 22/12/2021. متاح على الراط: https://cutt.us/Fwu0F
[7] ميعاد مبارك، “السودان: التعيينات ووزراء الحركات المسلحة وراء تلويح حمدوك بالاستقالة”، مرجع سبق ذكره.
[8] “ماذا سيفعل البرهان بعد تهديد حمدوك بالرحيل ووصول التظاهرات للقصر الرئاسي؟ الإجابة لدى الجيش السوداني”، عربي بوست، 22/12/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/jq14W