التداعيات المحتملة على مصر بسبب الحرب الروسية الأوكرانية

 

 

ألقت الحرب الروسية الأوكرانية بظلال كثيفة وسوداء على مستقبل الأوضاع في مصر والمنطقة العربية بل والعالم كله، فقد كشفت هذه الحرب التي بدأت بغزو روسيا لأوكرانيا صباح الخميس 24 فبراير 2022م عن أهمية الموقع الإستراتيجي الذي تحتله أوكرانيا بوصفها نقطة تماس بالغة الحساسية بين روسيا من جهة وأوروبا  وحلف الناتو من جهة أخرى، لكن الأكثر أهمية هو ما تتمتع به كل من روسيا وأوكرانيا من أهمية على المستوى الدولي؛  فالدولتان تتصدران قائمة أكثر الدول إنتاجا وتصديرا للحبوب الغذائية (23% من صادرات الحبوب العالمية)، بينما تبقى روسيا إحدى أهم الدول التي تتصدر إنتاج وتصدير الغاز؛ حيث تمد أوروبا بنحو 40% من احتياجاتها من الغاز؛ ومع توقف خطوط إمدادات الحبوب الغذائية من جهة، وامتناع روسيا عن مد أوروبا بالغاز من جهة أخرى، فإن العالم يواجه أزمة كبرى لا سيما مصر التي تستورد نحو 80% من احتياجاتها من القمح من روسيا وأوكرانيا، ويزداد الوضع سوءا إذا علمنا أن مصر تستورد نحو 65% من احتياجاتها الغذائية من الخارج في ظل احتمال تعطل خطوط الشحن والإمداد الدولية أو على الأقل ارتفاع تكاليفها بما ينعكس سلبا على فاتورة الدعم وأسعار الغذاء.

وفي تأثير فوري للحرب، هوت البورصة المصرية في تعاملات الخميس لتحقق خسائر بقيمة نحو 24.4 مليار جنيه. بينما قفزت أسعار الذهب  خلال تعاملات الخميس بنحو 34 جنيها للجرام الواحد، وذلك بعدما قفزت الأسعار العالمية بأكثر من 42 دولارا للأوقية بعد الإعلان عن الحرب. وصعد سعر الذهب عيار 18 إلى 740 جنيها للجرام، وزاد سعر الذهب عيار 21 إلى 863 جنيها للجرام، وارتفع سعر الذهب عيار 24 إلى 986 جنيها للجرام. وصعد سعر الجنيه الذهب أيضا بنحو 272 جنيها خلال تعاملات الخميس إلى 6904 جنيهات، وقد يختلف السعر من تاجر لآخر، ويساوي هذا السعر قيمة الذهب في الجنيه، ويرتبط سعره بأسعار الجرام عيار 21. وتبقى هذه التأثيرات هامشية قياسا للتأثيرات الأخرى التي تتعلق بالأمن الغذائي وأسعار النفط والتأثير على قطاع السياحة وأخيرا الموقف السياسي المصري من التموضع في مناطق الحياد أم الانحياز إلى فريق على حساب الآخر.

فما التداعيات المحتملة لهذه الحرب على الأمن الغذائي المصري؟ وهل يمكن أن يؤدي استمرار هذه الحرب إلى تفاقم الوضع الغذائي في مصر؟ وإلى أي مدى يمكن لنظام الجنرال عبدالفتاح السيسي النجاح في مواجهة تداعيات هذه الحرب سياسيا واقتصاديا واجتماعيا؟ وما النتائج المرتبة على ارتفاع أسعار البترول إلى ما فوق المائة دولار للبرميل الواحد؟ وهل يمكن أن تؤدي هذه التداعيات إلى توترات اجتماعية ناتجة عن الغلاء المرتقب في أسعار الوقود والغذاء؟ وما السيناريوهات المحتملة لمستقبل مصر إذا اتسعت رقعة هذه الحرب وطالت حتى تحولت إلى حرب عالمية ثالثة؟

الأمن الغذائي

تبقى التأثيرات المحتملة للحرب على الأمن الغذائي المصري هي الجانب الأكثر خطورة؛ فمصر هي أكبر مستورد للقمح في العالم، وبحسب تقديرات وزارة الزراعة الأمريكية «USDA»، فإن مصر تستهلك سنويا نحو 18 مليون طن من القمح، تستورد نحو 13.2 مليون طن سنويا، بما يمثل نحو 80%  من احتياجاتها من القمح، بينما تنتج سنويا نحو 5 ملايين طن. وتحصل هيئة السلع التموينية على (9 ملايين طن) منها نحو 5.46 مليون طن  من القمح المستورد وتشتري نحو 3.5 مليون طن من القمح المحلي وفقا لبيان الموازنة العامة للدولة، لتوفير الدقيق المدعم الذي يقدم الخبز يوميًا لنحو ثلثي السكان. وتستورد من روسيا نحو 8.96 مليون طن قمح روسي، بنسبة تصل إلى (50%)، ونحو و2.7 مليون طن قمح أوكراني  بنسبة تصل إلى(30%).[[1]] ويكفي حجم المخزون الاحتياطي من القمح نحو 4 شهور، إضافة إلى اقتراب المحصول الجديد الذي يبدأ في منتصف إبريل من كل عام، وبالتالي فإن ذلك قد يساعد على تدارك بعض الخسائر المحتملة لتداعيات الحرب.

خلال العام الماضي ارتفع سعر القمح بنحو 27%، مسجلًا سعره اﻷعلى في العقد اﻷخير، وفقًا لتقديرات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة «FAO»، وذلك نتيجة عوامل على رأسها سوء اﻷحوال الجوية، التي أدت لانخفاض إنتاج الحبوب. وفي ذات يوم الغزو الروسي لأوكرانيا ارتفع سعر القمح بنسبة 05% وفقا لوكالة “بلومبرج” الأمريكية. كما ألغت هيئة السلع التموينية مناقصة عالمية لشراء القمح بعدما تلقت عرضا واحدا  من فرنسا بسعر 399 دولارا للطن الواحد، وهو أعلى من سعر آخر مناقصة اشترتها الحكومة من رومانيا في ذات الشهر “فبراير2022” بنحو 25% وفقا لوكالة رويترز.[[2]] وقد بدأ الغزو الروسي من المناطق الشرقية لأوكرانيا وهي المناطق الأكثر إنتاجية للحبوب، وهو ما يؤدي تلقائيا إلى انخفاض إنتاجية القمح الأوكراني وبالتالي صادراته، ووفقا للرئيس السابق لشعبة المطاحن عمرو الحيني فإن شحنات القمح الروسي الأوكراني التي تعاقدت عليها مصر مؤخرا باتت مهددة بعدم الوصول؛ لأسباب تتعلق بارتفاع تكاليف الشحن والتأمين في ظل ارتفاع المخاطر. وحتى إن تفادت مصر أزمة نقص إمداد القمح سيكون الأثر المباشر للحرب هو ارتفاع تكلفة فاتورة الدعم بملايين وربما مليارت الجنيهات، (نحو مليار ونصف المليار دولار قبل الحرب وهو رقم مرشح للزيادة بعد الحرب).

وفي يناير 2022م، تعاقدت الحكومة على استيراد قمح روسي يُفترض وصوله مطلع ومنتصف مارس المقبل، بسعر 350 دولار للطن، بزيادة نحو 100 دولار عن سعر شراء القمح في الموازنة العامة، ما قد يعني تكبد مليار ونصف دولار إضافية (0.4% من الناتج المحلي الإجمالي) هذا العام، إذا استمرت بالشراء بنفس السعر، بحسب تقرير لمجلة «الإيكونوميست». بعد أسابيع قليلة من هذه المناقصة، اشترت مصر 180 ألف طن قمح روماني يفترض تسليمها في أبريل المقبل، بسعر 318 دولار للطن. في الوقت نفسه انخفض سعر القمح الأوكراني 4% خلال هذا الشهر، وانخفض أيضًا سعر القمح الروسي 11 دولارًا.  لكن السعر المنخفض في آخر مناقصة يظل مرشحًا للارتفاع مجددًا، إثر مخاوف من استمرار ارتفاع أسعار المواد الغذائية العالمية، والتي سجلت بالفعل ارتفاعًا ينحو 28% العام الماضي، جرّاء ارتفاع أسعار الوقود والأسمدة، وتغيرات المناخ، وأزمات سلاسل الإمداد، فضلًا عن موجات تضخم ضربت بلدان عديدة.

ومن الحلول السريعة الاستيراد من أماكن أخرى، لكن ذلك سوف يرفع تكلفة الشحن بناء على بعد أماكن التوريد، بخلاف الانتهازية التي تتمتع بها الدول المصدرة للقمح كما حدث  من فرنسا في المناقصة التي تتم إلغاؤها. وثمة اقتراح آخر يتعلق بخلط الذرة البيضاء مع القمح لإنتاج الخبز المدعم وهو إجراء اضطراري ومؤقت لحين انكشاف الأزمة وإن كانت بعض مساوئه أن قمح الذرة أقل جودة ويؤدي إلى تفتت الخبز وبالتالي زيادة المهدور منه. وفي كل الأحوال فإن الأزمة كشفت عن أهمية الأمن الغذائي وعدم الرهان على الاستيراد في ملف الغذاء لأن يمثل أولوية مطلقة في حماية الأمن القومي للبلاد. ويمكن التعلم من تجربة الهند التي شرعت منذ سيتنات القرن العشرين في تطوير نظم الري وأصناف قمح عالية الجودة والإنتاج جعلتها حاليا في مصاف الدول المصدرة للقمح رغم أن تعدادها يزيد عن المليار نسمة بكثير.

أسعار الوقود والغاز

من تداعيات الحرب كذلك، ارتفاع أسعار البترول إلى مستويات مفزعة؛ حيث ارتفع سعر البرميل إلى (105) دولارات، بينما تقدره الموازنة العامة للدولة بنحو (60) دولارا فقط. ولا تزال الحكومة تبحث تداعيات الأزمة ومدى إمكانية فتح اعتماد إضافي بالموازنة الحالية لتعويض الفارق في سعر برميل البترول المقدر بالموازنة.[[3]] وبينما تبقى المخاطر عالية فيما يتعلق بأسعار البترول فإن الحكومة ترى في ملف الغاز فرصة لمصر؛ لأن وقف روسيا إمدادات الغاز لأوروبا قد يفتح المجال أمام مصر نحو تصدير الغاز إلى أوروبا في ظل ارتفاع الأسعار إلى مستويات عالية وغير مسبوقة.[[4]] وبلغت صادرات مصر من الغاز الطبيعي المسال 3.9 مليار دولار خلال عام 2021 بنسبة نمو 550%، وذلك من إجمالي 12.9 مليار دولار صادرات بترولية، العام الماضي، بحسب بيانات رسمية.[[5]]

ويؤدي ارتفاع أسعار البترول إلى زيادة تكلفة استيراده على مصر، وبالتالي انعكاس ذلك على الموازنة العامة للدولة خاصة فيما يتعلق ببند دعم الوقود. كما قد يؤدي ارتفاع أسعار البترول لعدة أسابيع بالقرب من هذه المستويات إلى رفع جديد في أسعار البنزين وربما أنواع أخرى من الوقود في الاجتماع المقبل للجنة التسعير التلقائي للمنتجات البترولية الشهر بعد المقبل. ووفقا للبنك الدولي، فإن كل زيادة بمقدار 10 دولارات في سعر النفط العالمي عن السعر المقدر له في الموازنة العامة لمصر خلال العام المالي الجاري، سيترتب عليها ارتفاع نسبة العجز في الناتج المحلي الإجمالي بنحو 0.2% إلى 0.3%. وتقدر مصر برميل خام برنت في الموازنة العامة للدولة للعام المالي الجاري عند 60 دولارًا، وبالتالي يزيد السعر الحالي عن هذا المستوى بنحو 45 دولارا.

في المقابل، سجلت أسعار الغاز الطبيعي ارتفاعًا بنسبة 5.9% إلى 4.90 دولار لكل مليون وحدة بريطانية خلال تعاملات الخميس. ويعد ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي عاملا إيجابيا لمصر باعتبارها إحدى الدول المصدرة للغاز، وبالتالي تنعكس الزيادة في الأسعار إيجابيا على إيراداتها البترولية. وكان طارق الملا وزير البترول قال في وقت سابق إن ارتفاع أسعار الغاز ساعد مصر في التخفيف من تأثير أسعار البترول العالمية على الموازنة خلال الفترة الأخيرة. وقبل اندلاع الحرب الروسية كانت أوروبا والولايات المتحدة تبحثان عن بديل لمد القارة العجوز باحتياجاتها من الغاز الطبيعي في حالة تطورت الأمور وانقطعت إمدادات الغاز الروسي. لكن هذه الفرصة يحد منها عمل محطتي إسالة الغاز الطبيعي بمصر بأقصى طاقة لهما وبالتالي عدم استطاعة تصدير شحنات إضافية.[[6]] معنى ذلك أن مصر لن تستطيع رفع حصتها من تصدير الغاز إلا على حساب الكميات المخصصة للسوق المحلي، وهو إجراء يصعب تصوره.

ملف السياحة

تمتد التداعيات المحتملة للحرب إلى قطاع السياحة؛  فالحجوزات السياحية من روسيا وأوكرانيا بدأت بالفعل في الانخفاض خلال فبراير الجاري مع ظهور توترات مبكرة بين البلدين. وأجبر التصعيد الروسي الحكومة الأوكرانية على وقف جميع الرحلات الجوية، بما في ذلك الرحلات السياحية والتجارية من وإلى مصر. ووفقا لــ”بيتر ناثان”، صاحب فندق ورئيس غرفة الفنادق بجنوب سيناء، فإن عدد الطائرات القادمة من روسيا وأوكرانيا إلى مصر انخفض 30% في فبراير مقارنة بالشهر الماضي (يناير 2022)، بينما انخفض إشغال الفنادق في شرم الشيخ إلى معدلات أقل بكثير من مثيلاتها في ديسمبر 2021 ويناير 2022م.  ومن حيث الأرقام، يشكل الأوكرانيون غالبية السياح الأجانب في مصر، وفقا لتصريحت سفير أوكرانيا في القاهرة «يفهن ميكيتينكو»، لجريدة “الأهرام” الحكومية، في نوفمبر 2021م، مشيراً إلى أن أوكرانيا تحتل المرتبة الأولى من حيث عدد السائحين الذين يزورون المنتجعات المصرية.قالت نائبة وزير السياحة بوزارة السياحة والآثار المصرية، غادة شلبى، إن 1.2 مليون مواطن أوكراني زاروا مصر في الفترة من يوليو/تموز 2020 إلى يوليو/تموز 2021. في حين بلغ عدد السائحين الوافدين من جميع أنحاء العالم إلى مصر نحو 13 مليون سائح في عام 2019 قبل تفشي الوباء، وقالت السفارة الأوكرانية بالقاهرة إن نحو 1.5 مليون أوكراني يقضون عطلاتهم في مصر.[[7]] ويعتبر السوق الأوكراني من أهم الأسواق السياحية  لمصر، إذ احتلت أوكرانيا المركز الثاني في حركة السياحة الوافدة إلى مصر خلال عام 2019 قبل جائحة كورونا، حيث استقبلت المدن السياحية المصرية نحو 1.6 مليون سائح أوكراني، بنسبة ارتفاع 32%. وفي 2020  أعلنت السفارة الأوكرانية لدى القاهرة  أن أكثر من 727 ألف أوكراني زاروا الأراضي المصرية بهدف السياحة، مما يشكل 21 %من مجموع السياح الأجانب الذين توافدوا خلال العام.[[8]] و طبقا لوكالة السياحة الحكومية الأوكرانية فقد بلغ عدد  الرحلات السياحية إلى الخارج التى قام بها المواطنون الأوكرانيون فى عام 2021 حوالي  14.7 مليون رحلة سياحية أجنبية وتصدرت تركيا المرتبة الأولى في استقبال السياح الأوكران بنسبة 28% وجاءت مصر في المرتبة الثانية  بنسبة 21%.[[9]] وتوقع السفير الأوكراني بالقاهرة أن يكون عدد السياح الأوكران لمصر في 2021م نحو مليون سائح.[[10]]

من ناحية أخرى، كان السياح القادمون من روسيا، على وجه الخصوص، مهمين لصناعة السياحة في مصر، وعلى وجه التحديد لشرم الشيخ والغردقة، والتي استؤنفت الرحلات الجوية الروسية إليهما في أغسطس 2021 بعد توقف دام ست سنوات. دفع هذا الاستئناف الحكومة إلى توقع استقبال ما بين 300 و400 ألف سائح روسي شهريًا، لتعود بذلك إلى مستويات ما قبل عام 2015م. ووفقا لبيانات وزارة السياحة، شكل 3.2 مليون سائح روسي في عام 2015 حوالي 33% من إجمالي السياحة الوافدة في مصر. ورغم أن  السياحة الوافدة من أوروبا لم تتأثر كثيرا حتى اليوم لكن استمرار الحرب قد يعصف بكل ذلك ويدفع شركات السياحة وكذلك السياح إلى إعادة النظر في خطط العطلات، وبالتالي يمكن أن يكون لذلك تداعيات سلبية محتملة على القطاع. وفي عام 2021، ورغم تفشي جائحة كورنا عالميا، تزعم غادة شلبي نابة وزير السياحة والآثار، أن عائدات السياحة تجاوزت نحو 13 مليار دولار أمريكي، مما مثل انتعاشًا كبيرًا إلى مستويات ما قبل جائحة كورونا، لكن هذا الازدهار مرشح للانهيار بسبب تداعيات الحرب.[[11]]

الجالية المصرية بأوكرانيا

ومن التداعيات المحتملة أيضا، هو ضرورة تحرك الحكومة نحو تأمين عودة نحو 6 آلاف مصري يقيمون بأوكرانيا[[12]]، وهي الصيحات التي تعالت في أعقاب الغزو مباشرة، حيث أطلق كثير من المصريين في أوكرانيا صيحت استغاثة مطالبين الحكومة بالتحرك لإنقاذهم من الهلاك المحتمل في ظل تواصل الحرب دون وجود اتفاق تسوية محتمل في الأفق القريب. وفي مداخلة هاتفية مع برنامج “الحياة اليوم” مساء الخميس 24 فبراير 2022م والذي يعرض على قناة “الحياة”، كشفت نبيلة مكرم، وزيرة الدولة للهجرة وشؤون المصريين بالخارج، أن عدد المصريين في أوكرانيا حاليا يبلغ نحو “6” آلاف موطن موزعون على 21 مدينة، 65% منهم طلاب. وادعت أن  الدولة تهتم بالجالية المصرية في أوكرانيا، لافتة إلى أن الوزارة تتواصل بطريقة مباشرة مع الجالية المصرية في أوكرانيا للاطمئنان عليهم، مؤكدة أنه لا توجد حالة إصابة واحدة أو فقدان بينهم.[[13]] وذكرت أن الكثير من طلاب الجالية المصرية في أوكرانيا في حالة قلق وخوف من توقف المواصلات وأماكن شراء الأغذية والبنوك، فضلا عن شهاداتهم، مضيفة أن الوزارة تتابع معهم على مدار الساعة، من خلال رئيس الجالية وغرفة عمليات الوزراة والسفارة المصرية، موضحة أن ما تقوم به الوزارة هو التواصل فقط مع المصريين هناك ورفع احتياجاتهم وطلبتاتهم إلى رئاسة الحكومة والقيادة السياسية. وختمت تصريحاتها بأن الحكومة تقوم حاليا بتقييم الوضع في أوكرانيا حتى تتمكن الدولة من اتخاذ القرار الصائب. وأمام الاستغاثات التي أطلقها طلاب مصريون يقيمون في أوكرانيا والتي يؤكدون فيها أنهم عالقون  ومعرضون للموت في أي لحظة، اكتفت السفارة المصرية بمطالبتهم بالبقاء في المنازل، في الوقت الذي تحركت فيه حكومات معظم الدول إلى إجلاء رعاياها منذ فترة لا سيما وأن نذر الحرب كانت قائمة منذ عدة شهور. وحتى كتابة هذه السطور يتأكد لنا أن الحكومة لا تملك أي خطة لحماية وتأمين الجالية المصرية هناك، ولا تزال تتعامل مع الوضع المتدهور والخطر الذي يتعرض له المصريون بكثير من البيانات والتصريحات المطمئنة؛ الأمر الذي دفع كثيرا من نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي إلى انتقاد الموقف الحكومي ووصفه بالمخزي.

التموضع السياسي

حتى كتابة هذه السطور لم تبلور الخارجية المصرية موقفا حاسما من الأزمة الروسية الأوكرانية، خشية أن يؤثر ذلك على علاقاتها بكلا الطرفين المتورطين في الأزمة (روسيا وحلفائها من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي الداعم لأوكرانيا من جهة أخرى)، واكتفت الخارجية المصرية ببيان يوم الخميس 24 فبراير 2022م، غلبت عليه النزعة الحيادية والدعوة إلى “تغليب لغة الحوار والحلول الدبلوماسية والمساعي التي من شأنها سرعة تسوية الأزمة سياسياً بما يحافظ على الأمن والاستقرار الدوليين، وبما يضمن عدم تصعيد الموقف أو تدهوره، وتفادياً لتفاقم الأوضاع الإنسانية والاقتصادية وأثرها على المنطقة والصعيد العالمي”.

وانعكس  هذا الموقف (الحيادي) على التناول الإعلامي لفضائيات وصحف السلطة؛ بينما تنقل صحيفة “العربي الجديد” اللندنية عن مصادر  صحافية متعددة من داخل “المجموعة المتحدة للخدمات الإعلامية”، التابعة للمخابرات العامة المصرية، والتي تمتلك معظم وسائل الإعلام في مصر، أن تعليمات صدرت من قبل الجهاز إلى رؤساء تحرير ومسؤولي الصحف والمواقع والقنوات، بضرورة التعامل بحيادية تجاه الحرب الدائرة على الحدود الأوكرانية الروسية، وعدم تبني موقف أي من الجبهتين. هذا الموقف الإعلامي الحذر يترجم الموقف الرسمي لأن النظام المصري لا يرغب في الصدام أو توتير العلاقات مع أي من التحالفين، فهو لا يرغب في تبني موقف حلف الناتو بقيادة واشنطن التي تربطها علاقات وثيقة مع النظام في القاهرة، وهي العلاقة التي تحظى بالأولوية المطلقة للنظام المصري؛ لأن نظام السيسي يرى أن روسيا حليف إستراتيجي أيضا لا ينبغي خسارته. وبالرغم من أن العلاقات المصرية الأمريكية تشبه الزواج الكاثوليكي وفقا لتشبيه كثير من الخبراء والمحللين إلا أن نظام السيسي حريص على علاقات جيدة بموسكو تسمح له بالمناورة في ظل توتر العلاقات أحيانا مع واشنطن لا سيما في ظل الانتقاد الأمريكي المستمر لنظام السيسي في ملف حقوق الإنسان. لهذه الأسباب فإن القاهرة تخشى من الاصطفاف مع أي من المعسكرين المتصارعين حتى لا يخسر سياسيا، لكن في حال تصاعدت الأحداث واتسعت الحرب وطالت فسوف يضطر الجميع إلى الإعلان عن موقفه.[[14]]

موقف نظام السسي كعادته يفتقد إلى الجانب الأخلاقي وينحاز إلى ما يراه مصلحة على حساب القيم والقانون الدولي، فما فعلته روسيا هو عدوان سافر وفقا للقانون الدولي، لكن نظام السيسي أضعف من أن يتخذ موقفا أخلاقيا ينحاز للقانون الدولي والقيم الإنسانية وهو النظام الذي ارتكب ولا يزال فظائع وانتهاكات ترقى إلى درجة الجرائم ضد الإنسانية. وفي قراءة مستقبلية للأزمة الأوكرانية، والتي كان واضحا من أيام أنها باتت على شفير العمل العسكري، يرى مراقبون أن الأمر سيتطلب من غالبية دول العالم، بما فيها مصر، أن تحدد موقفها، وبالتالي فإن العالم سيكون على موعد مع تحولات إستراتيجية كبرى في العلاقات الدولية. يعزز ذلك، ما ذكرته مجلة “فورين أفيرز” (Foreign Affairs) الأميركية، في تقرير قبل أيام حول التغييرات الدولية إذا ما خضعت أوكرانيا لروسيا، أن النتيجة المريرة لحرب أوسع في أوكرانيا هي أن روسيا والولايات المتحدة سيواجهان بعضهما كأعداء لا يستطيعان تحمل الأعمال العدائية عند عتبة معينة. لذلك، يمكن أن تمتد المواجهة الأميركية الروسية -بحسب المجلة- في أسوأ الأحوال لتشمل الحروب بالوكالة في الشرق الأوسط أو أفريقيا إذا قررت واشنطن إعادة تأسيس وجودها بعد الانسحاب الكارثي من أفغانستان.[[15]]

النظام في مصر يتبنى منذ عقود سياسة تنويع التحالفات الإقليمية والدولية، وتنويع مصادر السلاح كركن من أركان إستراتيجية الأمن القومي، ومن غير المتوقع أن تؤثر الأزمة الأوكرانية على هذه الرؤية، ورغم أن النظام المصري يتبنى الرؤية الغربية في السياسات الإقليمية مع إبقاء الباب مفتوحا مع روسيا فيما يتعلق بسياسات التسليح، لكن مصر فعليا تنتمي إلى المعسكر الغربي منذ معاهدة 1979م، إلا أن رؤيتها فيما يتعلق بسياسات الحكم والسلطة تميل إلى الرؤية الروسية بوجود رجل من المؤسسة العسكرية في سدة الحكم وعدم اتباع الديمقراطية الليبرالية الغربية.[[16]]

سيناريوهات وتوقعات

يتوقف مدى وحجم هذه التداعيات على الوضع المصري بناء على سيناريو الحرب.

السيناريو الأول، هو اكتفاء روسيا بحرب خاطفة والاكتفاء بسيطرة الانفصاليين الموالين لها على المناطق الشرقية في أوكرانيا وهي المناطق الأكثر خصوبة وحصادا للحبوب الغذائية. مع البحث عن آليات لتسوية الصراع، وقد ظهرت مؤشرات تعزز هذا السيناريو منها قبول روسيا بالتفاوض مع أوكرانيا عبر وسيط ثالث. أو حتى سيطرة الجيش الأوكراني على السلطة كما دعته إلى ذلك موسكو؛ وبالتالي قد يؤدي ذلك إلى تحجيم الصراع العسكري وإن كانت الأزمة ستبقى في شقها السياسي والقانوني وسوف تعزز التوترات بين موسكو والغرب، إضافة إلى ذلك فإن حلف الناتو أبدى عدم رغبته في الدخول في صدام عسكري مباشر مع روسيا، والاكتفاء بدعم أوكرانيا سياسيا وتسليحيا وإعلاميا وإنسانيا، وهو ما يمثل رسالة لموسكو باستكمال مخططها تجاه أوكرانيا.

السيناريو الثاني، هو اتساع رقعة الحرب وشمول الغزو الروسي للعاصمة الأوكرانية كييف. وقد يكون الغرب ساعيا إلى توريط موسكو في وحل أوكرانيا على أن تشرع حرب عصابات ضد الاحتلال الروسي مدعوما من الغرب حتى تتحول أوكرانيا إلى مشكلة تستنزف روسيا كما كانت أفغانستان من قبل والتي تسببت في تفكك الإتحاد السوفيتي السابق. وإذا اتسعت الحرب وطالت وتدخلت فيها أطراف أخرى بشكل مباشر فإن التداعيات المحتملة على مصر ستكون أكثر حدة وخطورة.

في كل الأحوال، فإن الغزو الروسي سواء توقف عند الحرب الخاطفة أو الغزو الشامل، ترتب عليه ارتفاع جنوني لأسعار الوقود والغذاء، وتراجع حاد للسياحة، وكلها عوامل قد تفضي إلى هبوط عشرات الملايين من المصريين تحت خط الفقر؛ وقد يعجل هذا الوضع بقرارات يمهد لها نظام السيسي برفع أسعار الغذاء وتقليص مخصصات الدعم؛ الأمر الذي ينذر بعواقب اجتماعية بالغة الخطورة. وتوقع تحليل نشرته صحيفة “التلجراف” البريطانية الإثنين 21 فبراير 2022م، أن تواجه مصر حال نشوب الحرب أزمة غذاء كبرى، وتنقل عن البروفيسور “تيموثي لانج” الأستاذ الفخري المتخصص في سياسة الغذاء، تحذيراته بشأن تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية على الأمن الغذائي المصري في ظل توجهات حكومة الجنرال عبدالفتاح السيسي نحو تقليص مخصصات الدعم ورفع أسعار الخبز، مؤكدا أن «مصر صندوق بارود ينتظر الانفجار».[[17]]

خلاصة الأمر، أن مصر تستورد نحو 65% من غذائها ، فهي تتربع على قمة الدول المستوردة للقمح بحجم 13.5 مليون طن سنويًا، وتعتبر رابع أكبر مستورد للذرة الصفراء بنحو 10 ملايين طن سنويًا، وخامس أكبر مستورد لزيوت الطعام بنحو 3 ملايين طن سنويًا، ومعها 1.25 طن من السكر ونحو 50% من احتياجاتنا من اللحوم الحمراء والألبان المجففة، و100% من احتياجاتنا من العدس ونحو 80% من الفول وفقا للبيانات الرسمية.

من المتوقع أن تؤثر الحرب الروسية الأوكرانية أيضا على حركة التجارة الدولية، وبالتالي على حركة الشحن ونقل البضائع والسلع في الممرات المائية ومنها قناة السويس، وهو ما يغذي موجة التضخم التي تجتاح العالم، ومنها المنطقة العربية. وسوف تزداد فاتورة هذه الخسائر تبعا لسيناريوهات الحرب، فإذا توقفت عند حدود الحرب الخاطفة سوف يوقف نزيف الخسائر بخلاف لو تحولت إلى حرب عالمية ثالثة فإن ذلك كفيل بتدمير اقتصادات عدة دول ونشوء مجاعات في دول أخرى ما ينذر بتحولات سياسية كبرى وتغيير واسع في خريطة التحالفات الدولية؛ فالعالم قبل غزو أوكرانيا ليس هو العالم بعدها.

وأخيرا، برهنت الحرب الروسية الأوكرانية على أن السياسات الاقتصادية لنظام السيسي عبثية على نحو لا يمكن تخيله، فبدلا من إهدار آلاف المليارات على صفقات السلاح والمدن العملاقة، كان الأولى التركيز على الأمن الغذائي وعدم رهن غذاء أكثر من مائة مليون مصري على الاستيراد من الخارج، وهو رهان ثبت أنه ليس فاشلا فقط بل يمكن محاكمة من أقروا هذه السياسات إلى المحاكمة بتهمة الخيانة العظمي وتهديد الأمن القومي للبلاد وتعريضه للخطر الداهم.

 

 

[1] كيف سترفع الحرب فاتورة القمح المصرية؟/ مدى مصر ــ الخميس 24 فبراير 2022م

[2] السلع التموينية تُلغي صفقة لشراء القمح / مدى مصر ــ الخميس 24 فبراير 2022م

[3] محسن عبد الرازق/ الحرب الروسية الأوكرانية تلقي بظلالها على «موازنة مصر» (تفاصيل)/ المصري اليوم ــ الخميس 24 فبراير 2022م

[4] مصر وروسيا وأوكرانيا/ رأى الأهرام  ــ الجمعة 25 فبراير 2022م

[5] ما تداعيات الأزمة الأوكرانية على مصر؟.. خبراء يجيبون/ (CNN) عربي ــ الخميس، 24 فبراير 2022م/// النفط والقمح والسياحة.. كيف ستتأثر مصر بالهجوم على أوكرانيا وما خياراتها؟/  عربي بوست ــ  الخميس 24 فبراير 2022م

[6] مصطفى عيد/ كيف يؤثر اشتعال الأزمة الأوكرانية على الاقتصاد المصري؟/ مصراوي ــ الخميس 24 فبراير 2022

[7] النفط والقمح والسياحة.. كيف ستتأثر مصر بالهجوم على أوكرانيا وما خياراتها؟/  عربي بوست ــ  الخميس 24 فبراير 2022م// انظر أيضا: عمرو يحيى/ إيفيهن ميكيتنكو سفير أوكرانيا فى القاهرة: نتعاون مع مصر فى مجال مكافحة الإرهاب/ الأهرام اليومي ــ الإثنين 07 ديسمبر 2020م

[8] كيف تتضرر السياحة المصرية من حرب روسيا وأوكرانيا؟/ “عربي 21” ـ الجمعة، 25 فبراير 2022

[9] طاهر القطان/ الأزمة بين روسيا وأوكرانيا تتسبب في تراجع الحركة السياحية الوافدة لمصر/ بوابة الشروق ــ الإثنين 21 فبراير 2022

[10] أمل محمود/ فيديو.. سفير أوكرانيا في القاهرة: مليون أوكراني يزور مصر سنويا/ بوابة الشروق ــ الثلاثاء 19 يناير 2021// مصر ثاني أكبر مستقبل للسياحة الأوكرانية خلال 2021/ بوابة الأهرام ــ 21 فبراير 2022م//  انظر أيضا بوابة الأهرام ــ 23 أغسطس 2021م

[11] الحرب الأوكرانية تضر بالسياحة في مصر / مدى مصر ــ 24 فبراير 2022 م

[12] هذا الرقم ذكره روسلان نيتشاي، القائم بأعمال السفير الأوكراني بالقاهرة، في تصريحات إعلامية نشرتها صحيفة المال في 25 فبراير2022م، مؤكد أن مصر هي الشريك الاقتصادي الأول في إفريقيا بالنسبة لأوكرانيا، كما أن 6 آلاف مصري يقيمون في أوكرانيا.. انظر: محمد مجدي/ القائم بأعمال السفير الأوكراني: القاهرة شريكنا الاقتصادي الأول في إفريقيا ونشكر الجالية المصرية على مساعدتهم/ المال نيوز ــ الجمعة, 25 فبراير 22

[13] أسماء الدسوقي/ نبيلة مكرم: 6000 مصري في أوكرانيا موزعين على 21 مدينة.. و65% منهم طلاب/ بوابة الشروق ــ  الخميس 24 فبراير 2022م

[14] الغزو الروسي لأوكرانيا: مصر تائهة بين المعسكرين الروسي والغربي/ العربي الجديد ــ الجمعة 25 فبراير 2022

[15] محمود سامي/ صراع الحلفاء.. هل تجبر الحرب الأوكرانية مصر على إعادة رسم خارطة تحالفاتها؟/ الجزيرة نت ــ 24 فبراير 2022م

[16] المرجع السابق

[17] المصدر: روسيا وأوكرانيا: الجوع الشديد “يهدد” عائلات في الشرق الأوسط بسبب الأزمة بين البلدين – التلغراف/ بي بي سي عربي ــ 21 فبراير 2022

 

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022