بقرارات السيسي.. إمبراطورية الجيش تلتهم الدولة

 

 

 

يذهب المحلل والخبير السياسي الدكتور خليل العناني إلى أن وصاية الجيش على مصر تمتد من السيطرة على الأرض إلى السيطرة على ما فوق الأرض، فمصر تعيش منذ سبعة عقود تحت حكمٍ أقرب إلى ملكية عسكرية، مع استثناء وحيد، أنّ توارث السلطة وتوريثها لا يحصل داخل عائلة واحدة من خلال رابطة الدم، بل من خلال رابطة مهنية ومصلحية وقبائلية (بالمعنى السياسي) بين كبار قادة المؤسسة العسكرية. وكما أنّ “المخزن” في المغرب مصدر السيادة والسلطة والشرعية، فإنّ الجيش في مصر مصدر السيادة والسلطة والشرعية، وليس الشعب أو الأمة المصرية. فمن بديهيات الحكم العسكري ألّا توجد انتخابات حرّة ونزيهة، ولا برلمان ممثل لإرادة الشعب والأمة، ولا استقلال حقيقي لمؤسسات الدولة عن الحاكم العسكري. وبالتالي، لا توجد نخبة سياسية بالمعني الحقيقي، فالجميع من أحزاب وتيارات وقوى سياسية يدور في فلك السلطة، أي في فلك العسكر. ويؤكد أن المسافة التي حاول كل من السادات ومبارك وضعها بين الرئاسة والمؤسسة العسكرية  من خلال آليات التحييد والزبائنية وشراء الولاء ومنح المزايا الاقتصادية والمالية والاجتماعية، كانت دوماً مسافة تكتيكية وليست استراتيجية. بمعنى أنّ العسكر، تحديداً كبار القادة، على قناعةٍ بأنّهم أهل الحكم وأصحاب السلطة، ومالكو الأرض ومن عليها، ولا يمكن خروجهم أو إخراجهم من السلطة مهما كان الثمن. وبات الأمر كما لو كان عقيدةً سياسية، وحالةً نفسيةً مستقرّة وثابتة، يجري توريثها من جيل إلى آخر.[[1]]

وخلال الأيام الماضية أصدر الجنرال عبدالفتاح السيسي عدة قرارات استهدف بها تعزيز وضعية الإمبراطورية الاقتصادية للجيش، وتحويل المؤسسة العسكرية إلى مالك حصري لمعظم أراضي الدولة المصرية.

القرار الأول، نشرته الجريدة الرسمية في ذكرى  الثورة 25 يناير، تحت رقم 13 لسنة 2022، حيث قرر السيسي تخصيص 37 جزيرة لصالح القوات المسلحة، 36 منها جزر نيلية، وجزيرة واحدة بحرية. ويشمل القرار جزرًا مختلفة المساحة أكبرها جزيرة البدرشين التي حددت إحداثياتها المُعدة من قبل إدارة المساحة التابعة للهيئة الهندسية للقوات المسلحة مساحتها بـ852 فدانًا، وأصغرها جزيرة بحرية أطلق عليها القرار اسم «الجزيرة المواجهة لشركة الأمل» دون تحديد موقعها، بمساحة سبعة أفدنة. وجاءت إحداثيات خرائط الجزر الـ37 تحت عنوان «مقترح وزارة الري بنقل ولاية 526 جزيرة بنهر النيل على مستوى الجمهورية للقوات المسلحة لحمايتها من كافة التعديات».[[2]] وضمت الجزر المخصصة للقوات المسلحة بحسب القرار الأخير: الطرفاية، المسطحات، المرازيق، الشوبك الشرقي، الوادي، المرازيق، البرغوثي، أبو داوود، الشيخ أبو زيد، الطرافة1، الطرافة2، أبو صالح، صراوة، سبالة شارونة، الشيخ فضل، كدوان1، وزاوية سلطان البحرية، السرو خور زعفران، السايح، هلال الكاب، سلوا، منيحة، العرب. واستند القرار إلى قانون نظام الإدارة المحلية رقم 43 لسنة 1979، والقانون رقم 143 لسنة 1981 في شأن الأراضي الصحراوية، والقانون رقم 102 لسنة 1983 الخاص بالمحميات الطبيعية، والقانون رقم 7 لسنة 1991 بشأن بعض الأحكام المتعلقة بأملاك الدولة الخاصة. واستند أيضاً إلى قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1383 لسنة 2005 في شأن حماية نهر النيل وشواطئه، وصدر بعد موافقة مجلس الوزراء، برئاسة مصطفى مدبولي، وبناءً على ما عرضه “المركز الوطني لتخطيط استخدامات أراضي الدولة” التابع لرئاسة المجلس.

واعتبر بعض أهالي جزيرة القرصاية المشمولة بالتخصيص هذا القرار بداية لـ«تطفيشهم»، فيما دافع وزير الري الأسبق، محمد نصر علام، عن القرار مدعيا أن تواجد  الأهالي على هذه الجزر غير قانوني، في وقتٍ رفض فيه مسؤولون حاليون عن الجزر النيلية بوزارة الري، تفسير ما يعنيه القرار، مطالبين بالرجوع للمتحدث الرسمي باسم الوزارة. وتعتبر القرصاية من أهم الجزر النيلية في مصر، ويعيش سكانها على الزراعة والصيد، وطالما تعرضوا لمحاولات طرد وتهجير قسري من قبل الجيش المصري بدءاً من عام 2007، بدعوى تحويل أراضي الجزيرة إلى محمية طبيعية. وتبلغ مساحة جزيرة القرصاية 139 فداناً، ويزيد عدد سكانها على 5 آلاف نسمة، ويتركز معظمهم في الجهة القبلية، بينما تضم الجهة البحرية للجزيرة مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية. وعانى سكان الجزيرة من اعتداءات متكررة، كان آخرها في نوفمبر2012، حين تورطت قوات من الشرطة العسكرية في قتل ثلاثة مدنيين، وإصابة خمسة آخرين من الأهالي.

وكان مجلس الوزراء قد وافق في 18 إبريل 2018 على نقل تبعية جزيرة الوراق إلى هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة التابعة لوزارة الإسكان والمرافق، تمهيداً للبدء بتنفيذ “مخطط تنميتها وتطويرها” بالتعاون مع الجيش، تحت مزاعم منها “القضاء على العشوائيات” و”تحسين جودة حياة المواطنين”، وهو ما يبرهن على المؤسسة العسكرية لديها أطماع كبرى في هذه الجزر بدعوى تحويلها إلى مشروعات استثمارية على حساب المزارعين والصيادين القاطنين فيها؛ إذ تشير حيثيات حكم محكمة القضاء الإداري رقم 782 لسنة (62 قضائية) إلى أن “عام 1997 مثل أول ظهور رسمي لمحاولات الاستثمار في هذه الجزر، بعدما طلب محافظ الجيزة من الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية الموافقة على الترخيص بإنشاء مشروع سياحي استثماري على أراضي جزيرة القرصاية”. ولم يلقَ طلب المحافظ ترحيباً من رئيس الوزراء الراحل كمال الجنزوري، الذي أصدر قراراً برقم 1969 لسنة 1998 ينص على “اعتبار كل الجزر الواقعة داخل مجرى نهر النيل بشمال ووسط وجنوب الوادي، وقناطر الدلتا، وفرعي رشيد ودمياط، محميات طبيعية طبقاً لقانون البيئة”. وحظر القرار القيام بـ”أعمال أو تصرفات أو أنشطة أو إجراءات من شأنها تدمير أو إتلاف أو تدهور البيئة الطبيعية، أو الإضرار بالحياة البرية أو المائية أو النباتية، أو المساس بمستواها الجمالي بمناطق المحميات. وعلى وجه أخص إقامة المباني أو المنشآت أو شق الطرق أو تسيير مركبات أو ممارسة أية أنشطة زراعية أو صناعية أو تجارية أو سياحية في المحميات والمناطق المجاورة لها؛ إلا بتصريح من رئيس الوزراء”. وبعد عام واحد من قرار الجنزوري، كُلف وزير قطاع الأعمال السابق عاطف عبيد تشكيل حكومة جديدة ورئاستها، وتغيرت توجهات الحكومة خلال السنوات التالية، في ما يتعلق بملف جزر نهر النيل، فاتخذت قرارات بإخلاء بعض الجزر النيلية، وسمحت بالتنمية السياحية في جزر أخرى.[[3]]

من جانب آخر، يخشى سكان القرصاية من تداعيات هذا القرار؛ وينقل موقع “مدى مصر” عن أحد سكانها أنهم كانوا يدفعون، حتى نهاية 2021م، إيجارًا سنويًا أربعة آلاف و800 جنيه عن الفدان الواحد للأرض الزراعية، وثمانية جنيهات عن كل متر مباني إلى الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية، وقبلها كانوا يدفعون الإيجار إلى محافظة الجيزة، ولكن بعد القرار الجديد ينتظرون أن تطالبهم القوات المسلحة بإيجار الأراضي والمباني. فيما يتخوف بعضهم  من رفع قيمة الإيجارات بما يفوق قدرة السكان على الدفع بعد نقل تبعية الجزيرة للجيش، يقول أحدهم: «هيطفشونا من الجزيرة ومحدش هيقف معانا زي زمان». وكانت المحكمة الإدارية قد قضت في أول فبراير 2010 بإلغاء قرار رئيس الوزراء في 2007 بإخلاء القرصاية من سكانها، وأكدت على أحقية السكان في البقاء بالجزيرة، ورفضت مبررات الحكومة بتحويل أرضها إلى محميات طبيعية. وتلى هذا الحكم مداهمة القوات المسلحة للجزيرة في نوفمبر 2012 ومطالبة أهلها بإنهاء التعاقد وإخلاء الجزيرة، وهو ما تطور إلى اشتباكات أسفرت عن مصرع وإصابة بعض السكان واعتقال آخرين. إثر ذلك، رفع الأهالي دعوى قضائية أخرى، فيما أكد مصدر عسكري وقتها أن الأراضي، التي تمتلكها القوات المسلحة في جزيرة القرصاية، هي مسرح عمليات مهم لها، ولن تفرط في شبر واحد منها، وأنها لن تطرد أي مواطنًا منها.[[4]] وكان السيسي، قد صرَّح في مؤتمر نتائج إزالة التعديات على أراضي الدولة عام 2017 أن «هناك جزر موجودة في النيل، طبقًا للقانون مفروض إنه ميبقاش حد موجود عليها، سواء هذه الجزر محميات، أو غير مسموح يبقى حد موجود عليها إما محميات وإما محدش يكون موجود عليها»؛ الأمر الذي فهم على أنه  تمهيد للسيطرة على هذه الجزر.

القرارات الثانية، أصدر السيسي يوم الأربعاء 26 يناير، أربعة قرارات تضمنت تخصيص مساحات كبرى من أراضي الدولة للجيش ممثلا في جهاز مشروعات الخدمة الوطنية؛ بدعوى تحويلها إلى مشروعات استثمارية تصبّ في ميزانية الجيش غير الخاضعة لأي نوع من الرقابة، بمنأى عن مساءلة الأجهزة الرقابية والتشريعية في الدولة. هذه القرارات بيانها كالتالي: [[5]]

  • القرار رقم 15 لسنة 2022م، بتخصيص مساحة 3778 فداناً من الأراضي المملوكة للدولة ملكية خاصة، في منطقة بحيرة قارون بمحافظة الفيوم، لمصلحة جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، بهدف استخدامها في إقامة مجمع لاستخراج وإنتاج الأملاح من البحيرة. وتضمن قرار السيسي الحوافظ بالأبعاد والمساحات التفصيلية لقطعة الأرض المبينة في القرار، وإيداع نصه في مكتب الشهر العقاري المختص من غير رسوم، ويترتب على هذا الإيداع جميع آثار الشهر القانونية.
  • القرار رقم 16 لسنة 2022، بتخصيص قطعة أرض بمساحة 10500 متر مربع لمصلحة القوات المسلحة، وذلك لإقامة محطة خدمة وتموين سيارات شرقيّ محافظة بورسعيد، نقلاً من الأراضي المخصصة للهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس.
  • القرار رقم 17 لسنة 2022 بإنهاء التخصيص المقرر للمنفعة العامة لقطعة أرض تبلغ مساحتها 2.35 فدان تقريباً، بما يعادل 99.6 متراً مربعاً، بناحية منطقة دار السلام على كورنيش النيل في المعادي، جنوبي العاصمة القاهرة، لتكون ضمن الأملاك الخاصة بالقوات المسلحة.
  • القرار رقم 19 لسنة 2022 بإعادة تخصيص العديد من الأراضي المملوكة للدولة ملكية خاصة في محافظة البحر الأحمر، نقلاً من الأراضي المخصصة للأنشطة السياحية، لاستخدامها في إقامة محطات خدمة وتموين سيارات، وفقاً للقوانين والقواعد المعمول بها في هذا الشأن.

هذه القرارات ليست الأولى من نوعها، ففي أواخر سبتمبر 2021م، وافق مجلس الوزراء، على قرار السيسي بإعادة تخصيص قطعتي أرض من المساحات المملوكة للدولة، كملكية خاصة، في منطقتي رابعة وبئر العبد في وسط سيناء وشمالها، وذلك بإجمالي مساحة يبلغ 89 ألفاً و960.55 فداناً، لصالح جهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع للجيش. القرار اعتبر تعزيزا لببيزنس الجيش ويستهدف منح المؤسسة العسكرية امتيازات إضافية فوق التي تحظى بها، تحت لافتة «التنمية»، والقرار في بعده وتوقيته أثار كثيرا من التساؤلات حول الهدف من وراء هذه القرارات التي تقضم أراضي سيناء وتضمها لحساب القوات المسلحة، سواء كانت هذه الأراضي مملوكة للدولة أو حتى لو كانت مصنفة كملكيات خاصة، لا سيما أن القرار يأتي بعد عام من صدور القانون 127 لسنة 2020 بتعديل قانون التنمية المتكاملة لشبه جزيرة سيناء والذي تضمن نقل تبعية جهاز تنمية سيناء بالكامل من رئاسة مجلس الوزراء إلى وزارة الدفاع. بالتالي يصبح الجيش هو صاحب القرار الأول والأخير في كل مناطق التنمية بسيناء، لأنه يختار ويعين رئيس مجلس إدارة الجهاز ويحدّد أعضاءه. وتبلغ الاراضي الصالحة للزراعة في شمال سيناء نحو 500 ألف فدان يسيطر الجيش فعليا على نحو 70% منها، ويتبقى نحو 130 ألف فدان يزرعها المدنيون ومؤسسات أهلية وتعاونية ويقع جزء منها ضمن ملكية المحافظة.[[6]]  وهو ما يمثل تقليصا كبيرا لمساحة الأراضي التي كان يزرعها المواطنون ما بين 2010 إلى 2013م.

وكان إصدار السيسي لقانون تنظيم الأراضي سنة 2014م المعني بتنظيم الأراضي التي يرفع الجيش يده عنها بمثابة محطة فاصلة في تحويل الجيش إلى أكثر مستثمر في البلاد، فهذا القانون تضمن بندا يتيح للمؤسسات الفرعية التابعة للقوات المسلحة تكوين شركات إما منفردة أو بالشراكة مع القطاع العام أو الخاص، وهو ما يعنى تسهيل تحويل الأراضي العسكرية للأغراض المدنية والصناعية والاستثمارية ومشاركة الجيش بقيمة هذه الأراضي فقط، وهو ما يعني أيضاً إضافة استثمار الأرض إلى مزايا الجيش بعدما كان المعمول به هو وضع اليد في أيام السادات، أو تخصيص 5 في المئة من مساحة الأراضي المبنية للجيش، وهو الوضع المطبق في عصر مبارك، حيث منح مبارك الجيش حق بناء ما يقرب من 5 في المئة من مجموع المساكن التي شُيّدت في البلاد من قبل الجيش ولأجل الجيش، دون أن يُعمم حق استثمار هذه الأراضي. أما الآن فصار يحق للجيش الأمرين معاً.[[7]]

وفي 9 يونيو 2016م، أصدر السيسي قرارا جمهوريا غير مسبوق،  برقم 233 لسنة 2016م، قضى بتخصيص كيلومترين كاملين في عمق الصحراء على جانبي 21 طريقاً جديدة لمصلحة وزارة الدفاع، ما حوّل الجيش فعلياً إلى أكبر مالك للأراضي القابلة للتنمية والترفيق والتطوير والاستثمار في البلاد، ومنحه ميزة تنافسية على حساب الحكومة وهيئاتها المدنية، وأيضاً المستثمرين، بما يعكس رغبة الرئيس المصري في تعظيم موارده، مقابل إضعاف وإفقار الجهاز الإداري.[[8]]   كما خصص القرار الجمهوري رقم 57 لسنة 2016، جميع اﻷراضي التي يقام عليها مشروع العاصمة اﻹدارية الجديدة بين مدينتي القاهرة والسويس، ومشروع مدينة محمد بن زايد السكنية، لصالح وزارة الدفاع ممثلة في جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة. كما أصدر السيسي قراراً رقم 108 لسنة 2018 بالموافقة على إعادة تخصيص قطع من أراضي الدولة في “العلمين” (إحدى مدن محافظة مطروح على البحر الأبيض المتوسط) لاستخدامها في إنشاء “مدينة العلمين” السياحية الجديدة عليها. وكان أبرز ما جاء في متن القرار المنشور بالجريدة الرسمية هو القيام بعمليات إعادة تخصيص ونقل ملكية بين أكثر من جهة، من وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي والقوات المسلحة، إلى “هيئة المجمعات العمرانية الجديدة”. وفي أغسطس 2019م، نشرت الجريدة الرسمية قرارات للسيسي  يخصص بها أراض شاطئية وصحراوية بمساحة 200 ألف فدان للجيش.[[9]]  وهناك مئات القرارات التي أصدرها السيسي بتخصيص الكثير من الأراضي للجيش من أجل  رشوة كبار القادة وضمان ولائهم للنظام ودعمه رغم الفشل المتواصل في جميع الملفات والقطاعات.

وفي أواخر مارس 2016م، حذر تقرير لموقع “ميدل إيست آي” البريطاني من “مخاطر توسع الإمبراطورية الاقتصادية العسكرية في مصر”. وقال التقرير: إن “الاقتصاد العسكري المصري تطور إلى ما هو أبعد من الاحتياجات العسكرية ليشمل جميع أنواع المنتجات والخدمات”. وأكد أن العسكر “يهيمنون على نسبة تتراوح بين الـ50-60% من الاقتصاد المصري، ويستحوذون على 90% من أراضي مصر، ويسخرون الجنود للعمل مجاناً في مشاريعهم فينافسون بذلك أصحاب المشاريع الأخرى الخاصة المدنية”.[[10]]

قضم أراضي الدولة في عهدي السادات ومبارك

وعندما شرع الرئيس الأسبق محمد أنور السادات في الاعتراف بالكيان الصهيوني وإقراره على ما اغتصبه من أراضي العرب المحتلة في فلسطين بدعوى التسوية السلمية للصراع، أصدرسنة 1977 قرارا جمهوريا منح بمقتضاه حق امتياز إدارة جميع الأراضي غير الزراعية وغير المستثمرة للجيش، وهو القرار  الذي جعل المؤسسة العسكرية أكبر قيِّم على الأراضي المصرية، وذكرت تقديرات أنها تصل إلى 87% من مساحة البلاد.[[11]] بينما يقدرها آخرون بأكثر من ذلك. وهو القرار الذي استهدف وقتها رشوة الجيش للقبول بتوجهات السادات حينها التي انتهت إلى الاعتراف بإسرائيل وحقها في ملكية ما نهبته واحتلته من الأراضي  الفلسطينية.

وفي عهد مبارك، توسع الرئيس الأسبق في منح وزرائه وشلته من رجال الأعمال الكثير من المساحات الواسعة من الأراضي بأسعار زهيدة للغاية وكان هتاف الثوار (كيلو القوطة بعشرة جنيه ومتر مديني بنص جنيه!) معبرا للغاية عن حجم الفساد الضخم في نهب الأراضي. وهو الفساد الذي قدرته جهات اقتصادية بمئات المليارات من الجنيهات. وفي أعقاب ثورة 25يناير2011م، أصدر المجلس العسكري مرسوما بقانون رقم 4 لسنة 2012م، والخاص بتعديل القانون رقم 8 لسنة 1997بشأن ضمانات وحوافز الاستثمار، ومنح التعديل الحكومة سلطة مطلقة للتصالح مع أي مستثمر في جرائم الاعتداء على المال العام حتى لو كان خاضعا للمحاكمة الجنائية أو لم يصدر بشأنه حكم بات، ويسمح القانون للحكومة بالتصالح مع أي مستثمر في أي من الجرائم الواردة في قانون العقوبات تحت عنوان “اختلاس المال العام والعدوان عليه”، و يشترط للتصالح أن يرد المستثمر كافة الأموال أو المنقولات أو الأراضي أو العقارات محل الجريمة أو ما يعادل قيمتها السوقية وقت ارتكاب الجريمة إذا استحال ردها العيني، على أن يتم تحديد القيمة السوقية بمعرفة لجنة من الخبراء يصدر بتشكيلها قرار من وزير العدل”، وليس القضاء، وهو ما يفتح باب تحكم الحكومة في الموضوع برمته. وبهذا التعديل أفلت المتهمون من العقاب حيث ذكرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية حصراً لقضايا فساد رموز نظام مبارك حتى يوم 15 مايو 2015، وكانت على النحو التالي :33 قضية واجهها 17 شخصًا تم صدور 13 حكمًا بالبراءة، وثلاث قضايا انتهت بالتصالح، وسبعة أحكام غيابية، حكم واحد انتهى بإدانة غير نهائية.

الأسباب والدوافع

يمكن تفسير هذه التوجهات والقرارات التي أصدرها السيسي بتخصيص مساحات واسعة من الأراضي للجيش بأنها شكل من أشكال الرشوة من أجل ضمان ولاء المؤسسة لشخصه وعدم الغدر به. وبالتالي فإن الهدف سياسي بامتياز يتعلق بتقسيم الغنائم والامتيازات والتوزيع الجائر للثروة في البلاد. وبهذه القرارات نجح السيسي في إعادة تموضع الجيش اقتصاديا بعيدا عن المشروعات الخدمية والإنتاجية التابعة له، والتي تطورت منذ نهاية السبعينات، وتعاظمت في عهد السيسي. فالآن يقف الجيش كشريك رئيس لأي استثمار عقاري أو خدمي على الأرض، وبقية الأطراف الفاعلة في الاقتصاد، سواء من رجال الأعمال المصريين أو المستثمرين الأجانب، عليهم العمل إما بشراكة مع الجيش أو المرور من خلال موافقته.

هناك تفسير آخر يذهب إلى أن الهدف هو تعزيز استقلالية المؤسسة العسكرية عبر تضخيم الإمبراطورية الاقتصادية، بمعنى أن الجيش يريد لنفسه استقلالية كاملة في الموارد والإيرادات إلى الحد الذي يجعل الدولة نفسها تحتاج إليه. فالواقع وتطوراته، وطبيعة العلاقات المدنية العسكرية داخل الدولة المصرية وبين مؤسساتها المختلفة تلقي بعض الأضواء على التحولات التي جرت على عقيدة المؤسسة العسكرية. فإذا كان هناك تحولات كبرى واضحة على العقيدة القتالية للجيش تتمثل في اعتبار الداخل المصري (الإسلاميون ـ الثوار) تهديدا وليس الخارج (إسرائيل ــ إثيوبيا)، فإن هناك تحولات أخرى على عقيدة الجيش الاقتصادية تتمثل في تبني المؤسسة العسكرية تعريفا للأمن القومي يركز على الجانب التنموي، والذي يقصد به أن يكون للقوات المسلحة المصرية الإمكانات والقدرات الخاصة المستقلة التي تتيح لها امتلاك قرارها سلماً وحرباً، داخلياً وخارجياً؛  من أجل ضمان عدم توريط القوات المسلحة في أي قرار يترتب عليه تنفيذ مهمات في الداخل أو الخارج.

قد يعزز هذه الفرضية أن الجيش بات يمتلك قدرة مالية منفصلة بالكامل عن الدولة المصرية، ويحرص قادة الجيش على ترسيخ هذه الاستقلالية في نفوس أبنائه من خلال التصريحات بشأن هذه القدرة تحصيلاً وإنفاقاً؛ فقد صرح اللواء محمود نصر، مساعد وزير الدفاع للشئون المالية وعضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة وفقاً لجريدة الشروق الصادرة بتاريخ 27 مارس 2012، آنَذاك، بأن القدرة المالية للجيش المصري هي بعرق أبنائه “هذا المال/العرق يؤمن لنا القدرة على حماية مقدرات أمننا القومي”. وتتأكد لنا هذه الاستقلالية من خلال القروض والتبرعات التي تقدمها القوات المسلحة للدولة المصرية، فقد صرح اللواء محمود نصر، مساعد وزير الدفاع في ندوة نظمها المجلس الأعلى للقوات المسلحة حول مستقبل الاقتصاد المصري في ديسمبر 2011، بأن “القوات المسلحة أقرضت البنك المركزي مليار دولار من عائد مشروعاتها الإنتاجية”، كما أعلن الجيش المصري في يونيو 2014 عن التبرع لصندوق تحيا مصر بمليار جنيه، وفي أبريل 2020 تبرعت القوات المسلحة للصندوق أيضاً بمبلغ 100 مليون جنيه.[[12]]

وتكشف هذه السلوكيات عن رؤية المؤسسة العسكرية لدورها وتأثيرها ومكانتها في الدولة المصرية، وطبيعة العلاقات المدنية العسكرية فيها، فقد حرصت المؤسسة العسكرية على أن تكون سيطرتها والتي بدأت منذ عام 1952 شاملة لمقدرات الوطن السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل ووصية على أراضيه ومالكه لها.

خلاصة الأمر، عمليات القضم المنظم والمتتابع للأرض ومنحها للجيش تناقض نصوص جميع الدساتير المصرية التي نصت على أن أرض مصر ملك للشعب المصري وهو الوحيد صاحب الحق في التصرف فيها، لكن السيسي يخالف ذلك عمليا ويمضي دون اكتراث  باعتبار مصر ملكية عسكرية ولا أحد له الحق سواه. وحتى دستور 2014م ينص في المادة 32 على أن «السيادة للشعب، وأن الموارد الطبيعية ملك للشعب، تلتزم الدولة بالحفاظ عليها، وحُسن استغلالها، وعدم استنزافها، ومراعاة حقوق الأجيال القادمة فيها ولا يحق لأحد التصرف فيها دون وجه حق أو بالمخالفة للقانون”. وذكر ايضاً في المادة 34″ للملكية العامة حرمة، لا يجوز المساس بها، وحمايتها واجب وفقًا للقانون»  وبالتالي فإن أي اعتداء أو عدوان أو استيلاء على أراضي الدولة أو استغلالها بخلاف النشاط المخصصة له يعد مخالفاً للدستور والقوانين التفصيلية المعنية بهذا الشأن.

وأمام الهيمنة السياسية والاقتصادية والإعلامية للجيش على مفاصل المشهد المصري، ومع بروز دور المؤسسة العسكرية سياسيا في أعقاب ثورة 25 يناير2011م، سعت المؤسسة العسكرة إلى دسترة وقوننة أوضاعها من أجل أن تبقى وصية على الدولة والمجتمع أو بمعنى أكثر دقة (دولة فوق الدولة). لذلك تبنت المؤسسة العسكرية وثيقة الدكتور علي السلمي في 2011م والتي كانت تتضمن نصوصا تجعل وضع الجيش فوق وضع الدولة، لكن الرفض الشعبي حال دون إتمام هذا المخطط. ولما فشلت المؤسسة العسكرية في تحقيق ماكانت تطمع فيه من خلال دستور 2012م، انقلبت على المشهد كله ونسفت المسار الديمقراطي بكل عنف. وسيطرت على البلاد بقوة الدبابات وصناديق السلاح والذخيرة في يوليو 2013م. وعمدت بعد ذلك إلى دسترة وضعها الشاذ والغريب كوصية على الدولة والمجتمع؛  وحماية هذا الوضع بكل ما أمكن لها؛ ولذلك جاء دستور 2014 وتعديلاته عام 2019 لتكشف عن هذه الوصاية التي أصبحت واقعاً ملموساً ومعترفاً به، فقد نصت المادة (200) بعد التعديل على أن “القوات المسلحة ملك للشعب، مهمتها حماية البلاد، والحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها، وصون الدستور والديمقراطية، والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها، ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد، والدولة وحدها هي التي تنشئ هذه القوات، ويحظر على أي فرد أو هيئة أو جهة أو جماعة إنشاء تشكيلات أو فرق أو تنظيمات عسكرية أو شبه عسكرية”.

من جهة أخرى، رغم وجود عديد الدراسات التي تناقش تأثير الاقتصاد المدني للجيوش على إعاقة التحول الديمقراطي أو تقويض الحكم الديمقراطي من خلال المساهمة في قدرتها على القيام بانقلابات أو الاحتفاظ باستقلاليتها عن المسؤولين المنتخبين؛ رغم توفر هذه الدراسات فإنه عادة ما ينظر للاقتصاد المدني للجيش المصري في النقاش العام من مدخل مزاحمته للقطاع الخاص، وقليلة هي المقالات التي تناقش التداعيات السياسية لطبيعة دوره الاقتصادي خاصة بعد انقلاب 2013 الذي جعل تأثيره أكثر مركزية  وتأثيرا على ترتيبات الحكم. بمعنى أن التأثير السياسي لاقتصاد الجيش أكثر خطورة من التأثير على قدرة القطاع الخاص ونموه في ظل الامتيازات الواسعة التي يتمتع بها الجيش.

وأخيرا يبقى الإصرار على تغول الجيش على حساب الدولة والمجتمع يمثل مخاطرة غير محسوبة العواقب، في الحاضر، وتلغيما لمستقبل البلاد، ومقامرة شديدة الخطورة تضع الجيش في مواجهة الشعب بشكل متصاعد وغير مبرر. ولن يكتب للدولة المصرية أن تخرج من طور الاستبداد والفساد إلا باستراتيجية قومية توقف التغول العسكري وتمكن السيطرة المدنية  من حكم البلاد وفق قواعد وآليات الديمقراطية. وعلى المؤسسة العسكرية أن تكون مؤمنة أكثر من أي مؤسسة أخرى أن مثل هذا الطريق الديمقراطي المدني هو المستقبل الحقيقي الأكثر أماناً للحفاظ على كيان الدولة المصرية، وحماية الأمن القومي المصري ضد أي تهديد أو عدوان.

 

 

[1] خليل العناني/ مصر .. ملكية عسكرية/ العربي الجديد ــ 30 يناير 2022

[2] رنا ممدوح/ السيسي يخصص 37 جزيرة للجيش.. وأهالي بـ«القرصاية»: بداية لـ«التطفيش»/ مدى مصر ــ 26 يناير 2022

[3] في ذكرى الثورة المصرية: السيسي يخصص أراضي 37 جزيرة للجيش/ العربي الجديد ــ 25 يناير 2022

[4] رنا ممدوح/ السيسي يخصص 37 جزيرة للجيش.. وأهالي بـ«القرصاية»: بداية لـ«التطفيش»/ مدى مصر ــ 26 يناير 2022

[5] السيسي يخصص أراضي جديدة للجيش المصري في الفيوم وبورسعيد والقاهرة والبحر الأحمر/العربي الجديد ــ 27 يناير 2022

[6] محمود خليل/ ماذا وراء تخصيص أراضي سيناء للجيش المصري؟/ العربي الجديد ــ 29 سبتمبر 2021

[7] علي الرجّال/ الأرض في مصر: صراع النفوذ والثروة والبقاء/ السفير اللبنانية ــ 15 أبريل 19م

[8] “أراض ذات طبيعة عسكرية”.. اقتصاد الجيش المصري يزداد تضخماً/ عربي بوست ــ 11 يونيو 16م

[9] مجددا.. السيسي يخصص أراضي شاطئية وصحراوية للجيش بمساحة 200 ألف فدان/ شبكة رصد ــ الثلاثاء، 6 أغسطس 2019

[10] مجددا.. السيسي يخصص أراضي شاطئية وصحراوية للجيش بمساحة 200 ألف فدان/ شبكة رصد ــ الثلاثاء، 6 أغسطس 2019

[11] المؤسسة العسكرية في عهد السيسي من مالك إلى مستثمر للأراضي ساسة بوست بتاريخ 17/4/2016 

[12] أحمد سميح/ طبيعة العلاقات المدنية العسكرية داخل مصر.. وجهة نظر مطلوبة/ عربي بوست ــ 28يناير 22

 

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022