طرحت مسألة رقابة القضاء لدستورية القوانين فى مصر على المستوى الفقهى والقضائى قبل أن تطرح على المستوى التشريعى بفترة زمنية طويلة، فعلى المستوى الفقهى (فقه القانون) أيد فقهاء القانون حق المحاكم فى مراقبة دستورية القوانين التى تطرح عليها والامتناع عن تطبيقها فى النزاع المعروض عليها دون التعرض للقانون ذاته أو القضاء ببطلانه. وكان أول من قال بذلك المستشار برنتون، رئيس محكمة الاستئناف المختلط، فى محاضرة ألقاها عام 1920 بعنوان: “مهمة السلطة القضائية فى المسائل الدستورية بالولايات المتحدة ومصر”. وقد أثار هذا الرأى جدلاً فقهياً واسعاً انتهى إلى أن أقر الغالبية العظمى من الفقهاء حق القضاء المصرى فى رقابة دستورية القوانين بطريق الامتناع. مستندين فى ذلك إلى مبدأ الشرعية، وإلى أن هذه الرقابة من طبيعة عمل القاضى، فضلاً عن مبدأ فصل السلطات الذي يستوجب ذلك، بينما رفضت قلة قليلة الاعتراف للمحاكم بهذا الحق.[[1]] وفي أعقاب ثورة 1919م، نجحت مصر في الحصول على هامش من الاستقلال النسبي في ظل سيطرة الاحتلال الإنجليزي على جميع مفاصل السلطة في مصر منذ سنة 1881م، هذا الاستقلال الهامشي أفضى إلى إصدار دستور 1923م، وفي العام التالي (1924) ظهرت على سطح الحياة القضائية لأول مرة مسألة دستورية القوانين أمام محكمة جنايات الإسكندرية، وذلك أثناء نظرها الطعن المقدّم من هيئة الدفاع عن مجموعة من المواطنين وجّهت إليهم النيابة العامة تهمًا بنشر أفكار ثوريّة، فحكمت المحكمة حضوريًا على المتهمين بالسجن ثلاث سنوات استنادًا إلى المادة 151 من قانون العقوبات، فطعن دفاع المتهمين على الحكم على أساس أنّ المادة المذكورة تخالف المادة 14 من الدستور. تكرر الأمر سنة 1925م، حين رفض بعض العمد والمشايخ استلام دفاتر الانتخاب، وأضربوا عن العمل؛ فأمرت النيابة العامة بتقديمهم للمحاكمة بتهمة عدم تنفيذ الأوامر الحكومية، فأوردت هيئة الدفاع في دفاعها أنّ قانون الانتخابات المعدّل غير دستوري لصدوره أثناء غيبة البرلمان.[[2]]
المحطة الثانية في سنة 1941م، حيث حدثت نقلة في تاريخ القضاء الدستوري، حين أصدرت «محكمة مصر الأهلية» حكمًا تاريخيًا يقضي بحق المحاكم في الرقابة على دستورية القوانين انطلاقًا من وجود قانونين يجري العمل بهما في البلاد، وهما القانون العادي والدستور. حيث يتوجب على القاضي إعمال القانونين في أحكامه، وإن حدث تعارض يتوجب عليه الركون إلى القانون الأعلى وهو الدستور. وتلا ذلك إصدار محكمة القضاء الإداري في 1948 حكمًا اعتبره الكثيرون علامة من علامات القضاء المصري، حين أقرت بحق القضاء في التصدي للقوانين غير الدستورية، وذلك بإهمال تطبيق أي قانون يراه القاضي، وفقًا لسلطته التقديرية، متعارضًا مع الدستور.
المحطة الثالثة، في أعقاب حركة الجيش في 23 يوليو 1952م، حيث طفت فكرة إنشاء محكمة دستورية متخصصة إلى السطح لأول مرة، وذلك بتكليف لجنة اُسميت «لجنة الخمسين» بوضع مشروع دستور جديد للبلاد نص في أحد مواده على إنشاء محكمة عليا تكون لها سلطة الرقابة على دستورية القوانين. وقد حدد مشروع الدستور عدد قضاة المحكمة العليا بحيث لا يتجاوز تسعة قضاة بأي حال من الأحوال، يختار ثلثهم رئيس الجمهورية، والثلث الثاني يختاره البرلمان، والثالث تختاره السلطة القضائية. إلا أن دستور 1953 انتهى «في صندوق القمامة»، ولم يكتب للمحكمة الدستورية أن ترى النور آنذاك.
مذبحة القضاء ونشأة «المحكمة العليا»
المحطة الرابعة، في1969 قرر رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر إصدار قانون «المحكمة العليا» بالقرار بقانون رقم 81 لسنة 1969 والتى تولت مهمة الرقابة بالفصل في دستورية القوانين وباشرت مهامها مدة تقترب من العشر سنوات اعتباراً من 25/8/1970 وحتى تاريخ تشكيل المحكمة الدستورية العليا فى 9/10/1979م.
كانت تلك أول تجربة لإنشاء محكمة دستورية متخصصة يناط بها دون غيرها الرقابة على دستورية القوانين. ولا يمكن فهم قرار عبد الناصر هذا دون ربطه بسياقه السياسي الأوسع. حيث تزامن اعتزام «عبدالناصر» إنشاء محكمة دستورية مع أكبر صدام شهدته مصر في تاريخها بين السلطتين القضائية والتنفيذية فيما عرف بـ«مذبحة القضاة» (1969).
النشأة الاستثنائية للمحكمة العليا في أحضان السلطة تزامنت مع حزمة قرارات استهدف بها نظام عبدالناصر تقويض أي معني لاستقلال القضاء؛ حيث أنشأ المجلس الأعلى للهيئات القضائية ليكون بديلا لكافة مجالس الهيئات القضائية، لكنه يتبع مباشرة للسلطة التنفيذية حيث يترأسه رئيس الجمهورية وينوب عنه وزير العدل، وهو المجلس الذي احتل جميع اختصاصات الهيئات القضائية من إجراءات التعيين والترقية والنقل والندب. وتبعه قانون بإعادة تشكيل الهيئات القضائية من الموالين للنظام، وهو القانون الذي اعتبر كل من لم يشملهم قرارات إعادة التعيين محالين إلي المعاش! مع عدم تمكينهم من التظلم من القرار أو التقاضي بشأنه أمام محكمة النقض كما يقرر قانون السلطة القضائية، ثم صدور قرار بانفراد رئيس الجمهورية بإصدار كافة التعيينات القضائية، ثم قرار آخر بتعيين مجلس إدارة لنادي القضاة، أقال به عبدالناصر مجلس إدارة النادي المنتخب قبل شهور من جموع القضاة، ثم قرار آخر بتعديل قانون مجلس الدولة نال من استقلاله، لتكون بالفعل أكبر مذبحة عرفها التاريخ القضائي أطاحت بالنائب العام وكبار القضاة في حركة شملت مائة وسبعة وعشرون قاضياً وعضو نيابة عامة.
وقد تشكلت المحكمة العليا عند إنشائها من: المستشار / بدوى إبراهيم حمودة “أول رئيس للمحكمة العليا”. وكانت المحكمة العليا تؤلف من رئيس ومن نائب أو أكثر للرئيس وعدد كاف من المستشارين ، وتصدر أحكامها من سبعة أعضاء. ويعين رئيس الجمهورية رئيس المحكمة من بين أعضائها أو من غيرهم ممن تتوافر فيهم شروط التعيين ، ويجوز تعيينه دون التقيد بسن التقاعد ، ويعين نواب الرئيس والأعضاء بقرار من رئيس الجمهورية بعد أخذ رأى المجلس للهيئات القضائية ، ويكون تعيين رئيس المحكمة العليا ونوابه والمستشارين لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد.
وتختص المحكمة العليا بما يأتى:
- الفصل دون غيرها فى دستورية القوانين.
- تفسير النصوص القانونية.
- الفصل فى طلبات وقف تنفيذ الأحكام الصادرة من هيئات التحكيم المشكلة للفصل فى منازعات الحكومة والقطاع العام.
- الفصل فى مسائل تنازع الاختصاص.
ويرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن ناثان براون، في كتاب له عن القضاء المصري أن جذور الصراع بين ناصر والقضاة تعود إلى منتصف ستينيات القرن العشرين، حين بدأت جماعة من الشخصيات القانونية والسياسية المحسوبة على النظام تدعو إلى إجراء تغييرات في الثقافة القانونية لمواكبة التحول ناحية بناء المجتمع الاشتراكي.
وبحسب براون، فإن معظم هذه الدعوات طالبت بتغيير على مستويين:
- المستوى الأول هو إعادة النظر في التشريعات السابقة على 1952 التي طالب أشخاص مثل القانوني البارز «جمال العطيفي» بمراجعتها من حيث أنها كانت «نتاجًا لعصر رأسمالي ومن شأنها أن تقوض فرص التحول الاشتراكي».
- أما المستوى الثاني، فقد تركز على المطالبة بتغيير «النظام القضائي»، وهو ما تبدى في الدعوة التي صاغها أمين عام الاتحاد الاشتراكي «علي صبري» في سلسلة من المقالات عن «كيفية إدارة هذا التحول في النظام القضائي نحو نظام أكثر اتساقًا، وانطلاقًا من الأيديولوجية الاشتراكية».
وقد تسارعت الأحداث في هذا الاتجاه بعد هزيمة 1967 التي أضعفت النظام وخصمت كثيرًا من شرعيته. إذ بدأ عبد الناصر يشعر بالحاجة إلى بسط سيطرته على السلطة القضائية، خاصة مع رفض أغلبية القضاة لمقترحات تغيير النظام القضائي التي طرحها عدد من رموز الفكر الناصري. وهكذا جاء إنشاء «المحكمة العليا» في سياق إعادة هيكلة شاملة للنظام القضائي تهدف إلى بسط النظام لسيطرته على القضاء والقضاة. فمن ناحية أولى كان مطلوبًا من «المحكمة» إعادة تفسير القوانين القديمة بحيث تساير متطلبات المجتمع الجديد، وهو بالضبط ما نصت عليه المذكرة الإيضاحية لإنشائها، حيث قالت: «أصبح واضحًا في كثير من الحالات أن أحكام القضاء ليست قادرة على أن تساير مسيرة التطور التي حدثت في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية. وهذا نتيجة لقصور في التشريعات أو نتيجة لأن التفسيرات غير مناسبة للعلاقات الجديدة. ومن واجب القضاة أن يقوموا بالتفسير والتطبيق بما يضفي الفاعلية على النصوص الهامدة… وهكذا فإن مهمة المحكمة الجديدة هي تطوير فقه اشتراكي جديد وضمان التفسير الملزم للنصوص القانونية».
ومن ناحية ثانية، فإن إنشاء محكمة دستورية كان منتظرًا منه أن يضفي جانبًا دستوريًا «يساعد السلطة القائمة في أخذ قراراتها دون الحديث عن عدم شرعية قانونية»، وذلك بعد أن ألقت «مذبحة القضاة» ظلالا كثيفة من الشك على استقلال القضاء ونزاهته وبعده عن تأثيرات السلطة التنفيذية.[[3]]
نشأة المحكمة الدستورية
بعد رحيل عبدالناصر، تولى الرئيس الأسبق محمد أنور السادات الحكم، وبداية من سنة 1971م، شرع السادات في التراجع عن كثير من قرارات عبدالناصر المتعلقة بمذبحة القضاء، واتخذ عدة تدابير تفضي إلى إلغاء آثارها؛ فتم إقرار دستور71 الذي تضمن فصلا كاملا عن «المحكمة الدستورية العليا»، لكن إنشاء هذه المحكمة تآخر نحو 8 سنوات، حتى صدر القانون رقم 48 لسنة 1979 بإصدار قانون المحكمة الدستورية العليات لينظم عمل المحكمة واختصاصاتها وسائر شئونها.[[4]]
- وتضمن القانون اختصاصات المحكمة على النحو التالي:
- الرقابة علي دستورية القوانين واللوائح.
- تفسير النصوص التشريعية التي تثير خلافاً في التطبيق.
- الفصل في تنازع الاختصاص بين جهات القضاء أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي.
- الفصل في النزاع الذي يقوم بشأن تنفيذ حكمين نهائيين متناقضين.
ويعزو محللون أسباب هذا التآخر إلى جملة من الأسباب والعوامل، أهمها توجس المجتمع القضائي تجاه المحكمة. يقول براون: «توجس القضاة من أن النص الدستوري الذي يتطلب أن تكون المحكمة جهازًا قضائيًا مستقلا قد لا يحظى إلا باحترام جزئي، فتكون المحكمة مستقلة عن غيرها من أجهزة القضاء، ولكن أبعد ما تكون عن الاستقلال عن السلطة التنفيذية.هذه الشكوك كانت لها أساسها القوي بسبب دور مؤسسة الرئاسة القوي في تعيينات المحكمة العليا والمدة القصيرة لشغل مناصب القضاة في هذه المحكمة (ثلاث سنوات).». فالرئيس هو المتحكم الفعلي عبر آجهزته في تعيينات المحكمة واختيار رئيسها وبالتالي فتشكيل جمعيتها العمومية هو من تصميم عمل السلطة التنفيذية فكيف يمكن فهم الاستقلال المنصوص عليه للمحكمة في دستور “71” إلا أن يكون استقلالا للمحكمة عن القضاء وبرهانا على نشأة المحكمة في أحضان السلطة لأهداف تتعلق برغبة السلطة في تصميم السلطة القضائية على نحو يضمن خضوعها من جهة والتخديم على أجندتها من جهة أخرى، وتوظيف هذه المحكمة وصلاحياتها من أجل التلاعب في المشهد السياسي والتحكم فيه على النحو الذي يضمن للسلطة إقرار وتمرير أو حتى تجميد وبطلان ما تشاء، لا سيما في الملف السياسي وما يتعلق بالانتخابات والبرلمان والأحزاب والقوى السياسية، والملف الاقتصادي وما يتعلق بشرعنة ودسترة توجهات النظام بين الاشتراكية في عهد عبدالناصر والرأسمالية في عهد السادات. وقد برهنت التجربة على ذلك فرغم الإقرار العرفي بأن يتولى الأقدم رئاسة المحكمة عن طريق رئيس الجمهورية، إلا أن هذا الاتفاق العرفي تم انتهاكه قبل ثورة يناير في عدة حالات حيث تم تعيين فتحي نجيب رئيسا للدستورية العليا، في 2001، من خارج المحكمة، وتوالى التعيين من الخارج: ممدوح مرعي في أيلول/ سبتمبر 2003، وماهر عبد الواحد في تموز/ يوليو 2006، وفاروق سلطان في حزيران/ يونيو 2009م. وبالتالي تبقي سلطة رئيس الجمهورية في تعيين أفراد المحكمة مطلقة. معنى ذلك أن المحكمة الدستورية نشأت في أحضان السلطة وكانت ولا تزال بعيدة كل البعد عن الجسم القضائي؛ فميزانية المحكمة والسند التشريعي والدعم الإداري لها أمور منفصلة تمامًا عن القضاء العادي، فأدرك القضاء منذ اللحظة الأولى لإنشاء المحكمة أنها مجرد «لجنة حكومية» معينة من جانب السلطة يتم منحها وقضاتها مزايا وامتيازات هائلة لإضفاء مسحة قضائية دستورية مزيفة على بعض إجراءات السلطة التي تكون محل جدل واعتراض؛ ولهذه الأسباب، وأسباب أخرى، جاءت توصيات «مؤتمر العدالة الأول 1986» بإلغاء المحكمة.
وقبل مؤتمر العدالة عبَّرت الهيئات القضائية المختلفة عن رفضها للمحكمة الوليدة؛ ففي سنة 1978م، عقد نادي القضاة مؤتمرا حاشدا ضم مئات القضاة وأساتذة قانون وكبار المحامين، اعتراضا على إنشاء هذه المحكمة مؤكدين أنها محرد لجنة أنشأتها الحكومية لتمرير قرارتها فى صورة أحكام قضائية كى يتم نسبتها للقضاء وهو منها برىء. وخلال المؤتمر قال الدكتور محمد عصفور، أستاذ القانون والقيادى فى حزب الوفد: «إن المحكمة الدستورية عدوان على القضاء وإهدار لكرامته واستقلاله، وإنها أنشأت لتمرير تصرفات شاذة ومنكرة بلغت فى كثير من الأحيان حد أخطر الجرائم». وانتهى مؤتمر نادي القضاة إلى التأكيد على أن المحكمة الدستورية تمثل اعتداء على الأحكام القضائية النهائية الصادرة من محكمتى النقض والإدارية العليا، لأن القانون أعطى لرئيس المحكمة الدستورية العليا منفردا سلطة وقف تنفيذ أى حكم قضائى بدون مرافعة ولا مذكرات، فيصبح شخص واحد معين من قبل رئيس الجمهورية قادرا على إلغاء أى حكم قضائى (جرى بعد ذلك في قضية تيران وصنافير). كما أكد نادى القضاة أن محكمة النقض هى المختصة فى تفسير نصوص القانون، وأن إسناد هذه المهمة للمحكمة الدستورية هو ازدواج فى الاختصاص، وأن الهدف من ذلك هو أن ينشئ رئيس الجمهورية محكمة تفسر القانون وفقا لأهوائه السياسية، ويجعل من تفسيرها ملزما لجميع المحاكم. كما انعقدت الجمعية العمومية لمجلس الدولة أيضا عام 1978 واعترضت على إنشاء المحكمة الدستورية، وأكدت أنها محكمة سياسية ولاؤها للحاكم، واعتداء على الأحكام القضائية والسلطة القضائية، وسردت ذات اعترضات نادى القضاة.[[5]]
أدوار المحكمة في عهدي السادات ومبارك
لعبت المحكمة الدستورية أدوارا مهمة في إضفاء شيء من الشرعية الدستورية والقانونية على التحولات السياسية والاقتصادية التي شهدتها مصر في عهدي السادات ومبارك، ورغم أن إنشاء المحكمة تأخر عن قرارات السادات الاستراتيجية الأكثر أهمية – الانفتاح والتوجه ناحية الغرب والسلام مع إسرائيل – إلا أنها لعبت في السنوات التي تلت إنشاءها دورًا ملحوظًا في تقنين آثار تلك التغيرات بتفسير الدستور تفسيرًا فضفاضا وعجيبا ليتوافق مع نظام سياسي واقتصادي واجتماعي يتناقض تماما مع نصوص الدستور وفلسفته.
سياسا، كان دستور 71 يقر نظام الحزب الواحد، لكن السادات خالف الدستور وأعلن سنة 1976م عن المنابر ثم الأحزاب، وقضت المحكمة الدستورية في حقبتي الثمانينات والتسعينات بعدم دستورية قانون الانتخابات بالقائمة، وقررت أن النظام الفردي هو الذي يحقق مبدأ المساواة بين المواطنين. ولا يمكن أن نفهم المغزى من هذا الحكم إلا أن السلطة رأت في نظام الانتخابات بالقائمة تعزيزا لمكانة الأحزاب، وهو ما يتصادم مع توجهات السلطة الرامية لإضعاف هذه الأحزاب وتطويع المشهد السياسي والحزبي وضمان عدم خروجه عن السيطرة، فالانتخابات الفردية تؤدي هذا الدور تماما وتضعف من مكانة الأحزاب، وتعزز في المقابل من مكانة العشائر والقبائل والأفراد ولا سيما الأثرياء منهم، الذين قربتهم السلطة ودفعت بهم إلى مقاعد البرلمان؛ وبالتالي فإن حكم الدستورية في جوهره ومغزاه كان رغبة سلطوية بالأساس جرى إخراجه في صورة حكم قضائي من الدستورية العليا لتعزيز قدرة السلطة على تشكيل البرلمان على النحو الذي يرضيها. وعندما بالغ نظام مبارك في إحالة المدنيين للمحاكمة العسكرية، في بداية التسعينات، كانت محاكم القضاء الإداري ترى أن يد رئيس الجمهورية ليست مطلقة وقت إعلان الطوارئ في إحالة ما يراه من قضايا للمحاكم العسكرية بل مقيدة ومحدده تحديداً مجرداً بالجرائم التي نص القانون على إحالتها، بينما تتوجه المحاكم العسكرية إلي أن رئيس الجمهورية يحيل “أي جريمة” بمعنى أي فعل مؤثم ومعاقب عليه، وتقدم وزير العدل بطلب تفسير للمحكمة الدستورية حول نطاق المادة 6 من القانون العسكري التي نصت علي (لرئيس الجمهورية متي أعلنت حالة الطوارئ أن يحيل إلي القضاء العسكري أيا من الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات أو أي قانون آخر). وفسرت المحكمة الدستورية المادة تفسيرا ينحاز إلى رؤية النظام وأجهزته الأمنية بإطلاق يد رئيس الجمهورية في إحالة كافة الجرائم للمحاكم العسكرية رغم أن قانون الأحكام العسكرية وقانون الطوارئ ذاته هما قانونان استثنائيان ينتهكان الحقوق الشخصية اللصيقة التي قررها الدستور المخولة المحكمة بحمايته!
وعلى المستوى الاقتصادي، فإن الأستاذ المساعد بقسم الاقتصاد السياسي في الجامعة الأمريكية سامر سليمان، يؤكد أن الدوافع الاقتصادية لعبت دورًا كبيرًا في إنشاء المحكمة الدستورية. حيث تم «قضينة السياسة المصرية» الذي صكه أستاذ القانون بالولايات المتحدة الدكتور تامر مصطفى لشرح المسألة، رابطًا إنشاء المحكمة جزئيًا باحتياجات نظامي السادات ومبارك إلى الاستثمارات الأجنبية. إذ يرى الباحث أن التحول الذى أجراه السادات ومن بعده مبارك فى السياسات العامة من الاشتراكية إلى الرأسمالية كان يقتضي إعطاء ضمانات للمستثمرين الأجانب للحفاظ على حقوقهم فى الملكية من خلال المحكمة الدستورية العليا. «وجهة النظر تلك تدعمها دلالات مثل الحكم بدستورية سياسات الخصخصة الذي فسرته المحكمة بقولها إن الدستور – الذي كان ينص آنذاك على الاشتراكية وصيانة القطاع العام – وثيقة تقدمية يتغير تفسيرها بحسب الزمان والمكان.»!
ومن ناحية أخرى يلفت سليمان إلى أن «المحكمة الدستورية العليا كانت في نظام مبارك بمثابة صمام أمان يدفع القوى السياسية المعارضة إلى ساحات القضاء بدلا من الشارع». فالواقع أن جزءًا كبيرًا من الصراعات السياسية في الثمانينيات والتسعينيات قد حُسم في ساحات المحاكم بدلا من حسمه بطرق أخرى قد تكون أكثر تكلفة على نظام الحكم. فقوانين الإيجارات والانتخابات والضرائب وغيرها كانت مجالًا للطعن في ساحات المحاكم خلال تلك السنوات.
في المقابل، كان نظام مبارك يحترم أحكام الدستورية أكثر من احترامه لأحكام المحاكم الأخرى كالنقض والإدارية العليا. تفسير ذلك أن أحكام الدستورية العليا بوصفها محكمة نشأت في أحضان السلطة إنما هي بالأساس قرارات صادرة عن توافق بين ما تسمى بالأجهزة السيادية والمحكمة، وبالطبع فدور الأجهزة في هذه الأحكام أكبر من دور المحكمة التي يقف دورها على محطتين: الأولى صياغة توجهات السلطة في صورة حكم قضائي من الناحية القانونية. والثانية، إصدار القرار الإداري بوصفه حكما قضائيا صادرا عن المحكمة. معنى ذلك أن أحكام المحكمة في الأغلب تعكس توجهات السلطة، ثم يجري تغليفها بغلاف قضائي شفاف حتى تكتسب الشرعية الدستورية والقانونية. ذلك يعني أن احترام السلطة لأحكام الدستورية ليس انعكاسا لاحترامها لأحكام القضاء بقدر ما هو برهان على أن قرارات المحكمة يتم طبخها أساسا داخل أجهزة الدولة وهي التي تحدد حدود الحكم وأبعاده، لأن احترام أحكام القضاء لا تتجزأ من محكمة لأخرى بقدر ما هو سلوك أصيل في ضمير نظم الحكم الرشيدة.
دور المحكمة بعد ثورة يناير
أثناء ثورة يناير 2011م، لم يخرج عن المحكمة الدستورية موقف سياسي واضح وإن كان دعمها لنظام الرئيس الأسبق حسني مبارك مفروغ منه ولا يحتاج إلى برهان، وفي أعقاب الإطاحة بمبارك برزت على مسرح الأحداث المستشار تهاني الجبالي، عضو المحكمة الدستورية العليا، وهي محامية صديقة لسوزان مبارك، عينها الرئيس الأسبق في المحكمة مجاملة دون تمتعها بشيء من الكفاءة أو الخبرة اللازمة لمثل هذا المنصب. تحولت الجبالي من مستشارة بالمحكمة إلى ناشطة سياسية وإعلامية، حتى اعتبرها البعض متحدثا إعلاميا باسم المحكمة الدستورية. وكشفت في مئات التصريحات والمشاركات الإعلامية عن انحياز المحكمة ضد الثورة والثوار، في مواقف تتنافي مع مع دور القاضي والامتناع عن الإدلاء برأي فيما قد يعرض عليه من قضاء، فضلاً عن قضاة الدستورية كأعلى محكمة في البلاد قد تتصدي لمهمة الفصل بين السلطات.
- في مؤتمر نظمه الحزب الناصري حول التعديلات الدستورية مارس 2011، عبرت الجبالي عن رأيها في ضرورة الإصلاح الدستوري أولاً، منتقدة نص المادة 189 من تلك التعديلات التي تنص علي اجتماع الاعضاء المنتخبين في مجلسي الشعب والشوري خلال ستة أشهر من انتخابهم لينتخبوا جمعية تأسيسية تعمل علي وضع الدستور خلال ستة أشهر من انتخابها.
- في موضع آخر حذرت من مشاركة أعضاء مجلس الشعب في اللجنة التأسيسية لوجود طعون أمام الدستورية بعدم دستورية بعض نصوص انتخابهم، وهو ما يمثل إشارة لتبييت نية حل مجلس الشعب فيما بعد.
- لاحقاً، أدلت بتصريحها الشهير بأن الرئيس محمد مرسي فقد شرعيته كرئيس للجمهورية وأن المحكمة الدستورية لم تسع إلي صدام مع رئيس الجمهورية وإنما مرسي من سعي إلي ذلك، وهي تصريحات سياسية بامتياز تكشف عن انحياز فاضح لا يليق بقاض يحترم ذاته ومنصبه.
لم تكن تلك المواقف والتصريحات مجرد عمل إعلامي تفصح فيه الجبالي عن أفكار وآراء قضاة الدستورية وهمومهم، إنما كانت معبرة عن حركة دؤوبة لدعم المجلس العسكري في مواجهة قوي الثورة، ففي شهادة ديفيد كير كيباترك، مدير مجلة نيويورك تايمز الأمريكية، والصحفية مى الشيخ اللذين أدليا بها ضمن البلاغ الذي تقدم به النائب محمد العمدة للنائب العام ضد الجبالي، ما يمثل عملاً سياسياً بحتاَ يحمل جرائم قانونية تتنافي مع عمل القاضي، فقد أكد الشاهدان أن المستشارة تهاني قامت باستقبالهما في مكتبها الخاص بالمحكمة الدستورية العليا، وذكرت لهما أنها نصحت المجلس العسكري بعدم تسليم السلطة للمدنيين قبل كتابة الدستور الجديد للبلاد، وأنها تعمل مع المجلس بدأ من مايو 2011 وقد ساعدته في إنتاج وثيقة السلمي التي تمنح المجلس العسكري وضعاً استثنائياً يعطيه سلطة رادعة للتدخل في شئون السياسة.[[6]]
تجلى موقف المحكمة الدستورية في عدد من المواقف والأحكام التي برهنت على الدور السياسي للمحكمة من أجل دعم وتعزيز مواقف المجلس العسكري وتغليف مواقفه بغلاف شفاف من أحكامها رفعا للحرج عن المجلس العسكري وأركان الدولة العميقة. ويمكن رصد المواقف والأحكام التالية:
أولا، حل المجالس المنتخبة: دأبت المحكمة الدستورية على تلبية أوامر الحكومة على الفور سواء بحل البرلمان أو الإبقاء عليه وفقا لأجندة مصالح السلطة؛ فرغم إحالة مجلس الدولة إحدى القضايا بشأن تزوير انتخابات 1990م حيث طالبت بعدم دستورية بعض مواد قانون مباشرة الحقوق السياسية، لكن المحكمة تجاهلت الدعوى عشر سنوات كاملة ثم قضت سنة 2000 بعدم دستورية المادة 24 من القانون 73 لسنة 1956 بتنظيم مباشرة الحقوق السياسية. ولكن المجلس المطعون ببطلان تشكيله كان قد أنهى مدته قبل خمس سنوات كاملة. على العكس من ذلك تماما جرى مع انتخابات 2012م التي تعتبر بحق أنزه انتخابات برلمانية في تاريخ مصر كله. والبرلمان الذي تكون بمقتضاها هو الأكثر تعبيرا عن توجهات الشارع المصري. لكن المحكمة في جلستها المنعقدة بتاريخ 14 يونيو 2012 أصدرت حكمين علي درجة كبيرة من الأهمية، الأول بعدم دستورية قانون العزل، والثاني بحل مجلس الشعب المنتخب الذي لم يكمل سوى 6 أشهر فقط على انتخابه، والحكمان سياسيان بامتياز ومتلازمان في التوقيت والهدف والسياق ويمثلان دليلاً واضحاً علي الشراكة بين المحكمة الدستورية والمجلس العسكري في تعطيل المسار الديمقراطي للأسباب الآتية:
- المستشار فاروق سلطان رئيس لجنة الانتخابات التي أوقفت قانون العزل وأحالته للدستورية هو ذاته رئيس المحكمة الدستورية العليا! كما أنه هو نفسه الذي أصدر في ذات الجلسة حكماً بحل مجلس الشعب!
- استندت المحكمة في بطلان قانون العزل بأن البرلمان رتب عقوبة دون صدور حكم قضائي بالحرمان من مباشرة الحقوق السياسية، وهو ما يمثل تغولاً من السلطة التشريعية علي السلطة القضائية، في الوقت ذاته مارست المحكمة تغولا على السلطة التنفيذية ومنحت نفسها صلاحيات ليس منصوصا عليها في الدستور أو في قانونها؛ حيث صدر حكم المحكمة الدستورية بحل مجلس الشعب بالافتئات علي السلطة التنفيذية في اتخاذ قرار الحل وهو سلطة خالصة لرئيس الجمهورية أو من يقوم مقامه، حيث يتوقف دور المحكمة الدستورية عند الحكم بعدم دستورية النصوص القانونية تاركاً أمر تنفيذ الحكم لرئيس الجمهورية. هذا الحكم توافق تماما مع رغبة المجلس العسكري الذي كان يسعى لاسترداد السلطة التشريعية من أجل حصار الرئيس الجديد المنتخب ومشاركته في السلطة قبل أن يتسلم مهامه، لكن المجلس واجه عقبة قانونية تتمثل في عدم أحقية المجلس العسكري الذي كان يمثل سلطة الرئاسة في البلاد في إصدار قرار حل البرلمان؛ حيث خلت الإعلانات الدستورية التي أصدرها من هذا الاختصاص؛ لكن المحكمة الدستورية تكفلت بحل هذه الورطة بالنص في حكمها على كون المجلس منحلا بقوة القانون بهدف قطع الطريق أيضا على الرئيس المنتخب في إمكانية الدعوة لاستفتاء شعبي علي حل البرلمان فنصت في حكمها علي (بما يترتب عليه زوال وجوده بقوة القانون اعتباراً من يوم انتخابه دون حاجة إلي اتخاذ أي إجراء آخر).
- لاحقا عندما أصدر الرئيس الراحل محمد مرسي قراراً بإعادة البرلمان للعمل في 8 يوليو 2012م، من أجل حماية المؤسسات المنتخبة وإرادة الشعب، نهضت المحكمة الدستورية بذات الدور (السياسي) المساند للمجلس العسكري حيث أصدرت في 09 يوليو 2012م بياناً سياسياً هذه المرة قالت فيه (أحكام المحكمة وكافة قراراتها نهائية وغير قابلة للطعن بحكم القانون، وإن هذه الأحكام في الدعاوى الدستورية وقراراتها بالتفسير ملزمة لكل جهات الدولة) وأضاف البيان (إن المحكمة ستنظر في الطعون المقدمة لها بصفة مستعجلة وتطالب بوقف تنفيذ قرار الرئيس) تزامن ذلك مع انعقاد للمجلس العسكري (بغير دعوة من رئيس الجمهورية) دافع فيه عن قرار حل مجلس الشعب وكونه استجابة لحكم الدستورية وبرر صدور الإعلان الدستوري المكمل الذي سحب به مهمة التشريع لنفسه، بالضرورة والظروف السياسية والقانونية والدستورية التي كانت تمر بها البلاد.
- وبالتزامن مع انعقاد أول جلسة للبرلمان في 10 يوليو ، أصدرت المحكمة قرارها بعدم دستورية قرار الرئيس مرسي بعودة مجلس الشعب، وهي السابقة الأولي التي تقوم المحكمة بتتبع أحكامها ومتابعة تنفيذها بنفسها، وإلغاء قرارات رئاسة الجمهورية السيادية بغير طلب القضاء بالفصل فيها كقرار إداري وهو التصرف النقيض لما انتهجته المحكمة الدستورية عند التصدي لقضية جزيرتي «تيران وصنافير».
- في الجمعية التأسيسية الأولى لدستور 2012، انسحبت المحكمة الدستورية في 02 يونيو اتساقا مع انسحاب بعض القوى العلمانية وهو الأمر الذي فهم على أنه استجابة لتوجهات المجلس العسكري سواء للمحكمة أو لهذه القوى المعرقلة للتحول الديمقراطي. البعض قد يدافع عن موقف المحكمة بأن القضاء الإداري قضى ببطلان تشكيل الجمعية التأسيسية استنادا إلى أن الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس العسكري في فبراير 2011م لم يتضمن صراحة مشاركة نواب البرلمان في التأسيسية، لكن الحكم تجاهل أيضا أن الإعلان الدستوري لم ينص صراحة على حرمان نواب البرلمان من المشاركة فيها.
- وعندما تشكلت الجمعية التأسيسية مرة أخرى عقدت المحكمة جلسة بتاريخ 2 ديسمبر 2012م، للنظر في دعويين بحل مجلس الشوري والجمعية التأسيسية رغم صدور إعلان دستوري من الرئيس بتاريخ 21 نوفمبر 2012م، ولولا حصار بعض الثوار للمحكمة اعتراضا على دورها السياسي لقضت بحل الشوري والتأسيسية. الأمر الذي فهم منه على أن المجلس العسكري إنما يوظف المحكمة لحل جميع المؤسسات المنتخبة ووضع العراقيل أمام التحول الديمقراطي وهو الدور الذي مارسته المحكمة باقتدار. ورغم الاستفتاء على الدستور وإقراره رسميا إلا أن المحكمة عقدت جلسة بتاريخ 2 يونيو 2013م قبل الانقلاب بأسابيع، وقضت ببطلان قانون معايير تشكيل التأسيسية؛ الغريب في الأمر أن القرار صدر استنادا إلى دستور 2012 ذاته وهو الدستور الذي أتت به الجمعية التأسيسية المنتخبة وفق هذا القانون المطعون ببطلانه! والأكثر دهشة أن المستشار عدلي منصور عضو هيئة المحكمة الدستورية التي أصدرت حكم بطلان قانون معايير الجمعية التأسيسية وهو ذاته الرئيس المؤقت الذي أصدر قراراً منفرداً بتشكيل لجنة الخمسين بالتعيين المباشر مستنداً لإعلان دستوري بعد انقلاب عسكري، ومن الملفت للنظر أن المستشارين محمد عبد العزيز الشناوي ومحمد خيري طه النجار عضوا الهيئة التي اصدرت حكم عدم الدستورية قد شاركا بعدها بأيام في عضوية لجنة العشرة التي شكلها عدلي منصور لكتابة مقترح تعديل دستور 2012 وهو ما يعتبر تناقضاً صارخا ومدهشا بين ما حكموا به علي منصة القضاء، وما شاركوا في دعمه من خطوات انقلابية افتقدت للشرعية والمشروعية وخلت بحق من أي توافق سياسي وطني رأت المحكمة غيابه عندما قررت الانسحاب من الجمعية التأسيسية 2012م، حيث أصدرت حينها بياناً سياسياً أعلنت فيه بالانسحاب من عضوية الجمعية نظراً (حسب نص البيان) لما طرأ من متغيرات علي التوافق الوطني حول معايير تأسيسها، وكان توقيت ذلك البيان قبل يومين فقط من إصدار حكمها بحل مجلس الشعب.
رابعا، تحصين الانقلاب وحمايته: لعبت المحكمة دور سياسيا بارزا في حماية وتحصين إجراءت الانقلاب العسكري وتحصين كل قراراته وانتخاباته مهما كانت مزورة وتفتقد إلى أدنى درجات التوافق الشعبي. وتمثل ذلك في المواقف الآتية:
- قبول المحكمة تولي رئيسها المستشار عدلي منصور بمنصب الرئيس المؤقت بعد انقلاب عسكري أطاح بالرئيس المنتخب وجمد العمل بالدستور الذي يفترض أن المحكمة حاميته وحارسته. كما استجاب المؤقت لكافة خطوات خارطة الطريق التي نتجت عن انقلاب عسكري على الشرعية الدستورية والانتخابية؛ بما يبرهن على الشراكة وتناغم الأدوار بين المحكمة من جهة والمجلس العسكري من جهة أخرى.
- رد الطعون بعدم دستورية قانون التظاهر: فقد رفضت المحكمة كل الدعاوى الخاصة بذلك، لكنها قضت في إحدى هذه القضايا بعدم دستورية المادة العاشرة التي تمنح وزير الداخلية أو مدير الأمن الحق في منع إقامة تظاهرة مخطر عنها ومرخص بإقامتها بعد استصدار ذلك الترخيص، وهو ما عده كثير من المراقبين ممارسة دور دستوري ضيق داخل أطار المتاح وليس المرجو من محكمة مخولة بحماية الدستور والحريات الممنوحة للمواطنين لا سيما وأن قانون التظاهر استثنائي بامتياز في مواده ونصوصه فضلاً عن صدوره من رئيس مؤقت استأثر بمهمة تشريعات الضرورة في غيبة مجلس للنواب؛ فشرع قوانين معارضة للدستور وفي مقدمتها قانون التظاهر، وبالرغم من ذلك امتنعت المحكمة عن الحكم بعدم دستوريته وأكدت هذا الرفض في عدة أحكام خلال أعوام 2016 وما بعدها.
- تحصين انتخابات الرئاسة والبرلمان، فعلى عكس موقف المحكمة المتشدد من نتائج الاستحقاقات الانتخابية بعد ثورة يناير، وعرقلة التحول الديمقراطي بتدمير كل المؤسسات المنتخبة كترجمة حرفية ومباشرة لكل توجهات المجلس العسكري، فإن هذه المحكمة المشبوهة أبدت تجاوبا ودعما وتأييدا لمسار انقلاب 3 يوليو 2013م. حيث أصدر المستشار عدلي منصور قراراً بقانون عدَّل فيه نظام المواعيد وإجراءات التقاضي وصدور الأحكام بالمحكمة الدستورية، عند نظر قانوني تنظيم الانتخابات الرئاسية أو النيابية، بتقصير مواعيد الإجراءات استثناءً علي الأوضاع الطبيعية لتصبح مدة كل مرحلة من مراحل الدعوة (فقط) ثلاثة أيام علي أن تصدر الأحكام (فقط) خلال خمسة أيام من تاريخ أول جلسة وهو ما قبلته المحكمة دون أدني اعتراض، وقد ألغاه السيسي بعد إجراء الانتخابات الرئاسية والنيابية في ظله. وهو ما يمثل اتفاقاً واضح المعالم لتحصين اجراءات السلطة الانقلابية، سيما وقد ورد بديباجة التعديل والإلغاء ما يفيد أخذ رأي الجمعية العامة للمحكمة الدستورية.
- حظيت المحكمة الدستورية بوضع مثالي في دستور 2014 فيما عدَّه مراقبون مكافأة لدورها في الانقلاب العسكري، حيث اعتمد آلية الأقدمية البحتة في اختيار رئيس ونواب وأعضاء المحكمة بحيث أصبحت الجمعية العامة للمحكمة هي المعنية باختيار تلك المناصب فيما يقتصر دور رئيس الجمهورية علي إصدار قرار التعيين، إلا أن ذلك قد تغير في تعديلات 2019 الدستورية.
- أمام الدور الكبير الذي قامت به المحكمة في إجهاض الثورة وعرقلة التحول الديمقراطي، تمت مكافأة رؤسائها بتولي عدد من المناصب الحساسة في الدولة؛ حيث اختير عدلي منصور رئيسا مؤقتا، وتعيين المستشار حنفي الجبالي رئاسة البرلمان، وهو صاحب الحكم الشهير بحل مجلس الشعب المنتخب، والمستشار عبدالوهاب عبدالرازق رئيسا لمجلس الشيوخ وهو الذي ترأس هيئة المحكمة التي قضت بعدم دستورية مواد العزل السياسي وبطلان تشكيل الجمعية التأسيسية لدستور 2012م، وكلاهما كان رئيسا للمحكمة الدستورية.
خامسا، استمرت فترة قيام المستشار عدلى منصور بدور رئيس الجمهورية لمدة 11 شهرا شهدت عدة مجازر ضد المعارضين أبرزها مذبحة رابعة والنهضة كما شهدت توسعا غير مسبوق فى الإجراءات القمعية شملت اعتقال آلاف المواطنين ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم وحل أغلب الأحزاب السياسية والجميعات الخيرية والمدنية، إضافة إلى إغلاق عدد من المنابر الإعلامية وغيرها من الإجراءات التى وقع عليها المستشار بصفته رئيسا، بينما نفذها وزير الدفاع وشركاؤه، وهذه الجرائم جميعها وإن قام بها فاعلون آخرون غير الرئيس مثل وزيرى الدفاع والداخلية إلا أنهما فى ذلك التوقيت كانا يشغلان مناصب تخضع رسميا لهذا المستشار بصفته رئيسا، كما أصدر المستشار خلال تلك الفترة عشرات القوانين كان من بينها عدد من القوانين المثيرة للجدل لاعتبارت متعلقة بتقييدها للحريات العامة وشرعنة الظلم والفساد الاستبداد. وهو ما يدعو للتساؤل: كيف لقاضٍ يمثل أكبر هيئة قضائية فى مصر أن يصدر مثل هذه القوانين؟ كيف لقاضٍ -حين يمتلك سلطة التشريع- أن يشرعن مثل هذه القوانين التى سيحكم من خلالها قضاة مصر كلها؟[[7]] وبذلك دخلت المحكمة الدستورية لعالم الصراع السياسى من أضيق أبوابه دون حساب لطريقة الخروج وكيفية معالجة الآثار المترتبة على تلك المخاطرة ،وقد وضعت المحكمة نفسها فى مأزق آخر عندما عاد رئيس المحكمة المنتدب فى رئاسة الجمهورية إلى منصبه مرة أخرى كرئيس لها ،الأمر الذى آثار تساؤلات قانونية حرجة حول كيفية نظر المحكمة دعاوى وطعون تتصل بالقوانين التى أصدرها المستشار عدلى منصور خلال فترة قيامه بدور رئيس الجمهورية خاصة وإن هناك طعونا مقدمة بالفعل على بعض تلك القوانين مثل قانون التظاهر. ومنشأ تلك التساؤلات القانونية الحرجة يعود إلى مأزق وضع المحكمة كطرف سياسى داعم ومبارك للسلطة فى معادلة ما بعد 3 يوليو ،الأمر الذى سيوقع قضاة تلك المحكمة فى تناقض غريب من نوعه ،إذ كيف سيستطيع هؤلاء القضاة الحكم فى قضايا تختصم نفس السلطة القائمة التى أوصلت رئيس المحكمة الدستورية العليا إلى سدة الحكم، وبالتالي لن يقتصر دور القضاة على إصدار حكم في مجرد نزاع قانوني فقط، ولكنهم سينظرون قضية تخص رئيس أعلى المحاكم في مصر، وأعضاء جمعيتها العمومية الذين وافقوا على خرق الدستور وتولي رئيسهم رئاسة النظام الجديد. وبعيدًا عن أي جدل قد يثار في هذا الشأن حول تسمية حدث 3 يوليو 2013 وتوصيفه ، فسواء تم تسميته انقلابًا عسكريًا أو ثورة شعبية فإن ذلك لا يجيز للقضاة بأي حال من الأحوال المشاركة السياسية فى المشهد، وبالتالى فإن مشاركة رئيس المجلس الأعلى للقضاء ورئيس المحكمة الدستورية فى هذه الأحداث تعد طعنًا في استقلال القضاء المصري وحياده.بما يعنى أن سلطة الانقلاب العسكري قد نجحت في شل القضاء المصري بكل مكوناته عن إمكانية أن يصدر حكم ما من أية محكمة مصرية يدين سلطة الانقلاب أو ينشئ مركزًا قانونيًا تعود به الحقوق لأصحابها. [[8]]
وخلال السنة التي قضاها عدلي منصور رئيسا مؤقتا أصدر عدة قوانين تعصف بأي معنى للعدل والحرية ومن هذه القوانين الشاذة:
- قانون الحبس الاحتياطى المفتوح: وهو تعديل تشريعي على قانون الإجراءات الجنائية، أصدره منصور بتاريخ 25 سبتمبر 2013م، يقضي بتحرير محكمتي النقض والجنايات من قيود مدة الحبس الاحتياطي للمتهم إذا تعلق الأمر بعقوبة الإعدام أو المؤبد. وينص التعديل التشريعي على أنه يجوز للمحكمتين أن تأمرا بحبس المتهم احتياطيا لمدة 45 يوما قابلة للتجديد، للمحكوم عليهم بالإعدام أو السجن المؤبد، ودون تحديد سقف زمني أقصى. ويشكل هذا التعديل أساسا مهما فى تسييس منظومة النيابة العامة ومنظومة القضاء ككل، فصرنا نسمع عن آلاف المعارضين محبوسين احتياطيا لمدة تزيد عن عام ونصف.
- قانون (تنظيم –منع) التظاهر: فى 24 نوفمبر 2013 أصدر المستشار/الرئيس عدلى منصور قرارا بقانون يقيد الحق فى التظاهر إلى أبعد الحدود ويضع عقوبات مغلظة على المخالفين، كما يسمح للشرطة بالتعامل شبه المطلق مع المتظاهرين بكل الوسائل بما فيها الرصاص الحى، وهو ما أثار جدلا كبيرا وانتقادات واسعة لازالت مستمرة حتى اليوم.
- قانون تحصين عقود المستثمرين: فى 22 ابريل 2014 أصدر منصور قرارا بقانون يمنع المواطنين من الطعن على عقود الاستثمار المبرمة بين الدولة والمستثمرين وهو ما آثار جدلا واسعا مازال مستمرا حتى اليوم. وهناك دعوى مرفوعة أمام المحكمة الدستورية ضد هذا القانون لمخالفته الدستور. نصت المادة الأولى من القانون 32 لسنة 2014 على قصر حق الطعن على العقود التى تبرمها الدولة على طرفيها وأصحاب الحقوق الشخصية والعينية، كما نصت المادة الثانية على إلزام المحاكم بعدم قبول الدعاوى المرفوعة من غير هؤلاء.
- قانون المناقصات بالأمر المباشر: فى 12 سبتمبر 2013 صدر قرار جمهوري رقم 82 لسنة 2013 بتعديل بعض مواد قانون المناقصات والمزايدات بما يحرر الهيئات الحكومية التى لها قوانين خاصة من التقيد بإجراءات المزايدات والمناقصات فى عمليات البيع والشراء، ويرفع الحد الأقصى للتعاقد بالأمر المباشر لشراء المنقولات وتلقى الخدمات لصالح الوزارات والهيئات الحكومية. وهذا القرار يفتح الباب للفساد ويقتل المنافسة ويضيع على المؤسسات الحكومية فرصا مختلفة فى تلقى عروض أعلى أو أقل لتنفيذ مشروعاتها. وقد استقرت أحكام الإدارية العليا والقضاء الإدارى على رفض قانون الأمر المباشر منذ صدور حكم بطلان عقد «مدينتى» عام 2010. وكان السبب الرئيسى لأحكام بطلان عقود بيع الأراضى بالأمر المباشر للأغراض السكنية أو الزراعية أو السياحية هو عدم اتباع الإجراءات المقررة فى هذا القانون، بإجراء مزايدة علنية شفافة على الأراضى محل البيع، باعتبار أن قانون المزايدات هو الشريعة الحاكمة الوحيدة لبيع أراضى وممتلكات الدولة، ويعلو فوق القوانين الخاصة لهذه الهيئات.
سادسا، التنازل عن “تيران وصنافير”: قررت المادة 32 من قانون المحكمة اختصاص رئيس المحكمة الدستورية وفق سلطته المنفردة دون جلسة أو مرافعة أو حضور الأطراف (وقف تنفيذ أي حكم قضائي صدر في القضايا المنظورة بالدستورية حتي لو كانت أحكاماً نهائية أصدرتها محكمة النقض أو الإدارية العليا وهما أعلي درجات التقاضي في مصر). وهو الاختصاص الذي استخدمه المستشار عبد الوهاب عبد الرازق في وقف تنفيذ الحكم الصادر من المحكمة الإدارية العليا ببطلان التوقيع علي اتفاقية ترسيم الحدود مع السعودية التي تم بمقتضاها التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير ما مكن النظام المصري من المضي قدماً في إجراءات تسليم الجزيرتين، تبع ذلك فيما بعد الحكم بعدم الاعتداد بحكم الادارية العليا المشار إليه. حيث بادر رئيس المحكمة المستشار عبد الوهاب عبد الرازق بالخطوة الأولي حيث أصدر حكما وقتياً بوقف تنفيذ كافة أحكام القضاء الإداري والقضاء المستعجل الخاصة باتفاقية تيران وصنافير وهذا الإجراء(الوقتي) الصادر في 20 يونيو 2017 فتح الطريق لتنفيذ الاتفاقية بعد تعليق القضايا المنظورة بالدستورية وسمح بنشر الاتفاقية في الجريدة الرسمية والبدء في إجراءات تسليمها. والخطوة الثانية اتخذها المستشار حنفي الجبالي بإهدار أحكام القضاء الإداري التي حكمت ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، حيث أصدر في 3 مارس 2018 حكماً بعدم الاعتداد بأحكام محكمة القضاء الإداري والإدارية العليا ومحكمة الأمور المستعجلة في دعوي تنازع الأحكام، وبذلك أسدل الستار علي بطلان الاتفاقية ومنح الخطوات التي اتخذها الانقلاب شرعية معيبة أدت لاقتطاع الجزيرتين من مصر وتسلينهما للسعودية في اتفاق مريب ليست إسرائيل بمعزل عنه.[[9]] واستندت المحكمة في قرارها المشبوه إلى أن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية من أعمال السيادة التي لا ولاية للقضاء عليها لكنها تخضع لرقابة السلطة التشريعية فقط. وهو ما فنده الفقيه القانوني الراحل الدكتور طارق البشري بالتأكيد على أن التنازل عن السيادة ليس من أعمال السيادة.[[10]]
سابعا، تعديلات على قانون المحكمة: في العشر سنوات الأخيرة عقب ثورة يناير2011 توالت على المحكمة الدستورية عدة تعديلات تسهم في انخراط المحكمة على نحو متزايد في لعب أدوار سياسية.
- فيما يتعلق بطريقة تعيين رئيس ونواب المحكمة، تقرر المادة 5 والتي كانت منذ نشأتها حتي ثورة يناير حقا مطلقاً لرئيس الجمهورية فهو الذي يعينهم دون معقب، في يونيو 2011 أصدر المجلس العسكري مرسوماً بقانون قيد فيه سلطة رئيس الجمهورية في التعيين لتكون من بين أقدم ثلاثة نواب معد موافقة الجمعية العامة. لم يغير دستور 2012 من طريقة التعيين تلك لكنه حدد عدد أعضاء المحكمة من رئيس وعشرة أعضاء. ثم جاءت تعديلات الدستور في 2014 اعتمدت طريقة مثالية مرضية إلي حد كبير لقضاة الدستورية، فجاءت تعيينات المحكمة بالأقدمية البحتة؛ فالجمعية العامة للمحكمة هي المعنية باختيار الرئيس من بين أقدم ثلاثة نواب وكذا النواب وأعضاء هيئة المفوضين ويقتصر دور رئيس الجمهورية علي إصدار قرار التعيين. لكن تعديلات الدستور في 2019 أعادت الأمور لسابق عهدها قبل الثورة حيث ينفرد رئيس الجمهورية بتعيين رئيس المحكمة من بين أقدم خمسة نواب ويختار النواب من بين اثنين يرشح أحدهما رئيس المحكمة والآخر ترشحه الجمعية العامة ليختار رئيس الجمهورية حسب الاتجاهات داخل المحكمة وتكوين التوازنات والمواءمات بشكل قانوني.
- للخروج من مطب عدم دستورية قوانين مباشرة الحقوق السياسية وتوظيف النظام والمحكمة لهذه الثغرة من أجل التحكم في المجالس المنتخبة والتهديد بحلها عبر الحكم ببطلان قانون انتخابها، منح دستور 2012م، للمحكمة اختصاصا بالرقابة السابقة على هذه القوانين المتعلقة بانتخابات البرلمان والرئاسة وغيرها حتى لا يكون ذلك سيفا مسلطا على المؤسسات المنتخبة. ولا تكون محلا للطعن ببطلان المجالس المنتخبة بإرادة الجماهير. لكن هذه الصلاحية (الرقابة السابقة) ألغيت بموجب الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس المؤقت عدلي منصور، ثم ألغيت تماماً في تعديلات الدستور في 2014 و 2019 ليحل محلها تعديلات بقانون المحكمة الدستورية توفر حصانة لانتخابات الرئاسة سرعان ما ألغيت وسحبت بعدها.
- في أغسطس 2021م، أقر مجلس النواب اختصاصاً جديداً للمحكمة الدستورية تتولي بموجبه الرقابة علي دستورية قرارات المنظمات والهيئات الدولية وأحكام المحاكم الأجنبية المطلوب تنفيذها في مواجهة الدولة. بموجب هذا التعديل تحكم الدستورية بعدم الاعتداد بالقرار أو الحكم الصادر من منظمة دولية تجاه مصر وعدم إلزام مصر بالالتزامات المترتبة عليه، وهو مسلك غريب علي القضاء الدستوري، ويقدم دليلاً واضحاً لرغبة وتوجه السلطة الحاكمة نحو تحصين منتسبيها من أحكام متوقعة عن جرائم ارتكبوها، أو قرارات بشأن ممارساتها، وهو مسلك قد يرتب علي مصر عقوبات دولية جراء عدم التزامها بمعاهدات دولية أو اتفاقات ملزمة. الوجهة السياسية واضحة لهذا التعديل والتي جعلت الدستورية أداة تستخدمها الدولة للمماحكة والإفلات من التزامات ذات بعد دولي مثلما استخدمت المحكمة الأمور المستعجلة أو قاضي الأمور الوقتية في الشأن الداخلي لتعطيل أو الهروب من حكم نافذ في مواجهتها، وهي آليات إن استخدمتها الدولة قهراً في مواجهة مواطنيها فلن تستطيع استخدامها بذات القدر في الشأن الدولي، يضاف لذلك تخوفات استغلال التعديل لخدمة توجهات النظام المصري المعيبة في مستوي العلاقات الدولية فيما يخص قضية ريجيني أو المطالبات الدولية بخصوص قضايا الإعدام والاعتقال التعسفي والإخفاء القسري، أو دعم مسلك السلطة المصرية في إضعاف تنفيذ القانون الدولي على الساحة العالمية. مشكلة هذه التعديلات أن المحكمة التي غلت يد القضاء الإداري عن النظر في الاتفاقيات التي يبرمها النظام مع الدول الأخرى إذا مست سيادة مصر على أراضيها وثرواتها بدعوى أنها من أعمال السيادة، كما جرى في “تيران وصنافير”، هذه المحكمة منحت نفسها حق الرقابة على هذه الأعمال (السيادية) في تناقض صارخ للمحكمة؛ لأنها بذلك أخضعت لسلطتها هذه الأعمال السيادية لتلك المنظمات والمحاكم الدولية والدول الأخرى. لكن الأكثر خطورة أن هذه التعديلات أضافت طريقا غريبا للتقاضي أمام الدستورية؛ فالمحكمة الدستورية لا تتصدي للفصل في دستورية القوانين من تلقاء نفسها بل تبعاً لدعوي منظورة أمام القضاء طلب أحد أطرافها إحالتها للدستورية لبيان دستورية نص مؤثر في دعواه، أو أنها تفصل في تنازع جهتي قضاء بخصوص الولاية علي ذات القضية، أو تنظر حكمين متعارضين صدرا من جهتين في ذات القضية لتحدد أي الحكمين واجب النفاذ، فقد أضاف التعديل طريقاً غير قضائي للتداعي أمامها عن طريق طلب يقدمه رئيس الوزراء إليها يطلب فيه عدم الاعتداد بالحكم أو القرار، وهذا مسلك غريب يعطي رئيس الحكومة حق تقرير مصير الشعب بشكل انفرادي دون رقابة من مجلس النواب أو إجراء استفتاء شعبي، كما أنه أطلق يد رئيس الوزراء في عرض ما يشاء والتغاضي عن ما يشاء دون وضع أي ضابط موضوعي يحدد نوعية القرارات والأحكام التي يجب عليه عرضها وتلك التي يحق له العدول عن عرضها علي المحكمة الدستورية، من زاوية أخري فقد أعطي التعديل هذا الاختصاص لرئيس الوزراء صاحب المنصب الحكومي، في الوقت الذي منعه عن النائب العام أو أي من المحاكم أو أصحاب الشأن من الشعب المصري وهو ما يجعل هذا التعديل غير دستوري حيث يقصر اللجوء للقضاء علي جهة دون غيرها وقد كفل الدستور حق التقاضي للكافة.[[11]]
الخلاصة أن المحكمة الدستورية منذ نشأتها سنة 1970م تحت مسمى «المحكمة العليا» في عهد عبدالناصر، ترعرت في أحضان السلطة، وارتهنت أحكامها بتوجهات نظام الحكم القائم، وبرهنت على قدرة فائقة في التلون وتأويل نصوص الدستور على نحو يخدم أجندة السلطة حتى لو تطلب الأمر لي النصوص وتطويعها بدعوى التفسير والتأويل التقدمي. وفي كل الأحوال بقيت أداة من أدوات السلطة تلعب بها دورا أصيلا في تحديد الاختيارات الاقتصادية والسياسية.
من جانب آخر، فإن النشأة الاستثنائية للمحكمة في أحضان السلطة جعلت قطاعات قضائية واسعة تنظر إليها على أنها كيان دخيل على النظام القضائي المصري؛ لذلك طالب مؤتمر العدالة الأول الذي حضره الرئيس الأسبق حسني مبارك سنة 1986م، بضرورة إلغاء المحكمة الدستورية؛ لأن محكمة النقض تملك القدرة على القيام بذات الأدوار والاختصاصات في إطار قضائي أكثر استقلالية ومهنية. ورغم رفض الجسم القضائي للمحكمة إلا أن أدوارها الوظيفية في خدمة النظام على المستويات السياسية والاقتصادية دفعت السلطة إلى الحرص على الدوام على وجود المحكمة بوصفها (ابنة سفاح) نشأت عن علاقة غير مشروعة بين السلطة وبعض القضاة من أجل المكاسب والمصالح والامتيازات في إطار خفي بين مكونات الدولة العميقة.
ورغم هذه النشأة الاستثنائية للمحكمة إلا أنها كان لها القول الفصل في بعض أهم المسائل السياسية والاقتصادية التي مرت بها البلاد. فهي قد حكمت بحل مجلس الشعب مرتين قبل ثورة يناير(برلمان 1984 ــ وبرلمان 1987م، وكلاهما كان نصيب المعارضة فيه كبيرا بينما أبقت على المجالس التي كان وجود المعارضة فيها ضعيفا)، وقضت ببطلان القانون الذي يحظر إنشاء أحزاب سياسية معارضة لاتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، وألغت القرار بعزل قيادات نقابات المحامين الذين اختلفوا مع السادات باعتباره انتهاكًا للحريات، وقضت ببطلان قوانين إيجارات المساكن، وببطلان عدد من قرارات تأميمات الأراضي في الستينيات، وغيرها من الأمور التي كان لها تأثير واسع على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
في أعقاب ثورة يناير لعبت المحكمة الدستورية أدوارا سياسية كبرى انحازت فيها إلى توجهات المجلس العسكري ورؤية المؤسسة العسكرية وتحولت إلى أداة بيد الجنرالات من أجل العصف بالمؤسسات المنتخبة من الشعب وعرقلة أي خطوة تؤدي إلى التحول الديمقراطي؛ فقضت بحل البرلمان المنتخب بغرفتيه الشعب والشوري، وقضت ببطلان تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور، وأبطلت قانون العزل السياسي. وفي أعقاب الانقلاب كان لها دور بارز في تثبت أركانه، وقبلت بأن يكون رئيسها أول رئيس مؤقت بعد انقلاب عسكري عصف بالدستور الذي يفترض أن المحكمة حارسته وحاميته، ثم تعددت أدوارها الوظيفية في تكريس أركان حكم الجنرالات على نحو يبرهن على أنها ما نشأت إلا لتثبت دعائم حكم الجنرالات وقوننة إجراءاتهم الشاذة على نحو ما جرى في التنازل عن جزيرتي “تيران وصنافير”.
والأكيد أن «المحكمة الدستورية» بوضعيتها الخاصة في النظام القضائي، وبجدلية علاقتها بالسلطة التنفيذية، ستظل أكثر أركان النظام القضائي المصري إثارة للجدل. والمتوقع أن يزداد هذا الجدل في السنوات المقبلة ما بقيت المحكمة قانعة بالارتماء في أحضان السلطة وإضفاء مسحة دستورية على قراراتها وتوجهاتها حتى لو تصادمت مع نصوص الدستور ذاته. ولن تحظى مصر باستقلال حقيقي ما بقيت أمثال هذه المؤسسات تهيمن عليها الدولة العميقة عابثة بمصر وأمنها القومي واستقلالها وسيادتها على كامل ترابها.
[1] تاريخ المحكمة الدستورية العليا/ مكتبة القانون
[2] تم الاعتماد في كتابة هذه المحطات على عدة مراجع قانونية أهمها كتاب «مبادئ القانون الدستوري» الصادر سنة «1949» الطبعة الرابعة مكرر “المطبعة العالمية” للأستاذ الدكتور السيد صبري. وكتاب «قضاء الدستورية بالقضاء الدستوري ي مصر سنة 1988» للدكتور عادل عمر شريف مطبعة “دار الشعب”. وكتاب «القانون الدستوري» للأستاذ الدكتور محمد كامل ليلة سنة 1967م “دار الفكر العربي”.
[3] هذه المادة مأخوذة بتصرف في الصياغة من ملف موسع نشرته صحيفة المصري اليوم بعنوان: (المحكمة الدستورية العليا: تاريخ من القضاء والسياسة) والمنشور بتاريخ الإثنين 30 يوليو 2012م أعده الصحفيون: أحمد عبد الفتاح, مصطفى محيي, معتز نادي// انظر أيضا: تاريخ المحكمة الدستورية العليا/ مكتبة القانون
[4] مصطفى عبدالله ميري/ تعرف على تاريخ المحكمة الدستورية العليا واختصاصاتها/ أخبار اليوم ــ السبت، 12 أكتوبر 2019
[5] حاتم عزام/ حقائق خطيرة عن المحكمة الدستورية/ بوابة الشروق ــ الأحد 15 يوليه 2012
[6] طارق صبري/مدير “نيويورك تايمز”: الجبالي أكدت لي أنها أعدت “وثيقة السلمي” لمنح “العسكري” حكما ذاتيا/ الوطن ــ الأربعاء 12 سبتمبر 2012
[7] ملف. أعده محمد بصل/ مأزق «الدستورية» مع حصاد «منصور التشريعى»/ بوابة الشروق ــ الثلاثاء 10 يونيو 2014
[8] وليد شرابي/ عدالة منحازة: دعم انقلاب السيسي وضرب خصومه/ مركز الجزيرة للدراسات ــ 7 أبريل 2014
[9] نورهان مصطفى/ من البُطلان إلى التبعية للسعودية.. كيف تنقّلت «تيران وصنافير» أمام ساحات المحاكم؟ (مُلخص 24 شهرًا)/ المصري اليوم ــ السبت 03 مارس 2018م
[10] البشرى: أعمال السيادة تخضع لرقابة القضاء بمجرد مخالفتها الدستور والقانون، الشروق.// طارق البشري مؤيدا حكم «تيران وصنافير»: التنازل عن السيادة ليس من أعمال السيادة/ الشروق
[11] مي السعدني وياسمين عُمر/ تعديلات المحكمة الدستورية: مصر تسعى لفرض شروطها على المنظومة الدولية/ موقع صدى التابع لمعهد كارنيجي لأبحاث السلام ــ 12 يوليو 2021م