تعامل النظام المصري مع مشكلة الإيجار القديم مع بداية سنة (2022) وفق فلسفة تقوم على أساس تصنيف المشكلة إلى ثلاثة أنواع من الإيجار: الأول هو الوحدات الإيجارية الخاصة بالأشخاص الطبيعية للغرض السكني، وهي الوحدات التي تقطنها أسر ورثت عقد الإيجار عن المستأجر الأصلي. الثاني، هي الوحدات المستأجرة لأشخاص طبيعية لغير الغرض السكني (كشخص استأجر شقة لغرض غير سكني كمخزن أو لحرفة أو صناعة أو غير ذلك. الثالث، هي الوحدات الإيجارية لأشخاص اعتبارية كالشركات والمنظمات الأهلية والأحزاب والمؤسسات وغيرها وهؤلاء يمثلون نحو 10% من جملة الوحدات الإيجارية القديمة.
بخصوص النوعين الأول والثاني (الوحدات المؤجرة لأشخاص طبيعية للغرض السكني أو لغير الغرض السكني) لا تزال المشكلة قائمة ولا تزال المناقشات جارية في أروقة الأجهزة السيادية والبرلمان؛ حيث تستعين هذه الأجهزة ببعض الخبراء والمتخصصين بهدف التوصل إلى صيغة عاجلة ومتوازنة بين الملاك من جهة والمستأجرين من جهة أخرى، وسط تصميم من جانب النظام على غلق هذا الملف الشائك الذي عجزت جميع الحكومات السابقة عن وضع حد له، تقول الحكومة والبرلمان إنهما يريدان أن يكون متوازنا ويرضي الطرفين الملاك والمستآجرين في ذات الوقت وهو أمر يكاد يكون مستحيلا. أما النوع الثالث (الوحدات المستأجرة لأشخاص اعتبارية)، فقد وافق البرلمان مؤخرا على تعديلات تنص على إنهاء هذه العلاقة الإيجارية في مدة انتقالية تمتد إلى “5” سنوات وفقا لعدد من الشروط والإجراءات.
فلماذا شرع النظام في هذا التوقيت على سن تعديلات للوحدات الإيجارية للأشخاص الاعتبارية؟ وما الهدف من ذلك؟ ولماذا جرى تأجيل البت في الوحدات الإيجارية للأشخاص الطبيعية مع التعهد بسن قانون قريب لفض العلاقة المأزومة بين الملاك والمستأجرين وفق النظام القديم؟ ولماذا يصمم النظام على سن تشريع لهذه الأزمة المستعصية في هذا التوقيت وفقا لتصريحات رئيس البرلمان؟ أم أن النظام يربط سن تشريع لهذه المشكلة بأزمته المالية بهدف تحقيق عدة مكاسب بضربة واحدة تتعلق بالضريبة العقارية من جهة وتسويق وحدات المدن الجديدة الراكدة من جهة أخرى؟ ألا يخشى أن يؤدي ذلك إلى فوضى وارتباك على المستوى الاجتماعي لأن المتضررين يعدون بالملايين؟ وما مآلات ذلك وتداعياته على مستقبل البلاد ومستقبل النظام الحاكم؟ وهل يمكن أن يؤدي ذلك إلى زعزعة الوضع الأمني لا سيما وأن ذلك يتزامن مع توجهات النظام نحو تقليص الدعم ورفع أسعار الخبز في ظل تداعيات جائحة كورونا من جهة والغزو الروسي لأوكرانيا من جهة أخرى؟
وتكشف أحدث إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة والعامة والإحصاء سنة 2017، أنَّ مصر بها نحو 3 ملايين وحدة سكنية خاضعة لنظام الإيجار القديم، منها نحو 2.5 مليون وحدة لأغراض سكنية، ونحو نصف مليون للأغراض غير السكنية. ومن إجمالى هذه الوحدات فهناك مليون وحدة غير مشغولة بواقع 867 ألف وحدة سكنية، وحوالى 400 ألف وحدة غير سكنية، وتقع أغلب هذه الوحدات فى مدن مصر القديمة، التى تعدت سعر الوحدة بها الآن ملايين الجنيهات، لكن لاتزال إيجاراتها عشرات الجنيهات.[[1]] وبمقارنة هذه الإحصائيات بنظيرتها الصادرة عن ذات الجهاز عام 2006، والتي أظهرت وجود 4 ملايين وحدة سكنية مؤجرة، سينتج عن الأمر فارق في عدد الوحدات المؤجرة بواقع مليون وحدة غير معلوم مصيرها أو مصير ساكنيها.[[2]]
البداية بالأشخاص الاعتبارية
في جلسة الإثنين 21 فبراير 2022، وافق البرلمان على تعديلات على «قانون الإيجار القديم»، تحت مسمى «قانون بإجراء ومواعيد إخلاء الأماكن المؤجرة للأشخاص الاعتبارية لغير الغرض السكني فى ضوء أثار والتداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا». وتسري أحكام القانون على الأماكن المؤجرة للأشخاص الاعتبارية لغير غرض السكن، وفقاً لأحكام القانونين رقمي 49 لسنة 1977 بشأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، و136 لسنة 1981 في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر.
وفقا لهذه التعديلات:
- يمنح للأشخاص الاعتبارية (منظمات أهلية ـ أحزاب ــ مدارس ــ مستشفيات ـ مؤسسات وشركات ومصالح حكومية أو خاصة ــ سفارات ــ أندية ــ بنوك) مهلة لا تجاوز خمس سنوات؛ وهو ما يُنذر بطرد الآلاف من الجمعيات والمؤسسات الأهلية والأحزاب من أماكنها الحالية، فضلاً عن إخلاء الصيدليات والأنشطة التجارية الخاضعة لإدارة مجموعة من الأشخاص بموجب عقودها.
- زيادة القيمة الإيجارية خمسة أمثال القيمة القانونية السارية حاليا ، وتزاد سنوياً وبصفة دورية آخر قيمة قانونية مستحقة وفق هذا القانون بنسبة 15% خلال السنوات الأربع التالية.
- تتضمن التعديلات تنظيم الإجراءات القضائية والقانونية المتعلقة بإخلاء المكان المؤجر فى اليوم التالى لانتهاء الحد الأقصى للمدة المبينة بالقانون ( خمس سنوات) فى حالة امتناع المستأجر عن ذلك. ونصت التعديلات على أن يلتزم المستأجر بإخلاء المكان المؤجر، ورده إلى المالك أو المؤجر (بحسب الأحـوال) في اليـوم التالـي لانتهاء المدة المبينة في القانون. وفي حالة امتناع المستأجر عن ذلك؛ يكون للمالك أو المؤجر أن يطلب من قاضي الأمور الوقتية بالمحكمة الكائن في دائرتها العقار بطرد الممتنع عن الإخلاء، من دون الإخلال بالحق في التعويض إن كان له مقتضى.
- ويُؤخذ على هذه التعديلات أنها لم تَأخذ بعين الاعتبار المساواة في المراكز القانونية، ولم تفرق بين الجهات الهادفة للربح وغير الهادفة للربح كالمنظمات الأهلية والأحزاب والنقابات، وبالتالي فإن القانون بالصياغة التي جرى تمريرها قد يفضي إلى طرد أحزاب عتيقة من مقراتها، وكذلك يهدد بطرد نحو 54 ألف جمعية خيرية، بخلاف مقرات رئيسية وفرعية لبعض النقابات، كلها سوف مهددة بالطرد من مقراتها الخاضعة لأحكام قانون الإيجارات القديمة، فضلاً عن إخلاء الصيدليات والأنشطة التجارية التي يديرها مجموعة من الأشخاص، وفقاً لأحكام القانونين رقمي 49 لسنة 1977 بشأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، و136 لسنة 1981 في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر. كما لم يتم استثناء الأماكن الثقافية الخاضعة لأحكام القانون، ومنها على سبيل المثال “أتيليه الإسكندرية”، و”دار الأدباء”، و”نادي القصة”، و”منافذ توزيع الهيئة العامة للكتاب”، بوصفها تخضع لأحكام قانون الإيجارات القديم، وتنطبق عليها هذه التعديلات.[[3]] ووفقا لتصريحات طارق شكري، وكيل لجنة الإسكان بالبرلمان، فإن هذه التعديلات تحدث نوعا من الضبط الجزئي، وتسهم في حل المشكلة لأنها تتعلق بحوالي 10% من إجمالي الوحدات المستأجرة بالنظام القديم. علاوة على ذلك فإن الحكومة تمثل النسبة الأكبر من الكيانات الاعتبارية لأنها تستأجر الكثير من المدارس والمستشفيات والمقرات الحكومية وفقا لقانون الإيجار القديم. مؤكدا وجود إرادة سياسية حقيقية للتصدى للوحدات الإيجارية للغرض السكني، لافتا إلى أن تشكيل لجنة للحوار المجتمعي من قبل مجلس الوزراء خطوة في هذا الاتجاه؛ لأن الأطراف دائما هم أساس الحل.[[4]]
وفي أعقاب موافقة البرلمان على هذه التعديلات، أدلى رئيس المجلس المستشار حنفي الجبالي، بتصريحات توضيحية يؤكد فيها أنَّ:[[5]]
- هذه التعديلات الجديدة «تعديلات قانون الإيجار القديم لغير الغرض السكني»، لا يمس من قريب أو بعيد حكم المحكمة الدستورية العليا بإخلاء الأشخاص الاعتبارية. وكانت المحكمة في مايو/أيار عام 2018، قضت بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادة 18 من قانون تأجير وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر رقم 136 لسنة 1981، التي تنص على أنه “لا يجوز للمؤجر (المالك) أن يطلب إخلاء المكان، ولو انتهت المدة المتفق عليها في العقد، ليشمل ذلك عقود الأماكن المؤجرة للأشخاص الاعتبارية، لاستعمالها في غير غرض السكن”.
- لا تتعلق هذه التعديلات بالتأجير للأشخاص الطبيعية لغير الغرض السكني سواء كان حرفة أو صناعة لكون ينظمها القانون رقم 6 لسنة 97 وتعديلاته والتي وضع فترات انتقالية وزيادة إيجارية للأشخاص الطبيعية بما يحقق التوازن وهو الذي أقرته المحكمة الدستورية سابقا.
- لا يخضع لقانون التعديلات الجديد أيضا من حصل على حكم قضائي نهائي فيما يخص 2019 وهو تاريخ الإخلاء، قائلا: «هذا القانون ليس له علاقة بمن حصل علي حكم قضائي بات .. ويسري القانون المنظور حاليا منذ تاريخ العمل به ولا يسري بأثر رجعي».
مغزى التوقيت
للتوقيت مغزى في فتح هذا الملف والعمل على إقرار تشريعات الظاهر ــ وفق تصريحات الحكومة والبرلمان ـ أنها تستهدف الوصول إلى نقطة توازن في أزمة الإيجار القديم بين الملاك والمستأجرين، لكن الأهداف الخفية لها أبعاد أكبر من ذلك بكثير؛ تفسير ذلك أن الحكومة و البرلمان تأخرا في تطبيق حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر في 5 مايو 2018 بعدم دستورية استمرار تأجير الأماكن لغير غرض السكن للأشخاص المعنوية (الجهات والشركات) لأجل غير مسمى.. والذي كان ينص منطوقه على تحديد اليوم التالي لنهاية الدورة البرلمانية 2014-2015 كموعد لبدء إعمال أثر الحكم. وكان هذا الحكم يقتضي مباشرة فسخ العقود المستمرة بناء على الفقرة الأولى من المادة 18 من القانون 136 لسنة 1981 (الإيجار القديم) والتي كانت لا تجيز للمالك أو المؤجّر طلب إخلاء المكان ولو انتهت مدة العقد.[[6]]
من جهة أخرى، فقد ارتأى النظام تأجيل سن تشريع فيما يتعلق بالوحدات الإيجارية للأشخاص الطبيعية لأغرض السكن أو حتى لغير أغراض السكن، بدعوى المزيد من البحث والنقاش لأنها مشكلة مزمنة استعصت على كل الحكومات السابقة. وقد جاءت تصريحات رئيس البرلمان حنفي الجبالي لتؤكد على هذا التوجه في أعقاب تمرير التعديلات الأخيرة، حيث شدد على أنه لن يتم تمرير قانون الإيجار للغرض السكني إلا إذا كان متوازنا ويحقق مصلحة الجميع، وأن ذلك لن يتم دون نقاش واسع واستطلاع الرأي العام. وطلب من النواب تدوين ملاحظاتهم وإعداد مقترحاتهم بشأن مناقشة مشروع قانون الإيجار القديم للأشحاص الطبيعيين.[[7]] في إشارة إلى أن النظام حريص على غلق هذا الملف في هذه الدورة البرلمانية.
يعزز هذه الفرضية تصريحات رئيس الحكومة مصطفى مدبولي في مؤتمر صحفي الأربعاء 16 فبراير 2022، حيث ادعى أن عدد الملاك حاليا أصبح مماثلا لعدد المستأجرين، لافتا إلى أن معظم ساكني الشقق المؤجرة وفقًا للقانون القديم في الخمسينيات والستينيات، الآن من الجيل الثاني والثالث. هذا الادعاء من جانب الحكومة بتضخيم عدد الملاك وتقليل عدد المستأجرين يستهدف به التمهيد لسن تشريع جديد لهذه المشكلة المزمنة لكن ما يعرقل ذلك هو وجود فئات بالإيجار القديم غير قادرة على إيجاد سكن بديل مناسب، ووفقا لتصريحات مدبولي فإن عملية إعادة التوازن التي بلورتها الحكومة يجعل هذه الفئات غير قادرة؛ لذلك تتحدث الحكومة باستمرار عن ضرورة معالجة هذا الملف الشائك بحكمة ومزيد من النقاش المجتمعي. وتدور أفكار الحكومة لحل المشكلة حول ضرورة وضع ثوابت للملف أهمها وجود فترة انتقالية كافية تسير فيها الأمور بهدوء، ووضع برامج وبدائل للفئات غير القادرة، مع التأكيد على أن استمرار الوضع وتجميده على ما هو عليه ليس صحيحًا. مضيفا: «نريد أن نخرج من شيء يكبلنا 50 عامًا، وخاصة أن عدد المنشآت الخاضعة للقانون تتجاوز 3 ملايين، نحرص على إحداث توازن عادل يراعي البعد الاجتماعي لكل الفئات الموجودة ويحفظ الحقوق والالتزامات».[[8]]
ماذا تريد الحكومة؟
النظام يستهدف سن تشريع جديد للوحدات الإيجارية بغرض السكن أو لغيره والمؤجرة للأشخاص الطبيعيين وذلك لتحقيق جملة من المكاسب والمصالح.
أولا، حل أزمة الإيجار القديم سوف يترتب عليها خروج ملايين المستأجرين بالنظام القديم؛ وهو ما يفتح الباب أمام تسويق الوحدات السكنية في المدن الجديدة وعلى رأسها العاصمة الإدارية الجديدة، وهي المدن التي أهدر على بنائها السيسي آلاف المليارات دون أي عائد حقيقي وتعاني حاليا من ركود شديد ولا تشهد إقبالا على شرائها من جانب المواطنين. وبالتالي فإن أحد مستهدفات سن تشريع لوحدات الإيجار القديم هو فض هذه العلاقة بين الملاك والمستأجرين خلال مدة انتقالية محددة، وطرد ملايين المستأجرين بسيف القانون الجديد، بما قد يفضي إلى تحريك حركة البيع والشراء في وحدات المدن الجديدة. يدلل على ذلك تصريحات السيسي في أغسطس 2021م، عندما صرَّح بأن «حل أزمة قانون الإيجار القديم يتمثّل في العمل على تكثيف المعروض، معقّبًا: “هاخلي الناس تمشي تتكعبل في الشقق”. وأضاف خلال مشاركته في حفل إفطار الأسرة المصرية، خلال زيارته لمدينة بدر وافتتاحه عددًا من المشروعات السكينة، أن المِلكية يجب أن تعود إليها قيمتها ومكانتها من قِبل تعامل المواطنين فيما بينهم. وتابع: “فيه شقق في وسط البلد إيجارها 20 جنيها وقيمتها ملايين.. من حق المواطن يقعد فيها، لكن من حق صاحبها أيضًا أن يستمتع بقيمتها”. وأكمل: “أي حد عاوز شقة نقدر نوفرله، وهنعمل توازن نسبي لمواجهة مثل هذه القضايا، علشان نحسن من الواقع بعض الشيء”.[[9]]
ثانيا، يستهدف النظام أيضا تحصيل مليارات من عمليات البيع والشراء المرتقبة للمنازل والوحدات التي سوف يتم إخلاؤها، ولذلك فقد جرى في ذات اليوم 21 فبراير 2022م، تمرير تعديلات بعض أحكام القانون رقم (114) لسنة 1946 بشأن تنظيم الشهر العقاري.[[10]] ويستهدف مشروع القانون إنهاء أزمة التسجيل العقارى والقضاء على ظاهرة صعوبة وبطء التسجيل العقاري، والوصول إلى طريقة تسجيل عقارى تُنهى حالة عزوف المواطنين عن اتخاذ إجراءات التوثيق وصولاً لتسجيل الملكية العقارية. وبالتالي فإن ذلك قد يسهم في حل جزئي لأزمة السيولة التي يعاني منها النظام، لا سيما وأنه قنن تحديد عمولة أو سمسرة للحكومة في كل عقود البيع والشراء والإيجار مع رفع رسوم التوثيق.
ثالثا، من أبرز هذه المكتسبات أيضا توفير ملايين الوحدات بالقاهرة والمحافظات والتى ستحل أزمة الإسكان بشكل نسبي (وإن كان سعر الإيجار المرتفع سوف يجعلها حكرا على الأثرياء فقط) بالإضافة إلى أن جميع هذه العقارات والوحدات ستحتاج إلى عمليات تشطيب وترميم متكاملة، الأمر الذى سيفتح الباب أمام مئات الآلاف من المهنيين العاطلين بفعل توقف البناء في قطاع المعمار باستثناء مشروعات الجيش والحكوم، فضلا عن أن «حل هذه الأزمة سيحقق ما يقرب من 500 مليار جنيه قيمة الضرائب المقررة حال تقنين هذه الوحدات وسداد الضرائب المقررة عليها» وفقا لتقديرت الدكتور رأفت شميس، أستاذ العمارة بمركز بحوث البناء والإسكان.[[11]] وهي القيمة الضريبة الناتجة عن تحرير العلاقة الإيجارية لملايين الوحدات القديمة بما يسمح للملاك بحرية التصرف في ممتلكاتهم. وهو ما يغري النظام بسن تشريع عاجل للوحدات الإيجارية لغرض السكن بوصفه مستفيدا من هذا التشريع المرتقب الذي سينحاز فيه للملاك على حساب المستأجرين بدافع المصلحة وليس بدافع العدالة؛ لأن الإنصاف سوف يلزم الحكومة بتوفير مئات الآلاف من الوحدات السكنية لغير القادرين، وهو إجراء يعد من صميم عمل الدولة، لكنه يتنافى مع توجهات النظام الذي يتبنى نمطا متطرفا من الرأسمالية المتوحشة.
محطات الأزمة
بدأت هذه الأزمة منذ سنة 1920، حيث صدر قانون نص على عدم جواز طرد المستأجر من الوحدة السكنية إلا بحكم محكمة يستند إلى عدة قواعد، أبرزها عدم سداد قيمة الإيجار. وفي عام 1941 ووسط الأوضاع المضطربة الناتجة من الحرب العالمية الثانية، صدر قانون يمنع المؤجر من زيادة القيمة الإيجارية. لكن التدخل الحكومي ظل طفيفا وقاصرا على تحديد القيمة الإيجارية في بعض الأحيان، لكن المرحلة التي تلت 23 يوليو 1952م، شهدت تدخلا سافرا من السلطة على نحو خلق مشكلة تفاقمت على مر السنين. ومرت بهذه المحطات الفاصلة:
- في عهد عبدالناصر جرى التدخل الحكومي الأهم والأخطر بسن القانون رقم 52 لـسنة 1969، والذي بموجبه استمر العمل بالأحكام المحددة للأجرة، كما ربط قيمة الأجرة بتكلفة المبنى. لكن الأهم لمستأجرهو النص على عدم انتهاء عقد إيجار المسكن لوفاة المستأجر.[[12]] ما يعني توريث عقود الإيجار وتضمين التأبيد دون الإفصاح به وهو ما يتصادم مع أحكام الشريعة الإسلامية. تفسير ذلك أن عبدالناصر بهذه القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية والتي تتصادم أيضا مع المصلحة، كان يتهرب من توفير مساكن مناسبة للمستأجرين فأحال هذا الاستحقاق على كاهل الملاك الذي تعرضوا لإجحاف متواصل من جانب النظام الذي أرغمهم على ذلك والمستأجرين الذين رحبوا بثبات القيمة الإيجارية رغم ارتفاع الأسعار وغلاء الأشياء باستمرار؛ فأصبح الملاك غير قادرين على التصرف في أملاكهم التي تدر عليهم فتاتا، والمستأجرون يتمتعون بأملاك غيرهم دون وجه حق مدعومين من الحكومة والقوانين الجائرة.
- فى عهد السادات، صدر القانون 136 لعام 81 لمصادرة الملكية، وبمقتضى مواده تقرر امتداد عقود إيجار العقارات إلى مدى الحياة.
- في عهد مبارك، ظهر قانون “الإيجار الجديد” عام ١٩٩٦، ليحرر الوحدات السكنية الجديدة أو المخلاة نهائيًّا من قيود تحديد الإيجارات. خلق القانون الجديد نوعًا من العدالة المتبادلة بين المستأجرين ومالكي الوحدات، على الرغم من ارتفاع أسعاره في بعض المناطق في القاهرة الكبرى والتي لا تتناسب إطلاقًا مع الدخول الشهرية للمستأجرين. كما أدى أخيرًا إلى شكاوى مستمرة من المُستأجرين عن غياب ضبط ومراقبة أسعار السوق للإيجارات الجديدة لعدم تناسب ارتفاعها الطردي مع زيادات دخولهم البسيطة.
وبحسب خبراء في الشريعة والقانون، فإن بعض مواد قانون الإيجار القديم تخالف أحكام الشريعة الإسلامية، لأن نصوص القرآن والسنة حاسمة في ضرورة إقامة العدل في الأرض، ويعد شرط التأبيد في عقود الإيجار مصادما لشروط صحة العقد عند أهل العلم، فخلو العقد من مدة معلومة مخالف لصحة العقود لأن تحديد المدة شرط في صحة الإجارة. فعقد الإيجار يجب أن يكون محدد المدة والقيمة والمنفعة وأن يكون مبنيا على التراضي التام بين الطرفين أو بحكم قضائي في حالة الاختلاف، ومتى انتهت مدته للطرفين كامل الحرية في تجديده أو إنهائه، فإذا خلا العقد من هذه الشروط كان غير صحيح.[[13]] والتأبيد الذي قرره عبدالناصر يعصف بمبدأ التراضي ويجعل العلاقة بين المالك والمستأجر قائمة على الإكراه المدعوم بقوة القانون.
تعاقب السنوات دون تدخل تشريعي من الدولة أدى إلى توريث الأزمة لجيل جديد من الملاك، الذين باتوا يملكون وحدات سكنية على الورق دون حق في زيادة قيمة الإيجار، وهم كذلك عاجزون عن بيع الوحدات التي تقدر قيمتها بالملايين في أغلب الأحيان. لكنهم، في الواقع يتقاضون قيمة إيجارية متدنية للغاية شديدة الظلم والإجحاف. ويرى هؤلاء أنه من غير المنطقي استمرار الوضع على ما هو عليه بامتلاكهم ثروات لا يستطيعون التصرف فيها. على الجانب الآخر، يعتبر المستأجرون وحداتهم السكنية حقاً مكتسباً، أقره القانون، وليس هناك ما يجبرهم عن التنازل عنه، وكثيرون منهم تقاعدوا، ولا يستطيعون تحمل نفقات إيجار شقة بأسعار اليوم، أو أن دخلهم لا يؤمّن لهم وحدة سكنية بمواصفات منزلهم الحالي نفسها “شبه المجاني” بالنظر إلى قيمة الإيجار المطلوب، كما يؤكد المستأجرون أنهم حين حصلوا على الشقة دفعوا جانباً كبيراً من قيمتها، فيما كان يعرف باسم “الخلو”، وهو مبلغ كان يدفع نظير إخلاء الشقة للمستأجر.
خلاصة الأمر، إزاء هذه المعطيات؛ تبقى للتشريعات المرتقبة من جانب السلطة بشأن مشكلة الإيجار القديم انعكاسات شديدة الخطورة على مستقبل الوضع الاجتماعي، فما لم تحقق هذه التعديلات توازنا يضمن رد حقوق الملاك من جهة وتوفير مساكن ملائمة للمستأجرين الفقراء من جهة أخرى فإن ذلك ينذر بعواقب وخيمة شديدة الأثر على بنية المجتمع.
وكان خبراء في مجال العقارات، شاركوا في ندوة نظمها المعهد الديمقراطي المصري، في 2016م، نبهوا إلى خطورة مواد مشروع القانون على الأمن الاجتماعي، واستحالة تحقيق المرغوب من تعديل العلاقة الإيجارية بين الملاك والمستأجرين. وأكدوا أن البرلمان يُصر على تمرير تشريعات تضرب استقرار المجتمع، والعلاقات بين أفراده، ومصالحهم. وأشار المشاركون في الندوة إلى أن تحرير العلاقة الإيجارية سيكون على حساب طبقات مطحونة، لا يناسب أوضاعها اقتصاد الريع، الذي ارتفعت معه أسعار السلع والعملات الأجنبية مقابل الجنيه، بعد قرار تعويمه، الذي أضر بالاقتصاد المصري، في وقت تزداد فيه معدلات البطالة والتضخم وصعوبة العيش.[[14]]
لا يمكن حل مشاكل الإيجار القديم، دون وضع سياسة سكن عادلة تكبح جماح الأسعار المنفلتة، وتعطي حقوقًا أوسع للشاغلين، وتوزع استثمارات الدولة بشكل أكثر عدالة. فالمظالم التي خلفها قانون الإيجار القديم توجب ضرورة إجراء تعديلات تحقق العدالة المفقودة والتوزان المنشود، فترد العقارات لملاكها، وتلتزم الدولة بتوفير مساكن بديلة للمستأجرين الذين لن يتمكنوا من توفيق أوضاعهم مع الملاك بشرط أن تكون هذه المساكن بأسعار تتناسب مع دخولهم ولا تفرض عليهم مزيدا من الأعباء، وإلا فإن ملايين المصريين سوف يتشردون في الشوارع خلال السنوات الخمس المقبلة إذا تم تمرير التعديلات الجديدة دون إلزام الحكومة بتوفير مساكن للمستأجرين.
الخشية على نظام السيسي من ردود الفعل الشعبية الغاضبة حال تم تمرير تشريعات تلزم بإنهاء العلاقة الإيجارية القديمة دون توفير مساكن بديلة مناسبة لدخول ملايين المستأجرين غير القادرين، دفعت منابر بحثية إسرائيلية إلى التحذير من انعكاسات تعديلات قانون الإيجار القديم على بنية المجتمع، وأنها ربما تفضي إلى ثورة أعتى من ثورة 25 يناير، حيث قال “تسفي برئيل” محلل الشئون العربية بصحيفة “هآرتس” إن نحو 10 ملايين مصري سيتضررون من قانون الإيجار الجديد، محذرا من أن الأمر ينطوي على خطر اندلاع احتجاجات حاشدة ضد الحكومة. وتحت عنوان “أين سيسكن ملايين المصريين الذين يولودن كل عام”، أكد “برئيل” في مقاله المنشور بموقع “ذا ماركر” النسخة الاقتصادية لـ”هآرتس” في أغسطس 2017م أن هذا القانون حال تطبيقه (طرد المستأجرين دون منحهم وحدات سكنية مناسبة لدخولهم) سيتسبب في ثورة أقوى من تلك التي اندلعت في 25 يناير 2011م.[[15]] فهل تضع أجهزة الدولة هذه الاحتمالات في حسبانها أم غطرسة القوة والسيطرة تعميهم عن إدراك عواقب ما يفعلون؟
[1] مشروع قانون لإعادة التوازن بين المالك والمستأجر فى قضايا الإيجار القديم/ بوابة أخبار اليوم ــ السبت، 26 فبراير 2022
[2] محمد قاسم _مطالب بتعديل قانون “الإيجار القديم”.. وباحثون: لا بد من حوار موسع_ مصراوي الثلاثاء 24 يوليه 2018
[3] طرد الأحزاب والنقابات والجمعيات المصرية من مقراتها خلال 5 سنوات/ العربي الجديد ــ 21 فبراير 2022
[4] أسماء الدسوقي/ قانون الإيجار القديم.. إسكان النواب: الحكومة هي النسبة الأكبر من الكيانات الاعتبارية/ بوابة الشروق ــ الثلاثاء 22 فبراير 2022
[5] ياسمين فواز/ قانون الإيجار القديم.. النواب يقر «إخلاء الأماكن المؤجرة للأشخاص الاعتبارية لغير السكني» رسميا/ المال نيوز ــ الثلاثاء, 22 فبراير 22
[6] بعد موافقة إسكان النواب.. شرح مشروع قانون الإيجار القديم للأشخاص الاعتبارية (س-ج)/ بوابة الشروق ــ الثلاثاء 25 يناير 2022
[7] ياسمين فواز/ رئيس مجلس النواب : سيكون هناك مشروع قانون متوازن لـ«الايجار القديم» السكني بين الأشخاص الطبيعيين/ المال نيوز ــ الإثنين, 21 فبراير 22
[8] هديل هلال/ مدبولي عن قانون الإيجار القديم: نريد الخروج من شيء يكبلنا منذ 50 عاما/ بوابة الشروق ــ الأربعاء 16 فبراير 2022
[9] السيسي عن قانون الإيجار القديم: المِلكية يجب أن تعود إليها قيمتها ومكانتها/ بوابة الشروق ــ السبت 14 أغسطس 2021// السيسي عن أزمة قانون الإيجار القديم: “هخلي الناس تتكعبل في الشقق”/ مصراوي ــ السبت 14 أغسطس 2021م
[10] محمد فتحى ــ أمير هزاع/«النواب» يوافق على «المجلس الصحى والشهر العقارى والإيجار القديم للأشخاص الاعتبارية»/ الأهرام اليومي ــ الأربعاء 23 فبراير 2022م
[11] انظر تصريحات الدكتور رأفت شميس أستاذ العمارة بمركز بحوث البناء والإسكان ورئيس جهاز التفتيش الفنى على أعمال البناء ومقرر قانون البناء المصرى ــ اسماعيل النويشي/ تعديل قانون الإيجار القديم.. مقترحات لتحرير العلاقة بين المالك والمستأجر في 3.2 مليون وحدة/ بوابة الأهرام ــ 15 فبراير 2022م
[12] إيجار الأماكن في مرحلة التحول الاشتراكي (الحلقة الخامسة)/ دوت مصر الثلاثاء 16 أكتوبر 2018
[13] انظر فتاوى الدكتور نصر فريد واصل… أحمد مسعود/علماء الدين: قانون الإيجار القديم..مخالف للشريعة الإسلامية/الأهرام الثلاثاء غرة مايو 2012
[14] قانون الإيجار يهدّد 12 مليون مصري… وينذر بانفجار اجتماعي_العربي الجديد 28 ديسمبر 2016
[15] معتز بالله محمد_هآرتس: ثورة عارمة في مصر حال إقرار قانون الإيجار الجديد_ مصر العربية 03 أغسطس 2017