تعديلات قانون المخابرات.. قراءة في الخلفيات والمآلات

 

 

«المخابرات العامة» ــ وفق الدستور ـ هي هيئة مستقلة تتبع رئيس الجمهورية، وتختص بالمحافظة على سلامة وأمن الدولة وحفظ كيان نظامها السياسي، وذلك بوضع السياسة العامة للأمن وجمع الأخبار وفحصها وتوزيع المعلومات المتعلقة بسلامة الدولة، ومد رئيس الجمهورية ومجلس الدفاع الوطني وهيئة المخابرات بجميع احتياجاتها، وتقديم المشورة والتوصيات اللازمة لها، وتختص كذلك بأي عمل إضافي يُعهد به إليها رئيس الجمهورية أو مجلس الدفاع الوطني ويكون متعلقًا بسلامة البلاد. يتكون شعار المخابرات من عين حورس الشهيرة في الأعلى، وأسفلها مباشرة نسر قوي ينقض على أفعى سامة لينتزعها من الأرض، ويرمز الشعار لقوة الجهاز وصرامته في مواجهة الأخطار والشرور التي تواجه الأمن القومي للبلاد.

أنشئ الجهاز بقرار جمهوري  من الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر سنة 1954م، يحمل اسم “المخابرات العامة”، وأسند إلى زكريا محيي الدين مهمة إنشائه بحيث يكون جهاز مخابرات قويا لديه القدرة على حماية الأمن القومي. لكن الانطلاقة الحقيقة للجهاز كانت مع تولي صلاح نصر رئاسته عام 1957 حيث قام بتحديث وتطوير الجهاز على أسس منهجية عملية، كما قام بإنشاء مبنى منفصل وأسس وحدات للراديو والحاسوب والتزوير والخداع. ولتغطية نفقات الجهاز الباهظة في ذلك الوقت، قام صلاح نصر بإنشاء “شركة النصر للاستيراد والتصدير” لتكون ستاراً لأعمال المخابرات المصرية، بالإضافة إلى الاستفادة منها في تمويل عملياته، وبمرور الوقت تضخمت الشركة واستقلت عن الجهاز وأصبحت ذات إدارة منفصلة. وعرف عن الجهاز في عهد صلاح نصر الانحراف المالي والجنسي، ويعد أمين هويدي وعمر سليمان من أبرز رؤساء الجهاز.[[1]]

ويفرض الجهاز سياجا من السرية على أنشطته الاقتصادية؛ وفي مايو 2019م، تم منع أحد أعداد صحيفة “الأهالي” لسان حزب التجمع اليساري المقرب من السلطة، بسبب تحقيق صحفي عن شركة “إيجل كابيتال” للاستثمارات المالية المملوكة للمخابرات، وجاء في التحقيق الذي مُنعت بسببه الصحيفة، أن رئيسة الشركة ارتكبت مخالفات جسيمة، مستغلة نفوذ زوجها للضغط على البنوك لمنع الحجز على شركة مدينة بـ450 مليون جنيه (نحو 25 مليون دولار). وترأس الشركة وزيرة الاستثمار السابقة داليا خورشيد زوجة رئيس البنك المركزي طارق عامر. وهي الشركة التي تأسست في 2016، وهي غير مقيدة في البورصة المصرية، وتستهدف الاستحواذ على شركات كبرى في مجالات مختلفة على رأسها الإعلام.[[2]]

وفي الثلاثاء 22 من فبراير 2022م، وافق البرلمان بغالبية ثلثي أعضائه ــ وقوفا ــ على تعديلات قانوني جهاز المخابرات العامة رقم 100 لسنة 1971، والقانون رقم 80 لسنة 1974 الخاص بالافراد العاملين بالجهاز، وهي التعديلات التي تتضمن منح الجهاز حق تأسيس الشركات بجميع أنواعها أو المساهمة في شركات قائمة أو مستحدثة، وتعيين أعضائه كرؤساء أو أعضاء مجالس إدارة تلك الشركات بعد موافقة الجهاز، إلى جانب إعادة معاملة رئيس الجهاز معاملة وزير ونائبه نائب وزير فيما يتعلق بالمستحقات المالية، فضلًا عن ترتيب الهيكل الوظيفي للمخابرات، وتشديد العقوبة على كل من ينتحل صفة العمل بالجهاز.

فما أهم الملاحظات على هذه التعديلات؟ ولماذا جرى تمريرها في هذا التوقيت؟ وما الهدف منها؟ ولماذا يصر النظام على توريط مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية (الجيش ــ المخابرات ـ الشرطة) في مجال البيزنس والأعمال؟ أليس هذا إفسادا لتلك المؤسسات ونسفا للأدوار الحقيقية المنوطة بها لحماية الأمن القومي؟ وهل تعتبر هذه التعديلات تعزيزا لإمبراطورية المخابرات العسكرية واسترضاء للجهاز في ظل احتكار الجيش لمعظم المشروعات الكبرى وهيمنته على مفاصل الاقتصاد المصري؟ ألا يمكن أن تتسبب أعمال البيزنس في صراع على المكاسب بين أجهزة الدولة بما يعني تحويلها إلى مراكز قوى وجزر منعزلة على حساب الوطن وتماسكه وأمنه القومي؟

تحفظات وملاحظات

التحفظ الأول على تمرير هذه التعديلات يتعلق بالشكل؛ فقد تلى رئيس لجنة الدفاع والأمن القومي، اللواء أحمد العوضي، نص التعديلات على مسامع النواب والصحفيين في بداية الجلسة، بشكل عاجل وغير مدرج على جدول أعمال الجلسة. من جانب آخر، لم يتم توزيع تقرير لجنة الدفاع والأمن القومي على النواب الذين جرى أخذ موافقتهم على التعديلات دون إطلاعهم عليها وعلى نصوصها وفحواها، كما لم يتم توزيع نص هذه التعديلات على الصحفيين كما هو متبع مع مناقشة البرلمان لنصوص القوانين، كما لم يعلم لا النواب ولا الصحفيون بفحوى تقرير لجنة الدفاع والأمن القوي وأريها في هذه التعديلات. وهو أمر نادر الحدوث داخل البرلمان. ولمزيد من الحرص على السرية والكتمان وتمرير التعديلات دون ضجيج إعلامي أو رفض مجتمعي، أخبر مسؤولو التحرير في عدد من الصحف مندوبيهم داخل مجلس النواب بعدم كتابة تفاصيل التعديلات ولا الموافقة عليها،  وفقا لموقع «مدى مصر».[[3]] ما فعله البرلمان هو عين ما فعلته لجنة الدفاع والأمن القومي قبل أسبوع حين مناقشة أو ــ بمعنى أدق ــ  استكمال شكل الخطوات القانونية المتبعة لتمرير التعديلات، فقد عقدت اللجنة اجتماعات سرية لم تسمح خلالها بحضور الصحفيين، من أجل إعداد تقرير بالرأي القانوني حول التعديلات وعرضها على الجلسة العامة للمجلس والتي وافقت عليها بالإجماع وقوفا دون حتى معرفتهم بما يوافقون عليه. من حيث الشكل أيضا، فقد بصم نواب البرلمان بالإجماع على هذه التعديلات دون اعترض من أي نائب على عدم توزيع التقرير الخاص بالتعديلات عليهم، فيما شهدت القاعة حضورًا مكثفًا من النواب من ممثلي جميع الهيئات البرلمانية، الذين وافقوا بالإجماع على التعديلات فورعرضها عليهم؛ حيث طُلب منهم الموافقة عليها، استنادًا لكونها تصب في خانة المصلحة العامة للبلاد وأمنها القومي، وأن التعديل جاء ليتواكب مع مستجدات العصر، مشددًا على أن التعديلات تتضمن استبدال وإضافة بعض النصوص الجديدة لمشروع القانون بحيث يقوم هذا الجهاز بدوره على أكمل وجه.

التحفظ الثاني، يتعلق بالسيق والتوقيت؛ فهذه التعديلات على قانوني المخابرات، إنما تأتي في سياق صراع بين مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية (الجيش ــ المخابرات ــ الأمن الوطني) على العوائد المالية والاقتصادية من المشروعات القومية والتي تهيمن عليها المؤسسة العسكرية وسط تململ من جانب الأمن الوطني، بعدما تمت ترضية جهاز المخابرات بإسناد عدد من الشروعات له. [[4]] وكانت بعض الأحداث التي جرت وقائعها في العام الماضي “2021”، مؤشرا على هذا الصراع أبرزها قضية الفساد الكبرى في وزرة الصحة والتي أسفرت عن الإطاحة بالوزيرة هالة زايد، رغم أنها كانت إحدى المقربات من السيسي قبل حرقها ــ ومحاكمة عدد من مستشاريها والمقربين منها، كذلك عملية تهريب الآثار الكبرى التي تورط فيها لواءات كبيرة بالجيش مع السفير الإماراتي بالقاهرة، وما يتعلق بالحملة التي قادتها منابر ونوافذ إعلامية يديرها أحد الأجهزة السيادية ضد وزير السياحة والآثار خالد العناني. وقبل شهور حين تمت الإطاحة بتامر مرسي من شركة “سينرجي” للإنتاج الإعلامي والتي يهمين عليها جهاز سيادي. كذلك تعرض وزير النقل كامل الوزير لحملة إعلامية أواخر سنة 2020م، انتقدت مستوى أدائه وتردي المشروعات التي تقوم بها الوزارة؛  الأمر الذي فهم على أنه أحد أشكال صراع الأجهزة بين مؤسسات الدولة. لا ينبغي فهم ذلك على أنه صراع وجود بين الأجهزة، بل هو صراع على بسط النفوذ والهيمنة سياسيا واقتصاديا، ومحاولة اغتنام ملفات ومكاسب في ظل المكاسب الهائلة التي تحققها أجهزة دون الأخرى. [[5]] يبرهن على هذا الصراع على السلطة والنفوذ والمكاسب ما كشفته تسريبات موقع “ديسكلوز” الفرنسي في نوفمبر 2021؛ وهو التحقيق الذي كشف في حلقتين عن انتهاكاتٍ ارتكبها الجيش الفرنسي في مصر، إضافة إلى تسريبات أخرى كشفت أنّه على مدار آخر سبع سنوات استثمر نظام السيسي في منظومة مراقبةٍ شاملة، بشراء أجهزة تنصت من شركات فرنسية لمراقبة شبكة الإنترنت. اللافت في هذه التسريبات أن الأجهزة السيادية المصرية التي لها حق الرقابة (المخابرات العامة، الحربية، الأمن الوطني، الرقابة الإدارية)، لها ميزانيات منفصلة، لا رقابة برلمانية عليها؛ هذه الأجهزة اشترت هذه المنظومات، وهو أمرٌ يمكن فهمه في إطار أنّ هذه الأجهزة تابعة للنظام، لكن ما لم يتم فهمه أن يشتري كلّ جهاز أمني هذه الأنظمة من تلك الشركات الفرنسية، كلّ على حدة، وهو ما ذهب بعضهم إلى تفسيره، لتسهيل مهمة كل جهاز في التجسّس والتنصت على الجهاز الآخر.[[6]] وبالتالي فإن هذه التعديلات إنما هي خطة لترضية المخابرات ومحاولة احتواء الجهاز بأدوات الترغيب والمكاسب بعدما شن السيسي عليه حربا أسفرت عن تهميش القيادات القديمة التي يدين معظمهم بالولاء لعمر سليمان. وفي 28 يونيو 2018، عيّن السيسي مدير مكتبه، اللواء عباس كامل، رئيساً لجهاز المخابرات العامة، إثر عزل القائم بأعمال رئيس الجهاز، اللواء خالد فوزي، على خلفية تسريب محادثات صوتية لأحد ضباط جهاز المخابرات الحربية، خلال إعطائه توجيهات لعدد من الإعلاميين والفنانات، تخص تناولهم قرارات وتوجهات القيادة المصرية الحالية، في إطار الصراع بين الأجهزة السيادية في مصر.

التحفظ الثالث، يتعلق بفحوى التعديلات؛ حيث تمنح الجهاز وأفراده امتيازات إضافية فوق التي يحصلون عليها؛ وهي الامتيازات التي تنطوي على مستويين من الامتيازات:

  • الأول، يتعلق بامتيازات الجهاز؛ فهذه التعديلات تفتح الباب للمخابرات لتعزيز قدرات الجهاز الاقتصادية واستكمال بناء إمبراطوريته الاقتصادية على غرار إمبراطورية الجيش الاقتصادية المترامية الأطراف والتي باتت تحتكر أهم مجالات البيزنس والأعمال في مصر. فقد منحت الجهاز الحق في تأسيس الشركات بجميع أنواعها أو المساهمة في شركات قائمة أو مستحدثة، وتعيين أعضائه كرؤساء أو أعضاء مجالس إدارة تلك الشركات، بعد موافقة الجهاز. وكان السيسي قد أصدر في يوليو 2015م قانونا يمنح وزارتي الدفاع والداخلية والأجهزة التابعة لهما وجهاز المخابرات العامة الحق في تأسيس شركات حراسة المنشآت ونقل الأموال. لكن القانون الحالي يتوسع في تأسيس الشركات على نحو يعزز من هيمنة أجهزة الدولة العسكرية والأمنية على مفاصل الاقتصاد. هذه الخطوة يستهدف بها النظام شرعنة أعمال البيزنس والنشاط الاقتصادي الذي يقوم به الجهاز في المشروعات الاقتصادية وتحكمه في وسائل الإعلام. علاوة على ذلك فإن انخراط المخابرات العامة في الاقتصاد أمر قديم، لكنه كان بشكل غير قانوني”. فالجهاز يمتلك شركة النيل للمقاولات وغيرها من شركات التسويق العقاري كما أنه استحوذ على عدد من المؤسسات المالية الكبرى في مصر، وأبرزها إيجل كابيتال للاستثمارات المالية التي تمتلك الشركة المتحدة التي أصبحت تسيطر على الإعلام المصري من خلال شراءها لمعظم القنوات الفضائية والصحف المحلية”.[[7]] حيث تمتلك المخابرات العديد من الصحف الرئيسية، مثل “اليوم السابع” و”الوطن” و”الدستور” و”الأسبوع” و”مبتدأ” و”أموال الغد” و”دوت مصر” و”صوت الأمة”، إضافة إلى مجموعة قنوات “دي إم سي” و”الحياة” و”سي بي سي” و”إكسترا نيوز” و”المحور” و”الناس” و”أون” و”تايم سبورتس” و”النادي الأهلي” و”نادي الزمالك”، وبرامج القناة الأولى والفضائية المصرية المذاعة على التلفزيون الرسمي، ومحطات الراديو: “شبكة راديو النيل” و”ميغا إف إم” و”نغم إف إم” و”شعبي إف إم” و”راديو هيتس” و”راديو 9090″. كما تمتلك شركة “بريزنتيشن سبورتس” المسيطرة على أغلب الأنشطة الرياضية في مصر، وشركة “استادات” التي تتولى ملف تطوير الملاعب، والتي استحوذت على أغلب الملاعب المصرية.[[8]] بالإضافة إلى شركات جديدة مستحدثة مثل مصنع المستنسخات الأثرية بمدينة العبور، والذي يعد الأول من نوعه في مصر والشرق الأوسط، وشركة “كنوز مصر للنماذج الأثرية”. وتنفذ المخابرات المشروعات عبر عدد من الشركات منها “الشركة الوطنية للمقاولات العامة والتوريدات” وتتخصص في كافة أعمال المقاولات العامة والتوريدات والإنشاءات وأعمال المرافق والطرق والصيانة وأعمال التركيبات الميكانيكية والكهربائية والأعمال المساحية، وقد نفذت الشركة عددا من المدارس، ومراكز الشباب، وحمامات سباحة، والوحدات الصحية وتطوير ملاعب كرة القدم.[[9]]
  • الثاني، يتعلق بمزايا لقادة الجهاز والعاملين به؛ وأبرزها إعادة معاملة رئيس الجهاز ونائبه معاملة وزير ونائب وزير فيما يتعلق بالمستحقات المالية. بالإضافة إلى إقرار امتيازات مالية جديدة للعاملين في الجهاز، كما تنص على تمديد الخدمة لهم بعد بلوغ سن التقاعد، بدعوى أنهم خبرات يتعذر الاستغناء عنها. الأمر الذي يمنح النظام ورقة يساوم بها قيادات الجهاز من خلال مد خدمتهم وهو ما سينعكس عليهم في إبداء أعلى صور الانصياع والخضوع للنظام من أجل ضمان ولائهم المطلق في ظل ما يثار حول استياء كثير من قادة الجهاز الذي تعرض خلال السنوات الماضية لعدة إجراءات أطاحت بمئات القيادات التي كانت تهيمن على الجهاز قبل تعيين اللواء عباس كامل في 2017 رئيسا للجهاز. كما نص تعديل القانون على عدم سقوط الحق في المعاش أو المكافأة لأحد أفراد الجهاز عند الإحالة للمعاش، وتسوية المعاش أو المكافأة على أساس آخر مرتب تقاضاه. ومنح الفرد الذي تنتهي خدمته -لسبب لا يمس شخصه أو تصرفاته- أقصى معاش للمرتب، بشرط أن يكون أمضى المدة التي تكسبه حقاً في المعاش، وأن يكون منها خمس سنوات خدمة فعلية في المخابرات العامة.[[10]]

أنشطة غير مشروعة

شرع النظام في ترجمة هذه التعديلات حتى قبل التصديق عليها من جانب الرئاسة؛ فقد اعتمد وزير الإسكان والمجتمعات العمرانية عصام الجزار تخصيص قطعة أرض مساحتها 32.25 فدان بالبحيرة الشاطئية بمدينة العلمين الجديدة، لصالح جهاز المخابرات العامة لإنشاء مشروع سكني يضم 64 فيلا (منفصلة وشبه متصلة) و610 وحدة سكنية على أن يلتزم الجهاز بأخذ موافقة هيئة المجتمعات العمرانية قبل عرض وحدات المشروع للبيع أو الحجز. وذكر القرار الوزاري الذي نشر في جريدة الوقائع المصرية، الأحد 27 فبراير 2022، والموقع من الجزار بتاريخ الرابع من نوفمبر 2021، أن مجلس الوزراء وافق في مارس 2019 على تخصيص  قطعة أرض بقيمة 600 مليون جنيه إلى جهاز المخابرات مقابل التكلفة التي تحملها لبناء مقر الحكومة بكامل مشتملاته في مدينة العلمين الجديدة، على أن تخصص الأرض لإقامة نشاط عمراني متكامل، مع تخصيص نسبة 30% من جمع مكونات المشروع لصالح القوات المسلحة، وهو ما قررت على إثره هيئة المجتمعات العمرانية في مايو 2019 تخصيص 32.25 فدان من الأراضي المطلة على البحيرة الشاطئية بمدينة العلمين للجهاز. وصدق رئيس الجمهورية بحسب ما جاء بالقرار على رأي وزارة الدفاع بقيام المخابرات العامة بتحويل مبلغ 180 مليون نقدًا (30% من قيمة الأرض) للقوات المسلحة نظير نسبتها في المشروع. وبحسب القرار، تسلم الجهاز الأرض في أغسطس 2019، وأوكل لشركة بالم للإنشاءات والتنمية العقارية التابعة لشركة بالم هيلز المملوكة لرجل الأعمال حسين منصور وآخرين، وضع المخطط العام للمشروع الذي اعتمده الوزير.[[11]]

عطفا على كل هذا، فإن المسألة على هذا النحو إنما تتعلق بتقسيم المكاسب والامتيازات بين هذه الأجهزة؛ يدلل على ذلك أيضا أن وزير الإسكان سبق له قرار نشرته “الوقائع المصرية” في 14 فبراير 2022، وقبل حتى مناقشة هذه التعديلات في البرلمان، باعتماد مخطط تفصيلي لقطعة أرض مساحتها 90.46 فدان بمنطقة النرجس بمدينة القاهرة الجديدة لصالح جهاز المخابرات ومجلس الدفاع الوطني لإقامة مشروع بنشاط (سكني- ترفيهى- فندقى-إداري-تجاري).

خلاصة الأمر، أن هذه التعديلات التي أقرها البرلمان على قانوني المخابرات رقم 100 لسنة 1971، والقانون رقم 80 لسنة 1974، والتي تمنح المخابرات حق إنشاء الشركات وإدارتها كما تمنح قيادت الجهاز والعاملين به امتيازات إضافية مالية وإدارية، إنما تستهدف أولا، تعزيز نفوذ الجهاز واسترضاء قياداته، بمنحه امتيازات اقتصادية مهمة، فمعلوم أنه وفق المادة 77 من قانون المخابرات العامة فإن ميزانية الجهاز تدرج كمبلغ إجمالي في ميزانية وزارة الحربية أو القوات المسلحة، على أن يتم التصرف فيها من دون الرجوع إلى السلطات المالية بهاتين الجهتين”. وعلى المستوى الاقتصادي فإن هذه التعديلات ستمنح الجهاز مزايا إضافية على باقي مشروعات القطاع الخاص؛  لتجعل المنافسة غير عادلة، لا سيما مع وجود قوانين تسمح بمنح الأعمال الحكومية بالأمر المباشر للشركات، والتي بالطبع تكون من نصيب شركات المخابرات والقوات المسلحة”. علاوة على ذلك فإن قانون المخابرات الأصلي قبل تعديله، ينص في المادة 79 منه على أن “تعفى المخابرات العامة من أداء الضرائب والرسوم الجمركية على الأصناف اللازمة لأعمالها التي تستوردها من الخارج”، وبالتالي ستتمتع جميع شركات المخابرات بالإعفاءات الضريبية والجمركية، عكس باقي الشركات التي تجبر على دفع أموال طائلة لكلتا الجهتين.[[12]]

كما تستهدف هذه التعديلات ثانيا، السيطرة بشكل كامل على هذا الجهاز، وهي خطوة ضمن مخطط مرسوم بدأ بالإطاحة بعدد من قيادات الجهاز، ثم تعيين عباس كامل رئيسا له، ثم دعمه بنجل السيسي الضابط محمود الذي بات يحظى بنفوذ واسع داخل الجهاز، وهذه التعديلات هي خطوة على طريق السيطرة على الجهاز بأدوات الترغيب والمكاسب وبسط النفوذ. فسيطرة الجهاز على الشركات كانت تتم عبر وكلاء من الباطن، لكن هذه التعديلات تجعل اللعب على المكشوف وتستهدف تعزيز نفوذ الأجهزة على حساب النشاط الأهلي والمدني وحتى الحكومي التقليدي (القطاع العام). هذه التعديلات تبرهن على أن أجهزة النظام العسكرية والأمنية هي أول من يدهس القانون ويخالفه عبر انحرافات وأنشطة غير مشروعة، ثم يتم سن القوانين لاحقا لشرعنة هذه الانحرافات وتلك الأنشطة، وهذه التعديلات خير برهان على ذلك.

كما تستهدف هذه التعديلات من جهة ثالثة، شرعنة مشروعات المخابرات، لأن التعديلات لا تؤسس النشاط الاقتصادي للجهاز، بل تقننه لأنه قائم بالفعل منذ عقود طويلة؛ وقد كان الجهاز ينشئ شركاته بالتحايل على القانون عبر تصدير شخصية من قيادته السابقة لتكون الشركة باسمه أو حتى من الشخصيات المدنية. وكان هذا يسبب بعض المشاكل للجهاز؛ لكن هذه التعديلات سوف تعزز قبضة الجهاز على مشروعاته من جهة وتزيد من نفوذه في تأسيس شركات جديدة في مختلف قطاعات الاقتصاد من جهة ثانية.

من جهة أخرى، فإن هذه التعديلات سوف تعزز من حجم الفساد داخل الجهاز الذي يحظى بامتيازات واسعة وأنشطة كبرى لا يعلم الشعب عنها شيئا، ومن أبرز الملفات التي كشفت حجم الفساد الرهيب في بيزنس المخابرات هو قضية فساد بيع الغاز لإسرائيل في عهدي مبارك والسيسي؛ في عهد مبارك كان شركة حسين سالم سببا في خسارة مصر نحو 10 مليارات دولار عبر توريد الغاز للصهاينة بأقل من سعره العالمي. وفي عهد السيسي فقد كشف تحقيق استقصائي نشره موقع “مدى مصر” أن الشركة التي تعاقدت مع “إسرائيل” لشراء الغاز تابعة لجهاز المخابرات العامة، وهي شركة “غاز الشرق” التي يهيمن جهاز المخابرات على أغلب أسهمها بالكامل. وهي الشركة التي استحوذت على صفقة الغاز مع إسرائيل والتي تقدر بنحو 19.5 مليار دولار أمريكي.[[13]] وبالتالي فإن هذه التعديلات سوف تكون سببا في إغراء قيادات الجهاز وغوايتهم على نحو يعزز حجم الفساد، ويجعل من أجهزة الدولة مجرد مراكز قوى تتصارع على المكاسب والامتيازات، بينما تتحول الدولة إلى أنقاض، تفتقر بهم وبفسادهم كل يوم، بينما هم كأجهزة وأفراد يزدادون غنى وثراء.  فإما أن يكون هناك بأجهزة الدولة عقلاء وطنيون بحق يوقفون هذا العبث وإلا فإن الانفجار ـ حتى لو تأخر قليلا ـ فإنه قادم لا محالة؛ لأن هذا الوضع غير قابل للاستمرار.

ويبقى من أهم المخاطر أن صراع الأجهزة الحالي هو صراع على الامتيازات وعوائد المشروعات وبسط النفوذ، وليس صراع وجود بمعنى أن يحرص كل جهاز على القضاء على الآخر، لكن ذلك لا يمنع من توظيف هذه الأجهزة لنفوذها حال جرت تغيرات كبرى في المشهد تسمح بإعادة تصميمه من جديد، فكل جهاز سيكون حريصا على توسيع سلطاته ونفوذه على حساب الأجهزة الأخرى؛ لأن مصر لا تتمتع بنظام حكم رشيد تلجم بالدستور والقانون أجهزتها، لكنها دولة الأوامر والتوجيهات العليا؛  لذلك حال وقوع صراع على السلطة فلن يلجم هذه الأجهزة دستور أو قانون، ولن تتورع عن فعل أي شيء لبسط سلطانها على حساب الآخرين؛ ما يجعل مستقبل مصر مرهونا بهذه الأجهزة ومدى قدرتها على الحسم وبسط النفوذ ومدى تشابك علاقتها بقوى أجنبية تتمتع بنفوذ واسع في مصر.

 

[1] عدي جوني/ جهاز الاستخبارات المصرية/ الجزيرة نت ــ 11 فبراير 2011م

[2] بسبب تحقيق عن شركة مملوكة للمخابرات.. منع طباعة صحيفة حزبية في مصر/ الجزيرة نت ــ 22 مايو 2019م

[3] إيهاب النجار/ دون حصول الأعضاء والصحفيين على نسخة.. «النواب» يمرر تعديلات قانوني «المخابرات»/  مدى مصر ــ الثلاثاء 22 فبراير 2022م

[4] المخصصات الاقتصادية تمهد لحركة تغييرات في أجهزة أمنية مصرية/ العربي الجديد ــ 17 ديسمبر 2021

[5] ضباط “الخط الساخن”.. وسطاء بين رجال الأعمال والأجهزة السيادية في مصر بعمولات تتجاوز عشرات الملايين/ عربي بوست ــ 17 ديسمبر 2021م

[6] تقادم الخطيب/ عودة التسريبات وصراع الأجهزة الأمنية في مصر/ العربي الجديد ــ 12 ديسمبر 2021

[7] المخابرات المصرية وشرعنة الاستثمارات.. قرار برلماني جديد/ الحرة – واشنطن ــ الخميس 24 فبراير 2022

[8] يفتح الباب لمزيد من النشاط الاقتصادي للجهاز.. البرلمان المصري يقر تعديل قانون المخابرات/ الجزيرة نت ــ 23 فبراير 2022م

[9] توغل الجيش والمخابرات في مصر اقتصادياً… مشروعات بعشرات المليارات/ العربي الجديد ــ 27 فبراير 2019

[10] تعديل قانون المخابرات العامة في مصر: امتيازات مالية جديدة/ العربي الجديد ــ 20 فبراير 2022

[11] مقابل تحملها تكاليف إنشاء مقر الحكومة بالعلمين.. تخصيص 32 فدانًا للمخابرات العامة لإنشاء مشروع سكني/ مدى مصر ــ الأحد 27 فبراير 2022م

[12] تعديل قانون المخابرات المصرية: تكريس السيطرة الاقتصادية/ العربي الجديد ــ الخميس 24 فبراير 2022

[13]  حسام بهجت/ من يشتري غاز إسرائيل؟ شركة مملوكة للمخابرات المصرية/ مدى مصر ــ 21 أكتوبر 2018

 

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022