‫الرئيسية‬ العالم العربي مصر العلاج على نفقة الدولة.. الفساد والتمييز والجدوى
مصر - مارس 17, 2022

العلاج على نفقة الدولة.. الفساد والتمييز والجدوى

 

 

 

فتح قرار علاج الممثل المشهور سمير صبري على نفقة الدولة خلال فبراير 2022م، بعد مداخلة عاطفية مع الإعلامي عمرو أديب في برنامجه على قناة “أم بي سي مصر”،  جدلا واسعا في الأوساط المصرية، حيث بادرت الرئاسة بتوجيه الحكومة بعلاج الممثل الشهير على نفقة الدولة؛ الأمر الذي قابله ممثلون بترحيب واسع واعتبروه برهانا على مدى الاهتمام الذي توليه الدولة بقطاع الفن والفنانين نظير ما يقدمونه من خدمات جليلة للوطن حسب زعمهم،  ينما تحفظ على القرار قطاعات واسعة من المحللين والجماهير لعدة اعتبارات:[[1]]

أولا، سمير صبر ممثل شهير وملونير واسع الثراء يبلغ من العمر نحو 94 سنة وليس له ورثة؛ فقد تلقى صبري أجورا تصل إلى مئات الملايين من الجنيهات على مدار سنوات عمره المديدة، نظيرأعمال فنية وتقديم برامج تلفزيونية وحفلات متنوعة، بخلاف أن صبري ــ وفقا للصحفي محمد سعد خطاب في عدة تغريدات على صفحته بموقع تويتر ــ ورث عن أمه المحترمة السيدة سعاد القويضي وأبيه جلال صبري ــ لواء شرطة سابق ــ نحو 18 شقة بأرقى الأماكن في القاهرة والجيزة”.[[2]] ولم يكن قرار السيسي بعلاج سمير صبري على نفقة الدولة هو القرار الأول من نوعه؛ فلقد سبقه قرارات مشابهة بعلاج عدد من الفنانين على نفقة الدولة، منهم المطرب الراحل على حميدة والممثل شريف دسوقي -الذي بترت قدمه- والممثلة فاطمه كشري، و رئيس اتحاد الإذاعة والتلفزيون سابقا صفاء حجازي. كما سبق وأن قرر السيسي علاج الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي بالخارج على نفقة الدولة. ودأب النظام العسكري على ذلك منذ عقود طويلة.

ولكي يتمكن المريض من الحصول على قرار بالعلاج على نفقة الدولة يتعين عليه أولا أن يذهب إلى العيادات الخارجية بالمستشفيات التابعة لوزارة الصحة والسكان، أو المستشفيات الجامعية، لمناظرة المريض وإجراء الفحوصات الطبية لتشخيص الحالة، وذلك تمهيدا لإعداد “تقرير اللجنة الثلاثية”. وتاليا يقوم المريض بإثبات أنه غير خاضع للتأمين الصحي، بإحضار “برنت تأمين”، وتسليمه بالمستشفى، أو صورة قرار علاج على نفقة الدولة قديم. وثالثا، يقوم بعد ذلك المستشفى برفع تقرير اللجنة الثلاثية، والتقارير الطبية وصورة بطاقة الرقم القومي علي “بوابة المجالس الطبية المتخصصة بوزارة الصحة” إلكترونيا، والتي بدورها تفحص التشخيص الطبي وتقارير الفحوصات وإصدار قرار العلاج على نفقة الدولة، وعودة القرار إلكترونيا إلى المستشفى. وأخيرا، يتوجه المريض بعد ذلك لشباك القرارات على نفقة الدولة بالمستشفى الذي أجرى فيه الفحوصات الطبية للحصول على صورة من قرار العلاج على نفقة الدولة، والعودة له للعيادة التي تم تشخيصه بها، لصرف الأدوية أو تحديد موعد العملية الجراحية أو الأشعة أو التحاليل. وهي عادة إجراءات تستغرق شهورا، لكن في حالة حالة سمير صبري، جرى تجاوز كل هذه الخطوات القانونية، إضافة إلى أنه يتعالج بالفعل في مستشفى استثماري فخم (الصفا) وليس بمستشفى حكومي، وتصل تكلفة علاجه الممثل إلى نحو 1.6 مليون جنيه!

ثانيا، قرار السيسي يحمل قدرا كبيرا من التمييز، ويبرهن على أن النظام يتعامل بانتقائية وعنصرية وينحاز إلى طبقة الجنرالات والمشهورين والأثرياء، ويمنحهم الكثير من العطايا والامتيازات في الوقت الذي يحرم فيه الفقراء من حقوقهم ويعمل النظام على تقليص مخصصات الدعم الخاصة بعشرات الملايين من الفقراء والمهمشين، فالجنرالات وضباط الجيش وأفراده يحظون برعاية صحية خاصة ومجانية بالمستشفيات العسكرية، بينما يحظى ضباط الشرطة وعناصرها برعاية طبية خاصة ومجانية بمستشفيات الشرطة، أما القضاة وكبار موظفي الحكومة، فإنهم يتمتعون  برعاية طبية خاصة على نفقة الدولة في كبرى المستشفيات الاستثمارية، أما باقي الشعب فإن الآلاف يموتون لعدم قدرتهم على تحمل نفقات العلاج بينما يُنعم النظام على مقربيه الأثرياء رغم أن المادة 9 من الدستور تنص على أن “تلتزم الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، دون تمييز”. وقد كانت الفترة الماضية والحالية مع تفشي جائحة كورونا خير برهان على ذلك، وقد كان الآلاف يموتون مع تردي الخدمات الصحية على نحو أظهر حجم الفساد والفوضى والإهمال. فلماذا تتكفل الدولة الفقيرة بعلاج هذه النوعية من الأثرياء؟ أليس من الأولى أن يتكفل هؤلاء بعلاج أنفسهم لا سيما وأن لديهم من الأموال والثروات والأصول ما يكفيهم وأن  يبقى العلاج على نفقة الدولة حصرا على المحرومين والفقراء الذين لا يملكون نفقات العلاج؟

ثالثا، زاد من منسوب الغضب عند المصريين، أن حكومة السيسي التي قررت علاج سمير صبري على نفقة الدولة،  قررت في ذات التوقيت، استضافة عشرات الآلاف من السياح الروس والأوكرانيين على نفقة الدولة بعدما قررت مد إقامتهم في أعقاب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية فبراير 2022م، كما قررت التكفل بنقل الأوكرانيين إلى الدول المجاورة لبلادهم عبر شركة “مصر للطيران” وشركة “إير كايرو” (Air Cairo) التابعة لها، على أن تتحمل الحكومة تكاليف تلك الرحلات.[[3]] في المقابل فإن السفارة المصرية في بولندا لم تتحمل تكاليف إقامة مواطن مصري واحد أصيب في الحرب الروسية الأوكرانية. حيث كشف المصري المصاب ويدعى محمد زايد في تصريحاته لموقع “مدى مصر” أن السفير المصري في بولندا ونائبه أخبراه بضرورة مغادرة بولندا مع عائلته إلى مصر فورا، وأنه طلب من السفير مهلة زمنية للتعافي من آثار العمليات الجراحية، لكن نائب السفير أخبره أن السفارة لا يمكنها تحمل تكلفة إقامته في الفندق، وأن هذا القرار لا يعود للسفارة وإنما “لتعليمات عليا”، وأن الأمر ليس مطروحا للنقاش. وكان زايد أصيب بطلقات من طائرة حربية في ثاني أيام الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا فيما كان في طريقه لشراء حليب صناعي لرضيعته التي ولدت قبل أيام، مما تسبب له في إصابات بالغة قادت إلى استئصال الطحال لاحقا، وتم نقله إلى بولندا عبر سيارة غير مجهزة، الأمر الذي تسبب في تفاقم حالته، حسب تصريحاته.[[4]]

أمام هذه المعطيات؛ ما المقصود بالعلاج على نفقة الدولة؟ ومتى نشأ؟ وما المخصصات له في موازنة  الدولة؟ وهل يتمتع هذا النظام بالجدوى ويحقق الأهداف المنشودة منه وتقديم رعاية طبية جيدة للمواطنين أم مجرد بوابة لمافيا الفساد التي تلتهم كل شيء ولا تبقي للناس شيئا؟ ولماذا تتكفل الدولة بعلاج الأثرياء والمشاهير على نفقتها بينما تكاد تنعدم الرعاية الصحية للفقراء والمهمشين؟ ولماذا يصر النظام على التمييز والعنصرية ويمنح خواصه والمقربين منهم امتيازات لا حصر لها بينما يبقى جموع المصريين محرومين من حقوقهم المشروعة كالدعم والتعليم والرعاية الصحية؟ وإلى متى يتم تكريس هذه الطبقية البغيضة؟ وما مآلات الإصرار على هذه السياسات الجائرة؟ ألا يخشى النظام من عواقب سياساته المتوحشة التي تنحاز لقلة من الجنرالات واللواءات والأثرياء والممثلين على حساب باقي الشعب؟ ألا يخشى من انفجار شعبي وشيك على هذه السياسات الجائرة وتلك الطبقية البغيضة؟ أم أن النظام بات مفتونا بقوته وطغيانه وبات مطلق اليد لفعل ما يشاء دون خوف من عقاب أو عواقب؟

بدايته ومحطاته

في عصور ما قبل 23 يوليو 1952م، كان الوقف  الخيري يتكفل بعلاج الفقراء، وفي ضوء نظام الوقف الذي تتميز به الحضارة الإسلامية عن سواها من الأمم والحضارات الأخرى، تم بناء المستشفيات والوحدات الصحية التي قدمت دورا مشهود في توفير  الرعاية الصحية لأفراد المجتمع، ويكفي أن نشير إلى أن القصر العيني ــ أكبر مستشفى جامعي في مصر والشرق الأوسط ــ هو مستشفى وقف خيري منذ العهد الملكي. وكان العلاج على نفقة الدولة حكرا على الموظفين الحكوميين منذ عهد محمد علي باشا في المستشفيات الميري (الحكومي). ويعد الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر أول من أصدر قرارا جمهوريا (رقم 1754 لسنة 1959) الخاص بتنظيم شروط العلاج بالخارج على نفقة الدولة.[[5]] هذا القرار نفسه نص على تقرير إعانة مالية للموظفين الذين يصابون بجروح أو بأمراض، ليست ناتجة عن قيامهم بتأدية أعمال وظائفهم، وذلك لمساعدتهم في نفقات العالج سواء كان عالجهم هذا في الداخل أو في الخارج، على أن تقدر اللجنة الطبية قيمة ما يتكلفه العالج في الخارج أو الداخل. وهو ما فتح الباب واسعا للمحسوبية والمحاباة والفساد على نحو واسع.

وجاء دستور 1964 ليلزم الدولة بكفالة خدمات التأمين االجتماعي، حيث نصت المادة 20 منه، على أن «تكفل الدولة خدمات التأمين الاجتماعي. وللمصريين الحق في المعونة في حالة الشيخوخة، وفى حالة المرض أو العجز عن العمل، أو البطالة». وإعمالا لأحكام المادة 20 من الدستور صدر القانون رقم 63 لسنة 1964 الخاص باستصدار قانون التأمينات االجتماعية. وقد نص هذا القانون على تطبيق التأمين الصحي على العاملين في القطاعين العام والخاص الخاضعين لنظام التأمين الاجتماعي. ثم أعقبه صدور القانون رقم 75 لسنة 1964 بشأن التأمين الصحي للعاملين في الحكومة والهيئات والمؤسسات العامة. ومن ثم صدر قرار رئيس الجمهورية رقم 1209 لسنة 1964 بشأن إنشاء «الهيئة العامة للتأمينالصحي» وفروعها، للعاملين في الحكومة ووحدات الإدارة المحلية والمؤسسات والهيئات العامة.[[6]]

صدر بعد ذلك قرار رئيس الجمهورية رقم 3183 لسنة 1966 بشأن علاج العاملين والمواطنين بالخارج على نفقة الدولة. وقد نص هذا القرار على أن تتكفل جهة العمل بنفقات علاج العاملين بها، حين يصابون بأمراض أثناء وبسبب الخدمة، سواء أكانت هذه الجهة تابعة للحكومة ووحدات الإدارة المحلية أم للهيئات والمؤسسات العامة والشركات. كما نص القرار أيضا علي إجازة إعانة المرضى من المواطنين أو العاملين في غير حالات الإصابة بمرض أثناء الخدمة، ببعض أو كل تكاليف العلاج طبقا لحالتهم الاجتماعية. وذلك بموجب قرار صادر من رئيس مجلس الوزراء.  والجديد الذي جاء به هذا القرار، هو إلزامه جهات العمل الحكومية بنفقات عالج العاملين التابعين لها، حال إصابتهم بمرض أثناء العمل أو بسببه، وليست الدولة كما سبق أن قررت القرارات السابقة المنظمة للعالج على نفقة الدولة، وذلك لصدور قانون التأمين الصحي رقم 75 لسنة 1964 ،وقيام هذه الجهات باستقطاع نسب من رواتبهم من المنبع من أجل تقديم الرعاية الصحية لهم.

بصدور دستور1971 أصبح  الأمر أكثر شمولا؛ حيث ربطت المادة 16 منه بين عدة خدمات ألزم بها الدولة، من بينها الصحة، كما يرد فيها ذكر «القرية» كجزء من خطاب التنمية السياسي خلال حقبة السبعينيات: «تكفل الدولة الخدمات الثقافية والاجتماعية والصحية، وتعمل بوجه خاص على توفيرها للقرية في يسر وانتظام رفعا لمستواها. وتليها المادة «17»: «تكفل الدولة خدمات التأمين الاجتماعي والصحي، ومعاشات العجز عن العمل، والبطالة، والشيخوخة، للمواطنين جميعا، وذلك وفقا للقانون». وتمشيا مع ذلك، فقد صدر بعد عدة سنوات القانون 79 لسنة 1975 وتعديلاته. وهذا القانون يعد المصدر التشريعي العام لنظام التأمينات الاجتماعية في مصر.

أما بشأن الفئات الأخرى غير المشمولة بالحماية التأمينية، وغير القادرة على تحمل نفقات العلاج، فقد صدر قرار رئيس الجمهورية رقم 691 لسنة 1975 في شأن علاج العاملين والمواطنين على نفقة الدولة. وهو القرارالمعمول به حتى الآن، مع بعض التعديلات البسيطة التي طرأت عليه بموجب قرار رئيس الجمهورية رقم 359 لسنة 1986م. وكانت الهيئات الطبية المتخصصة صاحبة السلطة في قرارات العلاج على نفقة الدولة خلال هذه الفترة.

وتعددت القررات الحكومية بهذا الشأن حتى أصدر السيسي قانون التأمين الصحي الشامل رقم 2 لسنة 2018م، وهو القانون الذي ينهي فعليا أي حديث عن العلاج المجاني، لأن فلسفة المشروع تقوم على أساس مشاركة المريض بنسبة والدولة بنسبة أخرى؛ وبالتالي فهو أكبر خطوة على طريق تهرب الحكومة من العلاج المجاني باعتباره استحقاقا دستوريا. وتجري الحكومة حاليا مناقشات من أجل ضم العلاج بالخارج على نفقة الدولة ضمن منظومة التأمين الصحي الشامل.

جدواه

أمام الانتقادات الموجة للأداء الحكومي بشأن العلاج على نفقة الدولة وما يسوده من فساد ومحسوبية وإهمال وفساد،  ترد الحكومة بسرد أرقام لتبرهن على أن الفقراء في مصر يحظون برعاية طبية ممتازة لا تقل عن مثيلاتها في دول العالم المتقدم. وفي ديسمبر 2021م، نشرت الأهرام  تقريرا عن وزارة الصحة تكشف فيه إصدار مليونين و914 ألفا و106 قرارات علاج على نفقة الدولة، خلال عام 2021، بإجمالي تكلفة بلغت 10 مليارات و4 ملايين جنيه. وشملت قرارات العلاج على نفقة الدولة تخصصات أمراض الدم، والأورام، والأنف والأذن، والجراحة، والنساء، والعيون، والعظام، والمسالك، والباطنة، بالإضافة إلى الأمراض الجلدية والعصبية.[[7]]

لكن المشكلة الرئيسية في العلاج على نفقة الدولة، تتمثل في الفساد وسوء الإدارة في المجالس الطبية والمستشفيات العامة. وقد رصد الجهاز المركزي للمحاسبات في تقريره سنة 2012، تاريخا طويلا للفساد في القطاع الصحي والعلاج على نفقة الدولة منذ العهد السابق وصولا إلى ثورة يناير. وفقا للتقرير فإنه يفترض أن يكون العلاج على نفقة الدولة لغير القادرين، وغير المشمولين بالتأمين الصحي وغير المتعاقدين, وغير المنسوبين للشركات. ورغم صدور قرارات بذلك إلا أن الاستثناءات كانت تبتلع الميزانيات المرصودة من قبل الدولة وربما كانت القرارات الصادرة عن المجالس الطبية المتخصصة هي الأكثر عدالة؛ حيث كانت تلامس الفئات المستحقة فعليا. ولكن دخول فئات قادرة كانت تبتلع الميزانيات المرصودة لذلك والتقرير كان لفترة متقطعة من 2007 :2010 شاملة للعلاج في الداخل والخارج.[[8]] وفي عهد مبارك استأثر نواب البرلمان والشوري بكثير من قرارات العلاج على نفقة الدولة، وهي القضية التي تفجرت في منتصف 2010، وتسببت في انتقادات حادة للنظام.

من سلبيات هذه النظام أيضا أن هناك من يعالَجو نعلى نفقة الدولة ولا يستحقّون ذلك، بينما يذهب الفقراء للعلاج على حسابهم الخاص، في ظلّ غياب تام لمبادئ العدالة الاجتماعية”.  إضافة إلى أنّ “ميزانيّة المجالس الطبية المتخصصة لعلاج الفقراء (تصل إلى 10 مليارات جنيه وفقا لبيانات وزارة الصحة في ديسمبر 2021م)، ورغم ذلك فإنّ “الروتين يؤدّي بمرضى كثيرين إلى الموت أمام المجالس الطبية والمستشفيات، في انتظار حصولهم على قرار علاجهم على نفقة الدولة، خصوصاً الذين يعانون من أمراض مزمنة مثل أمراض الكلى والسرطان والكبد”. ومن سلبيات العلاج على نفقة الدولة أنّ المريض لا يُقبل قبل تشخيص حالته أولاً، على نفقته الخاصة، بخلاف المذلة والهوان التي يتعرض لها المرضى وأقاربهم من كل المحافظات أمام مقرّ الإدارة العامة للمجالس الطبية في مدينة نصر، للحصول على موافقة نهائية لقرار العلاج على نفقة الدولة.[[9]]

ويرى الدكتور صلاح الغزالي حرب، وهو أحد المؤيدين للنظام العسكري، أن العلاج على نفقة الدولة هو مجرد خرافة(طبعا باستثناء من يتم علاجهم بالخارج أو بالمستشفيات الاستثمارية)، ولشرح ذلك يضيف أن الشبكة القومية لهذا العلاج التي تنتشر بجميع المحافظات، وتشمل 27 مجلسا طبيا فرعيا فى جميع المحافظات والتى كلفت ميزانية الدولة عدة مليارات من الجنيهات وصلت في عام 2019 إلى أكثر من 5 مليارات جنيه (10 مليارات في 2021)، وكان الهدف المعلن هو مساعدة المواطن المريض على سرعة العلاج، فى حين يبدو أن الهدف هو تملق المواطن بإيهامه بالعلاج على نفقة الدولة بصورة شخصية، فى حين أن الحقيقة الصارخة تقول إنه إهدار جسيم لأموال الدولة وإنفاق مزدوج ليس له ما يبرره.. فالمستشفيات الحكومية والجامعية تقدم العلاج المجانى لجميع المواطنين منذ سنوات عديدة، فما الداعى لهذا الإنفاق الموازى؟!

وبحسب الغزالي ـ فإن هذا المشروع قد اتسم بالكثير من السلبيات والأخطاء التى تقترب من الخطايا، فالميزانية المخصصة لهذا الأمر لا تفى فى كثير من الأحيان لتغطية التكلفة الفعلية للخدمات المقدمة للمريض، ما يؤدى من ناحية إلى تدنى مستوى الخدمة، ومن ناحية أخرى الى تكبد المستشفيات المقدمة للخدمة خسائر فادحة تنعكس على كافة الخدمات الأخرى. كما أن هذا المشروع فتح الباب أمام تجارة فاسدة خفية للأدوية فى بعض المستشفيات، حيث يحرص بعض مرضى الأمراض المزمنة على تكرار العلاج الموصوف فى قرار العلاج بصفة مستمرة بدون أى متابعة طبية أمينة وبدون إجراء كشف طبى، فتكون النتيجة أن أدوية غالية الثمن تصرف ثم تباع إلى صيدليات متفق معها تخصصت فى هذه التجارة الفاسدة، فى الوقت الذى يخصص فيه للطبيب المباشر لهذا المريض بضعة جنيهات، وهو ما قد يشجعه على عدم القيام بواجبه، خاصة مع وجود أعداد كبيرة من المرضى فى هذه العيادات.[[10]]

ولمزيد من الشرح والتفسير، يؤكد أن المادة 18 من الدستور تنص على أن لكل مواطن الحق فى الصحة وفى الرعاية الصحية المتكاملة وفقا لمعايير الجودة، وبحسب تقدير الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، فإن عدد المستشفيات الحكومية سنة 2018 هو 691 ونحو 96 ألف سرير،[[11]] كما وضعت وزارة الصحة خطة لاستغلال 520 مستشفى مغلقاً من مستشفيات التكامل لزيادة الطاقة الاستيعابية، وإذا أضفنا إلى ذلك 109 مستشفيات جامعية بطاقة 31 ألف سرير، يتبين أن لدينا عددا كافيا من المستشفيات المجانية التى إن أُحسن استغلالها فسوف تفى باحتياجات المجتمع.

ويذهب إلى أن هناك طريقين لا ثالث لهما:

  • الأول: غلق كل المستشفيات الحكومية وتحويل الميزانية المخصصة لها إلى مشروع العلاج على نفقة الدولة، وعلى كل مريض أن يذهب لاستخراج قرار له بالعلاج فى أى مكان بالمبلغ المخصص له، ونكون قد ابتدعنا نظاما فريدا لم يسبقنا إليه أحد!!
  • والثانى: والمنطقى أن نغلق هذا الملف نهائيا وتحول كل الأموال المخصصة له للصرف على المستشفيات الحكومية بكافة أنواعها، لكى تقدم خدمة صحية راقية تليق بالمواطن المصرى، وهذا بدوره يحتاج إلى عدة أمور، أولها، إعادة هيكلة هذه المستشفيات جميعها بحيث تقتصر إداراتها على ذوى الخبرة العلمية والعملية فى إدارة المستشفيات مع السمعة الحسنة ونظافة اليد والقدرة على الحسم فى اتخاذ القرار. وثانيها، تخصيص جزء من كل مستشفى للعلاج بأسعار التكلفة وجزء آخر للسياحة العلاجية للوافدين، وذلك للمساعدة فى الإنفاق على باقى المرضى.

وينتهي إلى الحل الأمثل هو تطبيق نظام التأمين الصحى الشامل على جميع المصريين بلا استثناء، بشرط أن تخصص له الأموال اللازمة مع ضرورة مع ضرورة مضاعفة الضرائب على السجائر بكافة أنواعها إلى أقصى حد، فليس من مهام الدولة فى أى مكان أن تساعد مواطنيها فى الإضرار بأنفسهم ثم تتكفل بعلاجهم كما يجب زيادة قيمة الاشتراكات فى هذا النظام على الفئات القادرة، كل حسب دخله، مهما كان مرتبطا بنظام تأمينى خاص، على أن تتكفل الدولة بالعلاج المجاني لغير القادرين والالتزام بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومى للصحة لا تقل عن 3% من الناتج القومى الإجمالى تتصاعد تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية. لكن منظمات حقوقية أبدت مرارا تخوفها من تداعيات تطبيق قانون التأمين الصحي الشامل، باعتبار أنه يمهد لخصخصة خدمات التأمين على صحة المصريين، من خلال تسليم قطاع الصحة للشركات الخاصة، وتحميل الفقراء مزيداً من الأعباء؛ كون النظام الجديد لا يعتمد إلا على مستشفيات عالية الجودة، علماً أن المستشفيات الحكومية هي الأقل جودة في المنظومة الصحية المصرية. وأصر السيسي على تطبيق هذه المنظومة بالرغم من عدم تأهيل البنية التحتية للمستشفيات؛ مع توقيع وزارة الصحة عقوداً مع المؤسسة العسكرية، والمخابرات العامة، لتطوير عدد كبير من المستشفيات الحكومية في البلاد مقابل مبالغ مالية كبيرة، ومنها 22 مركزاً طبياً لصالح “الهيئة الهندسية للقوات المسلحة”.[[12]]

خلاصة الأمر،  تكشف تجارب النظام العسكري منذ  سن نظام العلاج على نفقة الدولة في عهد عبدالناصر وصولا إلى السيسي أن الجنرالات يمارسون قدرا كبيرا من التمييز والعنصرية، وتبرهن قراراتهم على أن النظام يتعامل بانتقائية وعنصرية وينحاز إلى طبقة الجنرالات والمشهورين والأثرياء، ويمنحهم الكثير من العطايا والامتيازات في الوقت الذي يحرم فيه الفقراء من حقوقهم ويعمل النظام على تقليص مخصصات الدعم الخاصة بعشرات الملايين من الفقراء والمهمشين، فالجنرالات وضباط الجيش وأفراده يحظون برعاية صحية خاصة ومجانية بالمستشفيات العسكرية، بينما يحظى ضباط الشرطة وعناصرها برعاية طبية خاصة ومجانية بمستشفيات الشرطة، أما القضاة وكبار موظفي الحكومة، فإنهم يتمتعون  برعاية طبية خاصة على نفقة الدولة في كبرى المستشفيات الاستثمارية، أما باقي الشعب فإن الآلاف يموتون لعدم قدرتهم على تحمل نفقات العلاج بينما يُنعم النظام على مقربيه الأثرياء رغم أن المادة 9 من الدستور تنص على أن “تلتزم الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، دون تمييز”.

من جهة أخرى أهدر على هذا النظام عشرات المليارات كان الأولى أن توجه إلى تطوير المستشفيات العامة وإدارتها على نحو رشيد وتقديم خدمة طبية متميزة، لكن ذلك لم يحدث حتى سن قانون التأمين الصحي الشامل في مايو 2018م، وبحسب هذا القانون فإن الاشتراك في المنظومة الجديدة “إجباري” على جميع المصريين، وتُلغى بموجبه جميع أشكال التأمين الصحي الأخرى، سواء الحكومي أو الخاص، وانتهاء نظام العلاج على نفقة الدولة مع تطبيقه بكل محافظة، لكن الحكومة تدرس ضم العلاج على نفقة الدولة إلى منظومة التأمين الصحي الشامل.[[13]]  ويعاب على هذه المنظومة أنها لم تحدد  بوضوح المقصود بغير القادرين وتركت الأمر فضفاضا يسمح للحكومة بالتهرب من علاج الملايين من غير القادرين. كما أن تطبيقه على مستوى الجمهورية يمتد إلى نحو 15 سنة وهي مدة طويلة حيث يبدأ تطبيقه في المحافظات بشكل متدرج على مدار هذه الفترة  الطويلة وهو ما يحمل تمييزا وعدم مساواة بين المحافظات.

من جهة ثالثة، تلاحق شبهات فساد نظام التأمين الصحي الشامل جراء استحواذ شركة “أبراج كابيتال” الإماراتية على عدد كبير من المستشفيات الحكومية والخاصة، تمهيداً لإدخالها في المنظومة الصحية الجديدة، والهادفة في الأصل إلى تسعير الخدمة الصحية، واقتطاع رسوم ضخمة من كل فئات المصريين لتمويلها. من جهة رابعة، تواجه وزارة الصحة عجزاً شديداً في عدد الأطباء، وهو ما أكدته وزيرة الصحة هالة زايد أمام مجلس النواب في سبتمبر/أيلول 2018، بقولها إن “ثمة 103 آلاف طبيب يعالجون نحو 100 مليون مواطن، ما يمثل 10 أطباء لكل 10 آلاف مواطن، بينما المعدل العالمي هو 32 طبيباً لكل 10 آلاف مواطن”. وأفادت بأن عدد الأطباء المصريين العاملين في المملكة العربية السعودية وحدها كان يبلغ 65 ألفاً بنهاية عام 2017. وكانت نقابة الأطباء المصرية قد كشفت أن صفقات استحواذ الشركة الإماراتية في مجال الصحة “تمت بعيداً عن أي رقابة من وزارة الصحة بذريعة الاستثمار الحر”، مطالبة الدولة (الحكومة) بعدم السماح ببيع أي منشآت صحية أو شرائها إلا بعد موافقة الوزارة، والتأكيد على هوية الملاك، إلى جانب وضع قواعد للبيع والشراء في مجال الصحة لمنع الاحتكار.

 

 

 

[1] بعد علاج سمير صبري على نفقة الدولة.. جدل مرض الفقراء والمشاهير يتجدد بمصر/ الجزيرة نت ــ  05 مارس 2022م

[2] الصحفي محمد سعد خطاب يكتب: تبرعوا للملونير سمير صبري!/  تويتر ــ  26 فبراير 2022م.

[3] جدل في مصر بشأن تحمّل تكلفة إقامة ونقل السياح الأوكرانيين/ الجزيرة نت ــ  الأحد 06 مارس 2022م

[4] المصري المصاب في أوكرانيا: السفارة في بولندا تصر على إجلائي قبل أن أتعافى وترفض تحمل المزيد من تكلفة إقامتي/ مدى مصر ــ 05 مارس 2022م 

[5] العلاج على نفقة الدولة .. نشأته وما آل إليه / المبادرة المصرية  ـ  16 ديسمبر 2010م

[6] المرجع السابق

[7] عبد الله الصبيحي/ «علاج الغلابة».. وزارة الصحة تصدر 3 ملايين قرار علاج على نفقة الدولة خلال 2021/ بوابة الأهرام ــ 30 ديسمبر 2021م

[8] بالمستندات..المال السايب في العلاج على نفقة الدولة/ شبكة رصد ــ الإثنين، 5 نوفمبر 2012م//ميرا إبراهيم/ “فساد مالي وإداري”.. “صحة النواب” تُهاجم منظومة العلاج على نفقة الدولة/ مصراوي ــ الإثنين 15 أبريل 2019م

[9]  غلابة مصر… تفاصيل أزمة العلاج على نفقة الدولة/ العربي الجديد ــ 24 مارس 2017

[10] صلاح الغزالي حرب/ خرافة العلاج على نفقة الدولة/ المصري اليوم ــ الإثنين 18 فبراير 2019م

[11] صلاح الغزالي حرب/ عن بطاقة التموين والعلاج على نفقة الدولة.. أرجو الانتباه/ المصري اليوم ــ الثلاثاء 04 يناير  2022م

[12] 24.3 مليار جنيه مستهدفة من جيوب المصريين لتمويل “التأمين الصحي الشامل”/ العربي الجديد ــ 11 مايو 2021

[13] إبراهيم الطيب/ مقترح بتقديم العلاج على نفقة الدولة بالخارج ضمن منظومة «التأمين الصحي الشامل»/ المصري اليوم ــالإثنين 07 فبراير 2022م

 

‫شاهد أيضًا‬

بعد زيارة وزير الخارجية المصري… هل تطبع مصر علاقاتها مع سوريا وتركيا؟

استهل وزير الخارجية المصري سامح شكري جولته لسوريا وتركيا، في 27 فبراير 2023، بزيارة لدمشق،…