المؤسسة العسكرية هي الفاعل الأهم في جهاز الدولة المصرية، بل يمكن القول إنها هي الدولة منذ انقلاب الضباط في 1952، فخلال كل هذه السنوات كان العسكريون هم الحاكم الفعلي في البلاد، يحكمون من مواقعهم في المؤسسة العسكرية، ومن خلال مناصبهم في جهاز الدولة البيروقراطي، ومن خلال العسكري القابع في قصر الرئاسة.
هذا الدور الكبير الذي تضطلع به المؤسسة العسكرية طوال هذه السنوات، ليس في السياسة فقط وإنما في الاقتصاد أيضاً، هو ما دفع بالكثيرين للاهتمام بمتابعة نشاطاتها. ومع الدور الفاعل الذي لعبته المؤسسة العسكرية خلال ثورة يناير وما تلاها وصولاً للحظة 3 يوليو 2013، تضاعف من هذا الاهتمام.
فما حدث في الحقيقة أن الفترة (من يناير 2011، ويوليو 2013) كشفت عن الدور المركزي الذي تلعبه المؤسسة العسكرية في رسم واقع البلاد ومستقبلها، على الأقل لدى من لم يشهد التفاعلات التي كانت المؤسسة العسكرية طرف أساسي فيها خلال فترتي الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات. وقد نجم عن هذا أن الاهتمام بالمؤسسة العسكرية وشبكة علاقاتها مع بقية مؤسسات الدولة لم يعد يشغل فقط متخصصي العلاقات المدنية العسكرية، إنما بات يشغل اهتمام كل من يتابع المشهد لسياسي في مصر.
جزء من هذا الاهتمام بالمؤسسة العسكرية وأدوارها تولدت عنه هذه السطور، التي تحاول الوقوف على الخطوط العريضة للسياسات التي تتبعها القيادة السياسية في التعامل مع المؤسسة العسكرية. هي محاولة للإجابة على تساؤل: كيف ينظر السيسي للمؤسسة العسكرية؟ وكيف يتعامل معها؟
أهمية التقرير تنبع من محاولته، تسليط الضوء على جانب من العلاقة بين المؤسسة العسكرية ومؤسسة الرئاسة، لعل ذلك يسهم بالاشتباك الايجابي والعلمي مع ما يثار بين فينة وأخرى عن نشوب توترات بين الرئيس والمؤسسة العسكرية، وعن السيناريوهات المتوقعة لتطور هذه التوترات.
المؤسسة العسكرية كشريك:
من ناحية، يبدو السيسي كأنه ينظر للمؤسسة العسكرية باعتبارها شريك أساسي في السلطة: فهو منذ البدايات الأولى لسيطرته عمل على تصدير هذه الصورة؛ فقد قدم نفسه للجمهور، إبان ترشحه للرئاسة، كرجل المؤسسة العسكرية للحكم وليس حاكمًا بخلفية عسكرية، فهو أعلن نيته بالترشح بعد إخطار القوات المسلحة[1]، كما أنه أعلن ترشحه مرتدياً الزي العسكري العملياتي كأنه مفوض بمهمة عسكرية لحكم مصر من قبل الجيش[2]، وبعدها كان دائم الحرص في خطاباته على التأكيد على عملية الشراكة مع المؤسسة العسكرية، ونذكر في هذا السياق تصريحه الشهير عن جاهزية الجيش للانتشار في كامل البلاد خلال 6 ساعات فقط إذا ظهر أية تهديد للنظام القائم[3]، إضافة للحضور الكثيف للعسكريين في جهاز الدولة البيروقراطي، وفي إدارة وتنفيذ المشروعات الانشائية الكبيرة التي يدشنها النظام، وخلال كل الفاعليات التي تنظمها الرئاسة.
وهناك الصلاحيات والسلطات غير المسبوقة التي بات يتمتع بها العسكريون بموجب التعديلات الدستورية التي أقرت في 20-22 أبريل؛ والتي تمنح الجيش بعد تعديل المادة 200، مهام “صون الدستور والديموقراطية والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد”، ما يعني انفراد الجيش بتحديد ما يعد خرقاً للدستور، وتحديد ما يمثل تهديداً لمقومات الدولة الأساسية، وما يتهدد مدنيتها ومكتسبات الشعب وحقوق المواطنين، فالمؤسسة باتت فعلياً هي رأس الدولة والرقيبة عليها وعلى المجتمع، وتعديل المادة 204 والتي تمنح القضاء العسكري الحق في محاكمة أي مواطن في حال اعتداءه على أياً من «المنشآت التي تتولى حمايتها» قوات الجيش، حتى وإن كانت أحد منافذ بيع السلع التابعة للجيش! وأخيراً المادة 243 والتي تجعل تعيين وزيراً للدفاع مرهون بموافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة[4].
المؤسسة العسكرية كغريم محتمل:
في المقابل، بدا السيسي وكأنه ينظر للقيادات العليا للجيش باعتبارهم أحد حلفائه خلال مرحلة الاطاحة بالرئيس مرسي، وبالتالي من المهم تحييدهم لاحقاً، وإخراجهم من المشهد السياسي، مثلما تم تحييد باقي مكونات مشهد الثالث من يوليو 2013، ويبدو أن هذا ما قام به النظام بالفعل، (1) في الفترة من 2013 وحتى 2019، قام السيسي بإخراج 36 قائد عسكري من المجلس العسكري؛ حتى يكون متفرداً بالقرار داخل الجيش[5]، علاوة على ما حدث مع كل من سامي عنان وأحمد شفيق والعقيد محمد قنصوه وفريد حجازي، والقائمة تطول من العسكريين الذين استبعدوا خلال الفترة الماضية[6]. (2) خلال 15 شهراً فقط، في الفترة الممتدّة من أكتوبر 2017 حتى ديسمبر 2018، جرى إقصاء مفاجئ لكل من محمود حجازي رئيس الأركان، واللواء خالد فوزي مدير المخابرات العامة، ووزير الدفاع صدقي صبحي، واللواء محمد عرفان جمال الدين مدير جهاز الرقابة الإدارية، ومحمد الشحات مدير المخابرات العسكرية. وخلال الفترة نفسها، جرت عملية إقالة واسعة النطاق لأكثر من مائتين من كبار قيادات المخابرات العامة، وذلك بصورة غير متوقّعة من دون تقديم أي مبرّر للرأي العام[7]. (3) القانون الذي أقره البرلمان في 16 يوليو 2018، “قانون معاملة بعض كبار قادة القوات المسلحة[8]“، والذي تنص مادته الأولى على حق الرئيس في استدعاء “الضباط من كبار قادة القوات المسلحة إلى الخدمة العسكرية مدى حياتهم، حتى لو كانوا قد استقالوا من مناصبهم العسكرية وانضموا من جديد إلى القوة العاملة المدنية”. لا يُحدّد القانون رتبة عسكرية دنيا، ما يُتيح للرئيس أن يختار، كما يحلو له، الضباط الذين ستُطبَّق عليهم القانون. وهذا يحول فعلياً دون تمكُّن المنافسين المحتملين في صفوف كبار الضباط العسكريين من الترشح للرئاسة وتحدّي عبد الفتاح السيسي، فالقانون المصري يمنع العسكريين في الخدمة الفعلية من تسلم مناصب سياسية[9].
تحالف الغرماء:
يمكن القول، أن السيسي حرص على إتباع الاستراتيجيتين معاً؛ فهو من جهة حريص على تقديم المؤسسة العسكرية للرأي العام باعتبارها شريك أساسي وحليف رئيسي للنظام القائم، ومنح المؤسسة كل الصلاحيات التي تجعلها المؤسسة الأولى في جهاز الدولة، والرقم الأكبر في مع معادلة الحكم في مصر، حامية الدستور والديمقراطية والمواطن وحقوق الإنسان. وهو من جهة أخرى حريص على ألا تنتقل هذه الصلاحيات والامتيازات التي تتمتع به المؤسسة إلى أياً من قياداتها، فهي امتيازات للمؤسسة وليست للعسكريين أنفسهم. يحقق ذلك من خلال عدة آليات:
الآلية الأولى: آلية التدوير السريع والمستمر للنخبة العسكرية، لعدم السماح لأية قيادة عسكرية بأن تستمر في منصبها لفترة طويلة. فهو على غرار السادات[10]، يدير لعبة “لعبة الكراسي المتحركة” بين قادة الصف الأول للمؤسسة العسكرية، بما يحول دون استفراد قيادة بعينها بموقعها لفترة طويلة؛ بشكل يسمح لها بمراكمة نفوذ قد يدفعها للطموح لصعود درجة أعلى في هيكل السلطة الحاكمة، مع تصفية من لهم طموحات سياسية مقلقة.
الآلية الثانية: تكتيكات فرق تسد بين مكونات المؤسسة والقيادات بها، ومحاولة خلق توازنات بين المؤسسة العسكرية والمؤسسات الأمنية أخرى؛ لذلك فإن الصراع بين الأجهزة الأمنية على الصحافة والإعلام وغيرهما؛ يتم على عين السيسي ورضاه، كجزء من هذه السياسة[11].
الآلية الثالثة: إدماج المؤسسة العسكرية في مشروعه للحكم؛ حتى لا يقود العسكريين أي تحرك ضده، وحتى تصبح القيادة السياسية والمؤسسة العسكرية في مركب واحد في حال تحرك الشارع ضد النظام القائم، من هذه الزاوية، فإن السيسي يدعم تحول المؤسسة العسكرية إلى فاعل اقتصادي ومستثمر أساسي في السوق المصرية، ويعمل على إدماج القيادات العليا للمؤسسة في شبكات المصالح والامتيازات وإغداق الأموال عليهم أثناء الخدمة، أو بعد تركها من خلال المناصب في المؤسسات التجارية أو العامة.
الآلية الرابعة: التنكيل بكل من ينتهج سياسة معارضة له ولنظامه من داخل المؤسسة العسكرية. حيث “قام بالزج بالفريق سامي عنان في السجن الحربي لقيادته جبهة سياسية شملت عسكريين ومدنيين أرادت استبداله عن طريق الانتخابات؛ وقام السيسي أيضاً بالتنكيل بالفريق احمد شفيق قائد القوات الجوية الأسبق بسبب إعلان نية ترشحه في انتخابات 2018 لمنافسته. وهناك أيضاً ضباط في المستويات الوسطى وصغار الضباط لم تأمن تنكيل السيسي، وما حدث مع العقيد أحمد قنصوه دليل على ذلك”[12].
الخاتمة:
بقي أن نشير في هذا السياق إلى ملاحظتين؛ الأولى: أن عبد الفتاح السيسي يعرف أنه لا يمكنه الاستغناء عن دور الجيش في الحفاظ على بقاء نظامه؛ خاصة وأن السيسي قد أسس نظامه وفق منطق التعبئة والحشد[13]، وهو منطق يباين منطق السياسة القائم على الاختلاف والتعدد، فمنطق التعبئة يستلزم وجود الجيش كمؤسسة تقود وتدعم عملية التعبئة، لذلك فالقيادة السياسية في مصر، رغم حذرها من المؤسسة العسكرية، إلا أنها تتشبث بها كقاطرة تجر سياسات النظام الحالي وتجعل تحققها ممكناً، كما تضمن حمايتها ضد الأصوات المعارضة.
الملاحظة الثانية: كون السيسي قادم من جهاز المخابرات العسكرية، أعطاه المعرفة اللازمة بالقيادات العسكرية واختياراتها ورؤاها السياسية؛ بالتالي كان قادراً على التعامل معها، بالتقريب والإقصاء؛ تقريب من يرى في اختياراته دعماً لسلطات الرئيس، واستبعاد من يلمس فيه طموحاً سياسياً أو خطر على سلطة السيسي؛ لكن هذه المعرفة تسعف السيسي في التعامل مع القيادات الحالية للمؤسسة؛ لكنه لا يملك معرفة مماثلة بالقيادات الجديدة الصاعدة داخل المؤسسة، خاصة أنه مع مرور الوقت ستتأقلم المؤسسة العسكرية مع القواعد التي وضعها السيسي وستواصل عملها وفق هذه القواعد لكن بصورة مستقلة عن تدخلات القيادة السياسية. وذلك يقودنا إلى نقطة أخرى وهو أن القيادة السياسية وإن نجحت في دمج القيادات العليا للمؤسسة العسكرية في النظام القائم، فلن يكون ذلك ممكناً بالضرورة مع الأجيال الجديدة الصاعد للمراكز القيادية، ومع الرتب الوسطى والدنيا في المؤسسة والذين يعانون من التداعيات الاقتصادية للسياسات النيوليبرالية التي يتبناها النظام.
[1] CBC مصر (يوتيوب)، الحوار الكامل | للمشير السيسي في أول ظهور تليفزيوني له، تاريخ النشر: 7 مايو 2014، شوهد في: 22 فبراير 2022، الرابط: https://tinyurl.com/ya4cdlrv
[2] سارة تونسي، علي الرجال، مرجع سابق.
[3] يوتيوب، السيسي: الجيش ينتشر في مصر خلال 6 ساعات، تاريخ النشر: 26 سبتمبر 2016، شوهد في: 1 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/y8jwymhj
[4] مدى مصر، التعديلات الدستورية التي ستدعو الهيئة الوطنية للانتخابات الناخبين للاستفتاء عليها، تاريخ النشر: 16 أبريل 2019، تاريخ المطالعة: 1 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/yby43brt
[5] محمود جمال، اتجاهات التغيير داخل المؤسسة العسكرية المصرية ج1 الجزء الأول: محاولات الانقلاب والتمرد العسكري، المعهد المصري للدراسات، تاريخ النشر: 21 يناير 2019، شوهد في: 1 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/y8onc9ll
[6] وسام فؤاد، مدخل لفهم عملية تدوير النخبة السياسية الموالية في مصر، المعهد المصري للدراسات، تاريخ النشر: 3 ديسمبر 2020، تاريخ المطالعة: 1 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/y7vtd9tx
[7] بهي الدين حسن، المؤسسة العسكرية المصرية نحو صراع سياسي جديد، مؤسسة كارنيغي، تاريخ النشر: 9 مايو 2019، شوهد في: 1 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/ydet7gzl
[8] اليوم السابع، ننشر تقرير لجان البرلمان حول قانون معاملة كبار قادة القوات المسلحة، تاريخ النشر: 3 يوليو 2018، شوهد في: 1 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/yd95zk3z
[9] ماجد مندور، حصانة للقوات المسلحة في مصر، مؤسسة كارنيغي، تاريخ النشر: 25 يوليو 2018، تاريخ المطالعة: 1 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/yau7dfsf
[10] روبرت سبرينجبورج، “جمهورية الضباط”.. ما السر وراء نفوذ العسكر في مصر؟، نون بوست، تاريخ النشر: 9 فبراير 2022، الرابط: https://tinyurl.com/y8x8c3nx
[11] بوابة الحرية والعدالة، دراسة إيطالية تناقش تكتيكات السيسي في إدارة العلاقات المدنية العسكرية، مرجع سابق.
[12] محمود جمال، سياسات الهيمنة على قيادات الجيش، المعهد المصري للدراسات، تاريخ النشر: 16 يونيو 2021، شوهد في مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/y7e5rvs6
[13] يستخدم التقرير مفهوم التعبئة بمعنى “الإجراء الذي يحشد من خلاله التجمع، وتتمّ تعبئة الموارد، ويضعها تحت السيطرة الكلية لسببٍ ما، ولدعم مصالح مجموعة اجتماعية من خلال العمل الجماعي”، المصدر: أسماء عبد العزيز، دور التعبئة الرقمية في الحشد للحراك الاجتماعي، مؤمنون بلا حدود، تاريخ النشر: 1 يوليو 2020، شوهد في: 22 فبراير 2022، الرابط: https://tinyurl.com/y8858op8