التداعيات الاقتصادية المحتملة للتعويم الجزئي.. مصر نموذجا

 

 

موجات الغلاء الراهنة تعد الأكثر تأثيرا على الطبقات الاجتماعية التي تضم شريحة واسعة من المصريين تقدر بعشرات الملايين من الفقراء والمهمشين وحتى من الطبقة الوسطى، ويمكن عزو أسباب هذه الموجة من الغلاء إلى عدة أسباب، أبرزها تبني النظام العسكري في مصر سياسيات نيو ليبرالية متوحشة لا تضع اعتبارا للبشر بقدر ما يعنيها تستيف الأرقام التي تبرز قوة الاقتصاد فترتفع معدلات النمو وفق الأرقام الحكومية بينما يرتفع عدد الفقراء في الواقع. وكان آخر هذه الإجراءات قرار البنك المركزي يوم الإثنين 21 مارس 2022، بخفض قيمة الجنيه المصري[[1]]  الأمر الذي عده خبراء ومتخصصون «تعويما جزئيا» يترتب عليه المزيد من الغلاء وارتفاع أسعار جميع السلع وعلى رأسها السلع الغذائية الأساسية؛ لأن مصر تستورد أكثر من 65% من غذائها.

بالطبع هناك أسباب أخرى لموجات الغلاء الحالية أهمها التداعيات السلبية لتفشي جائحة كورونا منذ مارس 2020 ولمدة سنتين وما تلى ذلك من عمليات إغلاق واسعة لمئات الآلاف من الشركات والمصانع والمحال والأنشطة الاقتصادية، ثم جاء الغزو الروسي لأوكرانيا كسبب ثالث أسهم في ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة إلى مستويات مرعبة تركت الطبقات الفقيرة والمتوسطة تعاني من نزيف مستمر لا يتوقف ويفضي فعليا إلى هبوط عشرات الملايين من المصرين تحت خط الفقر؛ حيث تجاوزت نسبة الفقراء حاليا في مصر بعيدا عن الأرقام الرسمية الملعوب فيها أكثر من 75% من المصريين. هذه المعطيات تركت جراحا عميقة  على المستويين الاقتصادي والاجتماعي على نحو ينذر بحدوث انفجار اجتماعي واسع رفضا لهذه الأوضاع الكارثية وغير المسبوقة، رغم إقرار الحكومة حزمة تحفيزات  مالية طفيفة بهدف الحد من خطورة التدهور المالي والاقتصادي.

فما التداعيات الاقتصادية المحتملة للغلاء؟ وما تأثيرها على الشرائح الاجتماعية الأقل دخلا؟ وهل تكفي حزمة التحفيز والدعم الحكومي لمواجهة صحيحة للأزمة؟ أم تؤدي تداعيات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية إلى انفجار اجتماعي ضد هذه الأوضاع المتدهورة بما يفضي إلى زعزعة استقرار النظام وصولا إلى الإطاحة به؟

في هذه الورقة نرصد أبرز التداعيات الاقتصادية  للغلاء وارتفاع الأسعار ونحاول الإجابة على الأسئلة الملحة بهذا الشأن.

حزمة تحفيزات حكومية

وفي محاولة لتخفيف حدة الأزمة قرر النظام  تقديم حزمة الحوافز للبدء بالعمل بها ابتداء من إبريل بدلا من يوليو 2022،  تتضمن الحزمة ــ يدعي النظام أنها 130 مليار جنيه ــ  تحسينا طفيفا للأجور والمعاشات وبعض برامج الحماية الاجتماعية؛ حيث شملت صرف علاوة دورية للمخاطبين بقانون الخدمة المدنية بنسبة 8٪ من الأجر الوظيفي، بدلًا من 7٪ كما كان مُقررًا بمشروع الموازنة الجديد، وصرف علاوة خاصة لغير المخاطبين بالخدمة المدنية بنسبة 15٪ من الأجر الأساسي، بدلًا من 13٪، على أن يكون الحد الأدنى للعلاوتين 100 جنيه شهريًا، وهو ما يُضيف 36 مليار جنيه على المخصصات المالية المقررة للأجور فى مشروع الموازنة المُقدرة بـ 400 مليار جنيه. فيما استقرت الحوافز الإضافية الشهرية للموظفين المخاطبين بأحكام قانون الخدمة المدنية والعاملين غير المخاطبين به، بفئات مالية مقطوعة تتراوح ما بين 175 جنيهًا و400 جنيه تبعًا للدرجات الوظيفية، وهي نفس الحوافز بمشروع الموازنة الجديد دون أي زيادة، والتي تم إقرارها في يناير الماضي. كما رفعت «المالية» حد الإعفاء الضريبي من 24 ألف جنيه إلى 30 ألف جنيه وذلك بزيادة قدرها 25٪. ولشبكات الحماية الاجتماعية، أعلنت وزارة المالية تدبير 2.7 مليار جنيه لضم نحو 450 ألف أسرة لقوائم المستفيدين من برنامج «تكافل وكرامة» ليزيد عدد المستفيدين بنسبة 12٪، بينما ستزيد حصة كل أسرة من المخصصات المالية، فقط بنسبة 1.5٪ ما قيمته 80 جنيهًا. ولم تشهد مخصصات برامج «تكافل وكرامة» أي زيادة خلال موازنة العام المالي الجاري، مقارنة بالعام المالي السابق، إذ ظلت المُخصصات عند مستوى 20 مليار جنيه سنويًا لإجمالي 3.8 مليون أسرة مستفيدة، كان نصيبها سنويًا 5260 جنيه للأسرة.[[2]]

كما أرجأ النظام تأجيل بعض القوانين في محاولة لامتصاص غضب الشارع وتهدئته، وقد طلبت الحكومة من البرلمان إرجاء مناقشات تشمل تعديلات قوانين: الإيجارات القديمة لأغراض السكن، والأحوال الشخصية (الأسرة)، والإدارة المحلية، والمرور، على أن يتم الاكتفاء في دور الانعقاد الثاني/الحالي بـ”تمرير تعديلات قوانين الضريبة على الدخل، في ما يخص ضريبة التصرفات العقارية، والتأمين الموحد والعمل، بالإضافة إلى مشاريع ربط الموازنة العامة للدولة عن العام المالي 2022-2023″.[[3]]

وتبقى هذه  الحزمة التحفيزية طفيفة قياسا إلى حجم التضخم وارتفاع الأسعار، وبالتالي فإن تأثيرها سيكون محدودا في الحد من خطورة الأوضاع؛ الأمر الذي يتعين معه جملة من الإجراءات الأخرى والتوقف عن تقليص مخصصات الدعم وهي الإجراءات التي يبدو أن نظام السيسي غير مستعد لها بدليل أنه تم حذف ملايين المصريين الذين تتجاوز دخولهم نحو 9600 جنيه من الدعم، رغم أن هذا الرقم يجعل صاحبه ضمن قائمة الفقراء المستحقين للدعم قياسا لأسعار الإيجارات والسلع والخدمات الحكومية والصحية والتعليمية والدروس الخصوصية وأسعار الملابس والأجهزة التي ارتفعت إلى مستويات غير مسبوقة.

الغلاء المسعور

وفقا لاتحاد الغرف التجارية المصري، ارتفع متوسط أسعار اللحوم البلدية من 120 جنيها إلى أكثر من 170 جنيها، كما وصل سعر كيلو الدجاج إلى نحو 45 جنيها بعد أن كان 30 جنيها بينما ارتفع سعر كيلو البانيه من 60 جنيها إلى أكثر من 90 جنيها، ووصل سعر زجاجة زيت القلي بجودة متوسطة إلى 31 جنيها، بينما وصل متوسط سعر زيت الطهي والسمن الصناعي إلى نحو 40 جنيها. ووصل سعر البيضة الواحدة لأكثر من جنيهن ونصف، كما ارتفع سعر كيلو السكر- الحُر غير المدعوم – ليصل إلى 15 جنيها، بينما زاد سعر الأرز بنحو 5 جنيهات مصرية ليصل سعر الكيلو الواحد إلى 15 جنيها مصريا، وهي أسعار غير مسبوقة، قد تعود بشكل عام إلى أزمة في سلاسل التوريد والإنتاج، وارتفاع أسعار التجزئة، وتكلفة الشحن والتخزين وغيرها.[[4]]  كما ارتفعت أسعار جميع الأجهزة المنزلية والإلكترونية والسيارات والدراجات البخارية والملابس المستوردة، ومن أبرز القطاعات التي تأثرت أيضا قطاع الدواء؛  ووفقًا للمحللين، ستتأثر القطاعات بشكل متفاوت جراء خفض قيمة العملة المحلية ورفع سعر الفائدة. وجاء قطاع تصنيع الأدوية في مقدمة القطاعات المتأثرة سلبًا نظرًا لأن نحو 90% من المواد الفعالة المُستخدمة في إنتاج الأدوية مستوردة، وبالتالي تشهد تأثرًا مزدوجًا، من ناحية ارتفاع أسعارها عالميًا، ومن ناحية أخرى انخفاض قيمة العملة المحلية، لذا يُتوقع أن ترتفع أسعار الأدوية خلال الأشهر القادمة.[[5]]

هذه الارتفاع غير المسبوق في أسعار السلع مرشح للزيادة من جديد في أعقاب تقدم الحكومة بطلب إلى صندوق النقد الدولي من أجل قرض جديد هو الرابع خلال السنوات الست الماضية منذ الاتفاق الأول في نوفمبر 2016م.[[6]] حيث تلقى النظام نحو 20 مليار دولار من الصندوق حتى الآن. كما يتجه النظام نحو رفع أسعار الوقود بنسبة تصل إلى نحو 10% بسبب ارتفاع أسعار النفط إلى ما فوق الـ140 دولارا،  وبالتالي فإن اسعار جميع السلع مرشحة للزيادة في اعقاب زيادة أسعار الوقود المرتقبة.  وقابلت الحكومة ذلك بافتعال الأزمات مع عدد من التجار وتحميلهم المسئولية عن ارتفاع الأسعار ومصادرة بعض المخازن وعرضها بأسعار مخفضة أمام الجمهور؛  وهو السلوك غير القانوني من جانب الحكومة يندرج تحت دائرة “البلطجة” تهربا من المسئولية والفشل في إدارة موارد البلاد.

التضخم والركود

من التداعيات الاقتصادية للقرار أيضا زيادة معدلات التضخم؛ بسبب تراجع القوة الشرائية للمستهلكين لتراجع قيمة العملة المحلية “الجنيه”، وهو ما سوف يؤدي إلى ركود حاد بالأسواق بدت مؤشراته سريعا في جميع القطاعات. وقد صرَّح تجار لوسائل إعلام محلية أن انخفاض سعر الجنيه بنحو 17% أدى إلى عزوف المصانع والموردين عن طرح بضاعتهم في الأسواق، انتظارًا لثبات سعر الصرف، وتمكنهم من تسعير سلعهم بشكل يتناسب مع ظروف السوق الجديدة. وطالت اضطرابات الأسواق سلعًا متعددة، منها السيارات والأجهزة الإلكترونية والمنزلية، وكذلك القمح والأعلاف والأسمنت. ويتوقع رئيس شعبة الأجهزة الكهربائية والمنزلية، أشرف هلال، أن يؤدي انخفاض قيمة الجنيه إلى كارثة للسوق، مفسرا ذلك بان ارتفاع سعر الدولار دفع ببعض المصانع لوقف توريداتها للموزعين والتجار، وهو ما أدى إلى خلق اختناقات في بعض السلع بالأسواق المحلية، ما انتهى برفع أسعار تلك السلع، قابلها عزوف المواطنين عن الشراء.[[7]]

هذه الأوضاع المضطربة تتسبب في مشاكل كبرى للمستهلكين والتجار على حد سواء؛ فالمستهلك غير قادر على الشراء لقلة النقود التي بحوزته من جهة وتراجع قيمتها الشرائية من جهة ثانية، والمصنعون و التجار يتعرضون لخسائر يومية في ظل ركود الأسواق وتراجع معدلات الشراء اليومية في ظل فاتورة التكاليف الملزمين بها فيما يتعلق بأجور ومرتبات العاملين والموظفين لديهم أو ارتفاع فاتورة الاستيراد والخامات الوسيطة التي تدخل في الصناعة.

حالة الركود أصابت السوق بعدوى قاتلة؛ وهو ما دفع رجال أعمال إلى التقدم بحزمة مطالب للحكومة من أجل إنقاد المصانع والأسواق المصرية من تداعيات هذا الانخفاض المفاجئ في قيمة الجنيه؛ وتزايد الآثار السلبية للحرب الروسية في أوكرانيا، على حركة السياحة والواردات والصادرات المحلية. وتقدمت جمعية رجال الأعمال يوم الثلاثاء 22 مارس 2022م،  بمذكرة إلى مجلس الوزراء من أجل تأجيل مستحقات الشركات الحكومية الخاصة بالغاز والكهرباء والمياه، وتثبت سعر البيع لحين انتهاء الأزمة، بدلا من رفعها خلال الفترة المقبلة، كما تخطط الحكومة. و أشارت المذكرة إلى تراجع في قدرة الشركات على توفير مستلزمات الإنتاج، مع صعوبة استيرادها من الخارج، مؤكدة ضرورة تعطيل قرار البنك المركزي الذي صدر في فبراير الماضي “2022”، الخاص بفتح الاعتمادات المالية، وعودة العمل بنظام المستندات القديم، لمدة 6 أشهر على الأقل. وطلب رجال الأعمال، أن تسمح البنوك بمد آجال الاعتمادات وفترة سداد الكمبيالات، محذرين من دخول الاقتصاد في حالة من التضخم والركود الذي قد يستمر لسنوات. وشددت الجمعية على ضرورة إعادة صياغة التعاقدات الحالية نظرا للظروف الطارئة، ومنح المتعاملين الحق في تعديل سعر التعاقد، وفقا لحالة التضخم المترتبة على خفض قيمة الجنيه، والظروف الدولية السائدة. وتلقى مجلس الوزراء طلبات مماثلة من اتحاد مقاولي التشييد والبناء، بتأجيل موعد تسليم مشروعات البنية التحية التي ينفذونها لصالح الجهات الحكومية، في ضوء ارتفاع أسعار السلع واضطراب الشحن، بسبب الحرب، ومراجعة أسعار التعاقدات الحالية، في ضوء تلك المتغيرات.[[8]]

الدولرة

تراجع قيمة الجنيه وانخفاضه خلال السنوات الماضية من 8 جنيهات إلى نحو 18.5 حاليا أفقد المواطنين الثقة في العملة المحلية، لأن التعويم الأول في 2016 أدى إلى تآكل قيمة المدخرات بذات القيمة التي تراجع بها الجنيه، نحو 60%، هذه الخسارة الضخمة في المدخرات بالجنيه دفعت المصريين إلى الحذر والتحوط فراحوا يدخرون أموالهم في الذهب أو الأراضي والعقارات أو الدولار، وهو ما أدى إلى انتشار ظاهرة “الدولرة” وتعني الادخار بالدولار بدلا من الجنيه. أسهم في تعزيز الدولرة سياسات النظام نفسه؛ فقد شن حربا على العقارات والمباني وشرع في أكبر حملة هدم بدعوى أن هذه المنازل بنيت بالمخالفة للقانون وبدون ترخيص رغم وصول جميع الخدمات الحكومية إليها من مياه وكهرباء وغيرها، ومع تجريم البناء على الأراضي الزراعية وتحريم البناء بشكل كامل منذ سنوات، شرع المصريون في الادخار في الذهب والدولار، وجاءت تصريحات وزير التموين مؤخرا حول دمغة الذهب الإلكترونية الجديدة وعدم التعامل مع الذهب غير المدموغ بالطريقة الجديدة ليدفع المصريين نحو اكتناز الدولار والادخار به بدلا من الجنيه والعقارات والذهب لما يشوبها من مخاطر محتملة. ورغم رفع قيمة الفائدة بنسبة 1% وطرح شهادات استثمار بفائدة نحو 18% لجذب المصريين لوضع مدخراتهم في البنوك إلا أن الكثيرين باتوا فاقدي الثقة في الحكومة وسياستها.

السوق السوداء

انتشار ظاهرة الدولرة (اكتناز الدولار) بين المصريين، أدى تلقائيا إلى زيادة الطلب على الدولار، وبالتالي عودة السوق السوداء مرة أخرى؛  ورغم وجود طفرة في دخل البلاد من العملة الصعبة، من تحويلات المصريين العاملين في الخارج، إذ زادت عن 31 مليار دولار العام الماضي، وارتفاع معدل الصادرات المصرية للسلع غير النفطية، وعوائد قناة السويس، وتراجع الواردات، إلا أن فجوة العجز في الميزان التجاري تتسع بشدة حاليا، مع الارتفاع الشديد في قيمة المنتجات البترولية، وجميع الواردات غير النفطية. ويتوقع خبراء أن يزيد العجز بين الصادرات والواردات من 40 مليار دولار في المتوسط سنوياً إلى نحو 60 مليار دولار، مدفوعا بزيادة أسعار الواردات، وتراجع عوائد السياحة وارتفاع تكاليف الصادرات المصرية، وأقساط فوائد الدين العام، واحتمال تراجع تحويلات المصريين في الخارج، الذين ستتأثر دخولهم بسبب زيادة أعباء تكاليف المعيشة، أسوة بمواطني الدول التي يعملون فيها. وتسيطر البنوك المحلية، عبر أذرعها المصرفية التي أقامتها، على مدار السنوات الخمس الماضية، على سوق تجارة العملات الأجنبية، إلا أنها تكتفي بشراء العملة، ولا توفرها لمن يرغب في الشراء. هذه الضغوط المالية المتسارعة التي تشهدها البلاد، بفعل تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية ومخلّفات جائحة كورونا على مدار العامين الماضيين، وسياسة الإنفاق الضخمة على مشروعات إنشائية كبرى  بلا جدوى اقتصادية، تعيد أزمة التمويل إلى الواجهة من جديد، لتواجه قطاعات واسعة من المستثمرين صعوبات في الحصول على النقد الأجنبي لإتمام صفقات الاستيراد، وبالتالي يزداد الطلب على الدولار دون قدرة البنوك على توفيره، هو ما يؤدي حتما إلى عودة السوق السوداء.[[9]]

وأسهمت الحكومة في عودة السوق السوداء وذلك بفرض قواعد الاستيراد السلعي التي حددها البنك المركزي وتلزم التجار بسداد قيمة الواردات بالعملة الصعبة بنسبة 100% من قيمة الصفقة ووضعها على قوائم انتظار في البنك المركزي ليحدد أولوية الواردات وفقا للاحتياجات التي تضعها الحكومة، وهو ما أدى تلقائيا إلى عودة السوق السوداء في مناطق متفرقة لا سيما بين التجار الخاضعين لقواعد الاستيراد السلعي. ومع خشية التجار من توقّف أعمالهم، وهيمنة الشركات الكبرى على سوق الواردات، شرعوا في شراء العملات الأجنبية من السماسرة في ظل تنافس وصراع حاد بين كبار رجال الأعمال وأصحاب المصانع والشركات العقارية وتجار السلع الغذائية والملابس والأجهزة الإلكترونية لتدبير ما يلزمهم من الدولار.

وكانت الحكومة قد شنت حملات موسعة على شركات الصرافة في 2017، ولاحقت تجار العملة بقانون الطوارئ وأحالت العشرات منهم إلى المحاكمة الجنائية، بتهمة الإضرار بالأمن القومي ودعم الإرهاب. وأسفرت الملاحقات عن غلق نحو 53 شركة من بين 110 شركات كانت تعمل، في ظل قانون ينظم عمل شركات الصرافة. وتم تعديل قانون البنك المركزي، الذي رفع قيمة رأسمال شركة الصرافة من 5 ملايين إلى 25 مليون جنيه، على أن توضع كوديعة في البنك المركزي، بما أدى إلى تخارج عشرات الشركات الأخرى، مع إنشاء بنكي مصر والأهلي، أكبر بنكين حكوميين، شركتي صرافة سيطرت، مع فروع البنوك الأخرى، على علميات الشراء والبيع للعملات الصعبة.

زيادة حجم الديون

خفض قيمة الجنيه ثبت أنه أحد شروط صندوق النقد من أجل حصول النظام على قرض جديد هو الرابع من نوعه منذ 2016،  وسط تقديرات بأن يتراوح القرض الجديد ما بين 8  إلى 10 مليارات دولار، وبالتالي فإن حجم الدين العام مرشح للزيادة في ظل توسع نظام السيسي في الاقتراض الخارجي والمحلي. والدين العام المصري هو ثاني أكبر دين عام بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي في الدول الناشئة، مع وجود أعلى سعر فائدة حقيقي في العالم.  وتبلغ نسبة الدين العام من الناتج المحلي إلى أكثر من 96% وفقًا لتقديرات البنك الدولي لعام 2021، وذلك بزيادة قدرها 87% عمّا كانت عليه قبل أحداث يوليو/ تموز 2013. وارتفع الدين الخارجي لكي يتجاوز حاليا نحو 140 مليار دولار، بينما كان يصل إلى نحو 43 مليار دولار فقط، بعد أحداث 3 يوليو/ تموز 2013 وتوابعها، وقبل صعود السيسي إلى الحكم بشكل رسمي، كما ارتفعت فوائد الدين وأقساطها في موازنة 2021/2022م، إلى نحو 1.172 تريليون جنيه، رغم أن الإيرادات المستهدفة نحو 1.365 تريليون جنيه، أكثر من 75% منها إيرادات ضريبية تقدر بنحو 983.1 مليار جنيه. كذلك، ارتفع الدين العام الداخلي حتى منتصف 2021م، بنسبة 200% تقريبًا، ليصل إلى 4502 مليار جنيه، بعد أن كان 1527 مليار جنيه عام 2013م.

خلاصة الأمر، موجات الغلاء وارتفاع الأسعار على النحو الجاري حاليا تحمل كثيرا من التداعيات السلبية الشديدة على المستوى الاقتصادي؛ أبرزها ارتفاع معدلات التضخم وتراجع القوة الشرائية لعشرات الملايين من المصريين، وركود الأسواق وتفاقم الديون؛ واكتناز المواطنين للدولار (الدولرة)، وظهور السوق السوداء للدولار من جديد؛ الأمر الذي يبرهن على فشل النظام في إدارة موارد الدولة، فمصر حاليا تعتمد على القروض والمساعدات وزيادة الرسوم والضرائب في ظل تراجع الإنتاج وضعف موارد الدولة.

وفي محاولة للحد من خطورة هذه الأوضاع أقر النظام حزمة تحفيز مالي طفيفة مقارنة بحجم التضخم وارتفاع الأسعار، كما لجأ النظام إلى  دول الخليج من أجل الحصول على مزيد من الدعم والمساندة؛ فوضعت المملكة العربية السعودية 5 مليارات دولار كوديعة في البنك المركزي المصري، كما أعلنت قطر استثمار نحو 5 مليارات أخرى في السوق المصري لم يكشف عن تفاصيل هذه الاستثمارات بعد لكن الهدف منها هو دعم نظام الجنرال عبدالفتاح السيسي، لكي يحافظ على القيمة الحالية للجنيه خوفا من انهيار قيمته أمام الدولار وباقي العملات الأخرى، أما الإمارات فقد وضعت يدها على عدد من الحصص الحكومية في عدد من المشروعات الناجحة مقابل ملياري دولار. في الوقت الذي لجأ فيه النظام نحو قرض جديد رابع من صندوق النقد الدولي بعدما حصل على أكثر من 20 مليارا خلال السنوات الست الماضية. ودون إصلاح العيوب الهيكلية في الاقتصاد المصري والتركيز فقط على المعالجات المالية فإن الوضع سيبقى كما هو وستبقى مصر تعاني وعملتها ستزداد ضعفا وهشاشة بما يندر بارتفاع معدلات التضخم والفقر وهي عوامل قوية لتفكك المجتمع وانهياره ما لم يتم تدارك الأمر.

 

[1][1] بيسان كساب/ انخفاض كبير في سعر الجنيه بعد رفع «المركزي» للفائدة/ مدى مصر ــ الإثنين 21 مارس 2022/// العملة المصرية تواصل الهبوط والدولار إلى 18.27 جنيهاً/ العربي الجديد ــ الإثنين 21 مارس 2022

[2] حزمة مساعدة محدودة من «المالية» من أول أبريل/ مدى مصر ــ الإثنين 21 مارس 2022م// إيمان عراقى/ توجيهات رئاسية بتحسين الأجور مع راتب أبريل.. 130 مليار جنيه للتعامل مع التحديات الاقتصادية العالمية.. زيادة العلاوة الدورية للعاملين إلى 8٪ .. و15٪ لغير المخاطبين بالخدمة المدنية/ الأهرام اليومي ــ الثلاثاء 19 من شعبان 1443 هــ 22 مارس 2022 السنة 146 العدد 49414

[3] مصر: تأجيل مناقشة بعض القوانين لتهدئة الشارع إثر تعويم الجنيه/ العربي الجديد ــ الثلاثاء 22 مارس 2022

[4] عطية نبيل/ سعر الجنيه المصري: هل تنجح إجراءات الحكومة في الحد من التضخم وارتفاع الأسعار؟/ بي بي سي عربي ــ 21 مارس 2022م

[5] سارة سيف الدين/ تقرير: الجنيه سيستقر نسبيًا لمدة عام ونصف.. و«الأدوية» أكثر القطاعات تضررًا من تراجع قيمته/ مدى مصر ــ الأربعاء 23 مارس 2022م

[6] رسميًا.. مصر تطلب «دعم» صندوق النقد/ مدى مصر ــ الأربعاء 23 مارس 2022

[7] نادر سيف الدين/بعد تراجع قيمة الجنيه.. ركود في أسواق بعض السلع/مدى مصر ــ الثلاثاء 22 مارس 2022م

[8] عادل صبري/ رجال الأعمال المصريون يناشدون لإنقاذ المصانع والأسواق من الغلاء/ العربي الجديد ــ الأربعاء 23 مارس 2022

[9] دولار السوق السوداء يعود في مصر/ العربي الجديد ــ الإثنين 21 مارس 2022م

 

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022