قد يمثل توجه الإدارة الأمريكية نحو إبرام صفقة طائرات (إف 15) للقاهرة نقلة نوعية في العلاقات المصرية الأمريكية، لا سيما وأن إعلان واشنطن عن الصفقة يأتي بعد عقود من الرفض الأمريكي، كما تأتي في ظل انتقادات أمريكية حادة لسجل نظام الجنرال عبدالفتاح السيسي المتخم بالانتهاكات في الملف الحقوقي، لكن الأهم في الصفقة أنها تعبر عن تغيُّر في مواقف حكومة الاحتلال الإسرائيلي من النظام في القاهرة في ظل انتقال العلاقات من دائرة السلام البارد قبل ثورة 25 يناير 2011م، إلى السلام الدافئ في أعقاب انقلاب 3 يوليو 2013م، ثم القفز إلى مرحلة التحالف والتعاون الأمني والمخابراتي الوثيق بين البلدين تحت حكم الجنرل عبدالفتاح السيسي؛ لا سيما وأن تل أبيب كانت دوماً أكبر عائق أمام توريد هذه النوعية من الطائرات بعيدة المدى للقاهرة.
الإعلان عن الصفقة جاء على لسان قائد القوات العسكرية في الشرق الأوسط رئيس القيادة المركزية الأمريكية الجنرال فرانك ماكنزي، يوم الثلاثاء 15 مارس 2022، حيث قال في جلسة استماع بالكونجرس، “أعتقد أن لدينا أخباراً جيدة لمصر تتمثل في أن الولايات المتحدة ستزود مصر على الأرجح بطائرات مقاتلة من طراز F-15”. لكنه لم يكشف عن عدد الطائرات المرتقب بيعها للقاهرة أو موعد إتمام الصفقة. لكنه أوضح أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، أن الصفقة الوشيكة للطائرات تأتي بعد عملية طويلة الأمد. وقال إنها “عملية طويلة وصعبة. لقد شعروا أن الأمر استغرق وقتاً طويلاً”. الأمر الذي يشير إلى أن القاهرة سعت لاقتناء هذه النوعية منذ عقود، في أعقاب اتفاق كامب ديفيد في مارس 1979م. وهو الاتفاق الذي دشن مرحلة جديدة من العلاقات بين القاهرة وتل أبيب بعد عقود من العداء منذ إقامة (إسرائيل) في مايو 1948م على أنقاض معظم الأراضي الفلسطينية بعدما تمكنت العصابات الصهيونية من تنفيذ مئات المذابح التي قتلت الآلاف وأبادت عشرات القرى عن بكرة أبيها بدعم واسع من الحكومات الأوروبية.
فما أهمية هذه الصفقة للجانب المصري؟ وما دلالتها في سياق العلاقات المصرية الأمريكية؟ ولماذا وافقت واشنطن عليها في هذا التوقيت؟ وما الدوافع والأسباب التي أدت إلى تغير الموقف الأمريكي؟ ولماذا أبدت الحكومة الإسرائيلية قبولها بالصفقة رغم عرقلتها لسنوات طويلة؟ وهل يمكن أن تغير موازين القوى في المنطقة سواء على الجهة الشرقية مع إسرائيل أو الجهة الجنوبية حيث إثوبيا؟ وما النتائج المحتملة لها في هذا التوقيت وفي ظل سياق عالمي ملتهب بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا؟
تطور العلاقات المصرية الأمريكية
الصفقة تأتي في سياق تعزيز العلاقات المصرية الأمريكية في تناقض صارخ مع تعهدات بايدن عندما انتقد السيسي ووصفه بدكتاتور ترامب المفضل أثناء فترة الترشح للرئاسة، ثم التوقيع على بيان 31 دولة ينتقد انتهاكات حقوق الإنسان في مصر في مجلس حقوق الإنسان الدولي في مارس 2021م، ثم تلاه بيان الخارجية الأمريكية الذي انتقد بشدة هذه الانتهاكات، ثم الإعلان عن تجميد 130 مليون دولار من المساعدات العسكرية ورهنها بتحسين ملف حقوق الإنسان في عدد من القضايا، لكن هذه الصفقة على هذا النحو تجعل من تجميد إدارة بايدن نحو 130 مليون دولار من المساعدات العسكرية مزحة سخيفة لا يتعين منحها حجما أكبر بفضل المكافآت السخية التي قدمتها واشنطن تحت إدارة بايدن للسيسي ونظامه لاعتبارات كثيرة.
- هذه الصفقة هي الثانية خلال شهرين فقط، شرعت إدارة بايدن في يناير 2022، بالإعلان عن صفقتي سلاح ضخمتين لنظام السيسي بقيمة 2.5 مليار دولار، على الرغم من انتقادات الكونجرس الصريحة لسجل مصر في مجال حقوق الإنسان. الصفقة الأولى بقيمة 2.2 مليار دولار نظير طائرات ومعدات خاصة بها، والثانية (لم يوافق عليها الكونجرس) بقيمة 355 مليون دولار لأنظمة رادار الدفاع الجوي.[[1]] وقالت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، الثلاثاء 25 يناير/كانون الثاني 2022، إن وزارة الخارجية وافقت على صفقة محتملة لبيع 12 طائرة من طراز C-130J Super Hercules والمعدات ذات الصلة مقابل 2.2 مليار دولار، وثلاثة رادارات أرضية من طراز SPS-48 ومعدات ذات صلةٍ مقابل 355 مليون دولار.
- في فبراير 2021م، وافقت واشنطن على صفقة صواريخ ومعدات عسكرية لنظام السيسي تقدر بنحو 197 مليون دولار، وفقا لتقرير الواشنطن بوست. وفي سبتمبر 2021، شاركت الولايات المتحدة في مناورات النجم الساطع في سبتمبر 2021م، بمشاركة جيوش 21 دولة، وتعتبر من أكبر التدريبات العسكرية متعددة الجنسيات في العالم. ونشر الجيش المصري مقطع فيديو لجزء من هذه التدريبات المشتركة التي تجري كل سنتين بمصر منذ اتفاقية “كامب ديفيد” سنة 1979م.
- وقّعت الولايات المتحدة الأميركية ومصر في 27 أبريل (2021) مذكرة تفاهم لتسهيل تبادل الدعم اللوجستي العسكري والإمدادات والخدمات، وذكر موقع السفارة الأميركية في القاهرة أن واشنطن تبرم مثل هذه الاتفاقيات مع “الدول الشريكة الرئيسة حول العالم. وتعزز هذه الاتفاقيات ذات المنفعة المتبادلة القدرة على دعم التدريبات وعمليات حفظ السلام وبعثات الدعم الإنساني وجهود الإغاثة في حالات الكوارث في جميع أنحاء العالم. وتُسهّل اتفاقيات ومذكرات التفاهم للاستحواذ والخدمات المتبادلة، التشغيل البيني اللوجستي والتعاون العسكري وجاهزية الوحدات وتعزز عنصر المرونة لقادة العمليات”.[[2]]
- منذ سبتمبر 2021 وحتى مارس 2022، زار قائد القيادة المركزية الأمريكية الفريق أول “كينيث ماكينزي” القاهرة مرتين، حيث التقى والوفد المرافق له رئيس الأركان المصري محمد فريد على هامش متابعة فعاليات “النجم الساطع” بقاعدة محمد نجيب العسكرية. وفي 09 مارس 2022، التقى ماكينزي الفريق أول محمد زكي، وزير الدفاع المصري، بحضور الفريق أحمد خالد قائد القيادة الاستراتيجية والمشرف العام على التصنيع العسكري، وعدد من قادة القوات المسلحة وسفير واشنطن جوناثان كوهين، وفق بيان للجيش المصري آنذاك. وتناول اللقاء “سبل تعزيز علاقات التعاون العسكري”، وسط تبادل وزير الدفاع وماكنيزي التأكيد على أهمية دعم “علاقات الشراكة الاستراتيجية وزيادة التعاون لإرساء دعائم الأمن والاستقرار بالمنطقة”، بحسب البيان ذاته.
القدرات القتالية
تكتسب هذه الصفقة أهميتها لأن نوعية الطائرة الـ(F 15) أكثر تطورا من الطائرة الـ(F 16)، فقد سعت واشنطن إلى مكافأة النظام المصري بعد اعترافه بإسرائيل باتفاق كامب ديفيد في مارس 1979م، وذلك بمنح مصر مساعدات عسكرية سنوية تقدر بنحو 1.3 مليار دولار، لا تزال القاهرة تتسلمها حتى اليوم بما يعني أن الجيش المصري تلقى مساعدات أمريكية تقدر بنحو (56 مليار دولار على مدار نحو 43 سنة)، بخلاف مساعدات اقتصادية كانت تصل إلى نحو 800 مليون دولار، جرى تقليصها إلى 200 مليونا ثم توقفت. لكن المساعدات العسكرية لم تتوقف أبدا نظرا للعلاقات الوثيقة التي تربط قيادات الجيش المصري بالولايات المتحدة الأمريكية التي تحرص باستمرار على ضمان أن يكون ولاء الجيش المصري للمصالح الأمريكية في المنطقة. وفي سياق المكافآت الأمريكية أيضا للنظام المصري في أعقاب كامب ديفيد، زودت واشنطن القاهرة بأكثر من 200 طائرة من الأف 16، كما زودت واشنطن القاهرة بأكثر من ألف دبابة من طراز أبرامز، وبهذه الترسانة من طائرات الأف 16 باتت القاهرة رابع دولة تمتلك هذه الطائرات بعد أمريكا وإسرائيل وتركيا. لكن معظم النسخ المصرية من هذه الطائرة (الأف 16) قديمة ولا تتمتع بذات الإمكانات التي تتوافر في ذات النسخ في الجيش الأمريكي أو الإسرائيلي، وزاد من تراجع أهيمتها أن واشنطن في سياق حفاظها على معادلة تفوق إسرائيل على جيوش المنطقة امتنعت عن تزويد القاهرة بصواريخ جو ــ جو بعيدة المدى، كما رفضت مرارا تزويدها بالطائرة أف 15 الأكثر تطورا من أف 16، لأنها تتميز بأنها قاذفة بمحركين وليس محركاً واحداً مثل الإف 16، وهي أكثر سرعة وأبعد مدى من الإف 16 وتحمل حمولة تقارب ضعف حمولتها، كما أن بسبب حجمها الأكبر، فإن رادارها أبعد مدى وأكثر فاعلية.
الأف 15 مقاتلة ثنائية المحرك، بقدرة تحليق تبلغ 3 آلاف كلم/ساعة، تستطيع حمل حمولة كبيرة من الأسلحة تصل إلى 15 طنا من الأسلحة، و24 صاروخ جو جو وصاروخ جو أرض، وقنابل ذكية موجهة بالليزر والأقمار الصناعية. لها خاصية خلف مدى الرؤية، وقادرة على اختراق الحصون، وبها رادار حديث يجعلها قادرة على اختراق الدفاع الجوي، ومنها أنواع تحمل صواريخ هاربون (Harpoon) المضادة للسفن. قادرة على المهام المتعددة المتنوعة حيث تستطيع القتال والاعتراض الجوي والقصف الإستراتيجي والهجوم الأرضي. تستطيع تدمير البنية التحتية للعدو وهي مقاتلة ممتازة في السيادة الجوية/التفوق الجوي. وتعتبر مقاتلات “إف 15” مكملة وداعمة بالمعارك لـ “إف 35” لأن حمولة الأخيرة لا تتجاوز 3 أطنان رغم أنها الأحدث، ويصعب تصديرها لمصر الوقت الراهن.
ومن أهم ما يميز الأف 15 مداها الطويل في الطيران الذي قد يصل إلى 6 آلاف كم باستخدام خزانات الوقود الإضافية ويمكنها تحقق مهام كثيرة.[[3]] ورغم ما يتردد أن الهدف الرئيس من تزويد مصر بهذه الطائرة هو تأمين البحر الأحمر خاصة مضيق باب المندب الذي قد يشهد تهديدات لحركة الملاحة في قناة السويس، لكن المنطقة تشهد مخاطر وتهديدات من دول الجوار الإقليمي، على الأمن القومي وأبرزها إثيوبيا بإصرارها على استكمال بناء سد النهضة بحجم كبير والتحكم في حصة مصر المائية من النيل.
سر المباركة الإسرائيلية
اللافت في تفاصيل الصفقة هو التغيُّر الكبير في موقف حكومة الاحتلال الإسرائيلي والتي كانت دائما سببا في عرقلة حصول مصر على هذه النوعية من القاذفات الأمريكية المتطورة؛ ذلك أن القبول الإسرائيلي بالصفقة هو الشرط الرئيس لإتمامها؛ فالصفقة لن تتم إلا بشرطين: الأول هو إخطار الكونجرس بها ومباركته لها. والثاني هو ألا تخل الصفقة بالتفوق العسكري النوعي لإسرائيل في المنطقة. وبالتالي فإن الموقف الإسرائيلي هو جوهر إتمام الصفقة؛ وهو الموقف الذي لم يتوقف عند حدود القبول بالصفقة، بل تجاوز ذلك إلى حد المباركة وتشجيع الإدارة الأمريكية على إتمام الصفقة؛ وهو ما يمثل تغيرا جوهريا في العلاقات المصرية الإسرائيلية. «وقد نقل موقع Axios الأمريكي عن مسئولين بارزين بحكومة الاحتلال تأكيدهم أن تل أبيب حثت البيت الأبيض على إتمام الصفقة، في الوقت الذي تحرك فيه اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة للتأثير على الكونجرس من أجل الموافقة على الصفقة لحكومة السيسي».[[4]] تفسير هذا التحول أن تقديرات الموقف داخل الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها الأمنية باتوا مقتنعين أن الأفضل للمصالح الأمريكية والإسرائيلية أن تقتني مصر أسلحة أمريكية بدلا من حيازة أسلحة روسية أو صينية. وأن تعزيز العلاقات بين القاهرة وواشنطن يصب في مصلحة إسرائيل. إضافة إلى ذلك وهو الأهم فإن العلاقات المصرية- الإسرائيلية في عهد السيسي وصلت لمستوى غير مسبوق ولم يكن يمكن تخيله يوماً، فرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو أبلغ برلين بموافقته على بيع غواصات ألمانيا لمصر، والآن في عهد رئيس الوزراء الحالي نفتالي بينيت توافق إسرائيل على صفقة إف 15 مع مصر التي طالما عارضتها.
كما تتزامن الصفقة مع اللقاءات المكثفة التي تضم مسئولين مصريين وعرب بمسئولين صهاينة، حيث شارك رئيس الحكومة الإسرائيلية في قمة ثلاثية بشرم الشيخ المصرية مع كل من السيسي وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد في 22 مارس 2022م[[5]]، كما التقى وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن بخمسة وزراء خارجية بالمنطقة (مصر ـ إسرائيل ـ الإمارات ــ المغرب ــ البحرين) الجمعة 25 مارس 2022م، في قمة النقب بالأراضي المحتلة وهو اللقاء الذي اعتبره فريق من المحللين بأنه تدشين لتحالف عربي إسرائيلي تحتل فيه تل أبيب زعامة التحالف والمنطقة لمواجهة التهديدات المشتركة التي تتمثل في حركات المقاومة والرافضين لمسار التطبيع وهرولة النظم نحو إسرائيل. بخلاف الأدوار الوظيفية التي يقوم بها نظام السيسي لخدمة أجندة واشنطن وتل أبيب والغرب عموما وأبرزها الضغط على فصائل المقاومة من أجل التهدئة مع الاحتلال وعدم تصعيد المقاومة.[[6]]
لغز التوقيت
أما فيما يتعلق بلغز الموافقة الأمريكية على الصفقة في هذا التوقيت رغم الرفض الصارم لسنوات طويلة، فقد يكون الدافع اقتصاديا بحتا؛ لا سيما وأن واشنطن تريد أن تتخلص من أسطولها القديم من هذا الطراز من الطائرات، بعد أن تمكنت مؤخرا من تطوير نسخة جديدة من الأف 15 تدعى F-15 EX، وهو التطوير الذي جرى تمويله من مشتريات السعودية وقطر الضخمة من الأف 15، فقد كانت هذه الطائرة تمتاز بالكفاءة بما يكفي لكي يقرر البنتاغون شراءها لسد الفجوة لديها جراء مشكلات الطائرة إف 35 الشبحية، وشكلت الصفقة عودة للجيش الأمريكي لشراء طائرات الجيل الرابع والنصف غير الشبحية بعد أن قرر التوقف عن ذلك. ويعتقد أن الإف 15 رغم أنها تفتقد للشبحية التي تميز مقاتلة الجيل الخامس إف 35، ولكن الإف 15 في المقابل أسرع وأكثر قدرة على المناورة، ولديها حمولة أسلحة أكبر بما في ذلك حمل صواريخ كبيرة نسبياً بفضل حجمها الأكبر، ورادار قد يكون أطول مدى بفضل حجم الأنف الأكبر.
من جانب آخر، قد يكون السبب هو تعزيز التحركات الأمريكية نحو تشكيل تحالف دولي قوي وموسع ضد روسيا لإجبارها على وقف الحرب على أوكرانيا والانسحاب إلى حدود ما قبل 24 فبراير 2022م. معنى ذلك أن التزامن بين الموافقة الأمريكية رغم الرفض الصارم لعقود مع الغزو الروسي لأوكرانيا يمكن تفسيره بتحركات واشنطن لبناء محاور اصطفاف ضد روسيا أولا ثم الصين لاحقا، وبالتالي استخدام “العصا والجزرة” بمنع مصر من تنويع التسليح مع روسيا، أو حتى للتأثير على علاقات القاهرة وموسكو التجارية. لا سيما وأن صفقة (سو 35) الروسية باتت في مهب الريح في أعقاب الغزة الروسي لأوكرانيا، ولم يعد هناك احتمال لإتمامها؛ وسوف تتعامل واشنطن بشكل صارم مع كل من يصطف إلى جانب روسيا حاليا، وتشهر في وجه الجميع قانون مكافحة أعداء واشنطن من خلال العقوبات، والمعروف اختصارا باسم “كاتسا” (CAATSA). وبالتالي فإن الصفقة تبعث بعدة رسائل تؤكد على المستوى المحلي أن النظام لا يزال يحظى بدعم أمريكي واسع، وعلى المستوى الدولي وخصوصا لأوروبا تبرهن الصفقة على أن واشنطن لا تزال ترى في نظام السيسي حليفا قويا يمكن الوثوق به في التحالف ضد روسيا وكذلك في الحرب على الإرهاب.
ويذهب تفسير ثالث إلى التركيز على جانب مختلف من جوانب الصفقة يتعلق برضوخ النظام المصري للضغوط الأمريكية بشأن تجميد صفقة طائرات SU-35)) الروسية، وكان موقع «ديفنس عربي» المتخصص في شئون التسليح في العالم العربي، قد ذكر في بداية يناير 2022، أن مصر والجزائر وإندونيسيا رفضت إبرام صفقات الطائرات الروسية المقاتلة “سو 35″، وذلك بسبب العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على روسيا مستهدفة صناعة النفط والدفاع والسلع ذات الاستخدام المزدوج والتقنيات الحساسة. وأوضح الموقع أن روسيا طلبت من شركائها المحتملين تمديدا آخر لحل المشكلات الفنية والسياسية التي نشأت نتيجة العقوبات وتوقيف استيراد المكونات الحديثة من الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل وهي مكونات ضرورية لإنتاج نسخة سو 35 التصديرية. وبحسب الموقع فقد أوقفت مصر صفقة توريد 30 مقاتلة من طراز سو-35 ، حتى يتمكن الجانب الروسي من حل المشكلة بالمكونات المستوردة ، على الرغم من إنتاج نحو 12 طائرة لمصر.[[7]] وفي 5 يناير 2022 أفاد موقع “ماكو” الإسرائيلي بتأجيل الصفقة الروسية لمصر عازيا أسباب ذلك إلى مخاوف القاهرة من عقوبات أمريكية حال إتمام الصفقة. وبحسب التقرير فان 12 من المقاتلات التي انتجتها سوخوي لسلاح الجو المصري تم تصويرها في الماضي وهي في ساحة المصنع، مصر كانت طلبت شراء 30 مقاتله من طراز SU-35 واتخذ القرار الاستثنائي بتأجيل او الغاء الصفقة بسبب ضغوطات من الولايات المتحدة والتي تعتبر المورد الرئيسي للاسلحة في مصر.[[8]] وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد هددت القاهرة بفرض عقوبات حال تمت إتمام صفقة الطائرات الروسية بحسب صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية. وفي نوفمبر 2019م، هدد مشرعون أمريكيون بتطبيق قانون كاتسا (CAATSA) على نظام السيسي حال إتمام الصفقة. [[9]] وبالتالي فإن الموافقة الأمريكية على الصفقة في هذا التوقيت يمكن اعتبارها تعويضا للقاهرة عن تجميد صفقة الطائرات الروسية “سو 35”. وقد ألمح الموقع الإلكتروني “بريكينغ ديفينس” breakingdefense الأمريكي المختص بالشؤون العسكرية منتصف مارس 2022، إلى أن “نجاح صفقة بيع طائرات F-15 إلى مصر قد تكون له بعض التأثيرات الجانبية على صفقة 2018، التي أبرمتها القاهرة مع موسكو بقيمة 2 مليار دولار في مقابل الحصول على مقاتلات سوخوي”.[[10]]
التأثير على ميزان القوى
تأتي الصفقة الثانية الأمريكية، وسط تنوع مصري في مقاتلاتها العسكرية، فيما ارتفعت وارداتها من الأسلحة بنسبة 136٪ ما بين 2016 و2020، مقارنة بين العام 2011 و2015، وفق تقرير دولي نشر في 16 مارس/آذار 2021. فمصر “لديها لعديد من الطائرات الحديثة المواكبة لأحدث ما تمتلكه الجيوش، وهي قادرة على الوصول لأبعد مدى، لمجابهة ما يهدد أمن مصر القومي”، وفق حديث قائد القوات الجوية الفريق محمد عباس حلمي”، في 14 أكتوبر/ تشرين أول 2021. وشهدت مصر في الأعوام الماضية، مقاتلات “أف-16″ الأمريكية و”رافال” ، و”ميراج 2000″ الفرنسيتين، والروسية “ميغ-29” بجانب أحاديث إعلامية عن سعي مصري لامتلاك المقاتلات الروسية “سوخوي-35”.[[11]]
ومع انضمام هذه الطائرات، لنحو 55 طائرة رافال اشترتها مصر أو تعاقدت عليها، سيصبح للقاهرة لأول مرة أسطول ذي مغزى من المقاتلات القاذفة ذات المدى البعيد نسبياً، بدلاً من أسطولها من الإف 16 والذي أغلبه محدود المدى. وبالتالي فإن الصفة ستعزز قدرة القاهرة على تنفيذ أي عمليات محتملة ضد إثيوبيا وتحديداً سد النهضة، أما فيما يتعلق بإسرائيل فلن يمثل تغييراً كبيراً في تفوقها الجوي؛ لأن تل أبيب لديها ثاني أكبر أساطيل العالم من الإف 16 ولديها نحو مئة طائرة “إف 15” (كثير منها نسخ قديمة) وأيضاً نحو 30 طائرة إف 35 مرشحة لزيادة كبيرة، ويعد الأسطول الإسرائيلي من الإف 35 من هذه الطائرة من أكثر أساطيل جاهزية من هذا الطراز حول العالم.
وبعيدا عن أي حملة بروباجندا من جانب النظام، فإن الأكثر أهمية على الإطلاق أن السلاح الأمريكي المسموح لمصر باقتنائه لا يهدف سوى حماية المصالح الأمريكية فقط وهو ما صرح به مسئولون أمريكيون مرارا؛ بل إن واشنطن تتحكم في هذه الطائرات على نحو يمنع الجيش المصري من استخدامها ضد أي مصالح أمريكية أو إسرائيلية في المنطقة يبرهن على ذلك:
- أولا، تصريحات ماكنزي، خلال جلسة الاستماع بالكونجرس حول الموقف العسكري في الشرق الأوسط وإفريقيا ، حيث سئل ماكنزي من قِبَل السيناتور تومي توبرفيل (جمهوري) حول صفقات الأسلحة الأمريكية مع مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة التي طلبت من الولايات المتحدة شراء طائرات F-35 الشبحية. فرد ماكنزي لأعضاء مجلس الشيوخ بالتأكيد على أن الولايات المتحدة لا تزال “الشريك المفضل” لتلك البلدان، لكنه أضاف أنهم يجدون العملية المطولة لإقرار هذه الصفقات”محبطة”. مشددا على أن «هذا هو النقد الأساسي لقدرتنا على توفير الأسلحة لأصدقائنا وشركائنا. يستغرق الأمر وقتاً طويلاً للحصول عليها بالفعل». ثم فجر اعترافا مدويا عندما قال: «بالطبع، مع أسلحتنا تأتي قيمنا، لن يكونوا قادرين على فعل أي شيء يريدون بهذه الأسلحة»، في إشارة لقدرة بلاده على التحكم في طريقة تعامل هذه البلدان مع الأسلحة الأمريكية، وعدم استخدامها مطلقا ضد المصالح الأمريكية في المنطقة.[[12]]
- ثانيا، جاء بيان الخارجية الأمريكية تعقيبا على الصفقتين اللتين جرى الإعلان عنها في يناير 2022 للقاهرة مؤكدا على ذات المضامين؛ فالبيان الأمريكي كان صريحا للغاية في التأكيد على أن هاتين الصفتين تدعمان السياسة الخارجية والأمن القومي للولايات المتحدة من جهة، ولن تخل هاتان الصفقتان بالتوازن العسكري القائم في المنطقة من جهة ثانية، ولن يكون لهما أي تأثير سلبي على الاستعداد الدفاعي للولايات المتحدة الأمريكية من جهة ثالثة. [[13]] في تأكيد واضح على حرص واشنطن على ضمان التفوق النوعي لإسرائيل عسكريا على جميع دول المنطقة.
خلاصة الأمر أن صفقة الأف 15 الأمريكية التي جرى الإعلان عنها جاءت بمباركة إسرائيلية وبما يضمن التفوق النوعي الإسرائيلي على مصر وجميع جيوش المنطقة باعتبارها ركيزة أساسية في الأمن القومي الأمريكي. فالولايات المتحدة الأمريكية تحظر على أي دولة عربية اقتناء أسلحة من شأنها تغيير موازين القوى في المنطقة؛ حيث تحرص واشنطن على أن تبقى “إسرائيل” متفوقة باستمرار على جميع الدول العربية ، وذلك في إطار التشريع الصادر من الكونجرس سنة 2008 تحت مسمى “التفوق العسكري النوعي لإسرائيل Israel Qualitative Military Edge”.[[14]] وقد صرح قائد القيادة المركزية الأمريكية بذلك، وبالتالي فإن تزويد الولايات المتحدة لمصر والسعودية وغيرهما من الدول العربية بالأسلحة يضمن تحكم واشنطن في طريقة استخدامهم لها، ومن المعروف أن مثل هذه المعدات الحديثة تستلزم صيانة متطورة جداً وقطع غيار بشكل دوري من قِبَل الولايات المتحدة، وهناك اعتقاد بأن أنظمة الطائرات الإلكترونية الأمريكية الحديثة تم يتحكم بها من قِبَل واشنطن، وبالتالي فإن عملية استخدامها خاضعة للسيطرة الأمريكية، التي بالتأكيد لن تسمح باستخدامها ضد إسرائيل أو المصالح الأمريكية الغربية في مصر والمنطقة.
من جانب آخر فإن الصفقة هي تعبير عن حالة الوله والجنون عند السيسي باقتناء السلاح رغم شح الموارد المصرية وتضخم حجم الديون؛ فقد سبق أن أبرم السيسي في 2020 صفقة تسليح من إيطاليا بقيمة 10 مليارات دولار. وفي 3 مايو 2021، وقَّعت مصر عقدا مع فرنسا لشراء 30 طائرة مقاتلة من طراز “رافال” بقيمة 4.5 مليارات دولار، تُدفَع عبر قرض تصل مدته إلى 10 سنوات على الحد الأدنى، ليزداد أسطول مصر من تلك الطائرات إلى 54، بعد صفقة مماثلة عام 2015 شملت 24 مقاتلة. ثم أبرم صفقة أخرى مع ألمانيا بنحو 865 مليون دولار، شملت شراء معدات تجسُّس من ألمانيا، بحسب ما كشفته صحيفة “ميدل إيست آي” البريطانية. وقبل رحيل المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل بيوم واحد وافقت على صفقة سلاح ضخمة لنظام السيسي تصل إلى 4.5 مليارات يورو. كما أبرم السيسي في غرة فبرير 2022م، صفقة أسلحة كبرى مع شركة “هانوا” الكورية الجنوبية للصناعات الدفاعية والعسكرية، لشراء أسلحة مدفعية من طراز “كيه-9 هاوتزر” وهي مدفعية متطورة إضافة إلى أن الصفقة تتضمن التصنيع المشترك للمنظومة الدفاعية المتطورة. ورغم هذه الصفقات المليارية الضخمة والوله بشراء السلاح إلا أن نظام السيسي يقف عاجزا أمام إثيوبيا التي تصر على التحكم في مياه النيل وتحويلها إلى سلعة تبتز بها دولتي المصب، فلماذا تشتري مصر كل هذه الأسلحة إذا كانت بلا فائدة في حماية الأمن القومي الذي يتعرض لأكبر تهديد محتمل، فهل يكفي أن تبقى في المخازن بينما مصر وشعبها يعانيان؟!
[1] رغم احتجاز جزء من «المعونة» بسبب مطالب حقوقية.. الولايات المتحدة تبيع لمصر أسلحة بـ2.5 مليار دولار/ مدى مصر ـ الأربعاء 26 يناير 2022م
[2] بهاء الدين عياد/ماذا يعني تزويد مصر بمقاتلات “أف-15” الأميركية؟/ إندبندنت عربي ــ الخميس 17 مارس 2022م
[3] محمود سامي/ أهداف القاهرة ومصالح واشنطن.. لماذا تأخرت مقاتلات “إف 15” الأميركية عن مصر 40 عاما؟/ الجزيرة نت ــ 23 مارس 2022م
[4] تل أبيب تضغط على واشنطن لبيع طائرات “إف 15” لمصر.. أكسيوس: جهود إسرائيلية لتحسين العلاقة بينهما/ عربي بوست ــ 24 مارس 2022م
[5] قمة شرم الشيخ: “هل كانت ولادة لتحالف عربي إسرائيلي”؟ – صحف عربية/ بي بي سي ــ 23 مارس/ آذار 2022
[6] تنسيق بين الاحتلال ومصر لمنع الانفجار في الأراضي الفلسطينية/ العربي الجديد ــ 29 مارس 2022
[7] مصر والجزائر وإندونيسيا ترفض إبرام صفقات الطائرات المقاتلة من طراز سو-35 مع روسيا،، تعرَّف على السبب؟/ موقع ديفنس عربي ــ 04 يناير 22
[8] بعد الغاء ثلاثة دول صفقات لشراء مقاتلات سوخوي، روسيا تنوي بيعها الى ايران/ موقع i24news ــ 05 يناير 22
[9] معتز بالله محمد/ هل تستسلم مصر للابتزاز الأمريكي وتلغي صفقة الـ«سوخوي 35»؟/ “مصر العربية” 15 نوفمبر 2019 // إنجي الخولي/ من التحذير للتلويح بالعقاب.. هل تستطيع أمريكا منع مصر من شراء مقاتلات «سو 35» الروسية؟: “مصر العربية” 10 أبريل 2019
[10] إبراهيم الخازن/”إف 15″ لمصر بعد عقود .. “استمالة” حلفاء و”توازن قوى” المنطقة (تحليل)/ الأناضول ــ 21 مارس 2022م
[11] إبراهيم الخازن/”إف 15″ لمصر بعد عقود .. “استمالة” حلفاء و”توازن قوى” المنطقة (تحليل)/ الأناضول ــ 21 مارس 2022م
[12] “بديلة السوخوي”.. سر توجه بايدن لبيع طائرات إف 15 لمصر، بعد نصف قرن من العرقلة الإسرائيلية/ عربي بوست ــ 16 مارس 2022م
[13] واشنطن توافق على صفقتي أسلحة ضخمة للقاهرة بقيمة 2.5 مليار دولار/ الإذاعة الألمانية دويتش فيله ــ 26 يناير 22
[14] محمد البلاسي/مجلة أمريكية: “سو 35” المصرية تعادل التفوق الجوي الإسرائيلي/ “الوطن” السبت 23 مارس 2019