تشهد مصر حاليا أكبر موجة غلاء وارتفاع لأسعار السلع والوقود في تاريخها كله؛ فلم ير المصريون مطلقا مثل هذا الارتفاع الجنوني في أسعار السلع الغذائية والملابس وكل شيء في توقيت واحد متزامن. أسباب ذلك متعددة أبرزها تبني نظام الجنرال عبدالفتاح السيسي سياسات نيوليبرالية متوحشة تنحاز للشركات العالمية متعددة الجنسيات المحسوبة على دول كبرى من جهة كما تنحاز للمؤسسة العسكرية ومشروعاتها من جهة ثانية فتمنحها امتيازات ضخمة تجعل منها أكبر مهيمن على مفاصل السلطة السياسية والاقتصادية في البلاد، كما تنحاز هذه السياسيات إلى طبقة الأثرياء من رجال الأعمال من جهة ثالثة على حساب جموع المواطنين الذين يتساقط منها عشرات الملايين تحت خط الفقر على نحو مرعب؛ لم يحدث من قبل.
هذه الأوضاع الشديدة لها تداعيات اجتماعية بالغة الخطورة على أوضاع البلاد وقد تهدد بمزيد من التمزق والتفكك والانقسام؛ فما أبرز هذه التداعيات الاجتماعية؟ وهل يمكن أن يؤدي هذا الوضع الهش ماليا واقتصاديا إلى ارتفاع معدلات الجريمة والطلاق والتفكك الأسرى؟ وهل تملك السلطة روشتة حقيقية لمواجهة هذه التداعيات؟ أم تكتفي كعادتها بتأمين النظام على حساب أمن الوطن والمواطن استنادا إلى أدوات البطش والقمع الأمني لتخويف الناس وإرهابهم؟ وهل يمكن أن تستمر هذه الأدوات السلطوية في حماية النظام والحفاظ على الاستقرار الهش القائم على الخوف أم يتمرد الناس بدافع الجوع والفقر؟
تحاول هذه الورقة رصد هذه التداعيات والإجابة عن هذه التساؤلات الملحة حول مستقبل البلاد في ظل هذه الانعطافة الحادة في الوضع المالي والاقتصادي في مصر في ظل تداعيات تفشي كورنا من جهة والغزو الروسي لأوكرانيا من جهة ثانية والتعويم الجزئي للجنيه من جهة ثالثة.
أولا، ارتفاع معدلات الفقر
وفقا لآخر بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، حول معدلات الفقر في مصر، فقد تراجعت من 32.5% في 2018، إلى 29.7% في 2020، (نحو 30.6 مليون فقير)، وأرجع الجهاز ذلك إلى ما تسمى بالمشروعات القومية التي زادت معدلات التشغيل إلى جانب إجراءات الحماية الاجتماعية التي تقدمها الدولة ومنها برامج “فرصة ومستورة وسكن كريم” وغيرها من المبادرات. لكن فات الحكومة التي تتباهى بهذه الأرقام أمران:
الأول، أن رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الذي يعد بيانات الفقر، أوضح أن فترة إجراء بحث الدخل والإنفاق الذي يتم على أساسه حساب معدلات الفقر كانت من بداية أكتوبر/تشرين الأول 2019 وحتى مارس/آذار 2020، أي قبل ظهور تداعيات فيروس كورونا الاقتصادية، وقبل ارتفاع معدل التضخم، وفقدان الجنيه المصري لكثير من قوته الشرائية. تلك التداعيات تفاقم تأثيرها خلال الربع الثاني من عام 2020، وقال جهاز الإحصاء الرسمي عنها إنها تسببت في فقدان 2.3 مليون شخص وظائفهم، إلى جانب تخفيض الأجور في منشآت أخرى عديدة.
ثانيا، نشرت صحيفة اقتصادية مصرية بالتزامن مع إعلان نتائج الفقر تقريراً مفاده أن النتائج قد تأخر إعلانها بضعة أسابيع، نظراً لاعتراض جهة سيادية على النتائج، ومطالبتها بـ”تحسين” النتائج، ورغم قيام جهاز الإحصاء بتحسين النتائج فقد طلب الجهاز السيادي تعديل نتائج معدلات الفقر مرة ثانية، أي أن النتائج المُعلنة قد تم تحسينها مرتين.[[1]]
في المقابل، تذهب تقديرات للبنك الدولي أن نسبة الفقراء في مصر أو أولئك الذين يقبعون على خط الفقر تزيد عن نحو 60%، بما يعني أن نحو 62 مليون مصري باتوا فقراء. وما يبرهن أن معدلات الفقر الرسمية ملعوب فيها أيضا أن الاستثمارات الأجنبية في مصر لم تشهد ارتفاعا يعزز من تراجع مستويات الفقر، بل إن الحكومة خفضت مخصصات الدعم وفقا لأرقام الموازنة في سنوات 2019 و2020، فكيف يتراجع الفقر في ظل هذه الحقائق؟! أما عن أسباب اختلاف التقديرات بين الأرقام الرسمية الحكومية (29.7%) وتقديرات البنك الدولي للفقراء في مصر (60%)، فإن ذلك يعود إلى أن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء حدَّد خط الفقر القومي في بحث الدخل والإنفاق 2017-2018 عند مستوى 8827 جنيهاً للفرد في السنة، وهو ما يعادل حوالي 735.5 جنيه شهرياً، أي ما يعادل نحو 24.5 جنيه مصري (1.5 دولار أمريكي). بينما استند البنك الدولي في تقييمه لمصر لخط الفقر عند 1.9 دولار أمريكي للفرد يومياً، أي 894 جنيهاً للفرد شهرياً و10725 جنيهاً سنوياً، مع العلم أن مؤشر الفقر وفقاً للبنك يبدأ من 5.5 دولار للفرد يومياً وصولاً إلى الفقر المدقع بالعيش على 1.9 دولار أمريكي أو أقل للفرد يومياً.[[2]]
يعزز من اقتراب تقديرات البنك الدولي من النسب الصحيحة للفقر، أن الجائحة قد تكفلت بانخفاض دخول نحو 91% من القوة العاملة بمصر؛ وفقا لأحدث دراسات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في يناير 2022، حيث أوضحت الدراسة أن انتشار فيروس كورونا أثر على دخل الأفراد المشتغلين بنسبة 91.3% في حين أن 0.5% فقط زادت دخولهم بسبب الوباء. وتعددت أسباب انخفاض الدخول في فترة الوباء، ومنها فرض الإجراءات الاحترازية، والتعطل، وانخفاض الطلب على النشاط، وتوقف بعض المشاريع نهائيا.[[3]] وكانت دراسة أعدها الجهـاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء الحكومي، صدرت في 20 يونيو 2020م، قد كشف أن (73.5%) من المصريين انخفض دخلهم، بينما أفاد حوالي “25% أن دخولهم ثابتة، وأقل من 1% أفادوا أن دخولهم ارتفعت. وأن 26.2 % باتوا عاطلين عن العمل، و55.7% باتوا يعملون بشكل أقل من المعتاد، و18.1% باتوا يعملون بشكل متقطع.[[4]] علاوة على كل ذلك؛ فإن أعداد الفقراء في مصر مرشحة للارتفاع مجددا في أعقاب التعويم الجديد للجنيه أمام الدولار، حيث انخفض الجنيه بنحو 16% في أعقاب قرار البنك المركزي رفع الفائدة بقيمة 1% ليرتفع سعر صرف الدولار من 15.74 إلى 18.2 ظهر الإثنين 21 مارس 2022م، وهو ما سينعكس على الأسعار من جديد لترتفع بنسبة أعلى من نسبة ارتفاع الدولار.[[5]]
ثانيا، تزايد معدلات الجريمة
من التداعيات الناتجة عن الغلاء تزايد معدلات الجريمة؛ حيث تحتل مصر المركز الثالث عربيا والـ24 عالميا في جرائم القتل، بحسب تصنيف “ناميبو” لقياس معدلات الجرائم بين الدول. وكشفت دراسة صادرة عن جامعة عين شمس، أن جرائم القتل العائلي وحدها باتت تشكل نسبة الربع إلى الثلث في إجمالي جرائم القتل، فيما أكدت دراسة أخرى للمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية، أن نسبة 92% من هذه الجرائم تُرتكب بدافع العرض والشرف، فضلا عن العوامل الاقتصادية التي أصبحت من بين أبرز أسباب تضاعف معدلات القتل العائلي.[[6]] وآخر تقارير الوزارة كان في يناير 2019م، حيث كشفت الوزارة معدلات الجريمة في البلاد وأسباب ارتفاعها، التي أرجعها إلى انتشار الأسلحة النارية، والإفراج عن عدد كبير من العناصر الإجرامية، وشيوع ظاهرة العنف الاجتماعي، والتأثيرات الناجمة عن الأعمال الفنية من الأفلام والمسلسلات، وانعكاسها على تقليد المواطنين لها، والظروف الاقتصادية والمتغيرات المحيطة بالدولة. ويؤكد التقرير أن وراء زيادة معدل الجرائم، ظهور أنماط جديدة للجريمة، وتكوين تشكيلات عصابية جديدة من الشباب العاطلين، وسهولة تنفيذ البعض لجرائم السرقات بسبب قصور المواطنين في وسائل تأمين ممتلكاتهم، وغياب الوعي الاجتماعي والثقافي، واستغلال البعض للحرب التي تخوضها الدولة على الإرهاب. بينما يعزو خبراء في علم النفس والاجتماع أسباب ارتفاع معدلات الجرائم مؤخرا إلى الفقر والبطالة والإدمان.[[7]] وبحسب التقرير ارتفعت معدلات الجريمة بنسبة 5% خلال عام 2015، وبنسبة 7% في عام 2016، و10% مطلع 2017، وفي عام 2018 زادت المعدلات بنسبة 5%. وبحسب مؤشر الجريمة العالمي في عام 2019، جاءت مصر في المركز الرابع على مستوى الدول العربية في معدل الجرائم السنوي، واحتلت المرتبة الـ 26 عالميا والثامنة أفريقيا. [[8]] أما الفترة التي تفاقمت فيها الأوضاع في العامين الماضيين حيث تفشت جائحة كورونا وانهار قطاع السياحة وتم تسريح مئات الآلف من العاملين بسبب عمليات الإغلاق الواسعة للمصانع والشركات والمحال وغيرها، فلم يصدر عنها تقرير من الوزارة حتى اليوم.
وبحسب مؤشر الجريمة العالمي “نامبيو” سنة 2018، فإن هناك نحو 92 ألف بلطجي في مصر، كما ارتفع عدد المسجلين خطر بنسبة 55% حسب إحصائية رسمية صادرة عن وزارة الداخلية سنة 2017م.[[9]] بينما تذهب تقديرات أخرى إلى أن عدد البلطجية في مصر وأرباب السوابق في مصر يصل إلى نحو 500 ألف بلطجي في سنة 2018م.[[10]] كما كشف «نامبيو» أيضا عن رصد 1360 حالة قتل بزيادة بنسبة “130%”، و925 حالة سرقة بالإكراه بزيادة 350%،بخلاف حالات السرقة العادية بزيادة نسبتها 400%، بينما ارتفعت سرقة السيارات بنسبة 500%، و66 حالة اغتصاب و467 هتك عرض. ويدرك النظام أن رد فعل المواطنين على الغلاء سيكون إما بالتظاهر أو ارتفاع معدل حوادث السرقة، لذلك يخشى اللواء رفعت عبد الحميد الخبير الأمني من اندلاع ثورة جياع بتحول عمليات السرقة من النزعة الفردية إلى النزعة التنظيمية، بينما يفسر الدكتور محمد محيي الدين، عضو مجلس الشعب السابق وأستاذ العلوم السياسية بجامعة عين شمس والمعتقل حاليا ارتفاع معدلات الجريمة بالقول: «عندما لا يجد المواطن قوت يومه أو ما يسد احتياجات أسرته سيضطر إما إلى أن يتظاهر في الشارع وهذا لن يحدث بسبب التشديدات الأمنية، أو يجور على ما لا يملك، وهذا ما يحدث».[[11]]
ثالثا،ارتفاع معدلات الانتحار
انتهى تقرير «مؤشر السعادة العالمي» لعام 2022م الصادر عن شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة، والمدعوم ببيانات “جالوب” للإحصاءات، إلى أن مصر تأتي بالمركز 129 عالميا في مستوى سعادة الشعوب، ضمن قائمة احتوت على 148 دولة. شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة، والمدعوم ببيانات “جالوب” للإحصاءات، إلى أن مصر تأتي بالمركز 129 عالميا في مستوى سعادة الشعوب، ضمن قائمة احتوت على 148 دولة. كما احتلت مصر المرتبة الأولى عربيا من ناحية معدلات الانتحار، بحسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية، متفوقة في ذلك على دول تشهد نزاعات مسلحة وحروبا أهلية، حيث شهد عام 2019 وحده انتحار 3022 شخصا. [[12]] وفي سبيل إخفاء معدلات الانتحار الحقيقية في مصر، لا تتعامل الحكومة بشفافية تجاه هذه الظاهرة، فلا تصدر وزارة الصحة أو الداخلية (الجهتان المنوطتان بتسجيل حالات الوفاة) إحصاءات واضحة بعدد حالات الانتحار، وأنها عادة ما تقصر دورها على نفي صحة الأرقام المتداولة عن معدلات الانتحار أو مقارنتها بمعدلات الانتحار عالميًا، لتؤكد انخفاض تلك المعدلات في مصر، الأمر الذي يدل على عدم الجدية في معالجة الظاهرة من ناحية، ويفتح الباب من ناحية أخرى أمام اجتهادات المنظمات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني في تقدير حالات الانتحار.
رابعا، ارتفاع معدلات الطلاق والتفكك الأسرى
وخلال السنتين الأخيرتين ارتفعت معدلات الطلاق في مصر على نحو ملحوظ؛ وأعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، ارتفاع عدد حالات الطلاق إلى 255004 حالات عام 2021 مقارنة بعام 2020، حيث كان 222036 حالة بنسبة زيادة 15%، وبلغت مساهمة المرأة في قوة العمل 15.2% من إجمالي قوة العمل فقط، كما بلغ معدل البطالة للإناث 16%.[[13]]
خامسا، تكريس الطبقية
تسببت موجات الغلاء المتتابعة في تكريس الطبقية في مصر على نحو كبير؛ وقد ساهمت السياسات النيوليبرالية التي يتبناها النظام في العصف بعشرات الملايين من المصريين تحت خط الفقر، في الوقت الذي تتمتع فيه قلة قليلة بمعظم المكاسب والعوائد الاقتصادية؛ ترتب على ذلك وجود أغلبية ساحقة من الفقراء وقلة من الأثرياء بل فاحشي الثراء. وقد كشفت بيانات النشرة الشهرية للبنك المركزي الصادرة في بداية مارس 2022م، أن نحو 80% من ودائع البنوك مملوكة لنحو 2.5% فقط من المجتمع. وبحسب البنك المركزي فقد قفزت الودائع غير الحكومية لدى القطاع المصرفي خلال أربع سنوات نحو 88%، مسجلة 4.7 تريليون جنيه بنهاية يونيو 2021، مقابل 2.5 تريليون جنيه في نفس الشهر من عام 2017. وواصل حجم الودائع الصعود خلال النصف الثاني من 2021 ليسجل 5.1 تريليون جنيه بنهاية نوفمبر الماضي “2021”، بزيادة قدرها 8%. وبحسب بيانات «المركزي» فقد استحوذ القطاع العائلي (الأشخاص الطبيعين) على نحو 80% من إجمالي الودائع غير الحكومية، ما يقدر بـ4.1 تريليون جنيه (بالعملتين المحلية والأجنبية)، نهاية نوفمبر الماضي. وهو ما يؤكد تركز الادخار في شريحة معينة من المجتمع، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الفائدة في السنوات التالية لتحرير سعر الصرف، لتصل إلى 18.75% في 2017، وكذلك زيادة تحويلات المصريين العاملين بالخارج، وسيطرة الاكتناز مقابل الاستثمار. كما يعكس ذلك تركز الثروة في يد شريحة قليلة من المصريين؛ بما يبرهن على انعدام العدالة في توزيع الثروة وتكريس سياسة اللا مساواة، ساهم في ذلك عدم وجود ضريبة تصاعدية على هذه الودائع أو ضريبة على على العوائد منها، مما يفاقم هذه الثروات في شكل الودائع. بينما يتحمل الفقراء كل تداعيات البرنامج الاقتصادي المؤلمة.[[14]]
وكان تحليل أعده مركز كارنيجي ونشر بموقع «open democracy»، في بداية أكتوبر الجاري “2020” انتهى إلى أن نظام السيسي يشن حربا بلا هوادة على الفقراء في المجتمع المصري، مؤكدا أن السياسات المالية والاقتصادية التي يتبناها نظام السيسي تتسبب في تفاقم معدلات الفقر ، وتسرّع بنقل الثروات من الطبقتين الدنيا والوسطى إلى الحكومة ونخب المال والأعمال، متوقعا أن يفضي ذلك إلى نتائج كارثية. وبحسب تحليل مركز كارنيجي فإنه إلى جانب الطبيعة السلطوية للنظام، فإن الدعم الدولي الذي يحصل عليه في شكل تدفقات مالية وقروض يساهم في تعزيز جهوده الآيلة إلى إثراء طبقة النخبة في الأعمال والمؤسسات العسكرية على حساب المواطنين. ويضيف أن حكومة السيسي قد حصلت من حلفائها الإقليميين على دعمٍ مالي قدره 92 مليار دولار بين عامَي 2011 و2019، وتستمر في اقتراض مبالغ طائلة من المؤسسات الدولية. تتيح هذه الأموال للحكومة تنفيذ مشاريع ضخمة والإبقاء على منظومة الضريبة التنازلية التي تلقي العبء الأكبر على الفقراء دون الأغنياء. وحول انعكاسات تبني نظام السيسي العسكري لهذه السياسات المالية والاقتصادية على الأوضاع الاجتماعية والسياسية، يتوقع “التحليل” أن تفضي هذه المقاربة إلى آثار خطيرة في المدى الطويل تذهب أبعد من الفقر المتزايد والحرمان الاجتماعي الذي يعاني منه المواطن العادي، إذ إنه من المحتّم أن يصبح هذا النظام أكثر قمعاً وسلطوية فيما يستمر في فرض سياساته القاسية. وهذا بدوره سيغذّي صعود المقاومة العنيفة للدولة. وينتهي إلى أن هذه المقاومة حتى وإن لم تتبلور إلى إطار حركة سياسية متماسكة، فلا بد من أن يتفاقم مستوى العنف الاجتماعي، ما يفضي إلى تداعيات مزعزعة للاستقرار في المدى الطويل. فضلاً عن ذلك، يؤدّي توسّع الأعمال والشركات المملوكة من الجيش إلى زيادة الضغوط على القطاع الخاص الاقتصادي فيما يسعى جاهداً للتنافس مع العملاق العسكري. وسوف تكون لهذا الأمر تأثيرات بنيوية طويلة الأمد على الاقتصاد والمنظومة السياسية، وهي تأثيرات يصعب العودة عن مفاعيلها وسوف تستمر على الأرجح إلى ما بعد السيسي ونظامه.[[15]]
سادسا، انتشار ظاهرة التسول
ترتب على الغلاء الفاحش وارتفاع الأسعار زيادة معدلات التسول وأعداد المتسولين مع سقوط ملايين المصريين تحت خط الفقر وعدم قدرتهم على الوفاء باحتياجاتهم الأساسية من الطعام والملبس والمأوى؛ وتقدر دراسة صادرة عن المركز القومي للبحوث الجنائية عدد المتسولين بحوالي 41 ألفا بينما يصل عدد الأطفال الذين يتم استخدامهم في عمليات التسول حوالي “1.5” مليون طفل بحسب إحصائية كشفها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بحسب موقع “دوت مصر” التابع لجهاز المخابرات العامة سنة 2017.[[16]] لكن “بوابة الأهرام” نشرت نتائج دراسة أخرى في يوليو 2017، أجراها قسم بحوث الجريمة، بالمركز القومي للبحوث الجنائية، عن أطفال التسول في شوارع مصر، ينزل بالرقم إلى 21 ألفاً و650 طفلاً متسولاً، وبذلك يحتل الأطفال النسبة الأكبر، من أصل 41 ألف متسول داخل مصر. وتوصلت الدراسة لأرقام خطيرة، تفيد قيام بعض الأسر بتأجير أطفالهم، مقابل الحصول علي رواتب يومية من معتاد التسول، تصل لـ 50 جنيها يوميًا، مقابل إيجار طفل صغير عمره ما بين 5 إلي 10 سنوات، في حين يصل إيجار الطفل المكفوف أو المعاق لـ 75 جنيها، ويتراوح إيجار الطفل الأصم أو المعاق ما بين 100 و200 جنيه يوميا.[[17]] كانت هذه الأرقام سنة 2017 و 2018، أما اليوم وفي ظل موجات الغلاء الفاحش التي أعقبت تفشي جائحة كورنا والحرب الروسية الأوكرانية والتعويم الجزئي للجنيه، حيث ترجعت دخول نحو 91% من المصريين بحسب الجهاز المركزي للإحصاء[[18]] فإن مؤسسات الدولة أحجمت عن إصدار البيانات الرسمية الكاشفة عن معدلات الجريمة والتسول بتوجيهات أمنية صارمة خوفا من افتضاح الأوضاع ومدى تدهورها.
سابعا، الانفجار الاجتماعي
في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، وارتفاع أسعار الوقود والسلع الغذائية خرجت تقديرات موقف من مراكز بحث وتحليل تحذر من انفجارات اجتماعية في الدولة الهشة كمصر وعدد من الدول العربية؛ وكان على رأس المحذرين البنك الدولي، الذي توقع اندلاع احتجاجات مشابهة لاحداث الربيع العربي بسبب التضخم وارتفاع الأسعار.[[19]] وتؤكد صحيفة “التلجراف” البريطانية، أن مصر ستواجه أزمة غذاء كبرى، وتنقل الصحيفة البريطانية عن البروفيسور “تيموثي لانج” الأستاذ الفخري المتخصص في سياسة الغذاء، تحذيراته مؤكدا أن «مصر صندوق بارود ينتظر الانفجار».[[20]] ووفقا لتقديرات موقع «جيوبوليتيكال فيوتشرز»، فإن الاحتجاجات الجماهيرية تكاد تكون حتمية في مصر وشمال إفريقيا إذا ارتفت أسعار الغذاء إلى مستويات جديدة تفوق قدرة ملايين الفقراء. [[21]] واستنادا إلى مؤلفات جاك غولدستون عالم الاجتماع السياسي الأميركي والأستاذ بجامعة جورج مايسون، فإن هناك احتمالات قوية لحدوث تمرد وانفجار اجتماعي جراء ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع أسعار الغذاء. بينما الحرمان النسبي قد يدفع إلى قيام الثورة وحدوث التغيير، فالشعور بعدم المساواة وانعدام الفرص -سواء في الدول الغنية أو الدول متوسطة الدخل- هو الذي يدفع باتجاه التفكير في الثورة، وذلك من أجل تغيير موازين القوى السياسية وتحقيق العدالة الاجتماعية، ويصبح الأمر أكثر إلحاحا عندما يدرك المواطنون أولا أن فقرهم ليس قدرا حتميا لأن بلادهم فقيرة ولكن نتيجة للسياسات الحكومية الفاشلة والفاسدة، وثانيا لأن هناك فئات وطبقات أخرى لا تعاني الفقر، بل تحتكر الثروات والموارد على حساب بقية المجتمع، وبكلمات أخرى، فإن فقرهم هو بفعل فاعل وليس أمرا قدَريا.[[22]]
خلاصة الأمر، موجات الغلاء وارتفاع الأسعار على النحو الجاري حاليا تحمل كثيرا من التداعيات السلبية الشديدة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي؛ أبرزها ارتفاع معدلات التضخم وتراجع القوة الشرائية لعشرات الملايين من المصريين، وركود الأسواق وتفاقم الديون؛ ما يبرهن على فشل النظام في إدارة موارد الدولة، فمصر حاليا تعتمد على القروض والمساعدات وزيادة الرسوم والضرائب. أما أخطر التداعيات الاجتماعية فهي زيادة معدلات الفقر وسقوط عشرات الملايين تحت خط الفقر، وأمام الجوع يتجه الناس إما إلى الثورة والاحتجاج أو الجور على حقوق الآخرين وبالتالي تزاد معدلات الجريمة ويتفكك المجتمع في ظل انشغال الأجهزة الأمنية بأمن النظام على حساب أمن الوطن والمواطن، ومع تفشي اليأس والإحباط ترتفع معدلات الانتحاروالطلاق والتفكك الأسرى والتسول، وهو ما تؤكده الأرقام الرسمية والبحوث والدراسات المتخصصة. بينما يقف النظام عاجزا عن وضع حلول جذرية لهذا الأمراض والأزمات المزمنة. فمصر ــ تحت حكم الجيش ــ تغرق والجنرالات يتشبثون بالسلطة والمجتمع يتفكك وينهار، والتحولات الدولية تعصف بالجميع دون توقف ولن يسلم من هذه العواصف إلا الأمم والشعوب الحرة المتماسكة التي تحكمها نظم رشيدة اختارتها الشعوب فاستعدت لهذه الأوضاع الشديدة فحققت اكتفاءها من الطعام وبنت اقتصادها على أسس قوية وصحيحة.
هذه الأوضاع كما تنذر بتفكك المجتمع المصري وتزايد معدلات الجريمة وتلاشي دور السلطة باستثناء أمن النظام، قد يؤدي إلى انفجار شعبي رفضا لهذه الأوضاع حين يدرك الناس أن فقرهم ليس قدرا من السماء بقدر ما هو سوء توزيع وانعدام للعدالة بسبب احتكار حفنة من الجنرالات للسلطة وثروات البلاد فينعمون هم وأولادهم، بينما يعش غالبية الشعب في فقر وجوع وحرمان. وما لم يتدارك الجيش هذه الأوضاع المقلوبة وغير العادلة فإن الشعب قد ينفجر ضده في أي لحظة، والأمور للأسف تمضي في هذا الاتجاه تدفعها سياسات النظام وإخفاقاته الكثيرة في كافة الملفات والقطاعات.
[1] ممدوح الولي/ خط الفقر لا يكفي ساندويتشات الفول والطعمية.. كيف خلقت الحكومة المصرية “شعباً من الفقراء”؟/ عربي بوست ــ 16 مارس 2022م
[2] طارق الشال/ هل تراجع معدل الفقر في مصر فعلاً كما تقول الحكومة؟ هذا ما يقوله الخبراء/ عربي بوست ــ 23 ديسمبر 2020م
[3] دعاء عبد اللطيف/ مصر.. انخفاض دخل 91% من العاملين بسبب تداعيات كورونا/ الجزيرة نت ــ31 يناير 2022م
[4] سمر السيد/«الإحصاء» يصدر دراسة عن آثار «كورونا» على الأسر المصرية وكيفية مواجهتها/ المال نيوز السبت 20 يونيو 2020
[5] بيسان كساب/ انخفاض كبير في سعر الجنيه بعد رفع «المركزي» للفائدة/ مدى مصر ــ الإثنين 21 مارس 2022// العملة المصرية تواصل الهبوط والدولار إلى 18.27 جنيهاً/ العربي الجديد ــ الإثنين 21 مارس 2022
[6] منال الوراقي/ مصر تسجل ارتفاعا في معدلات الجريمة.. ما الذي يقف خلف تلك الزيادة؟/ بوابة الشروق ــ الأحد 15 أغسطس 2021
[7] المرجع السابق
[8] بعد مقتل سبعة من أسرة واحدة.. لماذا ترتفع معدلات الجريمة في مصر؟/ الجزيرة نت ــ 06 يناير 2020م
[9] هايدي حمدي/ احتلت المرتبة الثالثة عربيًا.. سر ارتفاع معدلات الجريمة في مصر/ الدستور السبت 0/يوليه 2019 (تابعة للمخابرات)//بسنت الشرقاوي / جرائم الأسباب «التافهة».. ما الدوافع النفسية وراء ذلك؟! / بوابة الشروق الخميس 31 أكتوبر 2019
[10] الجريمة في مصر… أرقام مقلقة (إنفوغراف)/ “عربي “21” الخميس، 30 أغسطس 2018
[11] أحمد حسن/ الجريمة في مصر…تزايد السرقة والسطو المسلح مع غلاء المعيشة/ العربي الجديد 4 يوليو 2017
[12] “تعاسة وانتحار”.. تقارير دولية توثق تزايد الاكتئاب في مصر/ “عربي 21” ــ السبت، 19 مارس 2022م// مصر الأولى عربيا في حالات الانتحار بـ2021.. ما هي الدوافع؟/ “عربي 21” ــ الثلاثاء، 04 يناير 2022م
[13] أميرة صالح/ الاحصاء : 48.5 مليون نسمة من السكان«إناث»/ المصري اليوم ــ الثلاثاء 08 مارس 2022م// حقوقيات مصريات يكشفن حقيقة وضع المرأة في عهد السيسي/ “عربي 21” ــ الثلاثاء، 08 مارس 2022
[14] أميمة إسماعيل/ ماذا يعني ارتفاع حجم الودائع البنكية 88% خلال 4 سنوات؟/مدى مصر ــ الثلاثاء غرة مارس 2022م// محمد عبدالله/ ماذا وراء القفزة في ودائع المصريين لدى البنوك؟/ الجزيرة نت ــ 07 مارس 2022م
[15] ماجد مندور/ مصر.. حرب السيسي على الفقراء/ مركز كارنيجي ونشر بموقع «open democracy» ترجمة موقع الخليج الجديد الجمعة 2 أكتوبر 2020
[16] بالأرقام| 1.5 مليون «لله يا محسنين».. تسول الأطفال مسؤولية مين؟/ دوت مصر ـ الإثنين، 16 أكتوبر 2017
[17] إسراء أحمد عبدالفتاح/بالفيديو.. “بوابة الأهرام” تكشف بيزنس التسول بالأطفال.. إيجار “الأصم” 200 جنيه و 20 ألف قنبلة موقوتة بالشوارع/ بوابة الأهرام ــ 27 يوليو 2017
[18] دعاء عبد اللطيف/ مصر.. انخفاض دخل 91% من العاملين بسبب تداعيات كورونا/ الجزيرة نت ــ31 يناير 2022م
[19] احتجاجات وأعمال شغب.. البنك الدولي يحذر من “ربيع عربي” جديد/ الحرة نقلا عن رويترز ــ الخميس 10 مارس 2022م
[20] المصدر: روسيا وأوكرانيا: الجوع الشديد “يهدد” عائلات في الشرق الأوسط بسبب الأزمة بين البلدين – التلغراف/ بي بي سي عربي ــ 21 فبراير 2022
[21] جيوبوليتكال: أزمة الغذاء تهدد باشتعال موجات احتجاجية واسعة بالشرق الأوسط/ الخليج الجديد ــ السبت 12 مارس 2022م (المصدر | أليسون فيديركا | جيوبوليتيكال فيوتشرز)
[22] خليل العناني/ هل يثور الفقراء؟!/ الجزيرة نت ــ 15 فبراير 2022م