«الاختيار 3».. قراءة في الأبعاد السياسية

 

 

الجزء الأول من «الاختيار»، يضفي قداسة على الجيش، والثاني يمجد دور «الأمن الوطني»، والثالث يضفي القداسة على الدكتاتور عبدالفتاح السيسي، عبر معالجة درامية كشفت حجم السقوط الذي انزلقت له الدراما المصرية حتى تحولت إلى أداة بيد السلطة توجهها لخدمة أجندتها بعيدا عن مصالح الوطن وأحلام الشعب المقهور على يد السلطة وأجهزتها الأمنية والقضائية والتشريعية والإعلامية. ما يفعله السيسي غير مسبوق في تاريخ مصر؛ فعندما عرض الفنان الراحل أحمد زكي عمل فيلم “الضربة الأولى» تمجيدا في الرئيس الأسبق حسني مبارك بعدما انتقدته أبواق قريبة من السلطة لأنه مجد في جمال عبدالناصر بفيلم “ناصر 56″، وامتدح السادات بفيلم “أيام السادات”، لكن المقربين  من مبارك رفضوا الفكرة خوفا من فشل الفيلم بما يعتبر استفتاء على شعبية الرئيس في حياته، لكن السيسي فعلها دون اكتراث!

فلماذا أقدم السيسي على هذه الخطوة في سياق ليس في صالحه بالمرة في ظل الغلاء الفاحش والتضخم المجنون؟ ألا يخشى من ردة الفعل الشعبية في ظل انهيار شعبيته إلى ما دون الحضيض؟ وهل يمكن أن تقنع الدراما المزيفة المصريين بأن السيسي بطل قومي وهم يرونه طاغية يحكم البلاد بالحديد والنار وفشل في إدارة مواردها على نحو صحيح فأفقرهم وأغرق بلادهم في الديون الباهظة وفرط في بعض ترابها الوطني وأضعف موقفها في أزمة سد النهضة بعدما شرعن عمليات بناء السد التي تخالف القانون  الدولي للأنهار؟  وهل يمكن أن  يرمم مسلسل شعبية طاغية فاشل أم أن توقيت البث خاطئ في ظل الغضب الشعبي العارم من النظام ورموزه؟!

الأبعاد والتفسيرات

التفسير الأول، الإنفاق الباهظ على عمل درامي لتكريس رواية النظام العسكري حول ثورة يناير ومذابح رابعة والنهضة يؤكد أن النظام لا يزال يعاني أزمة كبيرة في مجالين رئيسَين هما الشرعية والثقة. ولو كان النظام يؤمن أنه يمتلك شرعية حقيقية بين الناس لما اضطر لصرف الملايين على عمل درامي يسعى من خلاله لتثبيت شرعيته في الحكم، وتحويل الانقلاب في وعي الناس إلى ثورة.  ولو لم يكن السيسي وأركان حكمه يعلمون أن أغلبية الشعب المصري لا تثق بهم لما اضطر لمثل هذا العمل لإعادة بناء الثقة. المسلسل في هذا  التوقيت وفي وقت تتعرض فيه مصر لتهديدات وجودية متمثلة في إصرار أثيوبيا على حجز مياه النيل يمثل برهان على خلل الأولويات لدى النظام وأن يتسم بقدر هائل من الغباء يستحق معه أن يكون مسئولو هذا النظام في مستشفى للأمراض العقلية وليس على كراسي الحكم في أكبر دولة عربية. فأي سلطة استبدادية لا تلجأ إلى تزوير التاريخ القريب وتزييف الواقع وفرض سرديتها بتوظيف أدوات الإعلام والدراما المكثفة إلا إذا كانت هذه السلطة تدرك يقينا أن روايتها ضعيفة ولا تحظى بالقبول في أوساط المجتمع؛ فلو كانت رواية السلطة محل قبول لما لجأت السلطة ـ أي سلطة ــ إلى إنتاج أعمال سينمائية أو درامية ضخمة وباهظة التكاليف وتستمر لسنوات من أجل تسويق روايتها وفرض سرديتها بقوة التضليل الإعلامي. معنى ذلك أن مسلسل «الاختيار» بأجزائه الثلاث بحد ذاته «دلالة على إصرار النظام على كتابة تاريخ على مقاسه لأحداث لا تزال قريبة العهد، شهدت معظم الأجيال التي على قيد الحياة تفاصيلها. لم يكن قائد الانقلاب بحاجة لتزوير التاريخ لو كان مقتنعا أن الشعب يؤمن بروايته لهذه الأحداث، ولذلك فإن كثرة الأعمال الدرامية التي تعرض أحداثا تاريخية قريبة هي دليل واضح على إدراك النظام لضعف روايته، ما يدفعه لمحاولة تقويتها وإقناع الناس بها».[[1]]

التفسير الثاني، أن السيسي خائف من المستقبل، وأمام حالة الإفلاس التي يعيشها ويحياها في ظل الفشل المستمر والظلم المتواصل والقمع المفرط لا يخشى الحساب والوقوف أمام الله بقدر ما يخشى ما سيكتبه عنه التاريخ كأحد الطغاة والفراعين الذين حكموا مصر بالحديد والنار ولم ينجز شيئا يستحق التقدير؛ وهو بهذه المسلسل إنما يريد أن يصادر حق المصريين والأجيال القادمة في كتابة التاريخ كما حدث فعلا وليس كما يدعيه الجنرال وأجهزته ونظامه القمعي. فالسيسي بهذه الأعمال الدرامية وما يصاحبها من حشود إعلانية وإعلامية وفقهية وفتاوى يبرهن على أن الجنرال يخوض المسلسل بأدوات الحرب في محاولة للتفلت والهروب من حكم التاريخ عليه، ومصادرة شهادات المستقبل عن ماضيه الدموي، متبعًا آلية الهروب إلى الأمام، فيقفز إلى كتابة التاريخ، وإغلاق صفحاته، متخيلًا أنه بذلك لن يبقى مجال لأحد غيره لتسجيل عصره، وهذا في الأغلب تعبير عن كابوس يطارده ويصرخ فيه بأنّ جحيمًا من الحكايات والروايات سوف يبتلعه بعد رحيله، وهو ما يعني من ناحية أخرى، أنّه يعلم أنّ سوابق أعمال حاضره وماضيه لا تؤهلانه إلا للتواجد في تلك المساحة البارزة في مكبّ مخلفات التاريخ.[[2]]

التفسير الثالث، أن النظام بإنتاج مسلسل «الاختيار» بأجزائه الثلاثة وقبله فيلم الممر ومسلسل كلبش وغيره من الأعمال السينمائية والدرامية التي تمجد في السلطة وأجهزتها الأمنية، إنما يبرهن على أنه فشل في الواقع فشلا ذريعا، ويسعى لتحقيق نجاح ــ أي نجاح ــ في العالم الافتراضي الوهمي، وهو ما يمثل أداة أخرى من أدوات القهر والقمع التي يجيد نظام الدكتاتور عبدالفتاح السيسي توظيفها لخدمة أجندته وأهدافه  وعلى رأسها ضمان بقاء النظام ونشر سرديته المزيفة عن أحداث ثورة 25 يناير 2011، وما تلاها بانتخاب برلمان ورئيس جمهورية مدني بنزاهة لأول مرة في تاريخ مصر وصولا إلى الانقلاب العسكري الذي قاده السيسي وأركان الدولة العميقة ونسف المسار االديمقراطي؛ لأن  تضليل عقول البشر هو على حد قول “باولو فرير” “أداة للقهر” فهو يمثل إحدى الأدوات التي تسعى السلطة الحاكمة من خلالها إلى تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة. فباستخدام الأساطير التي تفسر وتبرر الشروط السائدة للوجود بل وتضفي عليها أحيانا طابعا خلابا يضمن المضللون داخل السلطة وأجهزتها التأييد الشعبي لنظام اجتماعي لا يخدم في المدى البعيد أو حتى القريب المصالح الحقيقية للأغلبية، وعندما يؤدي التضليل الإعلامي للجماهير دوره بنجاح تنتفي الحاجة إلى اتخاذ تدابير اجتماعية بديلة. على أن تضليل الجماهير لا يمثل أول أداة تتبناها النخب الحاكمة من أجل الحفاظ على السيطرة الاجتماعية؛ فالحكام لا يلجأون إلى التضليل الإعلامي إلا عندما يبدأ الشعب في الظهور بصورة فجة كإرادة اجتماعية معاكسة لإرادة السلطة في مسار العملية التاريخية، أما قبل ذلك فلا وجود للتضليل بل نجد بالأحرى قمعا شاملا؛ إذ لا ضروروة هناك لتضليل المضطهدين عندما يكونون غارقين لآذانهم في بؤس الواقع.[[3]] فلا يوجد نظام يسعى لبناء شرعيته عبر المسلسلات والدراما إلا إذا كان فاشلا في بناء شرعية حقيقية تقوم على الإنجاز في المجال السياسي والاقتصادي، ولم يسبق أن طلب نظام من كبار نجوم السينما في بلاده أداء شخصية رئيسه وهو على قيد الحياة، إذ أن شرعية الرئيس الذي لا يزال في منصبه تبنى على إنجازاته ويعبر عنها من خلال خطاباته وظهوره الإعلامي، وإذا احتاج لشرعية أخرى فإنه يلجأ لإرث رؤساء سابقين أو مؤسسين للدولة التي يقودها، أما أن يسعى الرئيس لتغيير شكله وترويج إنجازات كاذبة وهو على رأس عمله، فهي سابقة لم تحدث حتى في أعتى الديكتاتوريات![[4]]

التفسير الرابع، فلسفة «الاختيار3»، تجسد رغبة الجنرال في الاختباء من الحقائق التي تحاصره بوصفه خوانا غدارا وقاتلا سفاحا ودكتاتورا لا يجيد سوى القتل والإجرام، وضحاياه بالملايين؛  وبهذه المسلسل يتمنى السيسي أن يكتب قصته كما يتمناها هو محاولا تحويل خطاياه إلى منتهي الاستقامة وجرائمه إلى بطولات مجيدة، ولكن هيهات هيهات. فجرائمه موثقة بالصوت والصورة وقد رآها ملايين الناس، ولن يستطيع الاختباء أو الهروب لا من الشعب المقهور ولا من من الحساب العسير أمام الله، وهذا هو الأهم. هكذا تأتي فلسفة “دراما الاختيار” تجسيدًا لتلك الرغبة في الاختباء من الواقع، والهروب إلى مستقبل تاريخ ليس في وسع أحد الاقتراب منه، لتصبح هنا امتدادًا أو انعكاسًا لفكرة اختراع جمهورية جديدة بعاصمة جديدة، بشعب جديد، يتوّهم أن يستطيع صناعته على عينه، وتشكيله وتربيته بالطريقة التي يحدّدها. على أنّ كل هذه الأسلحة التي استخدموها في العبور بالمسلسل فوق جثة التاريخ الحقيقي، قد انفجرت في وجوه أصحابها، ووضعتهم في حالة دفاعية مضحكة. من جانب آخر، تكشف هذه اللوثة القومية المصاحبة للمسلسل عن ارتداد عنيف وتراجع مخيف في مفهوم الفنون والنقد الفني، فصارت كل الصحف وكل الأقلام والمنابر تشترك في عرض تحليلٍ موّحد، وانطباعات نقدية واحدة، عقب كل حلقة، فيدهشك أن “عبدة المسلسل” صاروا نسخة واحدة، كلهم ينفعلون الانفعالات ذاتها، ويعبّرون عن الانطباعات نفسها، يكتبون الرأي ذاته، من دون أدنى اختلاف أو تباين في الألفاظ والمصطلحات، وكأنهم جميعًا ينقلون من “صحيح الأخبار فيما يتعلق بمسلسل الاختيار” لمؤلفه عبد الفتاح السيسي.[[5]]

الأهداف والمآرب

أولا، الجزء الثالث من «الاختيار» إنما يأتي  بعد تقديرات موقف قامت بها أجهزة السيسي الأمنية والمخابراتية تؤكد أن شعبية السيسي والنظام في الحضيض لهذا يلجئون إلى الدراما من أجل معالجة حالة الإفلاس الشعبي التي تواجه النظام؛ فـ«الاختيار 3» يستهدف الشريحة الكبيرة من المصريين التي تؤكد تقارير أجهزة السيسي أنهم لا يرون السيسي إلا فاشلا دمر حياتهم وأفقرهم على نحو غير مسبوق. لكل هذه الأسباب يتلاعب النظام بأدوات الدراما من أجل إظهار السيسي كبطل قومي ومرسي كخائن في قلب للحقيقة وتزييف للواقع الذي عاينه المصريون جميعا، وبرهنت الأيام على صحته ويكفي أن استقبال المصريين للمسلسل كان صادما للسيسي وأجهزته على نحو لا يصدق. معنى ذلك أن  الأعمال الدرامية هابطة القيمة عالية التكاليف يستهدف بها النظام ترميم شعبية الجنرال المتآكلة من جهة وتشويه صورة جماعة الإخوان المسلمين  والرئيس الشهيد محمد مرسي، من جهة أخرى؛ معنى ذلك أن  الجماعة لا تزال تحظى بشعبية جارفة بين ملايين المصريين، وإدارك الناس بحجم الافتراءات التي تتعرض لها الجماعة يتزايد، ووعيهم بأن الرئيس الشهيد مرسي ما انقلبت عليه عصابة العسكر ومافيا الدولة العيمقة وما قتلوه إلا لأنه كان شريفا بين الأوساخ، يقف بالمرصاد لفسادهم وظلمهم  ووعي المصريين بهذه الحقائق يتعاظم، ولو كان مرسي مهادنا ضعيفا لما تعجلوا الانقلاب عليه على  النحو الذي جرى، ولو كان يمكن تطويعه ليكون رئيسا صوريا لقبلوا به، ولو تقاسم معهم السلطة على نحو يضمن بقاء نفوذهم وفسادهم لما تآمروا عليه؛  ولكل هذه الأسباب ولأنه أراد تطهير بلاده من الفسدة والمجرمين نكلوا به على النحو الذي  جرى، وعاينه الناس جميعا.

ثانيا، نظام السيسي بهذه الأعمال الدرامية إنما يصر على فرض الانقسام المجتمعي وفق اعتماده على نظرية «صناعة العدو» لتسويق روايته الأمنية التي يتبناها مهما كانت مفبركة وبالغة الركاكة، فالمسلسل يحاول تكريس الرواية الأمنية حول ثورة يناير والإخوان وفترة حكم الرئيس محمد مرسي ثم الانقلاب وتبرير المذبحة الأكبر والأكثر وحشية في تاريخ مصر (رابعة والنهضة) وما يجري حاليا في سيناء، والحط مما عداها من روايات مهما كانت قوية وموثقة وشديد العمق والإقناع والشهود عليها بالملايين حيث جرى بثها بالصوت والصورة للعالم كله، وعلى هذا الأساس يتم  توظيف عناصر العمل الدرامي لتحقيق هذا الهدف،  فيتم توظيف القصة والسيناريو وانتقاء الممثلين والبنية النفسية لشخصيات العمل  والمبالغة في تمجيد السيسي وأجهزته الأمنية وضباط المخابرات والأمن الوطني ليظهروا في صورة طيبين غيورين على الوطن ويتصفون بصفات أسطورية ، مقابل الإسلاميين المتشددين الإرهابيين الذين يمثلون الشر. فـ«”المسلسل” يعكس منطق اللعبة الصفرية التي تمارسها وتجيدها كافة الأنظمة السلطوية، والتي تقوم على مبدأ: إما نحنّ وإما همّ. فيحاول المسلسل “أسْطَرَةَ” العسكر والشرطة، وترسيخ صورتهم الذهنية لدى العوام، وذلك من خلال استعراض “أسطوري” لشخصية ضباط الجيش والشرطة، في الوقت الذي يتم فيه إظهار الآخرين المعارضين في صورة شريرة حتى يستجلب التعاطف مع الأبطال الوهميين من ضباط الجيش والشرطة([6]) رغم أنهم السفاحون القتلة في معظم الأحدث التي جرت أثناء ثورة يناير وانقلاب 03 يوليو وما تلاهما.

ثالثا،  هذه الأعمال الدارمية تبرهن على غياب العقل والرشد؛ لأنها تكرس الانقسام وتقطع الطريق على أي أمل في لم الشمل الوطني في ظل التهديدات الضخمة التي تتربص بمصر وشعبها سواء من الشرق أو الجنوب؛ فالمسلسل يحتوي على كثير من الرسائل لكن أكثرها خطورة على الإطلاق هو تعميق تكريس الانقسام السياسي في مصر. ويمكن فهم أهداف ورسائل مسلسل “الاختيار” بأجزائه من خلال اعتماد النظام على الاستغراق في   نظرية “صناعة العدو” وتكريس الانقسام المجتمعي، بوضع الإسلاميين وعلى رأسهم الإخوان في خانة العدو؛ وتحت لافتة «الإرهاب المزعوم» الذي يتسع بحسب أهواء النظام ليضم جميع الإسلامين الرافضين لانقلابه، كما يتسع ليضم  قوى علمانية أبدت معارضتها لسياسات النظام وتوجهاته. يواصل السيسي حربه الدنسة على كل خصومه ومعارضيه؛ فالإرهاب هو البعبع الذي صنعه النظام بنفسه ويبالغ في تضخيمه من أجل توظيفه سياسيا وإقليميا ودوليا لخدمة أهداف ومصالح النظام حتى لو تعارضت مع الأمن القومي المصري.

فالإصرار على تمزيق المجتمع وتكريس الانقسام المجتمعي وفق نظرية صناعة العدو يأتي في ظل عجز كامل عن حماية الأمن القومي المصري أمام العدوان الإثيوبي على النيل وإصرار أديس أبابا على استكمال بناء السد وحجز مياه النيل وتحويلها إلى سلعة من خلالها يمكن ابتزاز مصر وضرب أمنها القومي بكل سهولة، كما تأتي هذه الأعمال الدرامية المشبوهة التي تكرس الانقسام وتمجد في الطغاة في ظل إصرار النظام على الارتقاء بالعلاقات مع الكيان الصهيوني من دائرة السلام البارد إلى التحالف الكامل في كافة المجالات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية؛ فبث المسلسل في أول شهر رمضان يأتي بعد أسبوع واحد فقط من عدة لقاءات ساخنة أبرزها قمة شرم الشيخ (الثلاثاء 22 مارس 2022) وضمت كلا من السيسي ورئيس حكومة الاحتلال الصهيوني نفتالي بينت وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد. ثم انعقدت قمة أخرى في مدينة العقبة الأردنية (الجمعة 25 مارس 2022) جمعت العاهل الأردني عبد الله الثاني والسيسي وولي عهد أبوظبي، إضافة إلى رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي ووزير الدولة السعودي تركي بن محمد بن فهد بن عبد العزيز، وسط أنباء عن حضور إسرائيلي غير معلن عنه. ثم كانت قمة العقبة الجمعة 25 مارس 2022م، التي  ضمت وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن بخمسة وزراء خارجية (إسرائيل ـ مصر ــ الإمارات ــ المغرب ــ البحرين)، وهي القمة التي اعتبرها البعض إيذانا بزعامة تل أبيب لحلف عربي إسرائيلي لمواجهة التهديدات المشتركة!

رابعا، المسلسل بأجزائه الثلاث، إنما يبرهن على تحولات العقيدة القتالية والأمنية للمؤسستين العسكرية والأمنية، فلم يعد النظام يقوم بوظائفه الأساسية في حماية الوطن وأمنه القومي، حتى لو كان العدو بالغ السفور في عدوانه كما في الحالة الإثيوبية التي تصر على حجز مياه النيل وتحويلها إلى سلعة يبترزن بها القاهرة على الدوام، أو تهديد الأمن القومي بسياسات سفيهة لا تدرك الفوارق الضخمة بين الأصدقاء والأعداء،  وتتخذ من الأعداء الألداء أصدقاء وحلفاء؛ فالمهم عند النظام العسكري هو قمع  المعارضين في الداخل الذين ينتقدون سياساته وتوجهاته، فهم أكثر خطرا على بقائه واستمراره؛ والغريب أن النظام العسكري يتعامل مع العدوان الإثيوبي الصارخ والسافر بشكل سياسي وعبر أدوات التفاوض رغم اليقين بعبثيتها، أما الخصوم المعارضون المطالبون بالحرية والديمقراطية فيتم التعامل معهم عسكريا وأمنيا في انقلاب صارخ لوظيفة الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية.

الخلاصة، حقق الجزء الأول من “الاختيار” نجاحا واسعا بلا شك؛ ذلك أن المسلسل حينها استهدف ترميم شعبية المؤسسة العسكرية، أسهم في نجاح العمل عدة أمور أبرزها أن شعبية تنظيم داعش في الحضيض ولا يتمتع بأي دعم أو مساندة شعبية، كما أن المؤسسة  العسكرية رغم التراجع الحاد في شعبيتها في أعقاب الانقلاب وما تلاه من مذابح ونكسات وتفريط في التراب الوطني وحقوق مصر المائية، إلا أنها لا تزال تحظى بشيء من الدعم الشعبي، ومن جهة ثالثة، فإن الجزء الأول تناول أحداث سيناء التي يضع النظام عليها سياجا من السرية والكتمان، ومن جهة رابعة، كان لتوظيف الحركة والإثارة والمشاهد المسلحة القوية دور في نجاح العمل.

على العكس من ذلك لم يحقق الجزء الثاني نجاحا كما حدث في الجزء الأول؛ لأنه سعى إلى ترميم صورة جهاز الشرطة والأمن الوطني وغسل يد الجيش والشرطة من جريمة مذبحة رابعة وغيرها، لذلك أشعل الجزء الثاني الصراع المجتمعي وكرس الانقسام الحاد داخل المجتمع المصري؛ ذلك أن جماعة الإخوان ليست كداعش حتى وإن حاول النظام الترويج لهذه الأكذوبة؛ فالجماعة تحظى بشعبية معتبرة ولها حاضنة شعبية لا يستهان بها.

الجزء الثاني (الاختيار 2) تصادم مع الإخوان والمتعاطفين معهم وهؤلاء يقدرون بالملايين، لذلك انقسم المصريون حوله، أما الجزء الثالث (الاختيار 3)، فإنه يتصادم مع المصريين جميعا؛ يريد عبر الدراما أن يسوق السيسي باعتباره بطلا قوميا أنقذهم من الخراب والدمار، لكن الناس لا يرون السيسي إلا دكتاتورا مزق البلاد وكرس الانقسام ونشر الفقر في أرجائها؛ فالمصريون لا يعنيهم سوى المعاناة التي يتعرضون له كل يوم بفعل الغلاء الفاحش والأسعار الملتهبة، والرسوم والضرائب الباهظة التي يفرضها النظام على المصريين، وسقوط عشرات الملايين منهم تحت خط الفقر، فباتوا لا يستطيعون توفير حاجاتهم الضرورية من طعام وملبس ومأوى بخلاف باقي بنود الإنفاق. مشكلة الجزء الثالث أنه يستهدف بصورة فجة وزاعقة ترميم شعبية السيسي المتآكلة، عبر الإلحاح على سردية السلطة عن الأحداث والإصرار على تضخيم الدور الذي قام به السيسي بوصفه عملا بطوليا شجاعا رغم أنه ارتكب جريمة مركبة من عدة جرائم، خان ولاء القسم للرئيس، وغدر به، وزج به وبالآلاف من أنصاره في السجن ظلما وعدوانا، ووظف الجيش والشرطة ومؤسسات الدولة لخدمة أغراضه الدنيئة، وقتل آلاف المصريين في عشرات الجرائم الوحشية التي لم تحدث من قبل.

«الاختيار 3» يأتي في وقت لا يتمتع فيه النظام بأي شعبية تذكر؛ لم يعد له بين المصريين رصيد، وأجهزة السيسي الأمنية يدركون ذلك أكثر من غيرهم، ويعلمون علم اليقين أن الغلاء الفاحش الذي لا يتوقف منذ قرارات التعويم في نوفمبر 2016م قتل في المصريين أي دعم أو مساندة للنظام؛ فالكل يعاني بشدة جراء هذه الأوضاع المتردية والكارثية، وحتى آولئك الذين كانوا يدعمون النظام باتوا يلعنون اليوم الذي جاء فيه؛ فلماذا ينفق النظام ببذخ على قصوره وطائرات الرئاسية ومدنه الجديدة التي لا يسكنها سوى الحاشية والأثرياء والأعمال الدرامية التي تمجده بينما يقبع عشرات الملايين من المصريين في فقر مدقع؟! أليس من الأولى توجيه هذه الأموال الطائلة لإقامة مشروعات إنتاجية حقيقية توفر الملايين من فرص العمل وتسهم في رفع مستوى معيشة المواطنين التي تتدهور باستمرار؟!

مشكلة السيسي أنه يُصر على أن معركته مع الإخوان، ويضخم في ذلك وينفح في الفتنة بإصرار عجيب رغم أن الإخوان إما في السجون والمعتقلات أو فروا خارج البلاد، ومن تبقى منهم  ليس لهم قوة أو تأثير. متى يدرك السيسي ونظامه وأجهزته أن معركتهم الحقيقة هي وقف الغلاء الفاحش ولجم سياسات الاقتراض  وحماية أمن مصر القومي المهدد من إثيوبيا وإسرائيل؟ لماذا يهرب السيسي من المعارك الحقيقية مثل حماية النيل وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء وإدارة موارد الدولة على نحو صحيح؟ لماذا يصر السيسي على الهروب من المعارك الحقيقية إلى المعارك المفتعلة؟ لماذا يصر على دور البطولة في العالم الافتراضي بينما يعيش المصريون في بؤس وشقاء؟ وهل يصلح نظام كهذا مصاب بالعمى وانعدام الرؤية وغياب الأولويات ليحكم بلدا عظيما وكبيرا بحجم مصر في هذا الظرف الحساس والخطير؟ لا يمثل استمراره كارثة كبرى على مصر وشعبها؟ لماذا يصرون على تكريس الانقسام وتمزيق النسيج الوطني؟ أم أن الهدف بهذه المسلسلات هو الهروب من هذه المعارك الحقيقية بافتعال معركة الإخوان وإلهاء الجماهير وتكريس الانقسام؟ لكل هذه الأسباب، استقبل المصريون المسلسل بسخرية لاذعة وتهكم واسع، قد يشاهدونه كنوع من التسلية لكن وعيهم بهذه الحقائق كبير وكبير جدا، وباتوا على وعي كامل بأن الهدف هو الدعاية الفجة والزاعقة والبروباجندا الممولة من جيوبهم لتعويم السيسي من جديد بعدما تآكلت شعبيته وباتت دون الحضيض.

ما حصل خلال الأيام الماضية من ردة فعل على محاولات تزوير التاريخ كان أمرا جيدا، ولكن المؤمنين بأهمية النضال ضد نظام القمع والانقلاب مطالبون بعمل مستدام لاستثمار الحدث. إن أهم ما يمكن عمله الآن هو البدء بحملة توثيق بالنصوص والفيديوهات والرسائل الصوتية من شهود عيان عبر منظمات حقوقية، ليتحول هذا الجهد إلى كتب ووثائق وأفلام وثائقية تبقى للأجيال القادمة، لضمان وصول الرواية الحقيقية لهم عن الأحداث،[[7]] وبات من الضروري التفكير في عمل سينمائي ضخم لتوقيق الحقيقة عن الجرائم الوحشية التي اقترفتها مليشيات السيسي من الجيش والشرطة والقضاء والإعلام في هذه الفترة العصيبة من تاريخ مصر.

—————————

 

 

[1] فراس أبو هلال/ الاختيار 3: لماذا يلجأ نظام “قوي” لتزوير التاريخ؟/ “عربي 21” ــ الإثنين، 04 أبريل 2022

[2] وائل قنديل/ الاختيار: حان الآن موعد آذان الكذب/ العربي الجديد ــ الأربعاء 06 ابريل 2022

[3] المتلاعبون بالعقول/ ترجمة عبد السلام رضوان، عالم المعرفة

[4] مرجع سابق.. فراس أبو هلال/ الاختيار 3: لماذا يلجأ نظام “قوي” لتزوير التاريخ؟/ “عربي 21” ــ الإثنين، 04 أبريل 2022

[5] وائل قنديل/ الاختيار: حان الآن موعد آذان الكذب/ العربي الجديد ــ الأربعاء 06 ابريل 2022

[6] خليل العناني/ بؤس “الاختيار” بين العسكر والإسلاميين في مصر/ الجزيرة نت  الخميس 7 مايو 2020

[7] فراس أبو هلال/ كيف يظهر “الاختيار2” أزمة النظام وكيف يمكن استثماره؟/ “عربي 21” ــ الإثنين، 19 أبريل 2021

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022