العلاقة بين الدولة والمجتمع في مصر في ظل الأزمة الاقتصادية

 

قراءة في مستقبل النظام وموقف المجتمع وسيناريو الثورة

 

أوضاع معيشية صعبة يعيشها المواطنون في مصر؛ جراء سياسيات اقتصادية ومالية مأزومة وغير رشيدة؛ مأزومة من جهة الظروف الصعبة التي فرضتها الحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاديات العالمية كلها خاصة الدول النامية، وغير رشيدة من جهة كونها سياسات غير تنموية، قائمة على الاقتراض وتدشين المشروعات غير الانتاجية، كما أنها لا تعبأ بالمواطن ولا بتداعياتها عليه.

بدت الحكومة واعية بالارتدادات السلبية للوضع الاقتصادي على المواطنين، والضغوط المفروضة على الناس، والتي تصير بمرور الوقت غير محتملة أكثر، لذلك جاء الخطاب الإعلامي للسلطة إما يدعو الناس للتقشف، أو يحذرهم من النظر للاحتجاجات كوسيلة للتعبير عن سخطهم، أو يحاول إيهامهم بأن القائمون على السلطة إلى أي مدى مستغرقون في عملية البحث عن حلول للمشكلات المعيشية التي يعيشها المواطنون.

وعلى مستوى السياسات اتخذت الحكومة عدة خطوات –تبدو قليلة الجدوى- للتقليل من الانعكاسات السلبية للاقتصاد على الأوضاع المعيشية للناس.

السؤال الذي يطرحه التقرير، هل تتجه الأمور صوب الانفجار؟ هل يلجأ الناس للاحتجاج تعبيراً عن سخطهم ويأسهم حيال ما هو قائم وخوفهم مما هو آت؟ من ناحية ثانية: هل يؤثر ذلك على استقرار السلطة للنظام الحاكم أم يهدد سيطرته واستقراره؟ هل ينقلب القائمون على السلطة على بعضهم البعض أم يظل تحالفهم قائماً بل قد يزداد قوة في مواجهة المخاطر التي تتهددهم جميعاً؟ من جهة أخيرة: هل تتأثر علاقة الدولة بالمجتمع بما يجري؟ أم تظل كما هي على وضعها الراهن بدون تغيير؛ حيث تسيطر الدولة ويواصل المجتمع انسحابه من المجال العام مكتفياً بتململه الصامت الحزين؟

بالتالي يدور التقرير حول محورين؛ المحور الأول: أثر الأوضاع المعيشية الصعبة على علاقة المجتمع بالسلطة وموقفه منها ومن القائمون عليها. المحور الثاني: أثر الأوضاع الاقتصادية الضاغطة على النخبة الحاكمة أو على التحالف القائم هل يدعم تحالفهم أم يشعل الخلافات بينهم؟

أولاً: هل يتغير موقف المجتمع من السلطة القائمة:

العلاقة بين الدولة والمجتمع يحكمها تعاقد عرفي غير مكتوب بين الجانبين، بموجبه تعترف فئات اجتماعية بحق الدولة في الحكم، مقابل التزامات يقع على عاتق الدولة الوفاء بها في المقابل. على سبيل المثال قام العقد الاجتماعي في الفترة من (1952-1978) على التزام الدولة بتقديم الرعاية الاجتماعية للمواطنين، وحفاظها على الكرامة القومية في سياساتها الخارجية، مقابل احتكار الدولة لصنع القرار السياسي وتحكمها في المجال العام. لكن ينبغي أن نلاحظ؛ أن هذه العقود الاجتماعية بين الدولة والمجتمع لا تقبل بها كل القوى الاجتماعية بالضرورة، بل هناك فئات اجتماعية ترفضها، لكن عادة ما تكون هذه الفئات غير قادرة على تقويض شرعية الدولة أو تهديد بقاء العقد الاجتماعي القائم[1].

كانت احتجاجات 26 يناير 1952، إيذاناً بأن العقد القائم بين الدولة والمجتمع لم يعد موضع رضا من الفئات الاجتماعية الداعمة له؛ خرج الطلاب وأفراد الشرطة صوب مقر الحكومة في شارع القصر العيني، للمطالبة بالمقاطعة الكاملة للإنجليز بعد جريمتهم بحق الشرطة في الإسماعيلية. غصت القاهرة بالمظاهرات، ومع المظاهرات اشتعلت النار في قلب العاصمة، حيث منطقة “وسط البلد” هي مركز المنشآت الاقتصادية الأجنبية، وأماكن ترفيه طبقة النصف بالمائة، في ذلك اليوم بين الساعتين الثانية عشرة والنصف والحادية عشرة مساءً، احترقت 700 منشأة، ما بين محل وسينما وكازينو وفندق ومكتب ونادي في شوارع وميادين الأوبرا والإسماعيلية (التحرير). في توصيف هذه اللحظة يقول المستشار طارق البشري أن الغضب المشتعل أعلن «أن النظام القديم قد انتهى وإن كان النظام الجديد لم يولد بعد»[2].

حتى الحريق نفسه لم يكن من فعل “بروليتاريا رثة” بمصطلح كارل ماركس، أو من فعل “العناصر الرديئة من المجتمع” بمصطلح عبد الرحمن الرافعي[3]، وإنما من فعل مواطنين أعماهم الغضب مما يحدث، وتحرروا من التزامهم تجاه النظام القائم؛ فقد فشلت مفاوضات الجلاء، وألغت حكومة الوفد المعاهدة مع الإنجليز، ودعا النحاس باشا العمال بالمعسكرات البريطانية لمغادرتها، وتصاعدت الأعمال الفدائية بالقنال، ورد الإنجليز باجتياح الاسماعيلية، ورفضت قوة الشرطة ببطولة التسليم، فأباد الجيش الإنجليزي ٦٠ ضابطا وجنديا قاتلوا بأبسط الأسلحة جيش الإمبراطورية[4].

ماذا عن اللحظة الراهنة؟ هل يثور الشارع على احتكار النظام الحاكم للسلطة، ومصادرته لكل المجال العام، وسعيه المحموم لاحتكار الثروة، والذي يظهر في عمليات التأميم التي طالت ممتلكات سيد رجب السويركي صاحب سلسلة محلات التوحيد والنور، وصفوان ثابت مالك شركة جهينة للألبان، وفي عمليات تهجير السكان من قلب العاصمة لبيعها للمستثمرين، وفي التمدد الاقتصادي للمؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية؟ ومن ثم خروجه على أي عقد اجتماعي كان يمكن أن يكون قائماً، فالدولة التي يؤسسها النظام الحالي هي دولة مفترسة[5] وليست دولة تعاقدية من أي نوع.

يرى علماء وباحثو الثورات والانتفاضات أن الفقراء لا يقومون بثورة ولا يدشنونها، ربما يلحقون بها، ولكنهم لا يبدؤونها، وأن الدول الفقيرة نادرا ما تشهد ثورات، وأن الثورات التي حدثت خلال القرون الثلاثة الأخيرة كانت في بلدان متوسطة الدخل وليست فقيرة، وأن الفقراء إنما يتمردون أو ينتفضون نتيجة للاحتقان والغضب المتراكم[6]، وثمة من يرى أن هذه الانفجارات الشعبية لا تتكرر أبدا في نفس الجيل؛ كأن هذه الطاقة الجمعية الرهيبة تتكثف طويلا ثم تنطلق دفعة واحدة مفاجئة، فتعود خامدة قد تحتاج عقودا كاملة للشحن[7]. تتأسس هذه النظرية التي تفترض أن الفقراء لا يثورون على تصور للثورة؛ باعتبارها فعل عقلاني رشيد، فعل يبرز فجأة لكنه يمتد لفترة طويلة، ومن ثم يستند بالضرورة على وجود مجتمع مدني ناشط، وقوى سياسية فاعلة وقادرة على حماية الثورة ومواصلة مسيرة التغيير، وهي الشروط التي تفتقدها بلادنا حالياً.

أما عن الأسباب، فبحسب استطلاع للرأي، أجري في مصر، خلال الفترة من 2 إلى 11 نوفمبر 2016، على عينة عشوائية، وتم استلام إجابات ٣٠٤ شخصاً شاركوا في الاستطلاع من مختلف المهن والتيارات والمستويات الفكرية والاجتماعية، وقد جاءت إجاباتهم على النحو الآتي: “٤٠٪ من أفراد العينة برروا ذلك بالمخاوف الأمنية، 20٪ برروا ذلك لافتقاد الغلابة المعرفة والوعي، و١٥٪ أرجعوا سكون الغلابة إلى مناخ الفقر والجوع والمرض الذي يعيشونه، و٢٠٪ عزوا ذلك الخنوع من قبل الغلابة لأسباب سياسية، في حين قال 1% إن الغلابة سوف يثورون، و٣٪ توجهوا بشتائم ضد الغلابة جراء صمتهم”[8].

من الجيد هنا استحضار الطرح الذي قدمه أصف بيات، حول الطريقة التي يعبر بها الفقراء والمهمشون عن مواقفهم وسياساتهم، ويقاومون بها عمليات التهميش والإقصاء الممارس ضدهم، وأول سمات هذه المقاومة، أنها تجري خلال الحياة اليومية وليس من خلال أعمال استثنائية مثل حضور اجتماعات ، أو عرض التماسات، أو ممارسة ضغوط واحتجاجات… الخ، كما أنها مقاومة غير ناطقة، لا تعبر عن أيديولوجيا معينة، ولا تتبع قيادة موحدة، ولا يحكمها تنسيق أو اتفاق بين المنخرطين فيها، فهي ممارسات عفوية تكتسب قوتها وقدرتها على إحداث التغيير من مشاركة أعداد كبيرة من الناس العاديين فيها، فهي نتاج “تجاوزات هادئة لأناس عاديين”[9]، مثل: من يضيفون غرفا إلى بيوتهم دون ترخيص رسمي من الدولة. واحتلال ملايين الباعة اماكن مدينية متميزة لبيع منتجاتهم، دون حيازة رخص لذلك.  والأساتذة الذين يلجأون الى اعطاء الدروس الخصوصية، فيخلقون بالتالي شبكة من نشاطات «التعليم الخاص غير الشرعي الواسع النطاق»[10]، وغيرها من الممارسات المقاومة لسلطة الدولة التي تتعامل مع السكان باعتبارهم أشياء يمكن تحركها في أي وقت وفي أي اتجاه وفق هوى القائمون على السلطة.

في الأخير، قد لا يثور الناس على الأوضاع المتردية، وقد يكون من الصعب تكرار مشهد 28 يناير 2011 مرة أخرى بواسطة الجيل ذاته، مع ذلك يواصل الناس العاديون والمهمشون المقاومة ضد سياسات اقصائهم، ويراقبون المجال السياسي عن كسب، ليروا هل جد ما يستحق دخولهم المعترك السياسي، أم يوصلون مقاومتهم الهادئة بعيداً عن ضجيج النخب الذي لا يسفر عن أي طحين[11].

ثانياً: مستقبل العلاقة بين القائمين على الحكم:

يبدو هذا المتغير -بحسب كثير من المراقبين[12]– هو الأهم في استشراف مستقبل أي نظام سياسي، فالتحركات الشعبية ضد نظم الحكم تصيب حظاً من النجاح إذا صاحبها حدوث انشقاقات وتباين في المصالح ووجهات النظر بين نخبة الحكم.

في مصر، فإن الثنائي مؤسسة الرئاسة والمؤسسة العسكرية هما قلب التحالف الحاكم في مصر في ظل حكم السيسي، وهو تحالف قائم منذ انقلاب الضباط في 1952، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا التحالف كان يشهد دخول عناصر أخرى، مثلا في عهد مبارك كان الجهاز الأمني مكون رئيس في هذا التحالف يعامل على مستوى الندية مع المؤسسة العسكرية، وكان رجال الأعمال مكون رئيسي آخر في التحالف الحاكم في عهد مبارك، أما في عهد السيسي فإن المكون العسكري هو أبرز مكونات هذا التحالف، أما الداخلية فتأتي في درجة أدنى بعد ذلك. مع استبعاد رجال الأعمال، وحتى في حال مشاركتهم في شبكة السلطة فإن دخولهم يكون عبر بوابة الجيش والمخابرات وليس كشريك مستقل للقائمين على الحكم.

بالتالي يعتمد الرئيس في تأمين بقائه بالسلطة على دعم العسكريين له؛ لذلك حرص منذ البداية على تسليط الضوء دائماً على هذه العلاقة أمام الرأي العام؛ فقد قدم نفسه للجمهور، إبان ترشحه للرئاسة، كرجل المؤسسة العسكرية للحكم وليس حاكمًا بخلفية عسكرية، فهو أعلن نيته بالترشح بعد إخطار القوات المسلحة[13]، كما أنه أعلن ترشحه مرتدياً الزي العسكري العملياتي كأنه مفوض بمهمة عسكرية لحكم مصر من قبل الجيش[14]، وبعدها كان دائم الحرص في خطاباته على التأكيد على عملية الشراكة مع المؤسسة العسكرية، إضافة للحضور الكثيف للعسكريين في جهاز الدولة البيروقراطي، وفي إدارة وتنفيذ المشروعات الانشائية الكبيرة التي يدشنها النظام، وخلال كل الفاعليات التي تنظمها الرئاسة.

أما المؤسسة العسكرية، فلو نظرنا لتجربتها مع مبارك، لوجدنا أنها تٌسير علاقتها مع ساكن قصر القبة وفق مبدأين؛ الأول: الابقاء على تحالفها معه، والحفاظ على استقرار النظام القائم، مع العمل على تعظيم مكاسبها. الثاني: البقاء في خلفية الصورة وليس في صدارة المشهد، بمعنى إن خرجت تظاهرات ضخمة تطالب بالتغيير ونجحت قوات الشرطة في قمع المحتجين، استمر الجيش في تحالفه مع النظام القائم، أما إن نجحت الاحتجاجات في كسر الطوق الأمني وباتت تمثل تهديد مباشر للنظام القائم، نأى العسكريون بأنفسهم عن أن يكونوا ورقة النظام الأخيرة التي يجازف بها للبقاء. بمعنى أن العسكريون في مصر قوى محافظة لا ترضى التغيير الثوري، وتقبل بما هو قائم ما دامت مصالحهم محفوظة، وهي في الوقت ذاته قوى برجماتية ستحمي مصالحها حتى لو على حساب السيسي. وفي الوقت الراهن ليس ثمة تهديد حقيقي للنظام القائم، بالتالي تحافظ المؤسسة العسكرية على تحالفها مع السيسي، خاصة مع التمدد الاقتصادي غير المسبوق الذي حققته في ظل نظام الثالث من يوليو.

الخاتمة.. هل تشهد مصر عودة الاحتجاجات الشعبية:

شهدت الفترة الماضية ارتفاع كبير في أسعار السلع والخدمات في مصر، خاصة السلع الغذائية[15]، وذلك كجزء من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، ونتيجة للممارسات الاحتكارية واستغلال الأوضاع من قبل تجار ومستثمرين، ومع قرار الحكومة خفض قيمة العملة المحلية أمام الدولار الأمريكي بنسبة 14%، ليسجل 18,7 جنيه مقابل الدولار، ازدادت الأوضاع سوءاً، وقد فجر ذلك موجة غضب واسعة بين المواطنين، استياء عبر عن نفسه عبر مواقع التواصل الاجتماعي المجال الوحيد المتاح مع مصادرة الدولة للمجال العام، وقد أعرب كثيرين عن انتقادات واسعة للحكومة واتهامها بانتهاج سياسات تضر بالمجتمع المصري[16]، كما “وجه فريق من المغردين سهام النقد إلى التجار و”استغلالهم للأزمة”، معبرين عن قلقهم من “الاحتكار” التجاري أو التلاعب بأسعار السلع الأساسية. بالإضافة إلى توجيه اللوم لسلوك تخزين السلع من قبل البعض، والذي بدوره يؤدي إلى ندرة المواد وارتفاع أسعارها”[17]. وقد توقعت تقارير دولية، أن تستمر الأوضاع الاقتصادية السيئة، مما سيلقي بظلال كئيبة على الدول النامية بشكل خاص، وقد يقود إلى حدوث احتجاجات وأعمال شغب[18].

في مواجهة هذه التطورات، وبتوجيه من القيادة السياسية، “أصدرت القيادة العامة للقوات المسلحة أوامرها لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية وجهاز الخدمات العامة بتوفير السلع الغذائية الأساسية من خلال المنافذ الثابتة والمتحركة بأسعار مخفضة[19]“، كما “بدأت وزارة الداخلية ولمدة شهر طرح سلع غذائية بتخفيضات تصل إلى 60% عبر نحو ألف فرع ومنفذ في إطار إطلاق فعاليات المرحلة الـ22 من مبادرة “كلنا واحد”، وتستمر حتى منتصف الشهر المقبل[20]“، كذلك شكلت الحكومة لجنة لمواجهة تأثير الأزمة العالمية الراهنة على السلع الاستراتيجية في مصر، وقد ترأس رئيس الوزراء مصطفى مدبولي الاجتماع الأول للجنة، بحضور عدد كبير من الوزراء، من بينهم وزير الداخلية، ومدير جهاز مشروعات الخدمة الوطنية للقوات المسلحة، على أن يعقد الاجتماع بشكل أسبوعي طوال فترة استمرار الأزمة[21]. وكان ثمة إجراءات أخرى اتخذتها الحكومة في ذات الإطار؛ فقد قررت الحكومة، مطلع مارس الحالي، حظر تصدير 5 سلع هي الفول والعدس والمعكرونة والقمح والدقيق بجميع أنواعه، لمدة ثلاثة أشهر، كما وجه الرئيس بدفع حافز إضافي للمزارعين الموردين للقمح المحلي، في محاولة لتشجيعهم على توريد كل المحصول وعدم تخزين أي كميات منه[22]، وغيرها من القرارات خلال الفترة الماضية، لامتصاص تداعيات الأزمة، وللحيلولة دون تحول السخط المكتوم إلى ممارسات احتجاجية.

والسؤال الختامي، هل يتحول السخط المكتوم؛ جراء الظروف المعيشية الصعبة والمرشحة للاستمرار، إلى ممارسات احتجاجية؟

الجزء الأول من الإجابة، أن الناس يلجئون عادة لوسائل وممارسات غير سياسية، للتخلص من طوق الظروف المعيشية القاسية الممسكة بتلابيبهم؛ خاصة مع مصادرة المجال العام من جانب السلطة، وإتباع سياسات قمعية، وتصوير كل معارضة باعتبارها خيانة وتهديد للأمن القومي، مع هذه التكلفة العالية للطرق الكلاسيكية للاحتجاج، تلجأ الجماهير عادة لطرق مرنة، من قبيل التهرب من الالتزامات المتصاعدة التي تفرضها السلطة[23]، تبني السلبية كنهج احتجاجي في التعامل مع أية دعوات تطرحها السلطة، وأحياناً يلجأ البعض لممارسات يجرمها القانون، بل وتجرمها الأخلاق، مثل الاتجار في المخدرات، والعمل في الدعارة، كوسيلة لتلبية الاحتياجات الملحة، بتكلفة أقل من تكلفة الاحتجاج السافر على السياسات المجحفة المتبعة من قبل السلطة، في هذا السياق يرى كثير من المراقبين أن انتشار الأغاني الشعبية نوع من احتجاج الهامش على عمليات اقصائه وتهميشه، ومحاولة للصعود الاجتماعي قليل التكلفة[24].

لكن هذا لا يعني أن الناس لن تلجأ للممارسات الاحتجاجية وللفعل السياسي للتعبير عن مواقفهم؛ إنما يعني أن الجماهير تنتظر الطليعة التي تفتح كوة في السياج الحديدي المضروب حول المجال السياسي.

الجزء الثاني من الإجابة، أن التحالف الحاكم، وهو ذات طبيعة أمنية، ويقع في قلبه كبار جنرالات المؤسسة العسكرية، سيظل على التزامه تجاه معادلة الحكم القائمة، ما دام النظام القائم يضمن تحقيق مصالحهم الخاصة، ويحمي توسعهم الاقتصادي المستمر ومكاسبهم المادية المتنامية، وما دامت تكلفة بقاء النظام الحالي أقل بكثير من تكلفة تغييره.

الجزء الأخير، القوى السياسية المعارضة، والمجموعات الثورية، والحركات السياسية والاحتجاجية، تبقى هي القادرة على قلب الطاولة وتغيير الموازين، تُخرج الجماهير عن صمتهم، وتجبر السلطة على مراجعة سياساتها. لكن هذه القوى، في الوقت الحالي، خارج الحسابات، مشغولة بمشكلاتها الداخلية، أصابتها الشيخوخة والترهل، ولم تظهر بعد قوى جديدة تخلف من تجاوزته عجلة التاريخ، وتعيد الأمور إلى نصابها.

 

 

—————-

[1] هشام جعفر، مصر.. عقد اجتماعي جديد للجمهورية الثانية، مصر 360، تاريخ النشر: 24 مارس 2021، شوهد في: 22 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/ya2gnbbd

[2] محمود هدهود، حمو بيكا ومجدي شطة: حتى لا تحترق القاهرة مرة أخرى، إضاءات، تاريخ النشر: 15 نوفمبر 2018، شوهد في: 22 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/ybutoksw

[3] المرجع السابق.

[4] محمد أبو الغيط (فيس بوك)، من أحرق مدينتي؟، تاريخ النشر: 26 يناير 2021، شوهد في: 22 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/ycln8oly

[5] James Kenneth Galbraith, The Predatory State, LINK: Microsoft Word – MacKenzie7.doc (psu.edu)

[6] خليل العناني، هل يثور الفقراء؟!، الجزيرة نت، تاريخ النشر: 15 فبراير 2022، شوهد في: 22 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/y8pq7e4q

[7] محمد أبو الغيط (فيس بوك)، من أحرق مدينتي؟، مرجع سابق.

[8] صلاح بديوي، بين الأمن والجوع: لماذا لا يثور الغلابة؟، المعهد المصري للدراسات، تاريخ النشر: 15 نوفمبر 2016، شوهد في: 23 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/ydgbxrbx

[9] مجيد رفيع زاده، آصف بيات في كتابه “الحياة كسياسة: كيف يغير أناس عاديون الشرق الأوسط”، جدلية، تاريخ النشر: 24 يناير 2011، شوهد في: 23 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/ycytmmqu

[10] نوبار هوفسبيان، الناس العاديون في السياسة آصف بيات، بدايات، شوهد في: 23 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/y8hu8m9g

[11] لا يتبنى الباحث التصورات التبسيطية، التي ترى أن هناك علاقة طردية مباشرة بين تردي الأوضاع المعيشية وبين الثورة؛ بحيث يقود تردي الأوضاع حتماً للثورة والاضطراب؛ بل يرى الباحث أن ثمة متغيرات أخرى تحكم تعاطي الناس مع التحديات التي تعرض لهم، من أهم هذه المتغيرات “متغير حرية الإرادة الإنسانية”، فالفعل والسلوك الإنساني ليس مجرد انعكاس شرطي للظروف، إنما ينبع عن إنسان حر يمتلك الإرادة ويتدخل في تشكيل تعاطيه مع السياق القائم جملة واسعة من المتغيرات. وخلال الفترة الماضية حذرت كثير من المقالات والتقارير من احتمالية حدوث احتجاجات شعبية واسعة كردة فعل على تردي الأوضاع المعيشية جراء أزمة كورونا ومن بعدها الحرب الروسية على أوكرانيا، منها: وفاء علوش، الأزمات الاقتصادية وثورات الرمق الأخير، TRT عربي، تاريخ النشر: 21 مارس 2022، شوهد في: 23 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/y7xctfrk & دويتش فيله، حرب أوكرانيا.. هل تتسبب في أزمة خبز تقود إلى “ربيع عربي” جديد؟، تاريخ النشر: 19 مارس 2022، شوهد في: 23 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/y82gkfmr

[12] خليل العناني، هل يثور الفقراء؟!، الجزيرة نت، مرجع سابق.

[13] CBC مصر (يوتيوب)، الحوار الكامل | للمشير السيسي في أول ظهور تليفزيوني له، تاريخ النشر: 7 مايو 2014، شوهد في: 22 فبراير 2022، الرابط: https://tinyurl.com/ya4cdlrv

[14] سارة تونسي، علي الرجال، كيف نجح السيسي في إعادة إنتاج السلطوية في مصر؟، رواق عربي، تاريخ النشر: 20 مايو 2021، شوهد في: 24 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/y8hu7gqe

[15] محمد مغاور، مع استمرار حرب أوكرانيا.. إلى أين ستصل معاناة المصريين؟، عربي 21، تاريخ النشر: 21 مارس 2022، شوهد في: 22 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/ybtpnj7s

[16] محمد فرحان، خفض الجنيه ورفع سعر الفائدة.. المصريون يكتوون بنار الأسعار قبل رمضان، دويتش فيله، تاريخ النشر: 22 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/ycz62oqm

[17] BBC عربي، روسيا وأوكرانيا: ارتفاع الأسعار يشعل موجة غضب عبر مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، تاريخ النشر: 13 مارس 2022، شوهد في: 23 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/ydahzm7v

[18] مصر 360، تقارير دولية تدق ناقوس الخطر.. أزمة الديون العالمية تنبئ بـ ”احتجاجات شعبية”، تاريخ النشر: 22 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/yctpskgc

[19] وكالة أنباء الشرق الأوسط، بناءً على توجيهات السيسي.. القوات المسلحة توفر السلع الغذائية الأساسية للمواطنين بأسعار مخفضة بالمنافذ الثابتة والمتحركة، تاريخ النشر: 16 مارس 2022، شوهد في: 22 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/y7a8olsc

[20] محمد عبد الله، مصر تستنفر الجيش والشرطة لتوفير السلع الغذائية بسبب الغلاء، الجزيرة مباشر، تاريخ النشر: 17 مارس 2022، شوهد في: 22 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/y7caj5pw

[21] المرجع السابق.

[22] العربي الجديد، مصر: إجراءات حكومية بتوصيات أمنية لإدارة الأزمة الاقتصادية، تاريخ النشر: 21 مارس 2022، شوهد في: 22 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/yc3f7qfx

[23] سرقة الكهرباء على سبيل المثال، البناء على أراضي مملوكة للدولة، التهرب الضريبي.. إلخ.

[24] ماريو ميخائيل، عن العاديين بشكل استثنائي.. ويجز وروبي كنماذج، مصر 360، تاريخ الاطلاع: 24 مارس 2022، الرابط: https://tinyurl.com/yav8tfls

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022