الدور الأمريكي في الانقلاب على الرئيس مرسي

 

كان الموقف الأمريكي من انقلاب 03 يوليو 2013م مركزيا يتجاوز حدود الانحياز ليصل إلى الضلوع والتورط وفقا للشواهد والتصريحات والأدلة والبراهين، وكان للسفارة الأمريكية بالقاهرة والسفيرة آن باترسون التي تولت منصبها في 2011 وغادرت في أعقاب مذبحة رابعة دورا محوريا في إدارة الدفة وتوجيه جميع الأطراف التي وظفتها واشنطن (الجيش ــ الشرطة ـ القضاء ــ الإعلام ــ الكنيسة ــ العلمانيون ــ أموال الخليج) من أجل تحقيق هدف واحد هو نسف الثورة المصرية والعصف بالمسار الديمقراطي الوليد وإعادة الجيش إلى حكم البلاد منفردا في نسخة أكثر عنفا وتطرفا وفسادا. توزعت أدوار المؤسسات الأمريكية من أجل إنجاح الخطة؛ فباترسون كانت تتواصل بشكل وثيق مع المعارضة العلمانية في القاهرة وتوجههم باستمرار  نحو إثارة حالة من الهيجان والرفض والتشكيك في كل إنجاز وتشويه صورة المسار والرئيس، وهي من كانت حبل الربط بينهم وبين الجيش. بينما كان البنتاجون على تواصل مستمر مع السيسي وكان الخط الساخن بين تشاك هيجل وزير الدفاع الأمريكي وقتها، والسيسي لا يتوقف وتستغرق المكالمات بينهما ساعات طوال، وعندما وقع الانقلاب تواطأت الإدارة الأمريكية وتجاهلت الموقف عمدا وامتنعت عن وصفه بالانقلاب وضغطت على مرسي وحكومته من أجل التسليم بالانقلاب والقبول به، من أجل تواصل الدعم الأمريكي للسلطة العسكرية الجديدة، ومنح السيسي شرعية لانقلابه؛ لكن ذلك لم يحدث، فباركت واشنطن المذابح التي وقعت ولم تفعل شيئا سوى الاستنكار الباهت بينما كان السلاح الذي يستخدمه الانقلابيون في المذابح أمريكيا.

إزاء ذلك، ما كواليس وحدود الدور الأمريكي في الانقلاب؟ وما الخفايا التي قامت بها السفيرة آن باترسون؟ ولماذا جيء بها خصيصا للقاهرة في هذه الفترة الحرجة؟ وما دلالة ذلك؟ وما أهداف واشنطن من رعاية الانقلاب والإشراف عليه؟ وما علاقة ذلك بالمصالح الأمريكية وأمن الكيان الصهيوني؟ وما أهم الدروس التي نستخرجها من هذه التجربة رغم مرارتها؟

دور باترسون والسفارة 

أولا، يحمل قرار الإدارة الأمريكية بتعيين آن باترسون سفيرة في القاهرة في أغسطس 2011م بعدا مهما للغاية؛ ذلك أن باترسون كانت سفيرة لواشنطن في باكستان خلال الفترة من 2007 حتى 2010، وبذلك تكون باترسون قد انتقلت من أكثر مناطق العالم سخونة في الحرب الأمريكية ضد الإرهاب إلى القاهرة. في إشارة لا تخفى دلالتها؛ فقد كانت باترسون تملك خبرة كافية في التعامل مع الحركات الإسلامية وتقود غرفة العمليات الأمريكية ضد تنظيمات القاعدة وطالبان، بعد الإطاحة بحكم الأخيرة بعد الاحتلال الأمريكي لأفغانستان في أعقاب تدمير مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر 2001م. ورغم  الاختلاف بين المشهدين في كل من الشرق الأقصى (أفغانستان ــ باكستان) والشرق الأوسط (مصر)، إلا أن القرار الأمريكي بتعيين باترسون ذات الخبرات الكبيرة في الحرب ضد التنظيمات الإسلامية المسلحة هو رسالة واضحة بأن واشنطن تعتبر الساحة المصرية بعد الثورة ساحة حرب جديدة ضد الإرهاب وأن النفوذ الأمريكي فيها بات مهددا على نحو خطير، لا سيما في ظل تقديرات الموقف التي أجمعت على أن الإسلاميين وعلى رأسهم الإخوان هم أكثر التنظيمات الشعبية حضورا وجاهزية لحكم البلاد بإرادة الشعب الحرة مع دخول البلاد تجربة ديمقراطية جديدة في أعقاب الإطاحة بمبارك. مصدر الخطورة على النفوذ الأمريكي هنا أن الإخوان سوف يهددون المعادلة الأمريكية المستقرة في مصر والمنطقة منذ اتفاقية كامب دفيد سنة 1978م، والتي تضع في الاعتبار حماية المصالح  الأمريكية وعلى رأسها الأمن الإسرائيلي باعتباره أولوية مطلقة في السياسية الخارجية الأمريكية، وصعود الإخوان هو أكبر  تهديد للمصالح الأمريكية والمشروع الإسرائيلي في المنطقة وهو المشروع الذي تراعاه الولايات المتحدة منذ نشوئه في مايو 1948م وتمده بكل أسباب الحياة والديمومة والقوة.

ثانيا، معروف عن “باترسون” عداءها الشديد للإسلاميين والإخوان على وجه الخصوص؛ وفي حوار مع صحيفة «جلوبال بوست» الأمريكية فى شهر أكتوبر عام 2011، أعلنت “آن  باترسون” رفضها لقاء أعضاء الإخوان المسلمين بسبب عدم ارتياحها.  وعندما سئلت عن ذلك في إبريل 2012م أجابت: «أعتقد أن ذلك كان تصريحاً مبكراً، ولكن الأمر قد تغير بعد الاندماج فى العملية السياسية، والتحاور مع مختلف أطياف الأحزاب السياسية بمصر، للتعرف بشكل أكبر عليهم، وذلك بحكم المصالح الاستراتيجية الكبرى لنا فى البلاد، ومجدداً فالأمر يعود فى النهاية إلى رغبة الشعب فى تحديد مصيره، والقرار لا يرجع لنا على الإطلاق».[[1]]

ثالثا، المدة التي قضتها “باترسون” في القاهرة، هي أقصر مدة قضاها سفير أمريكي بمصر؛ حيث مكثت سنتين فقط، بدأت في أغسطس 2011 في أعقاب الإطاحة بالرئيس الأسبق حسني مبارك بشهور قليلة وحكم المجلس العسكري خلال الفترة الانتقالية،  وانتهت في أغسطس 2013م؛ حيث تم سحق الثورة وإجهاض التحول الديمقراطي؛  معنى ذلك أن  باترسون جاءت إلى القاهرة والثورة في حالة صعود وانتشار، وتركتها والثورة في حالة جمود وانكسار، وهذا هو جوهر المهمة التي كُلفت بها باترسون من البيت الأبيض (القضاء على الثورة المصرية تماما وإجهاض حلم المصريين في نظام حكم ديمقراطي رشيد، وسحق الإسلاميين الذين يمثلون مركز القوة والمناعة في المجتمع المصري ضد المصالح الأمريكية). جاءت باترسون إلى القاهرة والثورة في حالة قوة وانتشار؛ حيث الانتخابات البرلمانية في نوفمبر 2011، ثم مؤامرات الدولة العميقة وحل البرلمان والإعلان الدستوري المكمل وانتخابات الرئاسة في يونيو 2012م، والحرب التي خاضها معسكرة الثورة ضد الدولة العميقة التي كانت تعرقل كل خطوات التحول الديمقراطي، والحرب التي شنها العلمانيون على المؤسسات المنتخبة ثم أحداث الاتحادية وصولا إلى مشهد الانقلاب في 03 يوليو، ومذابح الحرس والمنصة ورابعة والنهضة وغيرها، كل هذه الأحداث الساخنة جرت أثناء وجود آن باترسون على رأس السفارة الأمريكية بالقاهرة. ولم تترك باترسون منصبها إلا والثورة في حالة هزيمة وانكسار بعدما تمكن الجيش والدولة العميقة من السيطرة المطلقة على البلاد من جديد. في وجود باترسون جرت كل هذه الفظائع والمذابح وتم نسف جميع المؤسسات المنتخبة بإرادة الشعب الحرة (البرلمان ـ الرئيس ـ الدستور)، وتم سحق الإسلاميين بوصفهم مصدر الخطر الأكبر على المشروع الأمريكي الإسرائيلي في مصر المنطقة.

رابعا، خلال هذه الفترة كانت تحركات باترسون  والسفارة الأمريكية متناغمة تماما مع التوجهات الأمريكية غير المعلنة (إجهاض الثورة والمسار الديمقراطي ــ تمكين الجيش والدولة العميقة ــ سحق الإسلاميين ــ إعادة عقار الساعة إلى الوراء ما قبل 25 يناير 2011). في سبيل تحقيق هذه الأجندة الخفية جرى استخدام أدوات كثيرة، أبرزها تشكيلات وكتائب الدولة العميقة داخل مؤسسات الدولة (الجيش ــ الشرطة ــ القضاء ــ الإعلام)، كما تم توظيف ورقة العلمانيين ليمثلوا غطاء كثيفا من الهيجان والفوضى والمظاهرات والتصريحات والحرب التي لا تتوقف ضد الإسلاميين وحتى ضد إجراءات التحول الديمقراطي والتشكيك فيها وعدم التسليم بنتائجها بخلاف تشويه كل إنجاز، وتكوين حاضنة جماهيرية لقرارات الدولة العميقة التي تنسف كل إجراءات التحول الديمقراطي باستمرار وتنسف كل المؤسسات المنتخبة وسط ترحيب ومباركة من العلمانيين. كما تم توظيف الكنيسة، لإبراز المخاوف باستمرار من حكم الإسلاميين وتسخين ملف الفتنة الطائفية وكان رعاياها هم السواد الأعظم في حشود 30 يونيو. ولإنجاح كل ذلك تم الاستعانة بالنفوذ والمال الخليجي للإنفاق على هذه المؤامرة الكبرى تحت رعاية أمريكية إسرائيلية مباشرة.

خامسا، بالطبع كانت السفيرة تخرج باستمرار لوسائل الإعلام لتؤكد على ضرورة احترام الديمقراطية وإرادة الشعب وتستخدم لغة دبلوماسية لتؤكد على احترام واشنطن لخيارات الشعب المصري. هذا كان المعلن، لكن هذه الدبلوماسية كانت تتعرض لاختبارات قاسية أحيانا وهي الامتحانات التي أدت إلى انكشاف الموقف  الأمريكي، أبرزها مثلا قرار حل البرلمان بحكم المحكمة الدستورية في 14 يونيو 2012م، كذلك الإعلام الدستوري المكمل في 17 يونيو 2012م، فهذه الإجراءات في جوهرها هي انقلاب ناعم ونسف لكل خريطة الطريق والتحول الديمقراطي وإعادة السلطة التشريعية كاملة للعسكر وفرض وصاية عسكرية على النظام السياسي في مصر حاضرا ومستقبلا، لكن البيانات الأمريكية خرجت بصياغة غامضة تتحدث عن ضرورة احترام الديمقراطية دون إدانة واضحة لهذه القرارات التي تنسف أي معنى للديمقراطية. لكن وزارة الدفاع الأمريكية “البناجون” أصدرت بيانا الجمعة 15 يونيو 2012، دعا فيه وزير الدفاع الأمريكي “ليون بانيتا”  المشير طنطاوي، رئيس المجلس العسكري، في اتصال هاتفي، إلى المضي قدما على وجه السرعة بعملية الانتقال السياسي وإجراء انتخابات تشريعية جديدة في أسرع وقت![[2]] بما يعني مباركة أمريكية لحل البرلمان وتجاهل الإعلان الدستوري المكمل الذي ينسف فعليا عملية الانتقال السياسي.

سادسا،  التواصل المستمر مع قادة الدولة العميقة وترتيب خطوات الانقلاب على الثورة والمسار الديمقراطي في الغرف المغلقة؛ وقد اعترف السيسي نفسه بذلك خلال جلسات النسخة الرابعة من منتدى شباب العالم التي أقيمت في الفترة من 10 إلى 13 يناير 2022م بمدينة شرم الشيخ، حيث قال السيسي ــ خلال لقاء “شركاء التنمية” على هامش المنتدى، أنه في سنة 2011م، التقى السفيرة الأمريكية (يقصد آن باترسون)، فسألته: مين اللي ممكن يحكم مصر؟، فرد عليها: الإخوان. قالت: وبعدين؟ قال لها: وهيمشوا. وتابع: قالت لي: ليه؟ قلت لها: الشعب المصري ده لا يحكم بالقوة، ميخشش الجامع والكنيسة بالعافية، وده اللي حصل، والكلام مسجل في محاضر رسمية”.[[3]] وهذا في جوهره اعتراف الخيانة والتآمر؛ إذ كيف لمدير جهاز المخابرات الحربية أن يناقش أسرار الدولة مع سفيرة أجنبية؟ ألا يعد اعتراف السيسي برهانا على أن التجهيز للانقلاب كان مبكرا جدا؟ كما أقرت “باترسون” نفسها أنها تعرف السيسي حق المعرفة حيث قالت في ندوة أعدها مركز أبحاث أمريكي في فبراير 2019م: «أعرف السيسي بشكل جيد، والتقيت به بعد أن أصبح رئيساً، وهو قال إنني زرته والتقيت به 32 مرة لذلك أنا أعرفه حق المعرفة».[[4]] فما الذي يدفع وزير دفاع يلتقي بسفيرة دولة أجنبية 32 مرة خلال أقل من سنة (أغسطس 2012 ــ يونيو 2013)؟! معنى ذلك أن السيسي كان يلتقي أسبوعيا بالسفيرة الأمريكية خلال هذه الفترة!

سابعا، رغم  حرص السفارة الأمريكية على إخفاء أجندتها الخفية وعدم إظهار تحركاتها المضادة للثورة والديمقراطية إلا أن بعض التحركات جرى الكشف عنها لتبرهن على حجم العداء السافر للثورة والمسار الديمقراطي.

  • ومن أهم هذه المواقف، ما كشفه الباحث عماد جاد، أحد الرموز الإعلامية للكنيسة الأرثوذوكسية وجبهة الإنقاذ، إذ أكد أن آن باترسون، السفيرة الأمريكية بالقاهرة، التقت بكل من البرادعي وصباحي، وعايراتهم بضعف قدرتهم على الحشد، وأنهم لا يقدرون على حشد أكثر من 10 آلاف متظاهر، وأنها أرسلت بذلك تقريرا إلى الإدارة الأمريكية. وعندما زادت الحشود في أحداث الاتحادية تسرب لقاؤها بمقر حزب الوفد 02 ديسمبر 2012م حيث التقت بكل من حمدين صباحي والسيد البدوي ومحمد البرادعي، والذي تسرب منه أنها رسمت لهم خطة عمل تبدأ بنزول 100 ألف متظاهر أمام الاتحادية واعتصامهم لمدة ثلاثة أيام، ليعقب ذلك تدخل الجيش لإنهاء حكم الإخوان.[[5]]
  • في بداية إبريل 2013م، نشرت السفارة الأمريكية في القاهرة  عبر صفتحها الرسمية (فيس بوك وتويتر) فيديو للمذيع الأمريكي “جون ستيوارت” يتضامن فيه مع الإعلامي “باسم يوسف” عند مثوله للتحقيق في تهمة سب الرئيس وازدراء الأديان على خلفية حلقاته التي تطاول فيه بشدة  على الرئيس. ومع بيان الرئاسة الرافض لهذ السلوك من جانب السفارة وانتقاد الرئاسة ــ عبر حسابها الرسمي باللغة الإنجليزية ــ  دفاع السفارة الامريكية عن باسم يوسف قائلة : “من غير الملائم لهيئة دبلوماسية المشاركة في ترويج دعاية سياسية سلبية”، ما اضطر السفارة إلى حذف المقطع.[[6]] وكانت مجلة فورين بوليسي نقلت، عن مسؤول بوزارة الخارجية الأمريكية أن: ” السفيرة الأمريكية بالقاهرة، آن باترسون، اتخذت قرارًا بإغلاق حساب السفارة على تويتر بمفردها، دون الرجوع إلى المسؤولين فى الخارجية بواشنطن وذالك لتجنب ازمة ديبلوماسية بسبب حساب تويتر”.  لكن الموقف يعكس الانحياز الأمريكي السافر ضد الرئيس  وهو في ذات الوقت يمثل رسالة دعم للقوى  العلمانية من جهة وضوء أخضر لقادة الجيش بمواصلة الاستعداد للانقلاب من جهة أخرى. وردت السفيرة على ذلك بأنه لم يكن مناسبا لأن “ستيوارت” لا يعتبر أحد المتحدثين الرسميين باسم الحكومة الأمريكية.

ثامنا، استخدام أسلوب الخداع والتضليل للتغطية على التحركات الخفية التي كانت تقوم بها السفارة والدولة العميقة والكنيسة؛ ففي حوار مع “المصري اليوم” بتاريخ 14 إبريل 2013م،[[7]] قالت باترسون: «الطريق الوحيد أمام مصر للمضى قدما هو الديمقراطية، وقالت إذا كان الشعب لا يريد الرئيس مرسى فبإمكانه إزاحته بالتصويت ضده فى الانتخابات فى المرة المقبلة. ونفت باترسون وجود مساع أمريكية للوساطة بين الحكومة والمعارضة، رغم زيارة وزير الخارجية جون كيرى فى مارس الماضى والتى دعا خلالها إلى التوافق السياسى والبحث عن حلول وسط، مطالبا المعارضة بعدم مقاطعة انتخابات مجلس الشعب. كما استخدمت تصريحتها الدبلوماسية للتغطية على تحركات الجيش والدولة العميقة؛ حيث قالت «إن القوات المسلحة كانت واضحة تماماً بأنها لا تريد التدخل فى العملية السياسية، وتريد ترك تلك الأمور للشخصيات السياسية وأنهم يريدون العودة إلى وظيفتهم فى حماية والدفاع عن البلاد، وأكد الجيش ذلك عبر اجتماعاتنا معاً وعلى العلن. وشددت على أن الديمقراطية ـ رغم صعوبة الأمر ـ هي الممر الوحيد لمصر وليست سيطرة الجيش. وأن  من حق المواطنين التعبير عن رأيهم عبر صناديق الاقتراع، وإذا لم يرد الشعب المصرى الرئيس مرسى، فيمكنهم إزاحته عبر التصويت ضده فى الانتخابات المرة المقبلة». وهي التصريحات التي تمثل غطاء لأجندة واشنطن وتحركاتها الخفية ضمن خطة الخداع الإستراتيجي وأن واشنطن ليس فقط تقف ضد أي انقلاب عسكري  محتمل،  بل إن الجيش نفسه أكد على أنه لا يريد التدخل في العملية السياسية! وهو ما ثبت كذبه لاحقا من  خلال الانقلاب وتواطؤ واشنطن معه الجيش وعدم اعتبارها ما جرى انقلابا عسكريا.  كما دعت باترسون “الكنيسة” بمنع الأقباط من المشاركة في 30 يونيو، وثبت أن الخطة كانت معدة سلفا ومثلت حشود الكنيسة نحو 60% على أقل تقدير من المشاركين في مظاهرات 30 يونيو، وقد تم تصوير مئات الأتوبيسات التي نقلت رعايا الكنيسة إلى ميدان التحرير مباشرة. فكل شيء أدلت به باترسون جرى عكسه تماما.

تاسعا، مع اقتراب 30 يونيو، أبلغت السفيرة الأمريكية عصام الحداد، مستشار الرئيس مرسي، أن الانقلاب العسكري قادم وأن على الرئيس والإخوان قبول ذلك، لأنها لن تستطيع أن تفعل شيئا. كشف ذلك الدكتور الشهيد عصام العريان في مداخلة مع الجزيرة مباشر في يوليو 2013م.[[8]] مضمون رسالة السفيرة هو عملية تخذيل لإجبار الرئيس والإخوان على الاستسلام لسيناريو الانقلاب لإكسابه الشرعية والاعتراف مبكرا لكن الرئيس رفض هذه الضغوط وتشبث بعدم الإذعان للفسدة والخونة كما ذكر هو في خطابه الأخير قبل الانقلاب.

مواقف الخارجية (كلينتون ــ كيري)

أولا في وثيقة مرسلة من من وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون، إلى مصدر في مكتب الرئيس الأمريكي، مؤرخة بـ 17 ديسمبر 2011، بعنوان “السياسة والأمن المصري/ الجيش والإخوان المسلمين”، تتحدث عن وضع الإخوان لخطط لإدارة الشؤون الأمنية في مصر بعد اعتماد دستور جديد وانتخاب حكومة مدنية عام 2012.[[9]] تتحدث الوثيقة عن تصورات جماعة الإخوان المسلمين عن الحكومة الإسلامية المقبلة وقيام الجماعة بعمل استطلاعات رأي داخل الجيش بين الضباط الصغار لمعرفة توجهاتهم ومدى دعمهم للحكومة الإسلامية،  وتصورات الجماعة عن الملف الاقتصادي وكيفية التعامل مع الشركات الأجنبية والبنوك. وتعلق المصادر التي نقلت هذه المعلومات للخارجية الأمريكية، على هذه الأفكار، بأن بعد تولي الحكومة الجديدة ذات التوجهات الإسلامية للسلطة في مصر لن يصبح جنرالات الجيش وكبار قادته قادرين على السيطرة على ضباط الجيش الشباب ذات الرتب الصغيرة والتوجهات المحافظة، وتضيف بأن وصول حكومة إسلامية في مصر، حتى وإن كانت معتدلة، ستعقد جهود الشركات والبنوك الغربية لممارسة الأعمال التجارية في هذه البلاد.

  • الانطباع الأول الذي يمكن الخروج به من هاتين الوثيقتين، أنه كانت هناك مخاوف غربية من وصول جماعة الإخوان المسلمين أو غيرها من قوى الإسلام السياسي للحكم في مصر، هذا الخوف كانت تغذيه دوائر داخل الإدارة الأمريكية في هذا التوقيت، ولم يعتمد فقط على ما ترصده هذه الدوائر من معلومات وحقائق، ولعل هذه المخاوف هي التي تسببت في الرفض الأمريكي الباهت لما حدث في الثالث من يوليو 2013 من عزل للرئيس المنتخب على يد العسكريين.
  • الانطباع الثاني أنه لو صح ما ورد في الوثيقة فى الجماعة كانت حريصة من البداية على “أسلمة الدولة”، وعلى بناء نموذج شبيه بالنموذج التركي، بشكل لا يثير حفيظة القوى الغربية، ولا ينفر المستثمرين المصريين والأجانب.
  • الانطباع الثالث أن هناك قوى من داخل الدولة أو حتى من داخل الجيش حرصت على إيهام جماعة الإخوان بأن هذه الأهداف ممكنة التحقق في القريب العاجل، وهو نجده فيما تحدثت عنه الوثيقة عن كون الجماعة تراقب بهدوء آراء صغار الضباط وضباط الصف والجنود في الجيش المصري، وأنها باتت تعتقد أن ما يصل إلى 90% من هذه القوات سيؤيدون تشكيل حكومة تتبع المبادئ الإسلامية الصارمة.

ثانيا، خلال زيارة وزير الخارجية الأمريكية جون كيري للقاهرة في مارس 2013م، والتي التقى فيها كلا من الرئيس مرسي ووزير الدفاع عبدالفتاح السيسي كلا على حدة؛ ووفقا للمعلومات التي جمعها  الصحفي الأمريكي “كيركباتريك”، مدير مكتب صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية بالقاهرة خلال فترة الانقلاب في كتابه “بين أيدي العسكر.. الحرية والفوضى في مصر والشرق الأوسط”، كان اللقاءان مختلفين، فقد ازدرى كيري الرئيس مرسي، ورآه غير جدير بالدعم الأميركي. لكنه خرج مرتاحا من لقائه بالسيسي، وحكى لاحقا للصحفي كيركباتريك أن السيسي قال له “لن أدع بلدي تنزلق إلى المجهول”، وحينئذ علم الوزير الأميركي أن أمر مرسي قد انتهى، كما يقول كيباتريك. تفسير ذلك أن كيرى والمسئولين الأمريكيين عموما دائما ما يجدون انصياعا من المسئولين في مصر للأوامر والتوجيهات الأمريكية ويضعون اعتبارا كبيرا للمصالح الأمريكية في مصر والمنطقة حتى لو كانت على حساب الأمن القومي المصري، وانتهاكا للسيادة المصرية والقرار الوطني، فلما وجد كيرى من مرسي ندية غير معهودة من حكام مصر السابقين أبدى غضبه الشديد في تحريض واضح للجيش على الانقلاب، وتعزز هذا التحريض السافر للانقلاب بصمت كيرى إزاء تصريح السيسي بأنه “لن يترك بلاده تنزلق إلى المجهول”  فهي عبارة تؤكد أن السيسي يستأذن الأمريكان في تدبير الانقلاب قبل 4 شهور من تنفيذه، وجاء صمت كيرى بمثابة ضوء أخضر من أجل حماية المصالح الأمريكية وعلى رأسها ضمان وجود نظام مصري يعطي أولوية للعلاقة مع إسرائيل وضمان أمنها. وبعد الزيارة أصدرت الخارجية الأمريكية بيانا أعربت فيه عن قلق واشنطن من الاتجاه، الذى تسلكه مصر، وعندما سئلت “باترسون” عن ذلك (في حوار المصري اليوم) ردت أن «مصر تعانى من ارتفاع درجة الاستقطاب فى المشهد السياسى، وأعتقد أن ذلك إحساس مشترك بين مسؤولى المجتمع الدولى بشكل عام، وهو ما أكد عليه «كيرى» أيضا، ولكن علينا ألا نتفاجأ من ذلك الوضع، لأن الديمقراطية فى مصر لا تزال يافعة وجديدة، وعملية الانتقال صعبة، كما تأخذ عملية الحوار الديمقراطى وقتاً طويلاً، لأن الأمر يستحق ذلك، ونظرا للصعوبات الاقتصادية التى تمر بها، فالشق السياسى مرتبط بالشق الاقتصادى». عندما نضع فحوى البيان جنبا إلى جنب مع كواليس لقاء كيري بالسيسي؛ فإن الخلاصة أن الخارجية الأمريكية كانت تقوم فعليا بالتحريض والترويج لانقلاب عسكري محتمل كان  يتم التحهيز له في الخفاء على قدم وساق.

ثالثا، تصريحات كيري لتلفزيون  “جيو الباكستاني” في أعقاب الانقلاب في مصر مباشرة كانت شديدة الوضوح وكاشفة لجوهر الموقف الأمريكي؛ فقد قال “كيري” نصا: «لقد ُطلب من الجيش التدخل، من قبل الملايين والملايين من الناس، والذين كانوا كلهم يخشون سقوط البلاد في الفوضى والعنف.” وأضاف كيري “وفي أفضل تقدير لنا حتى الآن، الجيش لم يستولي على السلطة. هناك حكومة مدنية لإدارة البلاد. في الواقع، لقد كانوا يسترجعون الديمقراطية.”[[10]] فما حدث في 03 يوليو وفقا لوزير الخارجية الأمريكية لم يكن نسفا للديمقراطية بل استرجاع لها!! بالطبع هذه التصريحت مثلت انحيازا سافرا للانقلابيين وتحالف الثورة المضادة في العواصم العربية التي كانت واشنطن حريصة كل الحرص على تعزيز العلاقات معهم؛ لأن المصالح الأمريكية في مصر والمنطقة  تبقى مهددة مع الديمقراطية ومأمونة مع النظم المستبدة.

خط ساخن مع تشاك هيجل

مثلت العلاقة بين السيسي وتشاك هيجل وزير الدفاع الأمريكي وقتها محطة فارقة في الإشراف الأمريكي المباشر على الانقلاب قبل وقوعه بعدة شهور؛ وقد أورد “كيباتريك” في كتابه توثيقا لهذه اللقاءات التي تؤكد أن السيسي كان يمارس جريمة الخيانة العظمى والتآمر مع دولة أجنبية من أجل تنفيذ الانقلاب، وقد نشر “كيباتريك” تفاصيل هذه اللقاءات في كتابه كما نشرتها “نيويورك تايمز” في 27 يوليو 2018م. فهيجل الذي ينتمي إلى الحزب الجمهوري واليمين المتطرف استعان به أوباما المنتمي للحزب الديمقراطي كوزير للدفاع؛ لكنه لم يعمل بانسجام مع رؤية الرئيس وفقا لمصادر عديدة. وقد أفصح هيجل عن ذلك في حوار أجراه معه “كيباترك” عام 2016م، أوضح فيه أن الشكاوى بحق الرئيس مرسي انهالت عليه من إسرائيل والسعودية والإمارات. وأضاف هيجل أن ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد “الحاكم الفعلي للإمارات” وصف جماعة الإخوان المسلمين بأنها “أعظم خطر يتربص بالشرق الأوسط في يومنا هذا”. ومثل «الخط الساخن» بين السيسي وهيجل محطة مركزية في الرعاية الأمريكية للانقلاب والإشراف على أدق تفاصيله قبل شهور من التنفيذ. وبينما كانت آن باترسون -مرؤوسة كيري- توجه في القاهرة دعوات للمصريين لاحترام الممارسة الانتخابية ونتائجها، وألا ينجروا إلى حراك مجهول العواقب، كان وزير الدفاع تشاك هيجل يجري اتصالات هاتفية شبه يومية بالسيسي ليضع النقاط على الحروف بشأن الانقلاب المرتقب. يقول كيركباتريك إن البيت الأبيض أرسل إلى هيجل نقاطا لاستخدامها في حديثه مع السيسي لتحذيره من أن واشنطن ستعاقب أي انقلاب على السلطة في مصر. لكن الرسالة التي نقلها هيغل للسيسي كانت “مختلفة كليا”.  وبحسب مسئول رفيع في مجلس الأمن القومي الأمريكي اطلع على نصوص المحادثات الهاتفية بين السيسي وهيجل، فإن البيت الأبيض أراد من هيجل نقل رسالة للسيسي تقول إن الديمقراطية مهمة في إشارة إلى التحذير من انقلاب وشيك،  لكن هيجل نقلها بشكل مختلف، قائلا: “نريد علاقة طيبة”! وهي عبارة تمثل في مضمونها تحريضا على سياسات الرئيس مرسي وتمثل ضوءا أخضر جديدا من مسئول أمريكي رفيع للسيسي بالشروع في انقلابه المشئوم. بل إن هيجل خاطب السيسي قائلا «أنا لا أعيش في القاهرة، أنت تعيش فيها. عليك أن تصون أمنك وأن تصون بلادك»[[11]]، وهي عبارة بالغة التحريض على الانقلاب، وتؤكد أن جنرالات الجيش الأمريكي والسي آي إيه يفضلون أن يكون رؤساء مصر من نظرائهم الجنرالات في الجيش المصري لسهولة التعامل معهم وحتى تجنيدهم لخدمة المصالح الأمريكية والإسرائيلية، بحكم العلاقة الوثيقة التي تربط بين الجيش المصري والأمريكي منذ  اتفاق “كامب ديفيد” 1979م، والمساعدات العسكرية الأمريكية للمؤسسة العسكرية المصرية التي تصل إلى نحو 1.3 مليار دولار سنويا، بخلاف الدورات التي يجريها الجيش الأمريكي لكبار القادة في الجيش المصري والتي مكنت الأمريكان من تحقيق اختراقات واسعة في صفوف الجيش المصري وفي أعلى رتبه العسكرية. ويمكن الجزم بأنه لا يصل إلى الرتب الرفيعة داخل المؤسسة العسكرية المصرية إلا من ترضى عنهم واشنطن تمام الرضا وهو ما يمكنها من تحقيق مصالحها بأقل تكلفة وضمان أمن إسرائيل باعتباره أولوية أمريكية مطلقة.

كما تلقى السيسي تشجيعا على الانقلاب ضد مرسي والمسار الديمقراطي من مسئول أمريكي رفيع آخر هو مايكل فلين الذين كان يشغل رئيس وكالة المخابرات  الدفاعية الأمريكية، والذي زار القاهرة  في ربيع 2013م من أجل الحديث مع كبار جنرالات الجيش حول مستقبل حكم الرئيس محمد مرسي؛ ولكي نفهم أبعاد الدور الذي قام به فلين خلال زيارته التي حظيت بالسرية والكتمان حول طبيعة النقاشات التي دارت وقتها فإن “كيباتريك” يقول إن فلين أخبره في 2016م أن «الإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة “أيديولوجيا واحدة”. وهي ذات أفكار اليمين المتطرف بالحزب الجمهوري ولذلك حظي فلين بمكانة رفيعة فيما بعد في إدارة دونالد ترامب وبات مستشار ترامب الأكبر،وصار فيما بعد متهما رئيسيا في قضية التواطؤ المفترض بين حملة دونالد ترامب الانتخابية وروسيا.[[12]]

موقف أوباما

كان موقف الرئيس أوباما باهتا، ذلك أن  دعمه للثورة في تونس وضغوطه على مبارك من أجل التنحي، ثم تهنئته للشعبين بنجاح الثورتين، كل ذلك أغضب معسكر النظم العربية المستبدة؛ والتي رأت في موقف البيت الأبيض تحريضا وتشجيعا للشعوب على الثورة؛ واعتبرت هذه النظم موقف أوباما نذير شؤم عليها ولا سيما المملكة العربية السعودية والإمارات والأردن، وهو ما أحدث توترا في العلاقات بين واشنطن وعدد من العواصم العربية. لمعالجة ذلك أجرى أوباما اتصالات هاتفية لطمأنة هذه النظم، كما أرسل وليام بيرنز، مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية، والجنرال مايكل مولن، رئيس هيئة الأركان المشتركة، في جولة للعواصم العربية للتأكيد على التزام واشنطن بالعلاقات الثنائية مع هذه العواصم.[[13]] لكن هذه التحركات جاءت بنتائج عكسية؛ فلا هي طمأنة النظم ولا هي عززت ثقة الثوار في مواقف واشنطن بل دقت أوتاد الشك وعدم اليقين.

ومع فوز مرسي بالرئاسة، هنأه أوباما، وعندما فاز أوباما بفترة رئاسية ثانية في نوفمبر 2012، هنأه مرسي، وتواصل الرئيسان هاتفيا بشأن العدوان الإسرائيلي على غزة، في نوفمبر، وأثنى الرئيس الأمريكي على موقف مرسي ودوره في وقف القتال، لكن الإدارة الأمريكية كانت منزعجة للغاية لأن مرسي أبدى دعما غير مسبوق من نظام مصري للمقاومة الفلسطينية؛ الأمر الذي أغضب واشنطن وتل أبيب كثيرا. لكن اللافت في موقف أوباما عدة شواهد:

  • الأول، أن أوباما لم يلتق مطلقا بالرئيس مرسي؛ رغم أنه أول رئيس مدني منتخب بديمقراطية في أكبر دولة عربية. وحتى عندما شارك مرسي في فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك في أكتوبر 2012، لم يلتق الرئيسان؛ وعندما سئلت “باترسون” من جانب “المصري اليوم”: ألا يعد ذلك غريبا؟ أجابت بأن «الرئيس أوباما يرغب بالطبع في مقابلة نظيره المصرى، كما يريد الرئيس مرسى ذلك أيضاً، ولكن أوباما لم يقابل أى مسؤول دولى خلال اجتماعه فى نيويورك، فهو جاء ليلقى خطابه، وغادر إلى واشنطن مباشرة، كما كان هناك زيارة لأوباما للقاهرة، ولكن تم تأجيلها، بسبب إجراء الاستفتاء على الدستور الجديد للبلاد»، وبمراجعة مشاركة أوباما فى أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة تبين أنه التقى، على هامش القمة، الرئيس اليمنى عبدربه منصور هادى، ووجه له الشكر على حماية السفارة الأمريكية خلال المظاهرات، التى اندلعت بعد فيلم «براءة المسلمين» المسىء للإسلام، كما التقى أوباما نائب الرئيس العراقى خضير الخزاعى»؛ وعندما وُوجهت “باترسون” بهذه الحقائق وأن عدم لقاء أباما بأول رئيس منتخب لدولة بحجم مصر يعد أمرا غريبا، تهربت من الإجابة. الأمر الذي يمكن تفسيره بأنه انعكاس لعدم ترحيب واشنطن بصعود الإسلاميين إلى السلطة وأنها ترى في ذلك  تهديدا لمصالحها في مصر والمنطقة.[[14]]
  • الثاني، هو اتصال أوباما بالرئيس مرسي قبل الانقلاب بيومين فقط،  وقال إن الولايات المتحدة مُلتزِمة بالعملية الديمقراطية في مصر وأنها لا تدعَم أيّ حزب بعيْنه أو مجموعة. وشدّد على أن الديمقراطية، هي أكثر من مجرّد انتخابات، بل هي أيضاً ضمان أن تكون أصوات جميع المصريين مسموعة وممثلة من قبل حكومتهم، وذلك يتضمّن العديد من المصريين الذين يتظاهرون في جميع أنحاء البلاد.[[15]] وحث أوباما مرسي على التوصل إلى تسوية مع معارضيه المدنيين بحيث تتحول رئاسته إلى حكومة وحدة وطنية تقريباً، فيما شكره مرسي على النصيحة وأخبره بأنها “متأخرة”، لأن مرسي كان فعليا في ذلك الوقت محتجزا في مقر الحرس الجمهوري بالقصر الرئاسي. وهي النصيحة التي تلزم مرسي بالتخلي عن صلاحياته الدستورية لحساب قوى غير منتخبة من الشعب. وهذا بحد ذاته كان يعني انقلابا ناعما وانحيازا أمريكيا للقوى العلمانية المناهضة لمرسي.
  • الثالث، عندما أصدر السيسي الإنذار الذي قدمه إلى الرئيس مرسي، في 1 يوليو، ظهر الوجه الحقيقي للإدارة الأمريكية، عندما أبلغت مستشارة الأمن القومي “سوزان رايس” عصام الحداد، مستشار مرسي للشئون الخارجية، أن اللعبة قد انتهت: إما أن يتقدم مرسي باستقالته أو سيتم الانقلاب عليه، ونصحته بالاستقالة، وهو ما رفضه مرسي قطعيا، وفي هذه الأثناء، تحدث وزير الدفاع الأمريكي “تشاك هيغل” مع قائد الانقلاب خمس مرات على الأقل فى خلال الأزمة، ونصحه بالإعلان عن أن الانتخابات ستعقد في أقرب وقت ممكن. وهي نصائح امريكية تستهدف تغليف الانقلاب بغلاف زائف من ديمقراطية وهمية مرتقبة بعد نسف الديمقراطية ذاتها باختطاف الرئيس المنتخب.
  • الرابع، هو تصريحات أوباما في أعقاب بيان الانقلاب 03 يوليو 2013م؛ حيث قال إنه يعتريه “قلق عميق” إزاء تحرك الجيش لعزل الرئيس محمد مرسي تعليق العمل بالدستور. لكنه لم يصل إلى حد الإدانة أو الحض على إعادة مرسي إلى سدة الحكم. وأضاف أن القوات المسلحة المصرية ينبغي أن تتحرك “بسرعة ومسؤولية” لإعادة “السلطة الكاملة لحكومة مدنية منتخبة ديمقراطيا في أقرب وقت ممكن.” فقد استخدم أوباما عبارة “حكومة” وليس “الحكومة”[[16]]؛ وهو ما يعني بشكل واضح مباركة الانقلاب والتسليم بنتائجه. ولذلك امتنعت إدارة أوباما من وصف ما جرى بأنه “انقلاب عسكري”. وربما تكون هذه هي المشكلة الأبدية للسياسة الخارجية الأمريكية، وهي نظريا: الحماس الظاهر للديمقراطية، وعمليا: الخوف من الشيوعيين والإسلاميين المنتخبين، والانجذاب للعسكريين الذين يتخذون موقفا أكثر دعما للغرب. لكن المخطط كان يحتاج إلى حشود غفيرة للتغطية على الجريمة الأصلية “الانقلاب العسكري” وحتى يكون ذلك مبررا للإدارة الأمريكية لاتخاذ موقف باهت في ظاهره وداعم للانقلاب في جوهره. وبدون 30 يونيو التي مثلت غطاء مدنيا وشعبيا لانقلاب 03 يوليو، لوجدت الإدارة الأمريكية نفسها أمام موقف عسيرومكشوف لذلك كانت مظاهرات 30 يونيو ضرورية للغاية للتغطية على 03 يوليو وكذلك للتغطية على الموقف الأمريكي لاحقا
  • الخامس بعد أيام قليلة من الانقلاب ورغم المذابح الجماعية الوحشية بحق المؤيدين للديمقراطية في شوارع وميادين مصر خرجت تصريحات مسئولين أمريكيين تتبنى حرفيا رواية الجيش والثورة المضادة؛ حيث خرج المتحدث باسم البيت الأبيض غي كارني ليُعبِّـر عن رفض الولايات المتحدة توصيف ما حدث في مصر بأنه انقلاب عسكري وبرّر ذلك بقوله: «إن الرئيس مرسي لم يكُن يحكُم بطريقة ديمقراطية وأن ملايين المصريين خرجوا للشوارع والميادين مطالبين بعزله وهُم يرون أن مساندة الجيش لهم، لا تشكِّـل انقلابا»، وقرّرت إدارة أوباما إرجاء اتِّخاذ قرار بشأن توصيف ما حدث في مصر، وأن تراقِـب جهود السلطات المصرية لصِياغة عملية ديمقراطية شامِلة في الفترة الانتقالية. وهو إجراء يعكس التسليم بنتائج الانقلاب. ثم أقرّ المتحدِّث باسم البيت الأبيض بأن إدارة أوباما ستأخُذ الوقت اللاّزم للتوصّل إلى ذلك التوصيف، بطريقة تتَّـسِـم بالمسؤولية وتخدِم الأهداف البعيدة المدى للولايات المتحدة، وبالتالي، لن تتَّخِـذ قرارا بشأن تعليق المساعدات الأمريكية لمصر في الوقت الرّاهن. وهو تصريح يعني في جوهره دعم الانقلابيين. ثم جاء التعبير الأوضَح عن التحوّل في موقِف واشنطن مما حدث في مصر، على لسان المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية جين بساكي: “لم تكن حكومة مرسي تشكِّل حُكما ديمقراطيا، وخرج حوالي 22 مليون مصري للتّعبير عن آرائهم وإظهار أن الديمقراطية ليست مجرّد الفوز في صناديق الاقتراع”.[[17]]
  • السادس، قرار إدارة اوباما بتسليم نظام الانقلاب الجديد أربع طائرات إف-16، كما كان مُقرّرا قبل تدخّل الجيش في الصراع السياسي، وذلك تنفيذا لخُطة تُـقدّم من خلالها واشنطن عشرين طائرة مُقاتلة من هذا الطراز لسلاح الطيران المصري، ضمن برنامج المساعدات العسكرية. ومن جديد، برّر المتحدث باسم البيت الأبيض القرار بأن إدارة الرئيس أوباما رأت أنه لن يكون من مصلحة الولايات المتحدة إدخال أيّ تغيير فوري على برنامج المساعدات الأمريكية لمصر. وهو ما يمثل برهانا جديدا على أن ما واشنطن حريصة كل الحرص على دعم النظام العسكري الانقلابي واستمرار المساعدات العسكرية دون اكتراث لما جرى أو يجري من مذابح في مصر لأنصار الديمقراطية لأنهم إسلاميون معادون للمصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة. في هذه الأثناء اعترفت حكومات الخليج بالانقلاب وقدمت كل من السعودية والإمارات والكويت 12 مليار دولار دعما للنظام الجديد؛ فرأت واشنطن أن مصالحها مع النظم المستبدة في تناقض صارخ مع ما تدعوه إليه من قيم ديمقراطية. في هذه الأثناء قال الجنرال ستنالي ماكريستال قائد القوات الأمريكية في أفغانستان والعراق الأسبق لصحيفة يو أس توداي “إن أوباما أقالني من الجيش لأني قلت رأيا، واعتبر ذلك تدخلا من قائد عسكري في شئون السياسة، وهو اليوم يساند الجنرال السيسي في انقلابه على نظام حكم منتخب وشرعي. وأضاف لصحيفة “يو إس آي توداي” : هل يقبل المواطن الأمريكي أن يقوم وزير الدفاع باعتقال أوباما واعتقال أعضاء حزبه، وقتل وحرق وسحق من يعتصم تأييدا له، وحل مجلس الشيوخ والكونجرس، ووضع دستور ومجلس دون انتخابات، هل يعقل هذا ؟ هذا بالضبط ما تدعمه حكومتنا في مصر، وهذا ما يجب أن نوضحه للمواطن الأمريكي، شعب مصر لا يريد إلا أن يعيش مثلكم في أمريكا.[[18]]

اعترافات باترسون المتأخرة

رغم  تواطؤ واشنطن مع الانقلابيين وامتناعها عن وصف ما جرى في 03 يوليو بأنه انقلاب عسكري، إلا أن السفيرة الأمريكية اعترفت لاحقا أنه انقلاب عسكري وأن الجيش هو من أطاح بمرسي، وهو أيضا من يمكن أن يطيح بالسيسي. جاء ذلك في مشاركة لباترسون في حلقة نقاشية بعنوان: «الانتفاضات العربية بعد 8 سنوات.. الدروس المستفادة لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط»، والتي نظمها مركز التقدم الأمريكي في واشنطن”، يوم الخميس 14 فبراير 2019م. شارك في الحلقة النقاشية أيضا، جوردن براي سفير الولايات المتحدة في تونس في الفترة التي بدأت فيها أحداث ثورات الربيع العربي والتي كانت شرارة بدايتها من تونس، وثالث الحضور ولا يقل أهمية عن سابقيه هو وليام تايلور، المنسق الخاص بالتحولات في الشرق الأوسط وبالانتقال الديمقراطي في دول الربيع العربي بالخارجية الأمريكية سابقا.[[19]] وتضمنت تصريحات  باترسون والمشاركين في الحلقة القناشية عدة مضامين واعترافات:[[20]]

  • أولا، الجيش المصري هو من أطاح بالرئيس مرسي وربما هو من سيطيح بالرئيس السيسي في المستقبل. لكن هذا الجيش ليس مؤهلا فعندما بدأت الاضطرابات لم يتمكن من هزيمة ألف متمرد في سيناء. المؤسسة العسكرية لم تكن تعترض على تنحية المشير طنطاوي من منصبه كرئيس للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، فهناك من كان يشعر أنه يجب أن يتنحى جانبا ويتيح المجال لضباط آخرين ليتولوا القيادة. أعرف الجنرال السيسي بشكل جيد، والتقيت به بعد أن أصبح رئيسا وهو قال إنني زرته والتقيت به 32 مرة لذلك أنا أعرفه حق المعرفة. العسكريون سيدعمون بقاء السيسي في الحكم لكن ذلك قد لا ينجح.. هناك دعم ولكن إلى أي مدى؟
  • ثانيا، خطأ مرسي أنه لم يكن يعرف ما يفعله، وهذا أدى إلى مصادمته مع الآخرين. والإدارة الأمريكية وجدت في الرئيس مرسي شخص غير مؤهل. الرئيس مرسي حمل عبئا أكبر مما يحتمل وخصوصا عندما قام بتعيين السيسي وزيرا للدفاع. الجيش كان يتابع جماعة الإخوان وكان يعرف مميزاتهم ومساوئهم،  وكان يعتقد أنه بإمكانه العمل مع الإخوان على الأقل في البدايات. وكان من الواضح ومنذ البداية أن الإخوان المسلمين هم من سيفوزون في الانتخابات البرلمانية الأولى بعد الثورة، والسلفيون شكلوا مفاجأة أيضا. لم نكن نفهم دور السلفيين بشكل كامل لأنه لم يكن هناك تواصل كبير معهم.  الإخوان المسلمون كانوا القوة الوحيدة التي كان بإمكانها حشد الناس، كنا نشاهد حافلات مملوءة بالنساء المنتقبات اللاتي كن يشاركن في الانتخابات والفعاليات. لم يكن هناك أي حزب قادر على منافسة جماعة الإخوان المسلمين والحركة السلفية، لذا لا أعتقد أنه كان هناك مجال للعمل مع أحد سوى هذين التنظيمين والمنظومة العسكرية. التقينا بخيرت الشاطر، نائب مرشد الإخوان، ورئيس البرلمان سعد الكتاتني وغيرهم من أعضاء جماعة الإخوان، فجزء من عملنا كان هو التواصل مع من يديرون شؤون البلاد.
  • ثالثا، السياسة الأمريكية تجاه مصر كانت ثابتة لعقود وكانت معنية في الأساس بالمحافظة على السلام بين مصر وإسرائيل. نقدم مساعدات لمصر تقدر بـ 1.3 مليار دولار في العام وهناك 500 مليون دولار تذهب إلى الجيش.
  • رابعا، كانت لدينا معلومات كافية فيما يتعلق بمشاركة دول الخليج ودورها في الإطاحة بالرئيس مرسي وكذلك دورهم في الانقلاب. هو ما يتسق مع ما ذكره “كير كيباتريك” مدير مكتب النيويورك تايمز في القاهرة في كتابه “بين أيدي العسكر”، أن ضابطا في مطار القاهرة أبلغ مساعدي مرسي في فبراير 2013 بأن طائرة وصلت من الإمارات مليئة بالنقود وأقراص الترامادول، وأن ضابطًا في الجيش استلمها، وهو ما أثار قلق مساعدي الرئيس مرسي. وعلى هامش الحلقة النقاشية قال وليام تايلور، المنسق الخاص بالتحولات في الشرق الأوسط وبالانتقال الديمقراطي في دول الربيع العربي بالخارجية الأمريكية سابقا: كان هناك دعم سعودي إماراتي للمعارضة ضد مرسي. واشنطن تفادت القول إن انقلابا حدث في مصر لأنها أرادت استمرار الدعم للعسكريين. ويضيف تايلور: أنه كان هناك خلاف داخل الإدارة الامريكية بشأن وصف ما حدث في مصر وهل هو انقلاب أم لا، فهو في حقيقته انقلاب عسكري، وتوجب القوانين الأمريكية وقف المساعادات العسكرية خاصة حال حدوث انقلابات، لذا كان بعض الاشخاص في الادارة يصفونه بانه انقلاب بينما كانت قيادات أعلى في الإدارة لا تصفه بذلك رغبة في استمرار التعاون مع العسكريين القائمين عليه في مصر والشراكة الاستراتيجية والعلاقات مع إسرائيل و…….. الخ لذا تم تخفيض المساعدات. نتج عن ذلك أن قررت الادارة الامريكية عدم التصدي للانقلاب “نظراً لإعتبارات إستراتيجية”.

تفسير الموقف الأمريكي

«فى الاستراتيجية الأمريكية هناك خطان أحمران يحكمان علاقات واشنطن بالقاهرة بحسب الكاتب الكبير فهمي هويدي:

  • أولهما التعاون العسكرى الذى يعد حجر الأساس للتصورات الأمنية الأمريكية فى علاقاتها بأحد أهم إقاليم العالم. وفى ظل التعاون تتمتع الولايات المتحدة بوضع خاص على مستويات ثلاثة، هى: المرور فى قناة السويس ــ استخدام المجال الجوى المصرى ــ التعاون الاستخبارى. والمعونات التى تقدمها الولايات المتحدة لمصر (تتلقى مصر سنويا 1.3 مليار دولار كمساعدات عسكرية منذ اتفاق كامب ديفيد في مارس 1979م) هى بمثابة إسهام من جانبها فى استقرار أوضاعها بما يسمح بالحفاظ على استمرار المصالح سابقة الذكر.
  • الخط الأحمر الثانى يتمثل التزام مصر بمعاهدة السلام مع إسرائيل. فأى اهتزاز لمعاهدة السلام يضع أمن إسرائيل بل أمن الولايات المتحدة على المحك بحسب أولويات السياسة الأمريكية في مصر والمنطقة وتصريحات كل الرؤساء الأمريكيين.

معنى ذلك أن التعاون والتسهيلات العسكرية ومعاهدة السلام تعد من الأصول التى لا تحتمل الاختلاف أو الاجتهاد فى علاقات البلدين فى ظل موازين القوة الراهنة، وكل ما عدا ذلك يعد فروعا قابلة الاختلاف والاجتهاد بما فى ذلك من يحكم مصر أو السياسات الداخلية التى يتبعها الطرف الحاكم. بكلام آخر فإن استحقاقات الأصول فى علاقات البلدين تعد من التكاليف الضرورية، أما ما عدا ذلك فهى أمور تحتمل التناصح فضلا عنها تظل من الأمور التحسينية إذا استخدمنا لغة الأصوليين. فى الأمور الفرعية والتحسينية تلتزم الولايات المتحدة بقوانينها وحساباتها السياسية ويهمها استقرار الأوضاع فى مصر، بصرف النظر عمن يحكمها، وليس ذلك حبا فى سواد عيون المصريين بطبيعة الحال، ولكن لأنها تعتبر أن ذلك الاستقرار يؤمن مصالحها المتمثلة فى التعاون العسكرى وأمن إسرائىل».[[21]]

معنى ذلك أن القاعدة الذهبية التي تحكم سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه مصر، هي العلاقة مع “إسرائيل”؛ فواشنطن تسعى في المقام الأول إلى أن تضمن وضعا مصريا لا يمثل تهديدا لدولة الاحتلال. وبالتالي فإن الاعتبار الإستراتيجي الأهم بالنسبة للإدارة الأمريكية سواء كانت جمهورية أو ديمقراطية، هو علاقة مصر مع إسرائيل، وأن له الأولوية إذا تعارض مع أهداف أخرى معلنة للسياسة الأميركية مثل دعم التحول الديمقراطي. وعندما تعارض الهدفان (أمن إسرائيل والديمقراطية)، ضحت أمريكا بالديمقراطية من أجل ضمان وجود نظام مصري ــ حتى لو كان عسكريا قمعيا ــ  ما دام لا يمثل تهديدا لإسرائيل، معنى هذا أن الديمقراطية غير مرحب بها أمريكيا وربما أوروبيا في مصر؛ لأنها في جوهرها تمثل تحريرا للإرادة الشعبية وإعلاء لها في ظل سياق يؤكد أن الوعي الجمعي المصري لا يرحب بإسرائيل ولا بالعلاقات الحميمة التي يتبناها النظام العسكري معها؛ وبالتالي، فإن من أولويات الإدارة الأمريكية ألا تكون هناك ديمقراطية بالمعنى الحقيقي لها في مصر، لأن ذلك من شأنه أن يفضي إلى وجود نظام سياسي لا يلبي المصالح الأمريكية وعلى رأسها حماية أمن “إسرائيل”؛ ولعل هذا يفسر ليس فقط الدعم الأمريكي لانقلاب 3 يوليو بل الضلوع في مؤامرة الانقلاب من البداية كما أثبتنا ذلك في هذه الورقة البحثية؛ لأن مرسي لم يتعاون مع إسرائيل بالشكل الذي كان عليه مبارك، بل إنه لم يذكر اسم “إسرائيل” ولو مرة واحدة خلال عام حكمه. كما أظهر دعما كبيرا مع غزة خلال العدوان الإسرائيلي في نوفمبر 2012م وأرسل رئيس الوزراء هشام قنديل إلى غزة في تأكيد على هذا الدعم الكبير، فيما  أبدى تشددا ضد إسرائيل خلال العدوان، ما أجبرها على وقف الحرب بعد أسبوع واحد فقط.

الخلاصة 

تشهد العلاقات المصرية الأميركية  خلال سنوات ما بعد انقلاب 3 يوليو2013م، تغيرات استراتيجية شديدة الأهمية لا يلتفت إليها كثيرون في القاهرة. ويمكن رصد ثلاثة تطورات تعكس اتجاه هذه العلاقات، التي أُسس لها قبل أربعين عاماً مصاحبة لتوقيع مصر على معاهدة السلام مع إسرائيل:

  • أولها يتعلق بالتقدير الأميركي للجهود العسكرية المصرية تجاه مواجهة الإرهاب.
  • ثانيها يتعلق بتغيير طبيعة مناورات النجم الساطع لمواجهة التهديدات الجديدة لمصر وللمنطقة. وكان وزير الدفاع الأمريكي السابق جيمس ماتيس يرى ضرورة تغيير طبيعة مناورات النجم الساطع لتركز على تدريبات مكافحة الإرهاب، وليس على حروب المدرعات التقليدية بين جيشين نظاميين”. وهو ما تحقق بداية من 2017م.
  • ثالثها جاء مع توقيع مصر اتفاقية التواصل المتبادل في مجالات الاتصالات والأمن (CISMOA) مع الولايات المتحدة. وجاء توقيع مصر على اتفاقية CISMOA، كدليل إضافي على قبول مصر بواقع جديد في طبيعة علاقتها العسكرية مع واشنطن. وجاءت أنباء التوقيع المصري على لسان الجنرال فوتيل خلال شهادته أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب يوم 27 فبراير2018. وقال فوتيل “احتفلنا بتوقيع الاتفاقية الثنائية في يناير/كانون الثاني 2018 وهو ما يعد تتويجاً لأكثر من ثلاثة عقود من علاقات أمنية متينة وتعاون كبير في مكافحة الإرهاب”.[[22]]

بانقلاب السيسي حققت واشنطن عدة مصالح، أبرزها تأسيس نظام عسكري جديد شديد الحرص على الإذعان للأوامر والتوجيهات الأمريكية وضمان حماية المصالح الأمريكية وعلى رأسها، أمن “إسرائيل” بل اعتبارها حليفا وثيقا وتطوير التعاون الأمني والاقتصادي بين القاهرة وتل أبيب بصورة لم يشهدها عصر حسني مبارك الذي كان يوصف بكنز إسرائيل الإستراتيجي.

وبانقلاب السيسي تم إجهاض المسار الديمقراطي ووأد الروح الثورية التي أطلقتها ثورة 25 يناير وإضعاف الحركات الإسلامية  وحصار المقاومة الفلسطينية والتي تمثل العدو الأول للكيان الصهيوني في المنطقة، بالتزامن مع ذلك جرى تطوير أنشطة التطبيع وتدشين حملات الدعاية عبر السينما والدراما والفضائيات من أجل القبول بالكيان الصهيوني باعتباره “دولة طبيعية” وليس كيانا احتلاليا استيطانيا،  وتم تدشين تحالف عربي ضخم يتكون من مصر والسعودية والإمارات والبحرين بهدف حماية المصالح الأمريكية وعلى رأسها حماية أمن “إسرائيل” والتطبيع معها والقضاء على ثورات الربيع العربي ونسف أي مسار ديمقراطي لما يمثله ذلك من  خطورة كبيرة على أمن الكيان الصهيوني.

الرعاية الأمريكية لانقلاب 3 يوليو تبرهن أنه جرى التخطيط لها على مدار شهور طويلة، وما كان للسيسي أن يجرؤ على تنفيذ انقلابه لولا الإشراف والرعاية الأمريكية لكل خطوات الانقلاب وتحريك جميع الأدوات على الأرض لإنجاحه بهدف حماية المصالح الأمريكية في المنطقة وعلى رأسها ضمان أمن “إسرائيل” وعندما رأت واشنطن في الديمقراطية وحكم الرئيس مرسي تهديدا لإسرائيل سارعت إلى توجيه وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي بتنفيذ  الانقلاب وإعادة الحكم العسكري بصورة أكثر سفورا، وكانت خطوات السفيرة الأمريكية آن باترسون والخط الساخن بين السيسي ووزير الدفاع الأمريكي وقتها تشاك هيجل أدلة قاطعة وبالغة الأهمية في فهم أبعاد الدور الأمريكي في الإشراف ورعاية انقلاب 3 يوليو والذي كان يتواصل مع السيسي بصورة شبه يومية قبل الانقلاب بالتحريض والتشجيع.

المصالح الأمريكية في مصر والمنطقة تحتاج إلى نظام عسكري قمعي حتى يلبي هذه المصالح لأنها في جوهرها تمثل تهديدا للأمن القومي المصري، ونستنتج من هذه التجربة أن قيم (الإسلام ــ الديمقراطية ــ الثورة) هي قيم لا ترغب واشنطن في نموها في التربة المصرية العربية لأنها تمثل في جوهرها تحريرا للشعوب من النفوذ والهيمنة الأمريكية والحكم العسكري الذي يمثل احتلالا بالوكالة. والمطلوب أمريكيا أن تبقى شعوب المنطقة مقهورة مغلولة حتى يضمن الأمريكان بقاء إسرائيل ونموها وتفوقها على الجميع.  ورغم ذلك فإن السفيرة الأمريكية “آن باترسون” تخرج من هذه التجربة بخلاصة بالغة الأهمية إذا ترى أنه “قد يبدو في الوقت الراهن أن الربيع العربي قد أخفق، لكنه غيّر إدراك العرب”، مشيرة إلى عنصرين في مصر قد ينفجران في وقت واحد ليأذنا بمرحلة جديدة: أولهما المشكلة الديمغرافية، إذ ترى السفيرة أن في مصر كتلة شبابية متضخمة لا تجد فرص عمل وقد لا تصبر إلى الأبد، أما العنصر الثاني فهو موقف الجيش “الذي ربما يدعم بقاء السيسي في السلطة، لكن  هذا الدعم لن يبقى للأبد”.

يذهب المفكر والمؤرخ الكبير الدكتور طارق البشري، إلى أن الولايات المتحدة لا تعادي جماعة الإخوان مباشرة؛ لأنها حركة سلمية وإظهار العداء لها يؤدي إلى تقوية حجج وجانب الاتجاهات الإسلامية المسلحة، لكن الولايات المتحدة في الوقت نفسه لا تريد أن يقوى أي تيار إسلامي يمكن أن يكون له دور سياسي في المنطقة العربية أو غيرها؛ ومن ثم لم ترحب بصعود الإسلاميين عقب الثورات؛ لأن الدور السياسي الإسلامي في التحليل النهائي سيكون وطنيًا، ويبحث عن سياسات وطنية مستقلة ومتميزة. كما أنه -وهذ ما حدث فعلًا في العقود الأخيرة- لم نجد حركة شعبية منظمة وعلمانية في أي من أقطارنا الإسلامية تكون وطنية مستقلة، إنما صارت كل الحركات الوطنية في بلادنا حركات ذات نزعة إسلامية. النقطة الثانية المهمة أنه ثبت بالتجربة التاريخية بعد انتهاء الاستعمار القديم في صورته القائمة على الاحتلال العسكري أن الحركات الإسلامية- أو قل الفكرية الإسلامية وحدها- هي التي تستطيع أن تعبئ الجماهير وتحشدها في تشكيلات تنظيمية واسعة النطاق. وهذا ما يراد منعه ويتعين تفاديه من قبل قوى الاستبداد الداخلية في أقطارنا ومن البلاد الغربية التي تستهدف السيطرة على مصائرنا. ولقد أكدت هذا المعنى ثورات الربيع العربي عامة –وبالأخص ثورة 25 يناير- التي أظهرت أن العلمانية حينما يتاح لها فرصة التشكيلات التنظيمية فإنها تفشل تماما في إقامة أي تشكيل سياسي شعبي، ولم ينجح قط حتى في الانتخابات التي تجرى إلا التشكيلات ذات المرجعية الإسلامية. وهذان هما الوجهان اللذان تتعامل معهما السياسة الأمريكية بإظهار أنها ليست ضد التيارات الإسلامية الوسطية المعتدلة، في الوقت نفسه تشجع الحكومات القُطْرية على محاربتها والقضاء عليها.[[23]] هذا عين ما جرى في تجربة مصر بين الثورة والانقلاب.

 

 

[1] بسنت زين الدين/ آن باترسون السفيرة الأمريكية بالقاهرة تتحدث لـ«المصرى اليوم»: إذا كان الشعب لا يريد مرسى يمكنه إزاحته بالصندوق/ المصري اليوم ــ  الأحد 14 إبريل 2013م

[2] بانيتا يؤكد على الحاجة لسرعة إجراء انتخابات تشريعية جديدة فى مصر/ اليوم السابع ــ السبت، 16 يونيو 2012

[3] السيسي يكشف تفاصيل حواره مع السفيرة الأمريكية عام 2011.. هذا ما قاله عن “حكم الإخوان لمصر” “فيديو”/ عربي بوست ــ 12 يناير 2022م/// السيسي: قلت لسفيرة أمريكا في 2011 “الإخوان هيحكموا ويمشوا”/ “عربي 21” ــ الأربعاء، 12 يناير 2022

[4] السفيرة الأمريكية السابقة في القاهرة: الجيش أطاح بمرسي وربما يطيح بالسيسي/ عربي بوست ــ 15 فبراير 2019م

[5] فيديو.. جاد: سفيرة أمريكا طلبت لقاء البرادعي وصباحي بعد قدرتهما على الحشد/ بوابة الشروق ــ الأربعاء 5 ديسمبر 2012// آية حسني/«أبوالغار»: قيادات بجبهة الإنقاذ يلتقون «آشتون» لمناقشة الأوضاع الراهنة/ الشروق ــ الأحد 7 أبريل 2013// أشتون تبحث مع ممثلي جبهة الإنقاذ الأوضاع الراهنة في مصر.. وتدعو إلى الالتزام بسلمية تظاهرات 30 يونيو/ أصوات مصرية ــ الأربعاء  19 يونيو 2013م//قطب العربي/ السفيرة آن.. وشهادتها المنقوصة/ “عربي 21” ــ  الأحد، 17 فبراير 2019م

[6] بالصور..السفارة الأمريكية تحذف تضامنها مع باسم يوسف/ شبكة رصد ــ الأربعاء، 3 أبريل 2013

[7] بسنت زين الدين/ آن باترسون السفيرة الأمريكية بالقاهرة تتحدث لـ«المصرى اليوم»: إذا كان الشعب لا يريد مرسى يمكنه إزاحته بالصندوق/ المصري اليوم ــ  الأحد 14 إبريل 2013م

[8] العريان: السفيرة الأمريكية أبلغت الحداد أن الانقلاب قادم/ شبكة رصد ــ الأحد، 14 يوليو 2013

[9] عادل رفيق، رسائل كلينتون: الإخوان والحكم الإسلامي في مصر، المعهد المصري للدراسات، 15 أكتوبر 2020، الرابط:

[10] كيم غطاس/ مصداقية أمريكا “في حالة يرثى لها” بسبب مصر/ بي بي سي ــ 16 أغسطس/ آب 2013

[11] بلال الخالدي/تحليل لأهم ما كشفته NYT عن موقف أوباما من انقلاب السيسي/ “عربي 21” السبت، 28 يوليو 2018

[12] مرجع سابق ــ بلال الخالدي/تحليل لأهم ما كشفته NYT عن موقف أوباما من انقلاب السيسي/ “عربي 21” السبت، 28 يوليو 2018

[13] شادي حميد/ ترتيب أولويات الديمقراطية: كيفية إعادة تنظيم الرئيس المقبل لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط/ بروكنجز الدوحة ــ الأربعاء, يونيو 20, 2012

[14] بسنت زين الدين/ آن باترسون السفيرة الأمريكية بالقاهرة تتحدث لـ«المصرى اليوم»: إذا كان الشعب لا يريد مرسى يمكنه إزاحته بالصندوق/ المصري اليوم ــ  الأحد 14 إبريل 2013م

[15] محمد ماضي/مصالح أمريكا تجبر إدارة أوباما على تغيير موقفها من أحداث مصر/ سويس إنفو ــ 15 يوليو 2013م

[16] مارك مارديل/ امريكا ومعضلة الحياد في الأزمة المصرية/ بي بي سي ــ 3 يوليو/ تموز 2013

[17] محمد ماضي/مصالح أمريكا تجبر إدارة أوباما على تغيير موقفها من أحداث مصر/ سويس إنفو ــ 15 يوليو 2013م

[18] بسام ناصر/تشظيات الموقف الأمريكي بين المبادئ والمصالح/ السبيل الأردنية ــ  الثلاثاء 22/أكتوبر/2013

[19] د. عبدالله صابر الشريف/ إضاءات حول الندوة التي عقدها مركز التقدم الأمريكي/ الجزيرة نت ــ 24 فبراير 2019م

[20] شاهد| آن باترسون: الجيش المصري أطاح بمرسي وقد يطيح بالسيسي/ الجزيرة مباشر ــ الخميس 14 فبراير 2019م// مصر والسيسي ومرسي.. المشهد الأخير بعين السفيرة الأميركية/ الجزيرة نت 16 فبراير 2019

[21] فهمي هويدي/ عن أسطورة الصراع بين القاهرة وواشنطن/ بوابة  الشروق ــ  الثلاثاء 4 فبراير 2014

[22] محمد المنشاوي/ علاقات واشنطن والقاهرة: مسار تغيير العقيدة القتالية للجيش المصري/ العربي الجديد ــ 21 يوليو 2018

[23] فريق العمل/ طارق البشري لـ«إضاءات»: موقف الدولة من تيران وصنافير لم أره في حياتي/ إضاءات ــ 18 يونيو 2017م

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022