بعد مرور نحو 10 سنوات على صعود الرئيس محمد مرسي لحكم مصر، ثم انقلاب السيسي الدموي عليه عسكريا، توارت الحجب لتكشف عن كثير من الفروقات والتباينات الجذرية بين النظامين، حتى تكاد ألسنة الندم تبكي دما على عهد لم يصنه المصريون، وتواطأ بعضهم في إهداره وإزاحته قسرا، ومن أبرز تلك المجالات التي تبرز الفروقات الشاسعة بين العهدين، هو حرية الصحافة والإعلام، التي راعها مرسي ودعمها، فيما تفنن السيسي في وأدها والتنكيل بأصحابها، سواء كانوا مؤيدين أو معارضين له.
وأد الصحافة وقضم الحريات الإعلامية بعهد السيسي
في عهد السيسي، وعلى عكس كل دول العالم التي تزداد حرية وانفتاحا وتفتح مجالات التعبير والحرية ونشر الحقائق وزيادة الوعي، تسير مصر على عكس خط السير العالمي، لتضع شعبها بعيدا عن الحياة وتحجبهم عن العالم والواقع، في أكبر جريمة إنسانية وكونية، بعزل أكثر من 100 مليون إنسان عن شمس الحرية، وهو طريق نهايته الانفجار وتهديد الداخل والإقليم بل والعالم أجمع وإزاء الحريات الإعلامية والصحافة، لجأ السيسي لسلاح القمع الأمني والسلطوي بالحجب واغلاق الصحف والمواقع الصحفية، فأصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، برئاسة كرم جبر، مؤخرا، 12 قرارا بغلق وحجب مواقع إلكترونية، وحسابات وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، وقنوات على موقع يوتيوب، بزعم “مخالفتها الأكواد والمعايير الإعلامية ومواثيق الشرف الصحفي أو الإعلامي” أو “عدم حصولها على ترخيص” وفقا لأحكام قانون تنظيم الصحافة والإعلام، وبات “نشر أو بث أخبار كاذبة”، التهمة الأوسع الصاقا للصحفيين والناشطين على فضاء الانترنت.
وأتى ذلك بالمخالفة لنص المادة (71) من الدستور المصري التي “حظرت بأي وجه فرض رقابة على الصحف، ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها” وتأتي قرارات الحجب الأخيرة، كسلسلة متواصلة من قبل السلطة الحاكمة، والتي سبقت وأن حجبت 682 رابطا على الأقل، منها 596 موقعا و32 رابطا بديلا استخدمته المواقع المحجوبة للوصول إلى جمهورها، عوضا عن الروابط التي حُجبت وشملت المواقع المحجوبة 116 موقعا صحفيا وإعلاميا، و349 موقعا يقدم خدمات تجاوز حجب المواقع Proxy وVPN، و15 موقعا يتناول قضايا حقوق الإنسان، و11 موقعا ثقافيا و17 موقعا يقدم أدوات للتواصل والدردشة و27 موقع نقد سياسي و8 مدونات ومواقع استضافة مدونات و12 موقعا لمشاركة الوسائط المتعددة، بالإضافة إلى عدد آخر من المواقع المتنوعة، ، وذلك بحسب تقارير حقوقية رصدتها منظمات محلية وإقليمية ودولية.
وكانت سلطات السيسي قد بدأت موجة موسعة من حجب المواقع الإلكترونية التي تصنفها على أنها معارضة، من دون سند قانوني، في مايو 2017 وبدأت الحملة بحجب 21 موقعا صحفيا وإخباريا، بينها موقع مدى مصر، ومواقع تابعة لشبكة الجزيرة الإعلامية وأخرى قطرية أو تابعة لجماعة الإخوان المسلمين، غير أن البداية الحقيقية كانت مع حجب موقع العربي الجديد في مصر، في ديسمبر 2015، وبطريقة أكثر خشونة تتجاوز القمع الأمني والاستبداد السلطوي، بحجب المواقع الصحفية وحسابات السوشيال والقنوات، بقتل ناشري الحقيقة والعاملين بالمجال الإعلامي والصحفي، الذين يضطلعون بمتابعة الشأن العام وتنوير الجماهير، عبر الاعتقال وإيداعهم في ظروف قاسية بمعتقلات غير إنسانية.
حبس الصحفيين إدمان عسكري
ويعاني مئات الإعلاميين والصحفيين من أوضاعا مزرية في سجون السيسي، والكثيرون منهم يتعرضون لإهمال طبي متعمد يمثل خطورة شديدة على حياتهم. منهم، حمدي الزعيم الذي يعاني مرض السكري والضغط وضعف النظر، والكاتب الصحفي عامر عبد المنعم 59 عاما يعاني من مرض السكري منذ 15 عاما، ويحتاج إلى جرعات الإنسولين دوريا، لكن إدارة سجن المزرعة في مجمع طرة، تمنعه من الحصول على قائمة من الأدوية التي يحتاجها، وقد خضع لعمليتين جراحيتن في عينيه قبل اعتقاله، وبسبب ظروف حبسه وعدم حصوله على الرعاية الصحية اللازمة أصيب في شهر رمضان الماضي بالتهاب فيروسي شديد، وعرض حينها على طبيب السجن من دون أن تتحسن حالته، وهو محبوس احتياطيا منذ ما يقارب عاما ونصف عام بتهمة نشر أخبار كاذبة، الى أن أفرج عنه مؤخرا في يونيو 2022 ووفق التنسيقية المصرية للحقوق والحريات، يعاني الباحث والصحفي أحمد أبو زيد الطنوبي، المحكوم عليه بالسجن عشرة أعوام أمام محكمة عسكرية بتهمة نشر أخبار وأسرار عسكرية، إهمالا طبيا جسيما، وهو مهدد بفقد بصره في محبسه، إذ يحتاج بشدة إلى إجراء عملية المياه الزرقاء ولا تختلف حال الصحفي في قناة الجزيرة هشام عبد العزيز الذي يعاني من ارتفاع شديد في ضغط العين ومن تكلس شديد في عظمة الركاب في الأذن الوسطى، وهو مهدد بفقد السمع والبصر في حال استمرار احتجازه في هذه الظروف، وفق ما حذرت أسرته ومحاميه كما يعاني الصحفي أحمد سبيع من مشاكل في العمود الفقري والتهاب حاد في الأعصاب والرقبة، وتزداد حالته سوءا جراء عدم تعرضه لأشعة الشمس وحرمانه من التريض. وأيضا الكاتب الصحفي توفيق غانم يعاني من مرض السكري والتهاب الأعصاب في ساقيه وركبته ومشاكل أسفل ظهره وتضخم في البروستاتا الذي يتطلب علاجا متخصصا مستمرا في منشأة طبية مجهزة.
وهؤلاء وغيرهم يعانون إهمالا طبيا في السجون يشكل خطرا شديدا على حياتهم، وقد يعيد سيناريو ما حدث مع الكاتب الصحفي محمد منير الذي توفي في يوليو 2020، نتيجة الإهمال الطبي الجسيم ف السجن، متأثرا بإصابته بفيروس كورونا، بعد أيام من إطلاق سراحه ووفقا لتقرير صادر عن “المرصد العربي لحرية الإعلام” هناك 66 صحفيا نقابيا وغير نقابي في السجون المصرية، ويقضي بعضهم أحكاما بالسجن تصل إلى المؤبد، بينما غالبيتهم في حبس احتياطي على ذمة اتهامات ولم يحالوا إلى المحاكم، وقضى غالبية هؤلاء الفترات القصوى للحبس الاحتياطي التي ينص عليها القانون من دون إخلاء سبيلهم، بل أعيد حبسهم باتهامات جديدة؛ ليصبح الحبس الاحتياطي، وهو مجرد إجراء احترازي، عقوبة سالبة للحرية طويلة المدى من دون حكم قضائي
ترتيب متدني عالميا بحرية الصحافة والإعلام
وبسبب الانتهاكات اللاإنسانية التي يتعرض لها الصحفيون، بعهد السيسي، تحتل مصر المرتبة 166 من 180 دولة، في نسخة عامي 2020 و2021 من تقرير حرية الصحافة الذي تعده منظمة “مراسلون بلا حدود” التي أكدت أنه بين النطاقات الخمسة في المؤشر تستمر مصر في المساحة السوداء، حيث حالة الإعلام تنتقل من سيئ إلى أسوأ وعلى مدار سنوات، تتردد مصر منذ الانقلاب العسكري بين المرتبة 158 و166 في هذا التصنيف كذلك احتلت مصر المرتبة الثالثة في قائمة الدول التي تحتجز أكبر عدد من الصحفيين، إذ بلغ عددهم 25 صحفيا عام 2021، وفقا للجنة حماية الصحفيين غير حكومية. وقالت اللجنة في أحدث تقاريرها، في ديسمبر الماضي، إنّه “على الرغم من أن هذا العدد أقل من العام الماضي، فإن الاحتجاز المستمر للصحفيين يشكل نموذجا لاستهتار حكومة عبد الفتاح السيسي بقوانين البلد، إذ تعمد السلطات بصفة مستمرة إلى الالتفاف على القوانين التي تحدد مدة الحبس الاحتياطي بسنتين، وذلك من خلال توجيه اتهامات إضافية لتمديد تلك الفترة، وفي حالات أخرى تفرض السلطات شروطا على الإفراج عن الأشخاص الذين يكملون مدة محكوميتهم، وبتلك الإجراءات وغيرها تقتل حكومة السيسي الحرية وتهدر الصحافة وحق المجتمع في إعلام حر يدافع عنه ، ويكشف حقائق الواقع المعاش، وينير طريق المجتمع.
وقد تسببت كل تلك السياسات في تقليص توزيع الصحف المطبوعة التي باتت كلها مجرد ناقل للبيانات الحكومية والبيانات العسكرية، في ظل توسع دور الرقابة ، بحذذف الموضوعات ومنع نشر المقالات، وتغيير المواد المطبوعة، وهو ما أفقد الصحف جاذبيتها، خاصة بعد سلسلة من الاستحواذات من الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، التابعة لجهاز المخابرات العامة، على الصحف والمواقع والقنوات التلفزيونية، وهو ما عبر عنه تراجع توزيع الصحف المصرية من 3.5 مليون في عام 2000 إلى 350 ألف نسخة 2018، وفق تقديرات رسمية فيما يبلغ إجمالي ديون المؤسسات الصحفية القومية نحو 19 مليار جنيه، بحسب تصريحات وكيل الهيئة الوطنية للصحافة “عبدالله حسن ، في 5 مارس الماضي.
مرسي يلغي الحبس الاحتياطي ويطلق الحريات
رغم التطاول وبمقارنة ما يجري في عهد السيسي، الذي لا يريد صوتا حرا بمصر، أمرا المصريين بصلف “متسمعوش كلام حد غيري أنا”، وما طان عليه الوضع في عهد الرئيس محمد مرسي، الذي لم يأل جعدا منحازا للحريات والصحافة، من أجل مجتمع حر. وفي 23 أغسطس 2012 أصدر الرئيس مرسي، قرار بقانون بإلغاء الحبس الاحتياطي للصحفيين في جرائم النشر حفاظا على حرية الرأي والتعبير. وذلك على خلفية قضية الصحفي إسلام عفيفي، رئيس تحرير جريدة الدستور في عهد مرسي، وبسرعة أفرج عنه بعد ساعات من القبض عليه، وأصدر مرسوما بقانون بإلغاء الحبس الاحتياطي للصحفيين في جرائم النشر.
ويروي المستشار أحمد مكي، وزير العدل وقتها، بأن الرئيس مرسي اتصل به واعترض على القبض على ذلك الصحفي، فأخبره المستشار مكي بأنه لا سبيل إلى ذلك إلا بإصدار قرار جمهوري بإلغاء عقوبة الحبس الاحتياطي للصحفيين تأسيسًا على السلطات التشريعية الممنوحة لرئيس الجمهورية وقتها، وبالفعل قام الرئيس مرسي بذلك واستدرك قائلا: “وكانت النيابة قد أسندت إلى رئيس تحرير الدستور تهمة القيام بنشر بيانات وأخبار وشائعات كاذبة بأعداد جريدة الدستور، تحتوى على إهانة رئيس الجمهورية، من شأنها تكدير الأمن العام وإلحاق الضرر بالمصلحة العامة وزعزعة استقرار البلاد وإثارة الفزع بين الناس”. وجاء قرار مرسي وقتها ليؤكد انحيازه للحقوق والحريات، حتى لو على حساب شخصه، متيقنا بأن المصريين يستحقون الحرية مهما كان ثمنها. حيث استخدم الرئيس محمد مرسي حقه الدستوري في إصدار قوانين أثناء غياب البرلمان بغرفتيه، وأصدر يوم 23 أغسطس أي بعد شهرين من وصوله إلى قصر الاتحادية تعديلا للمادة 41 من قانون الصحافة رقم 96 لسنة 1996، لإلغاء الحبس الاحتياطي في تهمة إهانة رئيس الجمهورية، والذي أنقذ الصحفي إسلام عفيفي رئيس تحرير صحيفة الدستور من الحبس الاحتياطي، وقد تم إخلاء سبيله فورًا، وهذا مما يحسب للرئيس مرسي أنه لم يُحبس صحفيًا في عهده، وأنه أصدر تعديلًا تشريعيًا لمنع حبس صحفي واحد وفي العام 2012 أعاد الرئيس مرسي الصحفية شيماء عادل من السودان.. معه على متن الطائرة الرئاسية، بل ونظم لها افطارا مع شخصه، على الرغم من اعتقال السلطات السودانية لها، على خلفية اتهامات بالتجسس.
اهتمام بمعيشة الصحفيين
وفي عهد الرئيس مرسي، تضاعف المعاش الصحفي من 400 إلى 800 جنيه، وبدل التكنولوجيا من 610 إلى 752.5، كما منح الرئيس مرسي نقابة الصحفيين شيكا ماليا ليضاعف المعاش من 800 إلى 1200 جنيه، والبدل من 752.5 إلى 1200 جنيه، وفق شهدة ممدوح الولي نقيب الصحفيين الأسبق، عبر صفحته على الفيس بووك.
حرية للإعلام لم تكتمل بسبب الانقلاب
ورغم قصر مدة حكم الرئيس محمد مرسي التي لم تتجاوز عاما واحدا إلا أنها خلفت وراءها تجربة ثرية في حرية الصحافة لعلها كانت أحد العناوين الأبرز لتلك السنة، وقد بلغت حرية الصحافة ذروتها خلال ذلك العام، وتنافست الصحف والقنوات القومية والخاصة في كسب جمهور أوسع، وكذا كسب حصة أكبر من كعكعة الإعلانات، والأخطر من كل ذلك كسب حصة من التمويلات الخارجية السخية التي تدفقت على مصر في تلك السنة لصناعة لوبيات إعلامية مناهضة للرئيس وحكومته وبدأ مرسي عهده بلقاءين أحدهما مع الصحفيين (رؤساء التحرير وكبار الكتاب) والثاني مع الإعلاميين ( مقدمي البرامج وكبار المسئولين في القنوات)، وجرى بينهم وبين الرئيس حوار صريح وشفاف، بدد فيه مخاوفهم التي طرحوها خلال اللقاء، وكان منها ما يتعلق بالحالة السياسية والديمقراطية بشكل عام، ومنها ما يتعلق بحرية الصحافة بشكل خاص..حيث تعهد مرسي بالسير قدما نحو سيادة الحريات وتعميقها في الاوساط المصرية.
كما تضمن الدستور (2012) العديد من النصوص التي تضمن حرية الصحافة واستقلالها، والتي تؤسس لشكل جديد من المؤسسات المستقلة التي تشرف عليها، وهو شكل يختلف كليًا عن سابقه الذي كان يكرس لهيمنة السلطة التنفيذية، ومن هذه النصوص المادة 45 المتعلقة بحرية الرأي والفكر والتعبير والتي تمنح كل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل النشر والتعبير، ويلحق بها المادة 46 المتعلقة بحرية الإبداع بأشكاله المختلفة أما المادة 47 فتدشن عصرًا جديدًا فيما يخص الحق في الاطلاع على المعلومات حيث ترتب في نهايتها عقوبات لمن يعطل هذا الحق “الحصول على المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق، والإفصاح عنها، وتداولها، حق تكفله الدولة لكل مواطن؛ بما لا يمس حرمة الحياة الخاصة، وحقوق الآخرين، ولا يتعارض مع الأمن القومى. وينظم القانون قواعد إيداع الوثائق العامة وحفظها، وطريقة الحصول على المعلومات، والتظلم من رفض إعطائها، وما قد يترتب على هذا الرفض من مساءلة، حيث كان هذا النص في الدساتير السابقة يتحدث عن الحق دون ترتيب عقوبة على من يعطله.
أما المادتان 48 و49 فقد مثلتا ثورة في المجال الإعلامي حيث ضمنتا حرية الصحافة والإعلام ووسائل النشر وحظر وقفها أو غلقها أو مصادرتها إلا بحكم قضائي، وكذا حظر الرقابة على النشر، كما تضمنتا حرية إصدار الصحف بمجرد الإخطار وتملكها للأشخاص الطبيعيين إلى جانب الأشخاص الاعتباريين لأول مرة منذ أكثر من ستين عاما، حيث نصت المادة 48 على “حرية الصحافة والطباعة والنشر وسائر وسائل الإعلام مكفولة. وتؤدى رسالتها بحرية واستقلال لخدمة المجتمع والتعبير عن اتجاهات الرأي العام والإسهام في تكوينه وتوجيهه فى إطار المبادئ الأساسية للدولة والمجتمع والحفاظ على الحقوق والحريات والواجبات العامة، واحترام حرمة الحياة الخاصة للمواطنين ومقتضيات الأمن القومي، ويحظر وقفها أو غلقها أو مصادرتها إلا بحكم قضائي. والرقابة على ما تنشره وسائل الإعلام محظورة”.
كما نصت المادة 49 على “حرية إصدار الصحف وتملكها، بجميع أنواعها، مكفولة بمجرد الإخطار لكل شخص مصري طبيعي أو اعتباري، وينظم القانون إنشاء محطات البث الإذاعي والتليفزيوني ووسائط الإعلام الرقمي واستحدث دستور الثورة (2012) هيئات مستقلة لإدارة الشأن الصحفي بدلًا من وزارة الإعلام التي تمثل ميراثًا سلطويًا ينتمي لعصور الحكم الشمولي، وكذا بديلًا لدور مجلس الشورى في إشرافه على الصحافة القومية، وهاتين الهيئتين هما المجلس الوطني للإعلام والهيئة الوطنية للصحافة والإعلام، وقد تم إدراجهما ضمن الهيئات المستقلة التي تتمتع بالشخصية الاعتبارية العامة، والحياد والاستقلال الفني والإداري والمالي وفقا للمادة 200 من الدستور ورغم أن هذه النصوص الدستورية لم تتحول إلى نصوص قانونية بسبب وقوع الانقلاب في 3 يوليو 2013، إلا أن روح هذه النصوص -التي هي روح ثورة 25 يناير 2011- كانت هي المطبقة في الممارسة العملية، حيث لم نعطل في المجلس الأعلى للصحافة أي طلب لإصدار صحيفة. بينما ظلت تلك المواد الدستورية وغيرها مما جاء في دستور 2014 حبرًا على ورق، وتم تجاهلها تماما في الممارسة العملية التي جاءت عكسها تمامًا، عقب انقلاب 2013 ـ مثل إغلاق العديد من الصحف والقنوات ومثل حبس عشرات الصحفيين في قضايا نشر، ومثل نقل ملكية العديد من الصحف والقنوات لشركات مملوكة للمخابرات، والتوقف عن منح تراخيص إصدار صحف أو قنوات جديدة.
كما سعى مرسي للانتقال بالإعلام الرسمي من إعلام السلطة إلى إعلام الشعب، ورغم أن الإعلام القومي كان تابعا لنظام مبارك مدافعا عنه، كما أصبح لاحقا تابعًا ومدافعًا عن نظام السيسي إلا أنه لم يكن كذلك في عهد الرئيس مرسي، ففي ماسبيرو كانت الروح العدائية هي التي تطبع نفوس غالبية العاملين فيه، والذين كانوا يدعمون بقوة المرشح الرئاسي الفريق أحمد شفيق في انتخابات 2012، كما أن برامج قنوات ماسبيرو ظلت تعمل كسابق عهدها قبل ثورة يناير، حتى تم تعيين صلاح عبد المقصود وزيرا للإعلام فأحدث تعديلا في السياسات التحريرية يقضي بفتح البرامج أمام كل الأطياف السياسية، وكان يتابع بنفسه تنفيذ هذه السياسة في البرامج الرئيسية حتى يرسخ هذه السياسة، وهو ما يدحض الاتهامات التي وجهت له بفتح التلفزيون الرسمي للمتحدثين من الإخوان فقط، فقد ظهر على شاشات قنوات ماسبيرو من ينتقد جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة الذي ينتمي إليه الرئيس، ومن يخرج أحيانًا عن حدود اللياقة والمهنية كما فعلت إحدى المذيعات (بثينة كامل) التي إدعت على الهواء أنها تقرأ نشرة الأخبار الإخوانية، كما خرجت إحدى المذيعات (هالة فهمي) حاملة كفنها على الهواء بدعوى ضياع الدولة المصرية على يد الإخوان المسلمين، وأخونة الإعلام المصري، ( تم مساءلتهما عن هاتين الواقعتين، والغريب أن نظام السيسي الذي كانت المذيعتان من داعميه أوقف ظهورهما ومنع برامجهما)، كما سعى الوزير صلاح عبد المقصود إلى تقوية قناة النيل للأخبار حيث كان يستهدف الوصول بها إلى قناة إخبارية عالمية تنافس الجزيرة وBBC، لكن الظروف لم تساعده.
وفي المجال الصحفي شهدت الصحافة القومية انفتاحًا لم تعرفه من قبل، وجاء هذا الانفتاح بعد ثورة يناير، لكنه تجذر في عهد الرئيس مرسي، حيث أصبحت هذه الصحف قومية بحق، وفتحت أبوابها لمختلف الآراء والتوجهات، ولكن بعض رؤساء التحرير-والنموذج الأبرز هو رئيس تحرير الأخبار محمد البنا – كانوا ولمواقف خاصة بهم يتعنتون مع بعض الكتاب خاصة من ذوي الفكر الناصري واليساري، ويرفضون نشر بعض المقالات بحجة مخالفتها لسياسة التحرير، ومن التغيرات الجديدة في مجال الصحافة في عهد الرئيس مرسي هو وضع قواعد ومعايير لاختيار رؤساء مجالس إدارات ورؤساء تحرير الصحف القومية، ووضع آلية جديدة لعملية الاختيار، بعد أن كان اختيارهم يأتي في ظرف مغلق من رئاسة الجمهورية يسلم لرئيس مجلس الشورى الذي يتلو الأسماء للحصول على الموافقة الشكلية للنواب، أما الألية الجديدة، ومعايير الاختيار فقد أوكلت مهمة وضعها لنقابة الصحفيين التي اختارت 50 شخصية نقابية لوضع هذه المعايير، وتحديد الآلية التي تشكلت من عدد من شيوخ المهنة مع بعض نواب مجلس الشورى (بحكم ولايته على المؤسسات القومية من الناحية القانونية)، ووفقا لتلك الآلية تقدم من يريد الترشح لأي منصب بملف لخبراته الشخصية، ورؤيته لتطوير العمل في المنصب المرشح له، وقد جرى اختيار الرؤساء جميعا على هذا الأساس، وبطبيعة الحال لا يمكن القول أن الاختيارات كانت جميعها مثالية لكنها في كل الأحوال تمت وفق آلية ومعايير واضحة وبشفافية تامة، وبالمناسبة لم يكن من بين هؤلاء الرؤساء من ينتمي للإخوان المسلمين على عكس ما زعم الكثيرون، ولكن كان منهم بعض الشخصيات يحملون توجهات محافظة بشكل عام، كما أن بعض رؤساء تحرير الصحف الكبرى انقلبوا على الرئيس مرسي في آخر أيامه، واصبحوا يتلقون تعليمات من المخابرات مباشرة، وظهر ذلك في كتاباتهم المناهضة للرئاسة وللحكومة، كما ظهر في تغطياتهم للترتيبات لمظاهرات 30 يونيو، كما انحاز أغلبهم لسلطة الانقلاب بشكل سريع ظنًا منهم أن ذلك قد يشفع لهم للاستمرار في مواقعهم وهو مالم يحدث حيث تم الاستغناء عنهم جميعًا لاحقًا، ليتم تعيين عدد من المحررين العسكريين في مواقعهم.
مواجهة الفساد في المؤسسات الصحفية
ومنذ صعود مرسي للحكم، سارت معارك مكافحة الفساد بوتيرة متسارعة في كافة المجالات، ومنها الصحافة والإعلام، حيث كان الفساد أحد الأسباب الرئيسية لتدهور وضع المؤسسات الصحفية القومية (الأهرام- أخبار اليوم- دار التحرير- دار الهلال- دار المعارف- روز اليوسف- الشركة القومية للتوزيع- وكالة انباء الشرق الأوسط)، وتمثل هذا الفساد في تعيينات وفقًا للمجاملات وليس وفقًا لاحتياجات العمل حتى تضخمت المؤسسات بالموظفين والصحفيين، وصرف مكافآت بلا داع لأهل الحظوة، ومنافسة بين المؤسسات في بناء مباني فخيمة بلا ضرورة وبقروض على المكشوف، وهدايا ثمينة في المواسم المختلفة لكبار المسئولين في الدولة، وأصول غير مستغلة إلخ، وتم تكليف مكتب محاسبي متخصص (مكتب عبد العزيز حجازي) لعمل تقييم للأوضاع المالية والإدارية لتلك المؤسسات، ومعرفة أصولها والتزاماتها، وقد انتهى المكتب من إعداد تقارير عن أوضاع بعض المؤسسات قبيل وقوع الانقلاب ثم توقف بطبيعة الحال بعده، وكانت تستهدف تلك الدراسات هيكلة هذه المؤسسات وفق رؤية اقتصادية رشيدة، بما كان يلزم في ذلك الوقت من دمج مؤسسات، أو حتى التصرف فيها ببيعها أو تمليكها للعاملين.
وفي الأثناء تمكن المجلس الأعلى للصحافة ومجلس الشورى بالتعاون مع المسئولين عن إدارة هذه المؤسسات من وقف العديد من صنابير الفساد، ومن تلك النماذج، قرار وقف التعيينات الجديدة في المؤسسات الصحفية، وجميعها تعاني تخمة في الأعداد ضبط النفقات، وفضح، ووقف كشوف البركة التي كانت تتم من قبل كما هو الحال في أكبر المؤسسات(الأهرام) حيث كانت تصرف مكافآت سخية بعشرات الآلاف من الجنيهات لعدد من كبار الموظفين في المؤسسة، وكانت تصرف بورقة مكتوبة بخط اليد، ولا تمر وفق المسارات الإدارية القانونية وايضا مساءلة الصحفيين الذين كانوا يعملون في جلب الإعلانات والحصول من وراء ذلك على عمولات سخية بالمخالقة لقانون الصحافة، وقد تمكنا من رد ملايين الجنيهات من هوامير الصحافة والإعلانات في ذلك الوقت وإلزام رؤساء مجالس إدارات المؤسسات الصحفية السابقين الذين استمروا في مواقعهم خلال حكم مبارك بعد السن القانوني برد كل ما حصلوا عليه من مكافآت وبدلات بعد السن القانوني، وقد تم تطبيق ذلك على إبراهيم نافع، وإبراهيم سعدة، وسمير رجب، ومحمد عبد المنعم ووقف البدلات والميزات العينية التي كان يحصل عليها رؤساء مجالس الإدارة ورؤساء التحرير السابقين بعد تركهم مسئوليتهم (كان مخصصًا لهم سيارات ومكاتب وسكرتارية وبدلات ضيافة وتليفونات إلخ) وقد تم وقف ذلك لكل من ترك موقعه في نفس الوقت تم تخفيض الرواتب والبدلات الممنوحة لرؤساء مجالس الإدارة ورؤساء التحرير الجدد، وإلزامهم بدفع فواتير هواتفهم النقالة إذا تجاوزت مبلغ 300 جنيه شهريا تم فتح ملف هدايا الأهرام والأخبار التي كانت تمنح في المناسبات لمبارك وأسرته وكبار المسئولين في القصر الرئاسي وبقية مؤسسات الدولة، وتم إحالة هذا الملف لنيابة الأموال العامة.
أما الإعلام الحر، فسار يتوسع في القيام بدور الدفاع عن مصالح اصحابه، ودخل في حروب مع الرئاسة التي بدأت تحرك آلياتها لمعالجة الفساد المتراكم، ووصل الأمر بعمل برامج ساخرة من الرئيس مثل برنامج باسم يوسف، وقد كان الكثير من هذه القنوات والصحف والمواقع يتلقى تمويلات إماراتية سعودية سخية، ولعل من الأخطاء الكبرى هو الفشل في كشف مصادر هذا التمويل مع رفض الأجهزة الأمنية تقديم ما لديها من معلومات، وعلى الأرجح كانت بعض هذه الأجهزة ضالعة في هذه التمويلات، لأنها كانت صاحبة كلمة عليا على هذه المنابر الإعلامية وكانت تعقد مع رؤسائها لقاءات غير رسمية في أماكن مختلفة سواء بعض الفنادق أو المقاهي للاتفاق على خطط الهجوم الإعلامي على الرئيس ورجاله، وكانت هذه التمويلات السعودية الإماراتية سببا في إنعاش هذه القنوات والصحف والمواقع التي دفعت رواتب كبيرة لموظفيها، واستقطبت عددًا كبيرًا من العاملين في ماسبيرو والمؤسسات الصحفية القومية، التي لم تكن عائدات التوزيع أو الإعلانات تكفي لربع تكاليف تشغيلها وبحسب الامين العام المساعد للمجلس الأعلى للاعلام، قطب العربي، فإنه لم يكن للسلطة التنفيذية أي ولاية على القنوات أو الصحافة الخاصة والحزبية، فهي لا تتلقى دعمًا ماليًا منها على عكس الحال بالنسبة للقنوات والمؤسسات الصحفية القومية، وهي لا تتدخل في اختيار رؤسائها، ويقتصر دور المجلس الأعلى للصحافة على منح تراخيص الصدور، ومتابعة مدى الالتزام بميثاق الشرف الصحفي، وهو ما قام المجلس من أجله بإحياء لجنة أخلاقيات المهنة، التي قامت بدورها.
ويكشف المشهد بتجلياته أن حرية الإعلام بلغت في عهد الرئيس مرسي مبلغا لم تصل إليه من قبل ولا من بعد، حيث تجاوز الكثيرون حدود النقد المباح إلى السب والقذف للرئيس ورجاله وعائلته، وحين تقدمت الإدارة القانونية برئاسة الجمهورية بشكل وظيفي بتقديم بلاغات ضد بعض الإعلاميين أمر الرئيس مرسي بسحب هذه البلاغات. كما لم تقم الرئاسة أو الأجهزة التنفيذية الأخرى بإغلاق أي صحيفة أو قناة( وكانت المحاولة اليائسة الوحيدة التي لم تنجح ضد توفيق عكاشة صاحب قناة الفراعين لامتناعه عن دفع مستحقات مدينة الإنتاج الإعلامي ولتنفيذ حكم قضائي نهائي لصالح طليقته)، كما لم يتم منع أي صحفي من السفر، ولم تسع الرئاسة للانتقام أو معاقبة الصحفيين والإعلاميين الذين سبوا وقذفوا بل حرضوا على القتل كما فعل توفيق عكاشة، وقد اعتبر البعض وخاصة من أنصار الرئيس هذا المسلك الرئاسي تخاذلًا عن مواجهة ضرورية يسندها القانون، وأن هذا التخاذل شجع على المزيد من الانفلات والقذف الذي صار عملًا ممنهجًا للحط من هيبة الرئيس كما اعترف الكثيرون منهم لاحقًا، لكن الرئيس كان يرى أن الديمقراطية تصحح نفسها بنفسها.
ومثل انحياز الرئيس مرسي لحرية الصحافة، نموذجا يدرس في إعلاء قيم الحرية والتعبير التي حرم منها المصريون بعهد السيسي.. الذي أغلق المجال الثقافي والحقوقي، من أجل تأميم أصوات المصريين، على طريقة فرعون “ما أريكم إلا ما أرى” وهو ما عبر عنه -غير قاصد- وزير الاوقاف في نقده للمعارضين الذين يطالبون بشمانات لاطلاق حوار مجتمعي دعا له السيسي لتجميل صورته بالخارج “اذهبا إلى فرعون إنه طغى”!!!!
مراجع:
أسامة الرشيدي، الإعلام وحرب الشائعات في عهد مرسي، المعهد المصري للدراسات، 3 مارس 2017
قطب العربي، الإعلام في عهد مرسي.. حريات بلا حدود ورؤية جديدة لم تكتمل، الجزيرة مباشر، 17-6-2020
الحرية والعدالة، الرئيس مرسي ألغى الحبس الاحتياطي وعفا عن المتطاولين،1 يناير، 2020
تقارير منظظظمات حقوقية، مراسلون بلا حدود، التنسيقية المصرية للحقوق والحريات، المرصد المصري لحرية الإعلام