بعد عقود طويلة اعتمدت الصين مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وحلفائها عبر العالم، كسياسة خارجية ترسم معالم علاقاتها الخارجية، وخاصةً في إفريقيا، تجنبًا لحدوث صدام بينها وبين القوى المُهيمنة من جهة، ومنعًا لإثارة التوترات الداخلية ضد مشاريعها الاقتصادية في إفريقيا وصونًا لحضورها المتنامي من جهة ثانية، وحرصت على الالتزام بمبادئ سياستها الخارجية، إلا أن بكين جنحت أخيرًا إلى تجربة الانغماس في الشأن السياسي، عبر بوابة تعزيز الحوار ورعاية المفاوضات، لتفكيك معضلات إفريقيا الأمنية والسياسية، إدراكًا منها أن الوقت قد حان للعب دور سياسي أكبر في إفريقيا بشكل عام وفي منطقة القرن الإفريقي تحديدًا، عبر توظيف اقتصادها القوي وتحالفاتها العريقة مع دول المنطقة، لملء الفراغ الذي أحدثه التراجع الغربي في الشرق الإفريقي. وفي هذا الإطار أطلقت بكين مبادرة عن طريق مبعوثها الجديد للقرن الإفريقي شيويه بينج، بتشكيل منظمة تحت مسمى اتحاد دول القرن الإفريقي، سيُعلن عنها في المؤتمر الذي سيُعقد في إثيوبيا خلال الشهر الجاري. فما هي أهمية القرن الإفريقي للسياسة الصينية؟ وكيف يكون شكل الوجود الصيني في تلك المنطقة؟ وكيف يُمكن قراءة المبادرة والخطوات الصينية في المنطقة؟ وما هو مستقبل التواجد الصيني هناك؟ تلك هي التساؤلات التي يسعى هذا التقرير للإجابة عليها..
أهمية القرن الإفريقي للسياسة الخارجية الصينية:
رغم الأهمية الجيوستراتيجية التي يُمثِّلها القرن الإفريقي بالنسبة للقوى الكبرى، من حيث تحكُّمه في مضيق باب المندب وخليج عدن، إلا أنه وبالنسبة للصين الصاعدة اقتصاديًّا، تزداد أهميته ليُمثِّل نقطة حيوية واستراتيجية في تحقيق تطلعاتها الاقتصادية في إفريقيا لتأمين مبادرة “الحزام والطريق” ومدخلها نحو إفريقيا، باعتبارها البوابة التي تشهد مرور التجارة الصينية من البر الصيني باتجاه أوروبا، وهذا ما يُفسِّر وجود قاعدة عسكرية صينية في جيبوتي لتُمثِّل نقطة ارتكاز للقوات البحرية الصينية لتأمين تجارتها التي تمر بالمنطقة. ومنذ الحقبة الجديدة وتولِّي الرئيس الصيني شي جين بينج الحكم عام 2013؛ أصبح القرن الإفريقي منطقة رئيسة تعمل الصين فيها على حماية تنفيذ مبادرة “الحزام والطريق” تعزيزًا لحضورها وتحقيق مكاسبها ومصالحها الخارجية، من خلال إنشاء أول قاعدة عسكرية صينية في الخارج في جيبوتي عام 2017، والتي تضم ما بين 5 و10 آلاف جندي صيني، لأداء مهام الحراسة في المياه الدولية قبالة سواحل الصومال، كما قامت ببناء خط سكك حديد بطول 750 كيلومترًا عام 2017، يربط جيبوتي بأديس أبابا لتسهيل حركة نقل البضائع الصينية وضمان سلامة تدفقها وتسريعها، كما شيَّدت بكين محطة “غاريسا” في كينيا للطاقة الكهروضوئية، بقدرة 50 ميجاوات وبدأ تشغيلها عام 2019، لتُصبح أكبر مشروع باستخدام الطاقة البديلة في القرن الإفريقي.[1]
الوجود الصيني في القرن الإفريقي:
تُعد الصين أقوى شريك اقتصادي مع دول القرن الإفريقي، حيث تعمل أكثر من ١٠٠٠ شركة صينية في إفريقيا، وكشف التقرير السنوي للعلاقات التجارية والاقتصادية الصينية الإفريقية، الصادر في سبتمبر من العام الماضي ٢٠٢١ أنه تم بناء ٢٥ منطقة صينية للتعاون الاقتصادي والتجاري في ١٦ دولة إفريقية جذبت ٦٢٣ شركة باستثمارات تجاوزت ٧ مليارات دولار ووفرت ٤٦ ألف فرصة عمل.[2] كل هذا قد يدفع بكين إلى الانخراط في التجربة السياسية واستثمار نفوذها الاقتصادي في توسيع مناحي نفوذها أمنيًّا وسياسيًّا، وانتشار أساطيلها البحرية قبالة السواحل الصومالية وخليج عدن والبحر الأحمر، عبر آليات التعاون الثنائي مع دول القرن، تحديدًا جيبوتي وإريتريا والصومال، ومحاولاتها مستقبلًا لإيجاد حلول للأزمات الداخلية والإقليمية مثل تلك العالقة بين إثيوبيا ومصر والسودان حول سد النهضة، وهو انتقال صيني نوعي من مربع الاقتصاد إلى دروب السياسة، وتشير الخطوات الصينية الحثيثة في الإقليم على نيَّة بكين الاستفادة من انشغال القوى الدولية التقليدية (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) لتعزيز حضورها الإفريقي. ويُمكن تتبُّع التواجد الصيني في المنطقة من خلال مجموعة من الدول؛ كالتالي:[3]
إثيوبيا؛ توفر إثيوبيا فرصة حقيقية أمام الاستثمارات الصينية، مع ملاحظة وصول حجم التبادل التجاري بين البلدين عام 2019 إلى نحو 2.63 مليار دولار، وحلول الصين شريكًا تجاريًّا رئيسًا لإثيوبيا طوال العقد الفائت على الأقل، فضلًا عن كون الأخيرة سوقًا كبيرة تتميز بتدني تكلفة التصنيع فيها بشكل لافت. لكن اللافت في صعيد العلاقات بين أديس أبابا وبكين، أنها تخطَّت البعد الاقتصادي منذ مطلع ديسمبر 2021، بزيارة وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، لأديس أبابا، ومقابلته رئيس الوزراء، آبي أحمد، فيما كان يواجه الأخير ضغوطًا داخلية وغربية غير مسبوقة إبَّان اشتعال الحرب في إقليم تيجراي أواخر عام 2020، وهو ما اعتُبر دعمًا صينيًّا لحليفتها القوية في القرن الإفريقي.
إريتريا؛ تنبع العلاقات الصينية-الإريترية من العقيدة السياسية التي يتبنَّاها آسياس أفورقي بتأثره بماو تسي تونغ (مؤسس الجمهورية الصينية الشعبية)؛ حيث تلقَّى أفورقي تدريبات عسكرية في الصين بعد انضمامه إلى جبهة التحرير الإريترية عام 1966، وهي علاقة تقليدية بين البلدين جسَّدها إقدام الصين على منح قروض لإريتريا منذ نشأتها، عام 1994؛ حيث أعطتها مبلغ ثلاثة ملايين دولار أميركي لشراء آلات زراعية صينية، وفي عام 2001، ألغت الصين ديونًا لإريتريا، وموَّلت أيضًا مشاريع تنموية أخرى، وفي أبريل عام 2006، منحت بكين أسمرة قروضًا بقيمة 23 مليون دولار لتحسين البنية التحتية للاتصالات، كما وقَّعت الدولتان، عام 2007، على اتفاقيات اقتصادية شملت إزالة التعريفات الجمركية على المنتجات الإريترية المصدَّرة إلى الصين. حاليًّا، أضحت إريتريا جزءًا من سياسة الصين الاقتصادية ولاعبًا محوريًّا في مبادرة “الحزام والطريق” بتوقيع أسمرة على اتفاقية الشراكة مع بكين، عام 2011، ليُمهد ذلك الطريق مساعدات مالية صينية بقيمة 100 مليون يوان (15.7 مليون دولار)، جاء هذا تتويجًا لزيارة وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، لإريتريا والتقائه بنظيره الإريتري، عثمان صالح، والرئيس آسياس أفورقي، في يناير الماضي، لبحث العلاقات الثنائية والشراكة الاستراتيجية بين البلدين، وقد جرى إعلان اتفاق تعاون فعَّال بين الصين وإريتريا، في إطار الشراكة الاستراتيجية ومنتدى التعاون الصيني-الإفريقي، في مختلف القطاعات ذات الاهتمام المشترك.
الصومال: احتفت السفارة الصينية في مقديشو، في 14 من ديسمبر الماضي، بمرور 61 عامًا على العلاقات الدبلوماسية الثنائية التاريخية مع الصومال، وعُدَّ الصومال من أوائل دول القرن الإفريقي التي أقامت معها علاقات دبلوماسية. واللافت أن العقود الثلاثة الأخيرة كان حجم التبادل التجاري بين البلدين فيها ضعيفًا جدًّا مُقارنةً مع دول المنطقة، لكن في الأعوام الأخيرة ومع عودة التحسن الأمني إلى مقديشو، ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين، ليصل عام 2019 إلى 732 مليون دولار أميركي لتصبح الصين ثاني شريك تجاري مع الصومال بعد الإمارات وقبل تركيا، كما أنها بادرت ولأول مرة بتقديم حزمة من المساعدات العسكرية للجانب الصومالي، بهدف تعزيز قدرات الجيش الصومالي، كما تعهَّدت بكين بتقديم مساعدات لتخفيف معاناة الكثير من المتضررين من أزمة القحط في وسط وجنوب البلاد. غير أن الهاجس الذي تتقاسمه بكين مع مقديشو يتمثَّل في تنامي العلاقات بين جمهورية أرض الصومال وتايوان، التي فتحت مكتب تمثيل لها في هرجيسا عام 2020، واستقبال وفود رفيعة المستوى من حكومة موسى بيحي، مطلع عام 2022، وهو تطور تراه الصين مهدِّدًا لسيادة واستقلال الدولتين؛ ما يدفعهما لتعاون سياسي واقتصادي أكبر بهدف إفشال وسد قنوات التعاون بين تايوان وأرض الصومال مستقبلًا، لكن يُتوقع أن تلوذ بكين لاحقًا بفتح المفاوضات مع هرجيسا وتقديم بدائل لقطع الطريق أمام صعود العلاقات الخارجية لتايوان.
جيبوتي: تُمثِّل جيبوتي بوابة الصين نحو القارة الإفريقية، وبالأخص منطقة القرن الإفريقي؛ إذ تضم أكبر قاعدة عسكرية خارجية للصين، كما أنها همزة وصل رئيسة لتأمين خطوط مبادرة “الحزام والطريق” فضلًا عن كونها ثكنة عسكرية لمراقبة البضائع الصينية التي تنتقل عبر البحار والمضائق الإقليمية. ونظرًا لهذه الأهمية، فإن جيبوتي هي من بين ثلاث دول إفريقية تَعتبر الصين الدائن الرئيسي؛ إذ تستحوذ بكين على نسبة كبيرة من الديون الخارجية للدول الإفريقية الأخرى وتصل إلى 32%.
الإعلان عن المبادرة:
في مومباسا، كينيا 7 يناير 2022 قال عضو مجلس الدولة وزير الخارجية الصيني الزائر وانغ يي إن الصين مستعدة لاقتراح “مبادرة التنمية السلمية في القرن الإفريقي” بهدف دعم الدول الإقليمية في مواجهة تحديات الأمن والتنمية والحوكمة. شرح وانغ وجهات نظر الصين حول الوضع الحالي في القرن الإفريقي بعد عقد محادثات مع وزيرة خارجية كينيا، ريتشيل أومامو. قال وانغ إن القرن الإفريقي، على الرغم من موقعه الاستراتيجي الفريد وإمكاناته الإنمائية الكبيرة، شهد خلال السنوات القليلة الماضية اشتعال القضايا الساخنة واندلاع الصراعات والمواجهات، ما يتعارض مع مصالح شعوب المنطقة ويجب توقفه. وأضاف وانغ أن الصين مستعدة لاقتراح المبادرة، لدعم المنطقة في تحقيق استقرار وسلام ورخاء على المدى الطويل.[4] ومؤخرًا أوردت وكالة سونا السودانية بأن الخارجية السودانية، تلقَّت دعوة من الحكومة الصينية عبر سفيرها لدى الخرطوم شين مين للمشاركة في مؤتمر السلام في القرن الإفريقي المُزمع عقده خلال الفترة من 20-21 يونيو الجاري بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا. وأوضح السفير الصيني أن المؤتمر يأتي كمبادرة من بلاده لتعزيز الاستقرار والتنمية والحكم الرشيد بالإقليم، وأكَّد أن حكومة الصين ترى في مشاركة السودان ضمان لنجاح المؤتمر، كما أشار إلى أن الدعوة وُجِّهت كذلك لعدد من دول الإقليم للمشاركة في المؤتمر، إضافةً إلى مفوض الإتحاد الإفريقي والسكرتير التنفيذي لمجموعة الإيجاد. فيما صرَّح المبعوث الصيني الخاص للقرن الإفريقي شيويه بينج لوكالة فانا الإثيوبية، عن انعقاد أول مؤتمر لسلام الصين في إطار الجهود المبذولة للتغلُّب على التحديات الأمنية في القرن الإفريقي وإقرار الأمن والسلام والاستقرار لكل دول الإقليم. هذا وقد سبق أن قام المبعوث الصيني بزيارات لكلٍّ من كينيا وإريتريا وإثيوبيا وجيبوتي والصومال وكينيا والسودان وأوغندا، للتمهيد للمؤتمر.[5]
قراءة في بنود وتوقيت المبادرة:
فيما يتعلق ببنود المبادرة الصينية، فإنها تشمل عدة أوجه ما بين الاقتصادي والسياسي والأمني، أبرزها توحيد عملة الدول التي ستنضوي تحت “اتحاد دول القرن الإفريقي”، وإعفاء من رسوم التأشيرات بينهم، وإنشاء خطوط سكة حديد ومواصلات تربط بين عواصم هذه الدول إلى جانب تفعيل التجارة والتعاون الاقتصادي بدعم مباشر من الحكومة الصينية.[6] وتأتي المبادرة في وقت تشهد المنطقة اضطرابات عدة، أبرزها الصراع في إقليم تيجراي بشمال إثيوبيا، والذي تسبَّب في مقتل آلاف المدنيين وتشريد الملايين، فضلًا عن أعمال العنف في الصومال، والخلافات الكينية الإثيوبية.[7] وتثير هذه الخطوة التي تترافق مع تراجُع الدور الأميركي في المنطقة ومحدودية تأثيره، انقسامًا في الآراء بشأن أسبابها وتوقيتها. ويرى مراقبون أنها تعكس مدى اهتمام بكين بإعادة الاستقرار إلى المنطقة التي تشهد توترات أمنية وعسكرية، وذلك من أجل ضمان مصالحها الاقتصادية الكبيرة في القارة الإفريقية. واعتبرها آخرون جزءًا من مسعى كبير لحشد دول المنطقة ضد العقوبات الأميركية المفروضة عليها، بما في ذلك تلك التي أقرتها واشنطن على أديس أبابا وأسمرة بسبب النزاع في إقليم تيجراي. ورأى فريق ثالث أن القرار مثال حي على استخدام الصين وضعها كدائن، من أجل انتزاع امتيازات دبلوماسية وتجارية. وحذَّر هؤلاء من أن تدفع هذه الاستراتيجية العديد من الدول الإفريقية إلى تحمل مستويات لا يُمكن السيطرة عليها من الديون.[8]
قراءة في الخطوات الصينية الجديدة:
هذه الخطوات الصينية الجارية الآن، والتي يقودها المبعوث الصيني تحمل العديد من المؤشرات والدلالات على أن الصين على وشك تحقيق ثاني أكبر اختراق صيني في إفريقيا بعد قيام ونجاح أول قمة صينية إفريقية. الإعداد الصيني لهذا المؤتمر، تزامن مع اخفاق وفشل أمريكي متتابع في سياستها بالمنطقة بسبب انقسامات وخلافات داخل الخارجية الأمريكية حيال القرن الإفريقي، مما أدى إلى استقالة وإقالة ثلاثة مبعوثين في ظرف عام ونصف، مُقابل استقرار وتقدُّم التنين الصيني، فما أنجزه المبعوث الصيني المُعيَّن لأول مرة في يناير من هذا العام –لم يُكمل ستة أشهر– يتفوق على مجهودات ثلاثة مبعوثين أمريكيين خلال عام ونصف. كذلك أثبتت الدبلوماسية الصينية نجاحها وحُسن استغلالها لعثرات وهفوات الدبلوماسية الأمريكية المُتكررة، ففي ظل انشغال الإدارات الأمريكية المُتعاقبة عن إفريقيا، تسلَّلت الصين وملأت كل الفراغات. فمنذ تسعينات القرن الماضي، انشغلت أمريكا بمحاربة الإرهاب، ففاجأتها الصين بأول قمة صينية إفريقية في العام 2000 والتي كانت بمثابة تدشين وإعلان رسمي عن وجودها في إفريقيا ومنافستها لأمريكا، تبعه تمدُّد اقتصادي صيني، وانحسار اقتصادي أمريكي جراء تداعيات وتطورات العلاقات الأمريكية الإفريقية إثر أحداث سبتمبر 2003. ثم جاءت حقبة ترامب، فاستغلت الصين إهماله وعجرفته نحو إفريقيا، وخطأه القاتل في إلغاء قانون الفرصة والنمو الاستراتيجي، والمعمول به منذ عهد بيل كلنتون، مطلع التسعينات، حيث منح ذاك القانون الفرصة لإفريقيا للاستفادة الاقتصادية ولأمريكا الاستفادة السياسية والسيطرة، فما كان من الصين إلا أن ملأت هذا الفراغ بالنفوذ وبالسيطرة عبر سياسة الديون والقروض طويلة الأجل، والمنح والدعم في إطار ما عُرف بالشراكة والصداقة الصينية. ولم تصحو إدارة ترامب من غفوتها إلا بعد أن رأت طريق الحرير الصيني ينطلق من الصين وهو يلتف ويتلوَّى حول إفريقيا قبل أن يعود إلى بكين مرة أخري. وها هو بايدن انشغل بتغيير سياسات خصمه ترامب باندفاع وتسرُّع مُستخدمًا عصا العقوبات التي اشتُهر بها حزب المحافظين رغم فشلها وعدم جدواها، وتأتي الحرب في إثيوبيا والتغيير السياسي في السودان فانشغل بايدن عن باقي إفريقيا، فاستغنى عن خدمات بعض حلفاء أمريكا، وأصدقاء ترامب الإقليميين الفاعلين، وذلك بتعيين مبعوث خاص للمنطقة عمومًا، وللسودان وإثيوبيا بوجه خاص، والذى فشل هو وخلفه بسبب خلافات وانقسامات داخل الخارجية الأمريكية، وفيما بعد كان الانشغال كليةً بالحرب الروسية الأوكرانية، قبل أن يصحو بايدن على مشهد السلام الصيني لكل دول القرن الإفريقي، والتي تحمَّست وتجاوبت مع الخطوة، بما فيهم السودان وإثيوبيا.[9]
مستقبل النفوذ الصيني في القرن الإفريقي:
تتلخَّص عدة سيناريوهات حول مستقبل وشكل الحضور الصيني في منطقة القرن الإفريقي، ويُمكن تلخيصها في البنود التالية:
عسكرة النفوذ الصيني في القرن الإفريقي:
حيث تأمل بكين في السنوات القليلة المُقبلة أن توسع نطاق وجودها العسكري في المنطقة؛ حيث شملت المباحثات التي جرت بين المبعوث الصيني والحكومة الصومالية، في مارس، منحها قاعدة عسكرية مُطلة على المحيط الهندي، كما أبدت رغبتها في إقامة قاعدة عسكرية في تنزانيا التي تقيم معها علاقة جيدة منذ السبعينات من القرن الماضي، إلى جانب سعيها الدؤوب لإيجاد موطئ قدم عسكري في قناة موزمبيق، وتجدَّدت هذه الرغبة منذ تعيين المبعوث الصيني إلى القرن الإفريقي مطلع هذا العام، بالإضافة إلى تمتُعها بقاعدة عسكرية صينية في جيبوتي تضمن وجودها حتى عام 2026. وتنظر الصين إلى القرن الإفريقي على أنه سوق واعدة لتجارة السلاح، وزوَّدت سابقًا كلًّا من إثيوبيا وإريتريا، إبَّان الحرب الطاحنة بين الجارتين، بأسلحة بما يقارب مليار دولار أميركي، عام 1998. وفي السياق نفسه، فإن لدى بكين قرابة 14 ملحقية عسكرية في إفريقيا، وتُمثِّل حصة القرن الإفريقي من هذه الملحقيات نسبة كبيرة حيث تنتشر في كلٍّ من إثيوبيا والسودان وكينيا وجيبوتي.
سياسة “إخماد الحرائق”:
يبدو أن الصين اعتمدت على سياسة إخماد الحرائق من البيوت الخشبية للحفاظ على مصالحها الحيوية في القرن الإفريقي، فاستمرار الصراعات لا يصب في مصالحها بل يُهدِّد تجارتها، لذا فمن المُنتظر أن تتدخَّل بكين سياسيًّا في إنجاح جهود السلام والمحادثات بين دول المنطقة، وهي رؤية استراتيجية صينية جديدة للتعامل مع أزمات تلك الدول، بعد التراجع الأميركي وفشل الغرب في إنجاح المفاوضات بدل التهديد بفرض العقوبات على الأفارقة، وهو ما يمنح الصين إلى جانب نشاطها الاقتصادي إمكانية ممارسة دور سياسي أكبر مستقبلًا، لتقريب المواقف وتجسير هوة الصراعات في المنطقة.[10]
الخُلاصة؛ إن تزايد حدة التنافس الدولي في منطقة القرن الإفريقي التي تحظى بموقع استراتيجي مهم لا شك أنها أيقظت التنين الصيني أخيرًا لممارسة ولعب دور سياسي من المُحتمل أن يؤجِّج صراع نفوذ بين القوى المُهيمنة والصاعدة في المنطقة. والاستقطاب الدولي في إفريقيا بشكلٍ عام قد يؤثر سلبًا على اقتصاديات التنمية ويُنمي حدَّة الانقلابات السياسية، ويُعيق التحول الديمقراطي فيها نتيجة الاصطفافات بين الغرب من جهة والقوى الصاعدة من جهة ثانية، فصعود الصين اقتصاديًا في شرق إفريقيا، وتنامي مصالحها بشكل متزايد في السنوات الأخيرة يدفعها أخيرًا إلى عسكرة هذا النفوذ، وهو ما يُثير قلق الغرب من أن الصين تُقدم على مزاوجة الاقتصاد وعسكرة الحلول معًا وتبنِّي سياسة مُتعددة الأوجه، لتنافس الحضور الغربي في منطقة القرن الإفريقي مستقبلًا. ويبدو أن السيناريو الراجح هو أن دول القرن الإفريقي تبحث عن بديل استراتيجي قوي عوضًا عن الغرب وأميركا، بعد عقود من الهيمنة والسيطرة، وكأنها سئمت من هذا الثقل السياسي والعسكري للشركاء السابقين، دون أن تجني من حضور تلك القوى سوى التهديد بفرض العقوبات في منطقة لا تزال تئن من صراعات عسكرية وتوترات سياسية تارة، وأزمات إنسانية نتيجة الجفاف والجراد والفيضانات وتداعيات جائحة كورونا على اقتصادات دول القرن الإفريقي تارةً أخرى. وعزم الصين تنظيم مؤتمر لدول القرن الإفريقي، وتشكيل منظمة اتحاد دول القرن الإفريقي، خطوة يُمكن قراءتها على توجهين، أولهما؛ مُعلن يتمثَّل في إيجاد حلول سلمية لنزاعات دول منطقة القرن الإفريقي، ومجابهة تحديات الأمن وتعزيز التنمية السلمية لدول المنطقة. وثانيهما؛ يتمثَّل في جملة الأهداف الخفية التي تخفيها الصين في سياستها الخارجية، فمعروف عن الصين أنها تعتمد على قاعدة رابح رابح في علاقاتها الخارجية، كما أن الصين تسعى إلى منافسة النفوذ الغربي في المنطقة من خلال عملها على غلق تمدُّد هذا النفوذ وتوسُّعه على حسابها في إفريقيا لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، كما تسعى إلى تقوية حجم استثماراتها وشراكاتها الاستراتيجية خصوصًا في إثيوبيا التي تُعتبر أكبر دولة مُتلقية للقروض والاستثمارات الصينية في منطقة القرن الإفريقي، إلى جانب تمويل المشاريع التنموية في جيبوتي. وهكذا؛ بنجاح الصين في إقامة المؤتمر، والوصول لتسوية الأوضاع في القرن الإفريقي أو على الأقل تهدئتها وتسكينها؛ تكون الصين قد دخلت من بوابة شرق إفريقيا وأغلقت الباب خلفها وألقت بالمفتاح في البحر الأحمر المحمي بقواعدها العسكرية الحالية، وتلك اللاحقة والمُتوقَّع إقامتها بعدد من دول المنطقة، في أعقاب مؤتمر السلام الذي سيُقام خلال يونيو الجاري في إثيوبيا.
[1] الشافعي أبتدون، “سياسة الصين الجديدة في القرن الإفريقي: الثابت والمتغير”، مركز الجزيرة للدراسات، 4/4/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/NZ4BK
[2] ناصر ذو الفقار، “توجه جديد من الصين.. بكين تسعى لزيادة نفوذها بإعلان «منظمة اتحاد دول القرن الإفريقي».. توحيد العملة والإعفاء من التأشيرات وإنشاء خطوط سكة حديد أبرز بنود المبادرة”، البوابة نيوز، 29/3/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/jcqW9
[3] الشافعي أبتدون، مرجع سبق ذكره.
[4] “وزير الخارجية الصيني يشرح مبادرة التنمية السلمية في القرن الإفريقي”، ARABIC.NEWS.CN، 7/1/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/AQxs4
[5] عمار العركي، “مؤتمر سلام الصين للقرن الإفريقي، الدلالات والتأثير”، الحاكم نيوز، 5/6/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/en80m
[6] ناصر ذو الفقار، مرجع سبق ذكره.
[7] “الصين ترعى «أول مؤتمر سلام» في القرن الإفريقي”، الشرق الأوسط، 22/3/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/9cTh1
[8] علي أبو مريحيل، “الصين والقرن الإفريقي… مطامع جيوسياسية واقتصادية”، العربي الجديد، 8/1/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/QDW1e
[9] عمار العركي، مرجع سبق ذكره.
[10] الشافعي أبتدون، مرجع سبق ذكره.