بالرغم من إعادة انتخابه لولاية رئاسية ثانية، لم يتمكَّن إيمانويل ماكرون من الفوز بالأغلبية المُطلقة في البرلمان بعد الانتخابات التشريعية الفرنسية التي نُظِّمت في 12 و19 يونيو. حيث حصل الائتلاف الرئاسي “معًا” على 245 مقعد لن تسمح له بالحكم وحده. فماذا كانت نتائج الانتخابات؟ وما هي السيناريوهات المُتوقعة أمام ماكرون؟ وماهي هي دلالة النتائج في ظل هذه السيناريوهات؟ وما هو موقف المهاجرين من النتائج؟ تلك هي التساؤلات التي سنسعى للإجابة عليها خلال هذا التقرير..
نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية:
أحدثت نتيجة الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية الفرنسية تحولات كبرى غيرت من الخريطة السياسية والثقافية في البلاد، وستؤثر حتمًا على قدرة الرئيس الفرنسي على الحكم واختيار الحكومة. فلم يحصل تحالفه الانتخابي (النهضة) على أغلبية مطلقة كما جرى في انتخابات 2017، حيث حصل على أغلبية نسبية (245 مقعد من 577) والتي ستضطره إلى عمل تحالفات مع أحزاب أخرى لتشكيل حكومة جديدة. وقد جاء في المرتبة الثانية تحالف أحزاب اليسار بزعامة جان لوك ميلنشون، والذي يحمل مشروعًا سياسيًا واجتماعيًا مناقضًا لتوجهات الرئيس ماكرون، أما المرتبة الثالثة، فقد احتلها حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان وحصل على 89 مقعد، ثم جاء في المرتبة الرابعة الحزب الذي كان شريك الحكم الرئيسي في فرنسا منذ تأسيس ديجول الجمهورية الخامسة عام 1958 وتغير اسمه من الاتحاد من أجل الجمهورية إلى الجمهوريين، وحصل على 64 مقعد فقط، وأخيرًا حصلت أحزاب وشخصيات مستقلة من اليسار واليمين على 48 مقعد. وقد بلغت نسبة المقاطعة في هذه الانتخابات حوالي 54% وهي نسبة مرتفعة خاصةً أن نسب المقاطعة في انتخابات 2002 كانت 39% وفي 2007 كانت 40% ثم ارتفعت مرة أخرى في 2012 حتى وصلت إلى 44%. ولازالت النسبة الأكبر من المقاطعين من الشباب (من 18 إلى 30 سنة).[1]
السيناريوهات المُحتملة وفقًا للنتائج:
يُمكن توقُّع مجموعة من السيناريوهات وفقًا لنتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية الأخيرة: أولها؛ حكومة وحدة وطنية: تجمع بين أكبر عدد من الأحزاب السياسية، وتنال ثقة معظم الكتل البرلمانية، وتكون امتدادً للجبهة الجمهورية التي تكوَّنت في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية وصوَّتت لصالح ماكرون، ونسبة هذا السيناريو في التحقُّق ضئيلة نظرًا للاختلافات الكبيرة في البرامج. وثانيها؛ حكومة التحالفات المؤقتة: وهي إمكانية واردة وقد تكون مريحة للأكثرية الرئاسية، وتتمثَّل في صفقات سياسية لكل موضع تصويت لتشريعات أو قوانين، وهو خيار ذكره ماكرون في خطابه للتعليق على نتائج الانتخابات يوم 22 يونيو. وثالثها؛ تشكيل حكومة يشترك فيها تحالف “معًا” مع أقصى اليمين: وتنال ثقة نواب الجبهة الوطنية (89 مقعد) والتحالف الرئاسي (245 مقعد)، مما يعطي أغلبية مريحة لكنها محرجة سياسيًا للرئيس وأتباعه، رغم عدم استبعادها من قِبل الطرف الآخر. ورابعها؛ حكومة تحالف مُوسَّع: وهو الأقرب للواقع، حيث تشكيل حكومة يمين معتدل أو يمين وسط تجمع بين التحالف الرئاسي والجمهوريين على أساس برنامج محدد يتم التفاوض حوله مُسبقًا باعتبار أن أي صيغة تعاون بين الطرفين يُمكن أن توفر أغلبية مريحة في حدود 309 مقعد، لكن يظل هذا الأمر محل خلاف بين الجمهوريين. وخامسها؛ اللجوء إلى انتخابات مبكرة: حيث قد يضطر ماكرون -للخروج من الأزمة- إلى حل البرلمان، والدعوة إلى انتخابات جديدة في حدود سنة واحدة من الآن -وفقًا للدستور-.[2]
دلالات النتائج في ضوء السيناريوهات المُحتملة:
يجعل انقسام البرلمان الفرنسي وعدم وجود حزب أو تحالف يمتلك أغلبية مطلقة المشهد يتسم بعدم القدرة على تشكيل حكومة قادرة على العمل لفترة طويلة، حيث تفرَّق البرلمان بين أربع كتل رئيسية لم تُشكِّل أي منها أغلبية مطلقة. وهذا يُقيِّد الرئيس الفرنسي في سلطاته الداخلية، بسبب إجباره على تشكيل حكومة يرأسها وزيرًا أول خارج سلطته. حيث فشل على الأقل ثلاثة من وزراء حكومته الحالية في الفوز داخل دوائرهم الانتخابية، وبالتالي سيكونون خارج أي تشكيلة حكومية قادمة. وهكذا فإن الوضع السياسي في فرنسا أصبح غير مريح بالنسبة لماكرون، الذي سيكون عليه السعي لتشكيل حكومة بتحالفات ضيقة، نظرًا لأن خصومه في اليمين واليسار بإمكانهم أيضًا إما السعي إلى تحالف مع المحافظين أو إدارة حكومة أقلية سيتعين عليها التفاوض على القوانين على أساس كل حالة على حدة مع الأحزاب الأخرى. ويُمكن لماكرون أيضًا أن يضطر لرهن نفسه لرئيس وزرائه السابق إدوارد فيليب، الذي سيطالب بأن يكون له رأي أكبر فيما يتعلَّق بقرارات الحكومة، وهو ما يجعل الرئيس الفرنسي في حالة مزعجة تُحتِّم عليه تقديم المزيد من التنازلات. وسواء شكَّل ماكرون حكومة بأغلبية نسبية، وأبقى على رئيسة الحكومة الحالية إليزابيث بورن، أو أبعدته الأحزاب المعارضة وشكَّلت حكومة أقلية، فسيكون الوضع بالنسبة للرئيس الفرنسي مُزعجًا أيضًا في كلتا الحالتين، إذ ستكون الحالة السياسية غير مستقرة، وستصطدم سياسات تحالف “معًا” في كل مرة بعقبات ومضايقات من باقي أعضاء البرلمان، الذين يُشكِّلون مجتمعين الأغلبية.[3]
موقف المهاجرين من نتائج الانتخابات:
أثارت نتائج الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية الفرنسية، انقسامًا في آراء المهاجرين، بين مطمئن ومتخوف من المستقبل. فبينما يرى البعض أن السنوات الخمس المقبلة بالنسبة لماكرون ستكون مليئة بالتسويات البرلمانية التي قد لا تكون لصالح المهاجرين والعرب المقيمين في فرنسا. حيث كانت مارين لوبان ضد العديد من سياسات الهجرة وتسعى إلى تقنينها أكثر وتوعدت بالطرد وتمرير قوانين قد تمس أيضًا المهاجرين الحاصلين على الجنسية الفرنسية. فقد كانت مرشحة حزب الجبهة الوطنية، خصصت في برنامجها الانتخابي للرئاسيات لموضوع الهجرة ملفًا مؤلفًا من حوالي 40 صفحة يحمل عنوان “السيطرة على الهجرة”، وضعت فيه مقترحات للدفاع عن هوية وتراث فرنسا. ودعت من خلاله لوبان إلى إجراء تعديل دستوري، عبر تنظيم استفتاء حول المسائل الأساسية “للسيطرة على الهجرة وحماية الجنسية والهوية الفرنسية، وذلك بهدف تبنِّي مشروع قانون يُجرِّم دخول المهاجرين إلى الأراضي الفرنسية بطريقة غير شرعية. كما تسعى إلى جعل طلب اللجوء مُقتصرًا على السفارات والقنصليات خارج التراب الفرنسي، والحد من إجراءات لم الشمل وتشديد شروط منح الجنسية ووضع شروط تقيّد وصول المهاجرين إلى المساعدات المادية الشهرية، كما ستعطي الأولوية للفرنسيين في سوق العمل والحصول على سكن اجتماعي. إلا أن البعض الآخر من المهاجرين يرى أن هناك توازنًا بين القوى في مجلس النواب الفرنسي. ويرى هؤلاء أن ميلانشون الذي ترافع عن المهاجرين والمسلمين في الإعلام الفرنسي طيلة حملة الانتخابات سواء الرئاسية أو التشريعية دخل البرلمان بقوة وأفقد ماكرون الغالبية المطلقة، سيكون في المعارضة ولن يسمح بتمرير قوانين ضد المهاجرين الذين ساندوه بكل قوة. فعكس مارين لوبان، دعا متزعم اليسار إلى الترحيب بالمهاجرين وتمتيعهم بكافة الحقوق ومعاملة المهاجرين غير الشرعيين بإنسانية.[4]
الخُلاصة؛
وهكذا؛ فقد أحدثت الانتخابات البرلمانية الفرنسية تحولًا كبيرًا في المشهد السياسي الفرنسي الذي لم يعد يسيطر علية نظام ثنائي القطبية (اليمين واليسار) إنما مشهد مُفتَّت، وقد يكون مؤقتًا وارد أن يتغير قريبًا مع صعود انقسام جديد قائم أساسًا على الفارق بين توجه يساري يحمل جوانب شعبوية (تيار ميلنشون) وآخر يميني قومي لازال متطرفًا (حزب مارين لوبان). ومن ثمَّ؛ فستبقي الانتخابات التشريعية الفرنسية علامة فارقة في تاريخ فرنسا، وستبقي قدرة الرئيس الفرنسي على تقديم تنازلات والوصول لحلول وسط مع خصومه السياسيين شرط تجاوز أزمة البرلمان المنقسم. ومهما كان أمر التحالفات؛ فمن المؤكد أنها ستؤثر على الخيارات والبرامج الحكومية الفرنسية في الفترة المُقبلة، وستنعكس بالضرورة على السياسة الفرنسية الخارجية، والمواقف الفرنسية من القضايا الإقليمية والدولية، وربما تُضعف من موقع فرنسا على الساحة الدولية.
[1] عمرو الشوبكي، “الانتخابات التشريعية الفرنسية.. التحول الكبير”، مصر 360، 21/6/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/jQh55
[2] د. محمد السبيطلي، “مأزق الانتخابات التشريعية الفرنسية وسيناريوهات الحكم المحتملة”، تعليقات، (الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، يونيو 2022)، ص. 2-3.
[3] “نتائج الانتخابات الفرنسية.. هل تُحول ماكرون إلى “ملك يسود ولا يحكم”؟”، العين الإخبارية، 20/6/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/yV1Z3
[4] وفاء عماري، “الانتخابات التشريعية الفرنسية.. نتائج تقلق المهاجرين”، عربية Sky News، 21/6/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/cuuEN