أعلنت القوات المسلحة السودانية، يوم الأحد 26 يونيو، أن الجيش الإثيوبي أعدم 7 جنود سودانيين ومواطن كانوا أسرى لديه، موكدةً أن الموقف الغادر لن يمر بلا رد، وسيرد السودان على هذا التصرف بما يناسبه، ووصف البيان التصرف الإثيوبي بأنه يتنافى مع كل قوانين وأعراف الحرب والقانون الدولي الإنساني. فماذا كانت خلفيات الواقعة وتفاصيلها؟ وكيف كانت ردود الفعل حولها؟ وما هي دلالاتها وإمكانيات تطورها لحرب بين البلدين؟ تلك هي التساؤلات التي سنسعى للإجابة عليها خلال هذا التقرير..
خلفيات وتفاصيل الواقعة:
نقلت صحيفة “سودان تربيون” قبل أيام من الواقعة، عن مصادر عسكرية وصفتها بالموثوقة، خبرًا مفاده أن إثيوبيا نشرت تعزيزات عسكرية في منطقة الفشقة المتنازع عليها بين البلدين من عناصر من جيشها وميليشيات من ولاية أمهرا المجاورة. ولم يُحدِّد التقرير موعد نشر تلك التعزيزات. وقال التقرير إن عملية الانتشار استهدفت توفير الحماية لمزارعي ولاية أمهرا في منطقة الفشقة، وإن “السلطات الإثيوبية أقامت مستوطنتين للجيش وواحدة أخرى للميليشيات في الأجزاء الشرقية من المنطقة الخصبة”. وأضافت الصحيفة أن السلطات في ولاية أمهرا الإثيوبية طلبت من الجيش الإثيوبي والميليشيات -في اجتماع ضم 700 مسؤول ومزارع- حماية المزارعين. وقبل أيام قليلة، دعا مزارعون سودانيون حكومة بلادهم إلى تسليحهم لكي يتمكنوا من حماية أنفسهم في مواجهة ما قالوا إنها “تحركات من جانب الميليشيات الإثيوبية”. وطالبوا الحكومة أيضًا بنشر المزيد من القوات في المنطقة. ثم تطور الأمر باختطاف 7 جنود ومدني واحد من الأراضي السودانية واقتيادهم إلى الأراضي الإثيوبية، في 22 يونيو الماضي، ومن ثمَّ قتلهم، و”التمثيل بجثثهم على الملأ”، بحسب بيان صادر عن وزارة الخارجية السودانية. وأدانت الخارجية السودانية بأشد العبارات ما أقدم عليه الجيش الإثيوبي من جريمة تجافي مبادئ القانون الإنساني الدولي. وأضاف البيان أن الوزارة بينما تشجب “هذا السلوك غير الإنساني” تذكَّر بأن السودان يستضيف أكثر من مليوني مواطن إثيوبي “ينعمون بمعاملة كريمة ويتقاسمون مع الشعب السوداني موارده ولقمة عيشه في كرم وتسامح”.[1]
ردود الفعل السودانية والإثيوبية:
وفي أول رد فعل على الواقعة، أعلنت الخارجية السودانية بأنها شرعت في التقدم بشكوى رسمية إلى مجلس الأمن والمنظمات الدولية والإقليمية ذات الصلة، كما أعلنت عن استدعاء السفير السوداني لدى إثيوبيا فورًا للتشاور، وأيضًا استدعاء السفير الإثيوبي بالخرطوم لإبلاغه بشجب وإدانة السودان لهذا السلوك غير الإنساني. ومن جانبه، تفقَّد رئيس مجلس السيادة الانتقالي القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان القوات السودانية في موقعين قُرب الحدود مع إثيوبيا، وشدَّد على أن دماء الشهداء لن تضيع سدى، مؤكدًا أن الرد سيكون واقعًا ملموسًا على الأرض، وأن ما جرى لن يتكرر مرة أخرى. ووجَّه رئيس مجلس السيادة الانتقالي بـ “عدم السماح بأي تحركات أو تعديات جديدة على الأراضي السودانية والمواطنين حتى خط الحدود الدولية”. وفي المُقابل؛ أصدرت الحكومة الإثيوبية بيانًا صحفيًا وصفت فيه الحادث بأنه “مأسوي”، مُعربةً عن أسفها لـ “الخسائر في الأرواح نتيجة المناوشات بين الجيش السوداني ومليشيا محلية، والتي سيُجرى تحقيق بشأنها قريبًا”. وأعلنت، وفق البيان الذي أوردته وكالة فانا المحلية، أنها “ترفض رفضًا قاطعًا تحريف هذه الحقائق من قِبل قوات الدفاع السودانية التي ألقت اللوم ظلمًا على إثيوبيا، بينما كانت وحدة الجيش السوداني، هي التي عبرت الحدود الإثيوبية بطريقة استفزازية”. وأعربت عن أملها في أن “تمنع الحكومة السودانية نفسها من أي تصعيد للحادث وتتخذ تدابير من شأنها أن تهدئ من تصعيد الموقف”. وذكرت أن الحادث مُختلق عمدًا “لتقويض العلاقات العميقة الجذور بين شعبي إثيوبيا والسودان علاوةً على ذلك، كان الهدف من الحادث هو تدمير وعرقلة إثيوبيا من طريق السلام والتنمية”، مؤكدةً أنها ستظل ملتزمة بـ “مبادئ الحل الودي للخلافات بين الدول”.[2] ومن جانبه، قال المبعوث البريطاني الخاص للسودان وجنوب السودان روبرت فيروز إنه ليس من مصلحة السودان وإثيوبيا تصعيد الأحداث بينهما. وجاء ذلك خلال لقاء المبعوث البريطاني مع وكيل الخارجية السودانية دفع الله الحاج، الذي قدم بدوره شرحًا للأحداث في الفشقة، قائلًا إن ما قامت به إثيوبيا هناك لا يتوافق مع المواثيق والأعراف الدولية. وأوضح الحاج أن من واجب الحكومة السودانية الدفاع عن أراضيها ومواطنيها، وأن بلاده تمارس سياسة ضبط النفس، لمنع التصعيد بين البلدين جراء الحادث.[3]
دلالات التصعيد:
إحدى الدلالات المهمة في تعاظم دور إثنية الأمهرا هو سيطرتها على أجهزة الدولة الإثيوبية، ويرجح ممارستها ضغوطًا على آبي أحمد من أجل استمرارها بالوقوف معه، خصوصًا في ظل نشوء عزلة وانتقادات داخلية بدأت تتشكَّل حول سياساته. وبما أنها صاحبة المصلحة الأولى في أراضي الفشقة الصالحة للزراعة والتي تبلغ نحو مليوني فدان، فمن المُرجَّح أنها ستفعل ما بوسعها لخدمة نزعتها المُتمثِّلة في الاستحواذ على المنطقة، وتقييد إمكانية وصول المزارعين السودانيين إليها. وللتوقيت الزماني دلالة أخرى؛ إذ إن هذه الهجمات تتجدَّد في مواسم الأمطار والاستعداد لزراعة المحاصيل في هذه المنطقة المشهورة بخصوبتها. كما أن البلدين يشهدان في هذه المرحلة تحديات أمنية وعسكرية؛ ففي السودان لم تهدأ الحرب في دارفور، كما أن القوات الإثيوبية تواصل حربها مع جبهة تحرير تيجراي، ومن المُتوقع تمدُّدها إلى مساحات أكبر خارج إقليم تيجراي. وكلما اشتد الصراع بين التيجراي والأمهرا، تُصعِّد إثيوبيا باتجاه السودان، كمحاولة لإدارة أزمتها الداخلية وتوزيع الضغط الواقع عليها خارجيًا. وبما أنه لا يمكنها الاتجاه إلى أي دولة جوار أخرى، فإنها تستفيد من بذور الخلافات الموجودة حاليًا مع السودان، فضلًا عن أن التصعيد مهما ارتفع، فإن مداه لن يصل إلى احتمال الحرب لاعتبارات عدة لا تحكم تحركات إثيوبيا وحدها، وإنما السودان أيضًا وتحد من احتمالات التصعيد القصوى.[4]
هل يُمكن أن يتطور النزاع إلى حرب؟
تُشير توقعات المراقبين إلى أنه من المُستبعد في الوقت الراهن أن يتطور النزاع الحدودي على المنطقة إلى حرب بين البلدين، فالبلدان مشغولان بصراعات داخلية. وتخوض القوات الإثيوبية في إقليم تيجراي حربًا لم تنته بعد ضد مقاتلي جبهة تحرير شعب تيجراي. كما أن إثيوبيا تخشى من أن حربًا كهذه إذا ما اندلعت فإنها ستدفع الخرطوم إلى إيواء ودعم وتسليح مقاتلي جبهة تحرير شعب تيجراي، فالسودان يأوي أكثر من 67 ألف لاجئ إثيوبي فروا من تيجراي. كذلك فإن السودان ليس في وضع يسمح له بخوض حرب مفتوحة في الوقت الراهن، بسبب الوضع السياسي الهش، كما أن البلاد لا تزال تواجه أزمة اقتصادية طاحنة مع ارتفاع أسعار السلع الأساسية وتبعات انتشار جائحة كورونا إضافةً إلى الاضطرابات القبلية في إقليم دارفور وغيره من المناطق، بجانب تبعات الانقلاب العسكري الأخير. وقد استبعد قادة البلدين في السابق تطور الأمور إلى حرب شاملة بسبب الخلاف على المنطقة الحدودية في الفشقة. فقد قال رئيس المجلس السيادي في السودان عبد الفتاح البرهان إن بلاده ليست لديها نية لخوض حرب مع إثيوبيا، ولكنه تعهد خلال زيارة إلى المنطقة في نوفمبر 2021 بأن السودان لن يتنازل عن “شبر واحد” من أراضيه. كما استبعد رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في مارس دخول بلاده في حرب شاملة مع السودان. لكن وعلى الرغم من التطمينات السابقة من كلا الطرفين، إلا أن التطور الأخير في ظل الحشد العسكري من الجانبين قد ينذر بخروج الصراع عن نطاق السيطرة وتحوله إلى حرب قد تجر تبعات وخيمة على البلدين والمنطقة.[5] حيث أن الضغوط الداخلية تجعل التنازلات من جانب القادة الإثيوبيين والسودانيين أشد صعوبة فيما يتعلق بالفشقة، ولا يبدو أن أي طرف مستعد للتنازل. وتُضاف الأزمة الحدودية إلى النزاع الخطير بشأن سد النهضة الإثيوبي، الذي يُثير غضب السودان ومصر، اللذين يخشيان على أمن إمداداتهما المائية. ومن المُرجَّح أن يتفاقم التوتر الحالي بين إثيوبيا والسودان عندما تبدأ إثيوبيا الملء الثالث للسد في أغسطس المُقبل.[6]
الخُلاصة؛
لا يُمثِّل هذا التطور متغيرًا جديدًا في سلسلة الخلافات بين البلدين، فقد شهدت الحدود بينهما هذا التوتر في مرحلته الأخيرة، منذ أن أعلنت الخرطوم في 31 ديسمبر 2020 عن سيطرة الجيش على كامل الأراضي المتنازع عليها في منطقة الفشقة الحدودية. ومع تعهد رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان بأن بلاده ليست لديها نية لخوض حرب مع إثيوبيا، ثم تعهده خلال زيارة إلى الفشقة في نوفمبر 2021 بأن بلاده لن تتنازل عن شبر واحد من أراضيها، ومع استبعاد رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في وقت سابق دخول بلاده في حرب شاملة مع السودان، فإن هناك عوامل أخرى غير هذه التطمينات التي تتغير بتغير الظروف. أولها؛ أن دخول إثيوبيا في حرب مع السودان، سيكون أكثر تكلفة سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، بالنظر إلى حربها الدائرة مع جبهة تحرير تيجراي. وثانيها؛ أن خصومة إثيوبيا مع السودان في هذا الوقت ستدفع بالخرطوم إلى إيواء ودعم زعماء جبهة تحرير تيجراي. وثالثها؛ هناك احتمال استجابة السودان لضغوط بعض الأصوات الداخلية بتقنين الوجود الإثيوبي الكثيف في مدن السودان، ومنها القضارف وبورتسودان وكسلا والدمازين ومدني والخرطوم، إضافةً إلى إيقاف تدفق اللاجئين من حرب التيجراي. ورابعها؛ الوضع السياسي والاقتصادي المتردي في السودان يحول دون صرف الانتباه عنه نحو الدخول في حرب مع إثيوبيا، وربما تكتفي قيادة الجيش السوداني بالدعم والتضامن الذي وجدته من المواطنين والأحزاب السياسية منذ إعلان مقتل الجنود. وهكذا؛ ففي هذه المرحلة حتى لو كان السودان وإثيوبيا قادرتين بطريقة ما على تنفيذ تهديداتهما، فقد لا يكون ذلك مؤديًا لإشعال الحرب بينهما. أما الهدنة وهي الأكثر ترجيحًا، فإنها تحتاج إلى حث دولي وإقليمي، ونظرًا إلى انشغال المجتمع الدولي والولايات المتحدة خصوصًا بالحرب في أوكرانيا، فإن البلدين قد يرضخان بأقل قدر من التحرك الإقليمي. وفي هذا الإطار؛ نجد أن مصر من أوائل الدول التي استغلت الموقف في محاولة للتقارب مع الجانب السوداني، حيث أعرب السيسي عن تعازيه إلى رئيس مجلس السيادة والحكومة والشعب السوداني في “شهداء الواجب”، وتعالت الإدانات الإعلامية المصرية للحادث فيما اعتبره الإعلام الإثيوبي محاولات من الجانب المصري لتصعيد الأزمة، وتوظيفها للتقارب مع السودان في قضية سد النهضة، التي ربما تزيد من حدة الخلاف بين السودان وإثيوبيا بعد شروع الأخيرة في الملء الثالث المُقرر في أغسطس المُقبل.
[1] “إثيوبيا والسودان: لماذا تجدّد التوتر على الحدود بين البلدين؟”، عربي BBC News، 27/6/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/QTy10
[2] محمد علاء، “القصة الكاملة لواقعة إعدام 7 جنود سودانيين في إثيوبيا”، حابي، 27/7/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/2mq7K
[3] “توتر حدودي بين السودان وإثيوبيا.. الاتحاد الإفريقي يدعو لضبط النفس وتصريحات التهدئة تتوالى من البلدين”، الجزيرة نت، 29/6/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/TaPWY
[4] منى عبد الفتاح، “ما دلالات التصعيد على الحدود السودانية – الإثيوبية؟”، عربية Independent، 28/6/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/LZglS
[5] “إثيوبيا والسودان: لماذا تجدّد التوتر على الحدود بين البلدين؟”، عربي BBC News، 27/6/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/QTy10
[6] “ما هي جذور النزاع الحدودي بين إثيوبيا والسودان؟”، الميادين، 1/7/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/PlNsK