بعد هدنة استمرَّت خمس أشهر؛ تداولت مصادر في نهاية شهر أغسطس الماضي بأن غارة جوية شنَّتها الحكومة الإثيوبية، استهدفت روضة أطفال في منطقة شمال تيجراي أسفرت عن قتل سبعة أشخاص على الأقل بينهم أطفال، في الوقت الذي انزلقت فيه المنطقة المنكوبة بالجوع في جولة جديدة من القتال. والهجوم جاء بعد يومين من القتال على الحدود الجنوبية الشرقية لتيجراي، ما أدى إلى خرق الهدنة بين الحكومة وجبهة تحرير تيجراي، للسماح بوصول الإمدادات إلى المنطقة التي كانت تحت حصار عقابي فرضته الحكومة معظم العام الماضي. وهكذا نحاول الإجابة في هذا التقرير على مجموعة من التساؤلات، أبرزها: كيف تطورت حرب التيجراي؟ وكيف تجدَّد الصراع؟ وما أسبابه؟ وكيف يُمكن توقُّع تداعياته؟
مراحل تطور الحرب ضد التيجراي: في 4 نوفمبر 2020، بدأ رئيس الوزراء أبي أحمد حملة عسكرية في منطقة تيجراي الشمالية، على أمل هزيمة جبهة تحرير شعب تيجراي، ألد أعدائه السياسيين. ورغم وعد أبي بشن حملة سريعة، فقد عانى الجيش الإثيوبي هزيمة كبيرة في يونيو 2021 عندما أجبر على الانسحاب من تيجراي. بعد ذلك، انتقل القتال إلى الجنوب، وأواخر أكتوبر استولى متمردو التيجراي على بلدتين بالقرب من العاصمة أديس أبابا، بينما أعلنت الحكومة حالة الطوارئ ودعت المواطنين إلى تسليح أنفسهم. لكن الطائرات بدون طيار التي تم الحصول عليها من الحلفاء في إيران وتركيا قلبت الموازين، فقد أشارت سلسلة الانتصارات -نهاية عام 2021- إلى أن الحكومة الإثيوبية كانت تستعيد موطئ قدمها في ساحة المعركة. وفي 24 مارس 2022، أعلنت الحكومة الإثيوبية ما أسمتها “هدنة إنسانية” مع القوات المتمردة، قائلةً إنها لجأت إليها لأن آلاف الأشخاص من تيجراي -حيث لم يتم تسليم المساعدات الغذائية منذ ديسمبر- بدأوا التدفق على المناطق الحدودية طلبًا للمساعدة. ورغم الهدنة، لا تزال البلاد -التي تعاني أيضًا جفافًا شديدًا- تواجه اضطرابات داخلية، ووردت أنباء عن مئات من حالات القتل العرقي في منطقة أروميا المضطربة. واتهم مسؤولون إثيوبيون جيش تحرير أرومو بتنفيذ الهجمات، وتقول الجماعة إن الميليشيات الموالية لأبي نفذتهم. وفي أغسطس، بعد أسابيع من الحشد العسكري على جانبي خط المواجهة، اندلع القتال على حدود منطقة تيجراي، ما أدى إلى تحطيم الهدنة التي استمرت خمسة أشهر بين المتمردين والحكومة، حيث اتهم كل جانب الآخر بإطلاق النار أولًا.[1]
ومن هذا السرد السريع للأحداث؛ يُمكن تقسيم الصراع في تيجراي إلى مجموعة مراحل؛ حيث مرحلة تفوق القوات الحكومية: الذي استمر منذ نوفمبر 2020 حتى يونيو 2021، حيث نجحت قوات آبي أحمد في بداية الصراع في السيطرة على إقليم تيجراي بعد فرار قوات دفاع تيجراي وقادة الجبهة؛ الأمر الذي دفع آبي أحمد إلى تنصيب حكومة إقليمية جديدة موالية له في الإقليم. وقد شهدت هذه المرحلة تورط القوات الإريترية وميليشيات عرقية الأمهرا في الصراع. ثم مرحلة استعادة سيطرة قوات التيجراي على الإقليم: وذلك في أواخر يونيو 2021 حتى نوفمبر 2021، حيث استطاعت قوات دفاع تيجراي إلحاق الهزيمة بالقوات الحكومية وطردها من العاصمة ميكيلي اعتمادًا على تكتيك حرب العصابات. كما تحولت استراتيجيتها العسكرية من حالة الدفاع في داخل الإقليم إلى حالة الهجوم خارج الإقليم حيث لاحقت قوات دفاع تيجراي القوات الحكومية في إقليمي عفر وأمهرا؛ الأمر الذي دفع آبي أحمد إلى تكرار الدعوة للحشد والتعبئة العامة للمواطنين كافة للانخراط في القتال ضد جبهة تحرير تيجراي، كما دعا حكومات الأقاليم الإثيوبية إلى إرسال قوات خاصة للمشاركة إلى جانب القوات الحكومية في مناطق القتال. ومع ذلك لم تستطع تلك القوات هزيمة قوات دفاع تيجراي التي كانت تمتلك العديد من الخبرات والقدرات القتالية. ثم مرحلة انسحاب جبهة تحرير تيجراي من الصراع: مع استمرار قوات دفاع تيجراي في التقدم نحو العاصمة أديس أبابا، أعلن آبي أحمد في 22 نوفمبر 2021 الانضمام إلى قواته وقيادتها في مناطق القتال، حيث استطاعت القوات الحكومية إعادة السيطرة على بعض المدن الاستراتيجية من قوات دفاع تيجراي وتحقيق تقدم استراتيجي وعسكري على الأرض، ويُفسر تراجع قوات تيجراي في هذا التوقيت اعتماد آبي أحمد على الطائرات المسيَّرة، التي حصل عليها من بعض الأطراف الإقليمية والدولية.[2]
تجدُّد الصراع: تجدَّد الصراع من جديد في إقليم تيجراي الإثيوبي، حيث تبادل جيش الجبهة الشعبية والقوات الفيدرالية الإثيوبية وميليشياتها إطلاق النيران، واتهم كلاهما الآخر بالمسئولية عن خرق وقف إطلاق النار الذي أُقر في مارس الماضي. اندلع قتال حول مدينة كوبو شمالي إثيوبيا اليوم الأربعاء، بين قوات تابعة لجبهة تحرير شعب تيجراي من جهة، والقوات الحكومية من جهة أخرى، لتنتهي بذلك هدنة صمدت نحو خمسة أشهر. ووقعت الاشتباكات حول مدينة كوبو على حدود الإقليم، وفقًا لما أفاد به متحدث باسم قوات تيجراي. من جانبه، أعلن جيش الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي أن الجيش الإثيوبي الاتحادي شنَّ هجومًا جديدًا، صباح الأربعاء 24 أغسطس، ضد إقليم تيجراي في شمال إثيوبيا. وقال بيان القيادة العسكرية لتيجراي “شنَّت القوات الإثيوبية، إلى جانب القوات الخاصة الأمهرا وميليشيات الأمهرا، هجومًا واسع النطاق حوالي الساعة الخامسة صباحًا في اتجاه ألاماتا، جنوب تيجراي”. ورد جهاز الاتصال الحكومي الإثيوبي، ببيان قال فيه إنه تم استئناف الأعمال العسكرية بين الجيش الاتحادي وقوات الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي بعد فترة هدوء في الأشهر القليلة الماضية. وألقت الحكومة الفيدرالية باللوم على قوات التيجراي في استئناف الأعمال العدائية العسكرية، وقال البيان “بغض النظر عن كل خيارات السلام التي قدمتها الحكومة والجماعة الإرهابية، شنَّت الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي هجومًا صباح اليوم على الجبهة الشرقية في اتجاهات بيسو بير وزوبل وتكوليش ابتداءً من الساعة الخامسة صباحًا”. مُضيفًا أن قوات تيجراي “خرقت رسميًا وقف إطلاق النار”. وكانت المُتحدثة باسم رئيس الوزراء آبي أحمد قد اتَّهمت خلال تصريحات أدلت بها قبلها بأسبوع سلطات تيجراي بأنها ترفض قبول محادثات السلام.[3] وهكذا يلقي الطرفان باللوم في تجدُّد القتال أحدهما على الآخر. وأفاد سكان المنطقة بسماع دوي انفجارات ضخمة منذ ساعات الصباح الباكر، وأن اليومين الماضيين شهدا تحركات لجنود إثيوبيين، وقوات خاصة من الأمهرا، ومتطوعين من ميليشيا فانو. وأضافوا أنهم لا يعرفون أيّ الجانبين هو الذي بدأ القتال، حيث يتعذَّر الوقوف على وضع قوات جبهة التيجراي، لا سيما في ظل انقطاع اتصالات الهاتف داخل الإقليم منذ أكثر من عام.[4]
أسباب تجدُّد الصراع: يُمكن عزو أسباب تجدُّد الصراع إلى مجموعة من العوامل؛ كالتالي:
على مستوى الداخل الإثيوبي: الوضع في إثيوبيا بالغ التعقيد والتشابك، وهو يعكس أزمة بناء الدولة الإثيوبية نفسها. فمن ناحية؛ يوجد الصراع الرئيسي بين الحكومة الفيدرالية وجبهة التيجراي، يرتبط برؤيتهما المتعارضة حول ماهية النظام السياسي الإثيوبي وكيف ينبغي تشكيله- على أساس المركزية السياسية أو الفيدرالية العرقية. ومن ناحية ثانية؛ هناك الصراع بين أمهرا والتيجراي على مفهوم الأرض المتنازع عليها تاريخيًا، حيث أنه في جوهره بمثابة حرب إقليمية على أوطان متخيلة. ومن ناحية ثالثة؛ هناك الصراع بين إريتريا والتيجراي، والذي يُعد حرب هيمنة واستمرار صراع سابق بين حركتي تحرير تولَّتا السلطة بعد ذلك في كلٍّ من أسمرة وميكيلي، على التوالي. ومن ناحية رابعة؛ هناك الصراع بين الأورومو والحكومة الفيدرالية حول التمثيل السياسي في الدولة الإثيوبية والانتماء إليها.[5] هذا بالإضافة إلى تعقُّد الوضع في منطقة التيجراي نفسها؛ فمن ناحية؛ الخلاف حول وضع منطقة غرب تيجراي، حيث تصر جبهة تيجراي على استعادة منطقة الغرب التي تقع تحت سيطرة أمهرا قبل البدء في مفاوضات السلام، في حين تتخوف الحكومة الإثيوبية في حالة استعادة المنطقة لجبهة تيجراي من فتح قناة إمداد لوجستي للجبهة عبر السودان، بما يُعزِّز قدراتها العسكرية ضد الحكومة المركزية في المستقبل. ومن ناحية ثانية؛ إصرار جبهة تيجراي على تنفيذ شروطها لإجراء المفاوضات، وهي نقطة خلافية محورية في مسار الصراع الإثيوبي. إذ تصر جبهة تيجراي على فك الحصار المفروض عليها من قِبل الحكومة الإثيوبية بما في ذلك الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والاتصالات والخدمات المصرفية والوقود. وهو ما قوبل بمماطلة من جانب حكومة أديس أبابا.[6] وقد تم تعليق الخدمات الاجتماعية والاقتصادية الأساسية، مثل البنوك والكهرباء والاتصالات، حيث مُنع الملايين من تيجراي من الوصول إلى مدخراتهم.[7]
أما على المستوى الإقليمي: فمن ناحية؛ فشل الاتحاد الإفريقي في حلحلة الأزمة، حيث تم إحاطة مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي من قِبل الممثل السامي للقرن الإفريقي، الرئيس النيجيري السابق أولوسيغون أوباسانجو بتطورات الوضع على الأرض، وبعدها زعم الاتحاد الإفريقي أن هناك أملًا في تحقيق اختراق دبلوماسي وشيك فيما يتعلق بالسلام، وعقد محادثات بين ممثلي تيجراي ونظام آبي أحمد، ولكن الحقيقة كانت عكس ذلك. ومن ثَمَّ فإن تلك التقييمات المتفائلة تُمثِّل انفصالًا مقلقًا عن الواقع.[8] وفي الوقت الذي ذهب فيه الرئيس السنغالي ماكي سال، رئيس الدورة الحالية للاتحاد الإفريقي، إلى موسكو للتوسط في الحرب الأوكرانية، سكت الجميع بشأن أزمة التيجراي وتم الاكتفاء بتقارير أولسيغون أوباسانجو مبعوث الاتحاد الإفريقي للقرن الإفريقي. في حين اتهم البعض الجهات الفاعلة الإفريقية بإهمال تقارير الإنذار المبكر الموثوقة عن اندلاع النزاعات أو الأزمات الإنسانية التي تلوح في الأفق، وأرجع البعض الآخر ذلك إلى عدم القدرة المؤسسية والتدفق المعقد للمعلومات بين الهياكل المختلفة لجهاز الإنذار المبكر.[9] وبينما تدعم الحكومة الفيدرالية وساطة الاتحاد الإفريقي دون دخول وساطات دولية أو إقليمية أخرى؛ ترفض بشكل قاطع جبهة تحرير تيجراي هذه الوساطة بسبب اتهامها للاتحاد الإفريقي بالتحيز لصالح حكومة آبي أحمد على حسابها، فضلًا عن اقتراح أوباسانجو، مبعوث الاتحاد الإفريقي لدى إثيوبيا، بضرورة انضمام إريتريا للمفاوضات المرتقبة وهو ما قد يعني فشلها من الأساس في ضوء العداء الواضح بين الرئيس الإريتري أسياسي أفورقي وقادة تيجراي. كما أنها تصر على رعاية كينيا -أوهورو كينياتا- للمحادثات المرتقبة بين الطرفين. وهو ما يعني غياب الثقة بين الطرفين مما يُوسِّع الفجوة بشأن التوصل لأي اتفاق بين الطرفين على المدى القصير. ومن ناحية ثانية؛ التورط الإريتري في الداخل الإثيوبي، حيث تشير تقارير عديدة إلى وجود عسكري إريتري مكثف في أجزاء من المناطق الشرقية والوسطى والشمالية الغربية من تيجراي، حيث تسيطر القوات الإريترية على بعض المساحات هناك. وتعزز أسمرة نفوذها في الداخل الإثيوبي من خلال تحالفاتها مع نخبة إقليم أمهرا خاصة في ظل تماهي موقفهما تجاه إقصاء جبهة تحرير تيجراي من المشهد الإثيوبي. كما تتورط القوات الإريترية إلى جانب القوات الحكومية وقوات وميلشيات أمهرا في عمليات تطهير عرقي تجاه سكان تيجراي لاسيما في منطقة الغرب. ومن ناحية ثالثة؛ فشل الوساطات الإقليمية بين طرفي الصراع؛ حيث اعترف ديبرتسيون جبريمايكل، زعيم جبهة تحرير تيجراي، بعقد جولتين من المحادثات المباشرة التي جرت مع مسئولين مدنيين وعسكريين في الحكومة الفيدرالية، والتي استضافتهما دولتا سيشل وجيبوتي وفقًا لتصريحات غيتاتشو رضا المتحدث الرسمي باسم الجبهة. ويبدو أن الطرفين قد فشلًا في تقريب وجهات النظر بخصوص بعض القضايا الخلافية بينهما من أجل البدء في مفاوضات للسلام.[10]
وعلى المستوى الدولي: هناك تجاهل عالمي لأزمة التيجراي؛ فبحلول 14 أغسطس 2022، سجَّل مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان 13212 ضحية في صفوف المدنيين في أوكرانيا، وعلى النقيض من ذلك، ذكرت صحيفة كندية في مارس الماضي أن ما بين خمسين ومائة ألف شخص لقوا مصرعهم في التيجراي، وتوفى ما بين 150 ألف و200 ألف بسبب الجوع، كما توفى أكثر من 100 ألف بسبب عدم الوصول إلى مرافق الرعاية الصحية. بالإضافة إلى ذلك، تم تدمير المرافق الأساسية مثل المدارس ومحطات الكهرباء والمستشفيات. وفر أكثر من مليوني شخص من ديارهم ويحتاج 2.5 مليون آخرين إلى مساعدات إنسانية منقذة للحياة في المناطق المتضررة من الحرب. كما أصبحت وسائل الإعلام عاجزة عن الوصول إلى منطقة الحرب بسبب الحصار الذي تحكم قبضته الحكومة الإثيوبية على إقليم التيجراي.[11] هذا مع قيام حكومة آبي أحمد بمنع الدبلوماسيين والمبعوثين الخاصين للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة من زيارة تيجراي، والذي يعكس الخوف من إجبارها على تحقيق السلام على الأرض. كما أن نظام آبي أحمد فشل ببساطة في الرد على بادرة حسن النية من خلال إطلاق سراح الآلاف من أبناء تيجراي الذين تم اعتقالهم فقط بسبب هويتهم واحتجازهم في معسكرات الاعتقال في جميع أنحاء إثيوبيا، في حين نفت حكومته أن لديها أسرى حرب في تيجراي.[12] كما ويظل الموقف الدولي متذبذبًا تجاه الصراع في إثيوبيا، ويُدلِّل عليه حالة الانقسام الدولي حول مواقف الأطراف الداخلية إزاء الصراع، وهو ما عكسته الانتقادات الغربية والأمريكية للحكومة الإثيوبية بسبب سياساتها تجاه الصراع، في مقابل دعم بعض الأطراف الأخرى للموقف الحكومي في الصراع مثل الصين وروسيا وتركيا والاتحاد الإفريقي. وبرغم زيارة مبعوثي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى إقليم تيجراي في 2 أغسطس 2022 لتشجيع الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تيجراي على إطلاق محادثات السلام بينهما، إلا أن اندلاع الصراع مجددًا في شمال البلاد يعكس إخفاق الجهود الدولية في التوصل لعملية سلام في إثيوبيا.[13]
تداعيات تجدُّد الصراع في تيجراي: تداعيات الصراع الإثيوبي، ستمتد على عدة مستويات. ففي الداخل الإثيوبي؛ الوضع الأمني على المحك مما يُنذر باحتمال انزلاق البلاد إلى حرب أهلية شاملة، وما يصاحب ذلك من تنامي احتمالات تفكك الدولة الإثيوبية إلى دويلات صغيرة. وفي الوقت نفسه، فإن تجدُّد الصراع وارتفاع احتمالية استمراره دون حسم يعني استنزافًا لمقدرات الدولة الإثيوبية وتفاقم حالة الاستقطاب والانقسام الداخلي بين الأطراف السياسية في البلاد؛ الأمر الذي يلقي بظلاله على تدهور الاقتصاد الإثيوبي والمزيد من التفكك المجتمعي وتفاقم الاضطرابات السياسية والأمنية والعرقية. وإقليميًا؛ تتزايد المخاوف تجاه مستقبل الاستقرار في منطقة القرن الإفريقي مع احتمالية امتداد الصراع إلى دول الجوار، وتدفُّق المزيد من اللاجئين إلى دول الجوار الإقليمي، ولاسيما السودان. فقد باتت التطورات في إثيوبيا بمنزلة مهدد رئيسي لأزمات اقتصادية وأمنية وإنسانية إقليمية. ويمثل استمرار الصراع في إثيوبيا تحديًا واضحًا للأمن الإقليمي في القرن الإفريقي؛ الأمر الذي يترتب عليه زعزعة أمن المنطقة وعدم استقرارها، ما يُهدِّد المصالح الاستراتيجية للقوى الدولية، وربما يترتب عليه انخراط المزيد من القوات الأجنبية في المنطقة؛ وهو ما يعني المزيد من العسكرة في القرن الإفريقي؛ ما قد يهدد بنشوب حرب إقليمية تتجاوز الحدود الإثيوبية. وهو ما ينعكس سلبيًا على أمن القرن الإفريقي والمصالح الدولية وتنامي موجات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا ودول الخليج العربي. ودوليًا؛ قد تشهد البلاد تصاعدًا للتنافس الأمريكي– الصيني في إثيوبيا، في ظل المساعي الأمريكية لامتلاك خيوط اللعبة في الصراع الإثيوبي، ليتسنى لها التأثير في الداخل الإثيوبي، خاصةً وأنها تحاول إحكام السيطرة على النظام الإثيوبي وفك الارتباط بين آبي أحمد وبكين التي تتوسَّع بشكلٍ كبير في دول القرن الإفريقي، ولاسيما إثيوبيا عبر ضخ المزيد من الاستثمارات والمشروعات الضخمة، وتعزيز حضورها العسكري هناك. في وقت يسعى آبي أحمد لتوسيع دائرة تحالفاته الدولية للحصول على حليف دولي بديل عن واشنطن في ضوء التوتر القائم بينهما.[14]
الخُلاصة؛ يبدو أن إثيوبيا بصدد جولة جديدة من الحرب في إقليم تيجراي شمالي البلاد؛ بعد الاتهامات متبادلة بين الحكومة الفيدرالية وجبهة تحرير تيجراي بخرق الهدنة الإنسانية المستمرة في شمال البلاد منذ مارس 2022، وذلك عقب تجدُّد الصراع في 24 أغسطس 2022 بين قوات دفاع تيجراي وبعض القوات الخاصة والميلشيات المحلية الموالية للحكومة المركزية في بعض المناطق. وهو ما يُهدِّد بتصعيد العمليات العسكرية في شمال البلاد وانزلاق الأوضاع إلى حرب شاملة تهدد بدورها مستقبل الدولة الإثيوبية. فبالرغم من إعلان حكومة آبي أحمد نيتها إطلاق حوار وطني في البلاد؛ إلا أنه لا تزال مُسبِّبات الصراع قائمة بين أطرافه، الأمر الذي جعل إجراءات التنفيذ تتسم بالبطء. ومما يثير المخاوف أنه إذا كانت الغارة الجوية والاشتباكات الدائرة بالفعل على بعض جبهات القتال هي بداية استئناف دائم للقتال، فمن المُرجَّح أن يتفاقم الوضع الإنساني في مناطق التيجراي والأمهرا والعفر الذين أصابتهم المجاعة بالفعل، حيث من المُحتمل أن تمنع الاشتباكات المستمرة وصول المساعدات إلى السكان المحتاجين. بالإضافة إلى ذلك، فإن استئناف القتال سيُعقِّد عملية السلام المُتوقفة بشكل أكبر ويُلحق الضرر بمحاولات آبي أحمد لجذب الاستثمار الأجنبي لتعزيز اقتصاد البلاد المتعثر.
وإجمالًا؛ يبدو أن محفزات تجدُّد الصراع في شمال إثيوبيا تفوق الدوافع الداعمة لإجراء مفاوضات السلام بين طرفي الصراع الإثيوبي، وهي مرتبطة بالأساس بغياب الثقة بين جميع الأطراف المتصارعة، ورغبة كل طرف في إقصاء الطرف الآخر من المشهد الإثيوبي برمته، وربما المشهد الإقليمي في القرن الإفريقي، وهو سبب كفيل لاستمرار وتفاقم الصراع في البلاد، وربما يُعرقل أية محاولات إقليمية أو دولية لإيقاف القتال الدائر في شمال البلاد. وقد يكون أيضًا مقدمة لفشل الحوار الوطني في إثيوبيا، أو على الأقل إقصاء آبي أحمد لجبهة تيجراي من المشاركة فيه، وهو ما ستكون له تداعياته على استمرار حالة الاستقطاب السياسي والأمني في البلاد، ويعزز سيناريوهات زعزعة الاستقرار في إثيوبيا خلال الفترة المقبلة.
[1] “تجدد الصراع مجددا.. ماذا يحدث في إثيوبيا؟”، السياق، 30/8/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/qkL2T
[2] أحمد عسكر، “حسابات الصراع في إقليم تيجراي ومساراته”، Trends، 7/2/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/I77FZ
[3] أحمد سلامة، “تجدد الصراع| الجيش الإثيوبي يهاجم إقليم تيجراي فجرًا.. وتبادل إطلاق نار كثيف مع الجبهة الشعبية”، درب، 24/8/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/RsTF8
[4] “الصراع في تيجراي: إثيوبيا تعلن إسقاط طائرة “تحمل أسلحة” للمتمردين مع تجدد القتال”، عربي BBC News، 24/8/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/zlrwm
[5] د. حمدي عبد الرحمن حسن، “مخاطر أمنية: جولة جديدة من حرب التيجراي في إثيوبيا”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 27/8/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/XEWng
[6] أحمد عسكر، “لماذا تجدد الصراع في إقليم تيجراي؟”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 28/8/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/qovIv
[7] قراءات إفريقية (مترجم)، جيتاشوا رضا، “إثيوبيا: هل يستطيع الاتحاد الإفريقي تحقيق السلام مع التيجراي؟”، قراءات إفريقية، 28/8/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/8TFoE
[8] قراءات إفريقية (مترجم)، جيتاشوا رضا، مرجع سبق ذكره.
[9] د. حمدي عبد الرحمن حسن، مرجع سبق ذكره.
[10] أحمد عسكر، “لماذا تجدد الصراع في إقليم تيجراي؟”، مرجع سبق ذكره.
[11] د. حمدي عبد الرحمن حسن، مرجع سبق ذكره.
[12] قراءات إفريقية (مترجم)، جيتاشوا رضا، مرجع سبق ذكره.
[13] أحمد عسكر، “لماذا تجدد الصراع في إقليم تيجراي؟”، مرجع سبق ذكره.
[14] أحمد عسكر، “حسابات الصراع في إقليم تيجراي ومساراته”، مرجع سبق ذكره.