السياسات النقدية في مصر بعد الإطاحة بطارق عامر

في أعقاب الإطاحة بطارق عامر من رئاسة البنك المركزي في 17 أغسطس 2022م، جرى تعميم تعليمات صارمة من إدارة الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية على المواقع الإلكترونية والصحف والقنوات الفضائية التابعة لها، للتعامل الإعلامي مع استقالة  محافظ البنك المركزي مفادها التركيز على أن عامر قرر الاعتذار من منصبه لضخ دماء جديدة في السوق المصرفي، مع  تركيز المُذيعين والقصص الإخبارية على أن تغيير «محافظ المركزي» أتى لإحداث تغيير في السياسات النقدية لتطوير الأداء الاقتصادي والتعامل مع المتغيرات العالمية في ظل الأزمة الحالية، مع استضافة خبراء اقتصاديين لتحليل الحدث دون أي تجاوز في حق طارق عامر.

وتربط بعض التفسيرات لدى قطاعات من الخبراء بين الإطاحة بعامر، وبين الانتقادات التي وجهها صندوق النقد الدولي للسياسات النقدية في مصر علنًا في بيان صدر في يوليو الماضي (2022). واعتبروا أن «تنحي عامر عن السياسات النقدية في هذا التوقيت قد يخدم سير مفاوضات الحكومة مع الصندوق»، لا سيما وأن الانتقادات من جانب الصندوق تعني بشكل واضح عدم رضاه عن التعويم الجزئي الذي أقره البنك المركزي في مارس 2022، والذي ساهم في تخفيض سعر الجنيه بعد فترة ثبات نسبي في سعره، حيث انخفض الجنيه أمام الدولار من 15.7 جنيها إلى أكثر من 18 جنيها. والإطاحة بعامر في هذا السياق قد يعني أن «مصر منفتحة على خيارات جديدة ومستعدة لتبني سياسات أكثر مرونة على صعيد سعر الصرف بالذات». هذه التأويلات اعتمدت على ما تردد من خلافات في صفوف البيروقراطية المصرية حول إمكانية التراجع أمام ضغوط الصندوق بتحرير إضافي لسعر الصرف، خاصة في ظل تقديرات ترى أن السماح ببعض المرونة في سعر الصرف قد يصل بسعر الدولار إلى 25 جنيهًا، وهو الرأي الذي كان عامر  يتبناه، في حين انحاز وزير المالية، محمد معيط، للمنطق المقابل بالسماح بمرونة كاملة متوقعًا ألا يزيد سعر الدولار في تلك الحالة عن 20 جنيهًا.[[1]]

وجاءت الإطاحة بعامر الذي ينحاز إلى التعويم المدار للجنيه مع الإبقاء على وزير المالية محمد معيط الذي ينحاز إلى التعويم الكلي لتمثل مؤشرا على انتصار وجهة النظر الثانية؛ وأن السيسي بصدد تغيير السياسات النقدية والتخلي عن التعويم الجزئي المدار  ليذعن لإملاءات وشروط صندوق النقد الدولي التي تطالب بتحرير كامل للجنيه أمام باقي العملات الأخرى. فالصندوق يرى أن استمرار سياسة تثبيت سعر الصرف أو تحركه البطيء بما لا يعكس قيمته الحقيقية (كما يفعل النظام)، عبر مساندة الجنيه باستخدام جانب من الاحتياطي النقدي الأجنبي في ضخ السيولة الأجنبية في السوق، يعني عمليًا تعريض الاحتياطي النقدي نفسه لهزات متكررة تجعله أقل قابلية للصمود في مواجهة الصدمات الخارجية، كصدمة تفشي فيروس كورونا أو الغزو الروسي لأوكرانيا. بناء على ذلك فإن تحديد السياسة النقدية الخاصة بتحرير سعر صرف الجنيه وإعادة بناء الاحتياطي النقدي الأجنبي على رأس أولويات حسن عبدالله القائم بأعمال رئيس البنك خلفا لطارق عامر، والفريق المعاون له؛ وهو ما يمكن أن يتحقق ــ بحسب رؤية النظام ـ  من خلال تلبية شروط صندوق النقد الدولي والحصول  على قرض بقيمة 15 مليار دولار، بالإضافة إلى بعض التحسن على المدى الأبعد في تدفق الأموال الساخنة مجددًا، والذي سيدعمه تراجع سعر الجنيه الذي يدعم طبعًا جاذبية أوراق الدين المصرية.[[2]] لكن ذلك لا يختلف كثيرا عما كانت عليه السياسات النقدية في عهد طارق عامر باستثناء سياسات التعويم المدار وحماية العملة المحلية بشيء من الاحتياطي النقدي. وقد اعترف عامر بذلك في تصريحات له في مايو 2022، قائلًا إن استخدام وتدخل البنك المركزي في السوق باحتياطيات النقد الأجنبي أمر طبيعي، وأن هذه الاحتياطيات يتم بناؤها لمواجهة التقلبات الاقتصادية. فالاحتياطي النقدي الذي تهاوى حاليا إلى 36 مليار دولار، بسبب تداعيات تفشي فيروس كورونا، كان قد بلغ مستويات قياسية في 2020، وصلت إلى 45 مليار دولار، والتي «نجح» عامر في الوصول إليها عبر ارتفاعات متواصلة دون انقطاعات تذكر منذ نهاية 2016، الذي كان قد شهد أحد أسوأ مستويات الاحتياطي النقدي الأجنبي في عشر سنوات على الأقل حين بلغ وقتها 15 مليار دولار تقريبا، وذلك لأسباب تتعلق بالأساس بتدفقات الأموال الساخنة -استثمارات الأجانب في أدوات الدين المصرية، بسبب التراجع الكبير في سعر الجنيه من ناحية والرفع الكبير للغاية في سعر الفائدة، وهي السياسة التي صاحبت تحرير سعر الصرف، وكان مبررها المعلن هو مواجهة التضخم الذي أعقب اتفاق قرض الـ12 مليار دولار في نوفمبر 2016م، بخلاف عدد من  القرارات على مستوى السياسة المالية من قبيل رفع أسعار المواد البترولية، وصولًا لمعدلات تعدت 33% في عام 2017.

فماذا سيفعل حسن عبدالله والفريق المعاون له (هشام عز العرب ومحمد نجيب) وهم ـ بحسب كثير من المحللين والخبراء ـ أكثر احترافية وكفاءة من طارق عامر وفريقه  الذي كان يدير السياسة النقدية خلال السنوات السبع الماضية؟

 

وضع مأزوم

قبل كل شيء، يتعين الإقرار بأن الوضع المالي والنقدي في مصر يمر بمرحلة بالغة الصعوبة، ويمر بأزمة غير مسبوقة للأسباب الآتية:[[3]]

أولا، هناك مخاطر جيوسياسية عالمية لها تداعيات خطيرة على الاقتصاد المصري، كحرب أوكرانيا التي تغذي مخاطر التضخم والعملة، وتؤثر سلباً على إيرادات الدولة من النقد الأجنبي، وتعطل جهود المركزي في إعادة بناء الاحتياطي الأجنبي من موارد ذاتية. وهناك في الجانب الآخر البنك الفيدرالي الأميركي الذي يرفع سعر الفائدة على الدولار بشكل متواصل، وهو ما يضغط على سوق الصرف الأجنبي في مصر ويرفع من تكلفة الاقتراض الخارجي. وهناك أيضا شروط وإملاءات صندوق النقد الدولي من أجل الموافقة على منح الحكومة قرضا جديدا  رابعا بعدما حصلت ــ عبر ثلاثة قروض سابقة ــ على أكثر من عشرين مليار دولار. لذلك فمهمة حسن عبدالله وفريقه  معقدة وشاقة جدا، وتبدو أحيانا شبه مستحيلة. فاحتياطي البنك المركزي من النقد الأجنبي يتراجع بشدة منذ شهر فبراير2022، رغم تغذيته بودائع خليجية تبلغ 13 مليار دولار خلال الربع الأول من العام الجاري، ورغم فرض قيود صارمة على حركة رؤوس الأموال وعملية الاستيراد وفتح الاعتمادات المستندية.

ثانيا، هناك التزامات خارجية ضخمة مستحقة على البنك المركزي، منها مثلا سداد أعباء ديون خارجية تقدر بنحو 35 مليار دولار خلال العام المالي الجاري(2022/2023)، وهناك كلفة الواردات المصرية المتزايدة بسبب التضخم العالمي وزيادة أسعار القمح والوقود، وهي فاتورة قدرها وزير المالية محمد معيط بنحو 9 مليارات دولار شهرياً مقابل 5 مليارات قبل حرب أوكرانيا. أيضا هناك جدول سداد مزدحم لديون خارجية مستحقة على البلاد خلال الأعوام القليلة المقبلة، فبالإضافة إلى 26.4 مليار دولار ديون قصير الأجل مطلوب سدادها خلال عامين، هناك ديون متوسطة وطويلة الأجل تجاوزت 72.4 مليار دولار خلال الفترة من نهاية 2022 وحتى نهاية 2025. معنى ذلك أن البنك المركزي مطالب بسداد تلك الديون في ظل احتياطي يتراجع، وجفاف في بعض إيرادات الدولة الرئيسية ومنها قطاعات السياحة والاستثمارات الأجنبية والأموال الساخنة التي هرب منها 22 مليار دولار وفق أرقام وزارة المالية الصادرة في 29 أغسطس 2022.[[4]] وبحسب بيانات الدين الخارجي متوسط وطويل الأجل: يتعين على مصر سداد 8.57 مليارات دولار خلال النصف الثاني من العام الحالي. وفي 2023، يجب سداد 9.33 مليارات دولار في النصف الأول من هذا النوع من الديون، و8.32 مليارات دولار في النصف الثاني. وفي 2024، فان مصر ملتزمة بسداد 10.9 مليارات دولار في النصف الأول و13.3 مليار دولار في النصف الثاني من العام.

ثالثا، هناك ملف عاجل وهو استرداد ثقة شريحة من عملاء البنوك الذين قاموا بسحب ودائعهم الدولارية وإيداعها في المنازل عقب انتشار شائعات حول إفلاس مصر وتعثرها عن سداد الديون الخارجية. بخلاف إعادة بناء الجسور بين البنك المركزي وقيادات القطاع المصرفي في ظل تذمر بعضهم من أسلوب الإدارة السابقة للبنك المركزي الخشن في التعامل معهم والنظر إليهم على أنهم جزء من معسكر يديره جنرال قابع في البنك المركزي يحمل صفة محافظ. فالتدخل اليومي للبنك المركزي في أنشطة البنوك غير مطلوب، وتحديد سعر الدولار بالتلفون وطبقاً لتعليمات إدارية أمر يضر بسوق الصرف كما رأينا في سنوات سابقة، واستهداف قيادات مصرفية منافسة لمحافظ المركزي وتشويه صورتها أمر يجب أن يتوقف. واجبار البنوك على الاكتتاب في اذون الخزانة والسندات التي يطرحها البنك المركزي بالدولار واليورو هو أمر يجب أن يختفي من القطاع المصرفي.

رابعا، على إدارة البنك المركزي الجديدة إدارة ملف أصول البنوك الأجنبية المتآكل من النقد الأجنبي بشكل أكثر كفاءة واحترافية، فحسب البيانات الرسمية، فإنّ صافي الأصول الأجنبية لدى الجهاز المصرفي المصري، بما فيه البنك المركزي، شهد تراجعاً بمقدار 370 مليار جنيه (نحو 20 مليار دولار)، في فترة لم تتجاوز الـ12 شهراً، بعدما هوى الرصيد من 320 مليار جنيه (17 مليار دولار)، في فبراير/ شباط 2021 إلى نحو “سالب” 50 مليار جنيه (2.7 مليار دولار)، في فبراير 2022.

خامسا، ما يعوق الإدارة الجديدة للبنك المركزي أيضا، أن هناك وزارات وهيئات حكومية لا تزال تعمل في جزر منعزلة رغم علاقتها الوثيقة بموارد البلاد من النقد الأجنبي وملفات تستنزف الاحتياطي الأجنبي مثل عجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات، ولا تعرف تلك المؤسسات والقائمين عليها شيئاً عن علم وفن التنسيق بين السياسات المالية والنقدية والاقتصادية. وهناك مجلس تنسيقي بين السياسات الاقتصادية لا تأثير له، بخلاف تجار العملة والمضاربين الذين يتحينون الفرصة للانقضاض على سوق الصرف وإعادة إحياء السوق السوداء والتربح على حساب الدولة واقتصادها وأسواقها.

سادسا، الانقسام المجتمعي الحاد وعداء السلطة لأكثر من نصف الشعب المصري، والاعتماد على أدوات البطش والقمع الأمني، وتكريس المظالم والمحاكمات السياسة الجائرة واعتقال عشرات الآلاف من العلماء والخبراء والمتخصصين في كافة المجالات وهو ما يحرم البلاد من التماسك المطلوب في مثل هذه الظروف ويحرمها كذلك من كفاءات مخلصة كان يمكن أن تسهم في إخراج البلاد من كبوتها.

 

سيناريوهان للتعويم

بحسب وكالة “رويترز” للأنباء فإن قضية “سعر الصرف” تمثل أهم الملفات التي كُلف بها المصرفي حسن عبد الله، القائم بأعمال محافظ البنك المركزي، حيث سبّب النقص الحاد في العملة الأجنبية في مصر خلال الأشهر الأخيرة تباطؤ عمليات الاستيراد وتعطل الإفراج عن البضائع من الجمارك. وشكت المصانع ومحال التجزئة “الأضرار التي لحقت بعمليات الإنتاج والمبيعات نتيجة لنقص المُدخلات، مثل مستلزمات التشغيل، فيما ساهم نقص الإمدادات في ارتفاع التضخم السنوي لأكثر من 13 بالمئة”.

وتضيف أن السلطات النقدية والمالية في مصر تفاضل حالياً بين خيارين للتعامل مع أزمة العملة، في محاولة للتوصل إلى سعر أقرب لقيمة الجنيه الحقيقية، يسهل مهمتها عند التفاوض مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد.[[5]]

  • السيناريو الأول، هو إجراء تخفيض تدريجي للجنيه أمام الدولار، وتؤكد رويترز أن القائم بأعمال محافظ البنك المركزي الجديد حسن عبدالله يواصل تطبيق سياسة سلفه، الخاصة بالإضعاف التدريجي للعملة المصرية مقابل الدولار، وهو ما اعتبرته الوكالة أقرب لتخفيف تأثير خفض قيمة العملة بالمواطنين، فالوتيرة التدريجية لخفض قيمة العملة ــ بحسب كارلا سليم من بنك ستاندرد تشارترد ـ قد تكون ضرورية لاحتواء التبعات السلبية باهظة التكلفة، نتيجة تراجع سعر الصرف على التضخم والدين العام والنقد الأجنبي غير الخاضع لضوابط”. لكن خبراء اقتصاديين يتوقعون أن يسبب تباطؤ تخفيض قيمة العملة إطالة أمد النقص في النقد الأجنبي وعرقلة النمو والمعنويات، بالإضافة إلى أن ذلك التوجه قد لا يفي بمتطلبات صندوق النقد الدولي.
  • السيناريو الثاني، هو تخفيض حاد مثلما فعلت في 2016م؛ والذي أدى إلى فقدان العملة المصرية أكثر من نصف قيمتها، بينما توقع فاروق سوسة، من بنك جولدمان ساكس أن يسبب تحرير السعر بوتيرة أسرع إطلاق العنان للطلب المكبوت على الدولار منذ فبراير/شباط الماضي 2022. كما أن الخف الحاد والمفاجئ قد يبدد التكهنات بشأن وجود مزيد من التخفيضات على الطريق، مما قد “يساعد في تثبيت توقعات التضخم، ويحد من دوافع الاحتفاظ بالعملة الأجنبية”.

وهناك مخاطر وتبعات لكل خيار، لكن رويترز  أشارت إلى  مذكرة بحثية صادرة عن بنك أوف أميركا، توقع فيها خفضاً لقيمة العملة المصرية، متبوعاً بنظام صرف أجنبي مرن مرتبط ببرنامج صندوق النقد الدولي. واستشهد البنك بما حدث وقت التعويم في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2016، متوقعاً أن يحدث ذلك خلال الأشهر المقبلة، بعد التوصل إلى اتفاق على مستوى موظفي الصندوق، وكخطوة مسبقة لموافقة مجلسه التنفيذي.[[6]]

وأمام الضغوط التي تحاصر صناع السياسات النقدية والمالية في مصر، وظهور السوق الموازية حيث بلغ سعر الدولار نحو 21 جنيها؛ تعكف هذه السلطات على توفير النقد الأجنبي، اللازم لتمويل المصانع التي توقفت أعمالها خلال الفترة الأخيرة. لكن التعويم المرتقب سواء كان تدريجيا أو كليا وحادا ومفاجئا فإنه سوف يفضي إلى زيادة معدلات التضخم وتواصل غلاء السلع الأساسية والخدمات العامة بما يهدد تماسك المجتمع في حال اندلاع احتجاجات اجتماعية اعتراضا على تدهور الأوضاع على هذا النحو الخطير وهو ما يخشاه النظام وأجهزته بشدة وقد يكون ذلك دافعا إلى تبني خيار التعويم المتدرج للوصول إلى قيمة منخفضة للجنيه ترضي صندوق النقد الدولي ومؤسسات التمويل الدولية حتى يوافقوا على القرض الجديد المرتقب.

 

حدود تطوير السياسات المالية والنقدية

أولا، وواضح من التطورات فى الأسابيع الأخيرة أن الدولة قبلت بإدخال قدر كبير من المرونة على سعر الصرف وإن لم يصل حتى الآن إلى التعويم الكامل وعلى دفعة واحدة للجنيه المصرى. وليس معروفا ما هو المقصود بالإصلاحات المالية فى حالتنا الراهنة بالذات ولكن من الجلى أنه لا يوجد مجال للحد من الإنفاق العام على السياسات الاجتماعية أو على ما تبقى من دعم للخبز أو الطاقة، خاصة فى ظل ما ترتبه مرونة سعر الصرف من آثار على التضخم والأسعار. لكن سياسات النظام بهذا الشأن غامضة وتنحاز إلى تقليص مخصصات الدعم رغم قلتها في الأصل ورغم صعوبة الأوضاع المعيشية.

ثانيا، لا يبدو أن الدولة ستتراجع عن بيع أصول الدولة من أجل توفير  حفنة مليارات من الدولارات لسداد مع على الدولة من ربا الديون وأقساط ديون، وقد كشف السيسي عن خطة بيع أصول للدولة تصل إلى نحو أربعين مليار دولار على مدار أربعة سنوات بمعدل عشرة مليارات دولار سنويا.

ثالثا، من جانب آخر، تحدث البعض عن تخفيض الإنفاق العام على الوظيفة العمومية(تسريح ملايين الموظفين الحكوميين) لتقليل النفقات. لكن هذا غير ممكن؛ لأن واقع الأمر أن تضخم الوظيفة العمومية فى مصر أسطورة كدنا نصدقها من فرط تكرارها. فالعجز فى المعلمين وفى الأطباء فى المستشفيات الحكومية معروف للكافة. من جانب آخر فإن فى مصر 5,5 مليون موظف يخدمون 104 ملايين مواطن بواقع 52 موظفا لكل ألف مواطن. فى فرنسا 5,7 مليون موظف يخدمون 67 مليون مواطن فى سنة 2020. إحصائيات منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية تبين أنه فى سنة 2015، نسبة إلى كل ألف مواطن كان عدد الموظفين يبلغ 159 فى النرويج، و142 فى الدنمارك، و100 فى كندا، و89 فى فرنسا، و70 فى الولايات المتحدة. وهذه الأرقام بليغة، تعفى المحلل من أى تعليق.[[7]]  بل تؤكد أن تضخم الجهاز الإداري في الدولة أكذوبة تروجها الحكومة للتحلل من توظيف الشباب وإن كان ذلك لا يمنع من وجود فساد وخلل في هيكلة الموظفين واستثمارهم على نحو صحيح.

رابعا، يمكن زيادة الإيرادات العامة من خلال رفع كفاءة التحصيل الضريبى من أصحاب المهن الحرة، وبفرض الضرائب على الأنشطة الاقتصادية المستثناة منها وتحصيلها  كمشروعات الجيش وما تسمى بالأجهزة السيادية. لا سيما وأن كاهل المواطنين والمنشآت يئن من وطأة الضرائب المباشرة وغير المباشرة، ومن الرسوم التى لا تمل الدولة من فرضها ورفع مقاديرها عليهم. ثم أن استخلاص الدولة لنفسها نسبا مرتفعة من دخول المواطنين ليس فى صالح النشاط الاقتصادى، وهو ينتهى بأن تنخفض حصيلة الضرائب على هذا النشاط.

خامسا، يصر النظام على تبني سياسيات وتوجهات صندوق النقد الدولي رغم أن الصندوق ما تأسس إلا لضبط عمل النظام الرأسمالى العالمى وتأمين استمراريته، كما يراهما القائمون على هذا النظام وهم الاقتصادات الكبرى، وأصحاب المصالح. ثم أنه ليس معروفا عن مصر الرسمية أنها اعترضت على مبادئ عمل الصندوق والنظام المالى العالمى أو على عمل مجمل الاقتصاد الرأسمالى العالمى.

 

أزمة اقتصادية قبل أن تكون مالية

يذهب الدكتور إبراهيم عوض، أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، أن أزمة مصر اقتصادية قبل أن تكون مالية، وأنه كان الأجدر عدم اللجوء إلى صندوق النقد من الأساس منذ سنة 2016م؛ لأن القرض الأول (12 مليار دولار) ذهب هباء؛ والإصلاح المزعوم لم يكن اقتصاديا، بل كان ماليا. وحتى الإصلاح المالي، الذى بدا لسنوات أن المراد منه تحقق، فقد تلاشى هو الآخر. والمطلوب اليوم هو سياسات على المديين المتوسط والطويل، لدفع النمو الاقتصادي وتدعيم الاقتصاد وتحقيق التنمية، وعلى المدى القصير، للتصدى للمشكلة الخانقة الراهنة. فالسياسات على الأمدية الثلاثة (القصيرة والمتوسطة والطويلة) ستكون متداخلة. سياسات صناعية فى عدد من القطاعات الاقتصادية ضرورية تماما. السياسة الصناعية هى مجموع الإجراءات الرامية إلى تعزيز أنشطة اقتصادية محددة وتشجيع التغيرات الهيكلية فيها.

فالسياسة الصناعية لا تتعلق بالصناعة فى حد ذاتها وحدها وإنما هى تنطبق أيضا على الخدمات وعلى الزراعة غير التقليدية. فى السياسة الصناعية الإجراءات متكاملة فى مجالات الائتمان، والتشغيل، والمعرفة، والمنتجات، مع تحديد الأولويات والأهداف، وأدوات التدخل، والمسئوليات المؤسسية. السياسات الصناعية هى السبيل إلى تحقيق النمو الاقتصادى وتدعيم الاقتصاد وتلبية الطلب فى السوق المحلية وتوسيع دائرة الأسواق الخارجية. فى غياب سياسة صناعية معتبرة، ننظر مثلا إلى أدائنا فى صادرات الملابس، ومصر سباقة بين البلدان النامية فى صناعتها وصناعة النسيج، وهما صناعتان بسيطتان، بلغ نصيب مصر من صادرات الملابس فى العالم فى سنة 2019 %0,33 قيمتها 3,5 مليار دولار. فى نفس السنة كان نصيب فيتنام %6 من الصادرات العالمية بلغت قيمتها 63 مليار دولار. وللتذكرة كانت فيتنام فى حرب مع الولايات المتحدة حتى سنة 1975، بينما دشنت مصر سياسة الانفتاح الاقتصادى فى سنة 1974. نحن لسنا فقط فى مواجهة مشكلة بل مسألة اقتصادية ممتدة.

فى سنة 2019، بلغت قيمة صادرات بنجلاديش من الملابس 34,1 مليار دولار بارتفاع قدره (58.6%) عن 2013 عندما كانت قيمة الصادرات 21,5 مليار. لاحظ أن هذا الارتفاع حدث خلال ست سنوات هى بالضبط نفس طول الفترة الفاصلة بين «الإصلاح الاقتصادى» وقرض الصندوق لمصر فى سنة 2016، والوقت الحالى. والسياسة الصناعية لا تقتصر بالطبع على الملابس ذات القيمة المضافة المنخفضة عموما بل ينبغى أن تمتد إلى أفرع أخرى للنشاط مثل الإلكترونيات، والبرمجيات، والصناعات الكيماوية، والسياحة. ومضمون السياسة الصناعية فى هذه الأفرع لا بد أن يتباين حسب طبيعة كل منها.

عامل جذب آخر للاستثمارات هو الاتفاقات الاقتصادية والتجارية التى أبرمتها مصر، مثل اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبى التى تفتح الأسواق الأوروبية أمام المنتجات المصنوعة فى مصر، بدون قيود كمية أو رسوم جمركية. لننظر كيف استفادت المغرب من اتفاقية شبيهة وأقامت من أجلها منطقة صناعية كبرى فى ميناء طنجة. فمصر فتحت سوقها أمام الإنتاج الأوروبى دون أن ينفذ إنتاجها هى بأى قيمة معقولة إلى الأسواق الأوروبية. أمثلة أخرى هى اتفاقية السوق المشتركة للشرق والجنوب الإفريقى (كوميسا)، ومن بعدها الاتفاقية الثلاثية بين كوميسا، وجماعة شرق إفريقيا، وجماعة تنمية الجنوب الإفريقى الموقعة فى شرم الشيخ فى سنة 2015، وأخيرا اتفاقية السوق الحرة القارية الإفريقية، كلها تفتح السوق الإفريقية، وإن بدرجات متفاوتة فى بعض مناطق القارة حتى الآن، أمام المصنوعات والخدمات المصرية وهى تعد بعوائد مرتفعة على الاستثمار فيها. قوة العمل المصرية كبيرة الحجم نسبيا إن تلقت التعليم والتدريب الجيدين هى رصيد لجذب الاستثمار وليست بالضرورة عبئا على الدولة.

الخلاصة أن السبب الظاهر في الإطاحة بطارق عامر من رئاسة البنك المركزي والمجيء بحسن عبدالله هو ضخ دماء جديدة في إدارة البنك المركزي من جهة وتطوير السياسات المالية والنقدية، وقد صرَّح السيسي بذلك في تكليف حسن عبدالله كقائم بأعمال محافظ البنك المركزي في 18 أغسطس 2022م؛ حيث أكد الجنرال على ضرورة تطوير السياسات النقدية لتتواكب مع المتغيرات الاقتصادية العالمية.[[8]] ولم يظهر من عمليات تطوير السياسات النقدية المرتقبة حتى اليوم سوى ثلاثة أمور: الأول هو الشروق في تخفيف القيود المفروضة على عمليات الاستيراد وحل أزمة الشحنات المخزنة بالموانئ والمعطلة بسبب عدم قدرة أصحابها على استيفاء الأوراق الرسمية بناء على القيود الجديدة المفروضة على عمليات الاستيراد. والثاني هو رفع الدولار الجمركي إلى 19.3  جنيها وهو ما يعني ارتفع جميع أسعار السلع المستوردة والمحلية والتي تدخل في صناعتها مواد خام وسيطة في عملية الإنتاج، بما يعني تواصل موجة الغلاء والتضخم إلى مستويات أعلى مما هي قائمة بالفعل.[[9]] الثالث هو تصريحات المسئولين بالحكومة حول إظهار المزيد من المرونة بشأن التعويم الحاد وتحرير سعر الصرف بشكل حاد كما جرى في نوفمبر 2016م، لكن الخوف من ردة الفعل الجماهيرية يعرقل هذه التوجهات ويدفع النظام إلى مزيد من التفكير في هذه السياسات وتداعياتها السياسية والاجتماعية والخشية من أن تفضي  إلى زعزعة الأوضاع الأمنية وخروج الأمور عن السيطرة، وقد كان مقال عماد الدين أديب في 14 أغسطس 2022 عن سقوط بعض الأنظمة العربية خلال الشهور المقبلة على مقاس نظام السيسي تماما[[10]]؛ وهو في ذلك لا يعبر عن وجهة نظره بل الراجح أنه ينقل وجهة نظر وتحذيرات بعض الأجهزة في الدولة والتي ترى أن مآل نظام السيسي ما بقاء ذات السياسات هو السقوط الحتمي. وهو عين ما توصلت إليه مجلة فورين بوليسي الأمريكية في تحليل للكاتب ستيفين إيه كوك.[[11]]

أما المسألة الاقتصادية غ

فقد امتدت فى الزمن ولكنها ككل مسألة قابلة للحل. ومضمون الحل مسألة اقتصادية فنية. غير أن الإقدام على الحل قرارٌ سياسى. أما الاختيار بين البدائل الفنية والتوفيق بينها فيتداخل فيهما الاقتصادى والسياسى. وعليه، إن كان للمسألة الاقتصادية أن تحل فلا بد من إصلاح سياسى يفك القيود، ويفسح المجال للخيال والمبادرة، وللعمل الجماعى والفردى والاستفادة من كل طاقات الوطن المعطلة لأسباب سياسية بحتة.

[1] بيسان كساب, سارة سيف الدين, محمد السادات و محمد عز/ توابع استقالة «عامر» المفاجئة: ترجيحات بسياسة نقدية «أكثر مرونة» وتعليمات بضوابط إعلامية لتناول الأسباب.. وتكهنات حول المرشحين لخلافته/ مدى مصر ــ 17 أغسطس 2022

[2] المرجع السابق

 

[3] انظر مقال مصطفى عبد السلام/ فريق البنك المركزي المصري الجديد ومهمة شاقة/ العربي الجديد ــ 29 اغسطس 2022

[4] تشير بيانات البنك المركزي إلى أن العام المنتهي في 30 يونيو2022، شهد خروج نقد أجنبي بأكثر من 35 مليار دولار من البنك المركزي والنظام المصرفي، مع تحول صافي الأصول الأجنبية لتسجيل سالب 370.1 مليار جنيه مصري من 251.7 مليار جنيه. انظر: العملة على رأس التحديات أمام القائم بأعمال محافظ البنك المركزي المصري/ العربي الجديد نقلا عن رويترز ــ 26 اغسطس 2022

 

[5] مصر تفاضل بين خيارين للتعامل مع أزمة العملة أحلاهما مرّ/ العربي الجديد ــ 07 سبتمبر 2022

 

[6] وقد أقرت وزيرة التخطيط هالة السعيد وهي أيضاً رئيسة صندوق الثروة السيادية في مصر ـ  في حوار مع تلفزيون وكالة “بلومبيرغ”، الثلاثاء 06 سبتمبر 2022 ــ   بأن الحكومة تفضل سعر صرف أكثر مرونة للجنيه .. انظر: الحكومة المصرية تؤكد توجهها لخفض الجنيه دعماً للاقتصاد/ العربي الجديد ــ 07 سبتمبر 2022//“بلومبيرغ”: 3 خطوات إحداها خفض الجنيه لجذب المستثمرين إلى السندات المصرية/ العربي الجديد ــ 03 سبتمبر 2022

[7] إبراهيم عوض/ فى مواجهة المسألة الاقتصادية/ بوابة الشروق ــ السبت 3 سبتمبر 2022

[8] السيسي يؤكد ضرورة تطوير السياسات النقدية لتتواكب مع المتغيرات الاقتصادية العالمية/ بوابة الشروق ــ الخميس 18 أغسطس 2022

[9] بعد رفع سعر الدولار الجمركي.. ضربة جديدة للأسواق بمصر.. وتوقعات بارتفاعات حادة للأسعار/ “عربي 21” ــ الجمعة، 09 سبتمبر 2022

[10] عماد الدين أديب/14 سبباً لسقوط الحكّام والأنظمة!/ موقع أساس ميديا اللبناني ــ الأحد 14 آب ، أغسطس 2022

[11] فورين بوليسي الأمريكية: هل تؤدي الأزمة الاقتصادية المصرية إلى اندلاع ثورة جديدة؟/عربي بوست ــ 21 أغسطس 2022م

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022