منذ انطلاقتها, يومي الخميس والجمعة 15-16سبتمبر الجاري، سعت قمة منظمة شنغهاي للتعاون الدولي، في دورتها الـ22، للتأكيد على خلق مراكز قوى ونقوذ وتأثير دولي، بعيدا عن الغرب والاحادية القطبية التي تقودها أمريكا في العلاقات الدولية، كما سعت القمة لتطوير علاقاتها التجارية بين دولها كسبيل للدفع نحو استقلالية سياسية واقتصادية، بمواجهة الضغوطات الدولية، وبما يحقق مصالح تلك الدول، التي يجمع بين أغلبها مواقف سلبية مع الغرب وأمريكا، سواء أكانت الصين التي تتعاظم أزماتها مع واشنطن على الصعيد التجاري الدولي، وأيضا على صعيد تايوان، وكذا روسيا التي تتحارب مع واشنطن والغرب بشكل غير مباشر في أوكرانيا، وأيضا ايران التي تناور الغرب وواشنطن للعودة للاتفاق النووي الموقع في 2015، وايضا تركيا التي تسعى لتنويع علاقاتها في ظل التعنت الغربي والأمريكي في العديد من القضايا والأزمات ، سواء مع اليونان أو سوريا وغيرها من الملفات في اسيا الوسطى..
أولا: فعاليات ومؤشرات القمة:
-مشاركة متنوعة ومزازييك سياسي:
وحظيت قمة سمرقند بحضور واسع، من قادة الدول في ظل توقيت دولي صعب..وشارك في قمة سمرقند، الرئيس الصيني شي جين بينغ -وهي أول رحلة خارجية له منذ يناير 2020 مع بداية جائحة كورونا- إضافة إلى الرؤساء التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين والإيراني إبراهيم رئيسي، إلى جانب رئيسي الوزراء الباكستاني شهباز شريف والهندي ناريندرا مودي. كما شارك قادة دول كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان..
وتضم المنظمة -التي تأسست في يونيو 2001- 8 دول، هي: روسيا والصين وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وباكستان والهند وأوزبكستان، بينما نالت تركيا صفة “شريك محاور” ضمن المنظمة عام 2012.
وتأسست المنظمة في يونيو 2001 على أساس “خماسي شنغهاي”، الذي تشكّل في عام 1996، وكان معنياً بحلّ الخلافات الحدودية بين الصين ودول الاتحاد السوفييتي السابق. والأعضاء المؤسسون للمنظمة هم الصين وروسيا وكازاخستان وطاجكستان وقرغيزستان وأوزبكستان، التي كانت أحدث المنضمين لـ”الخماسي”. وفي عام 2017 انضمت الهند وباكستان رسمياً لتصبحا عضوين دائمين، وفي القمة الأخيرة في سبتمبر 2021 تم الإعلان عن بدء إجراءات منح إيران العضوية الدائمة، بعد 16 عاماً من طلبها الرسمي الانضمام ويفترض أن تنتهي خلال القمة
وهناك ثلاثة أعضاء مراقبين، وهم أفغانستان ومنغوليا وبيلاروسيا، التي تقدمت في منتصف يوليوالماضي بطلب نيل العضوية الكاملة. وتم ضم قطر والسعودية ومصر بصفة “شريك حوار” في قمة 2021، ليرتفع عدد الدول بهذه الصفة إلى تسع دول هي أرمينيا وأذربيجان وتركيا وسريلانكا وكمبوديا ونيبال، إضافة إلى الدول الثلاث المذكورة سابقاً. ويتجاوز عدد سكان بلدان المنظمة 60% من سكان العالم، وتستحوذ على أكثر من 30 % من الاقتصاد العالمي، ومساحتها نحو 60 % من مساحة أوراسيا (آسيا وأوروبا)، وتضمّ أربع دول ضمن النادي النووي، وهي روسيا والصين والهند وباكستان.
-بيان سمرقند:
واختتم قادة منظمة شنغهاي للتعاون الجمعة 16 سبتمبر الجاري، أعمال قمتهم المنعقدة في مدينة سمرقند في أوزبكستان، والتي دعت لمواصلة العمل لمكافحة الإرهاب، مؤكدين رفضهم القيود التي تهدد الاقتصاد الدولي.
ودان “بيان سمرقند” ما سموه الأعمال الإرهابية في جميع أنحاء العالم..الا ان القمة ساوت بين الأعمال الاتفصالية والحركات العرقية بالارهاب، وهو ما يمثل خطورة حاسمة على الأقليات الاسلامية في تلك المنطقة، خاصة في ضوء ما يعانيه مسلمو الايجور في الصين من اضطهاد واقصاء، وهو الأمر الذي يتكرر مع مسلمي مانيمار وفي كشمير والهند وغيرها..
وشدد البيان على أن دول المنظمة تعارض الإجراءات والقيود التي تهدد الاقتصاد العالمي، وتعمل على تعزيز نظام تجاري متعدد الأطراف قائم على مبادئ وقواعد منظمة التجارة العالمية. داعيا إلى تسوية في أفغانستان من شأنها أن تسهم في تعزيز الأمن في منطقة منظمة شنغهاي للتعاون.
وتم الاتفاق في نهاية القمة على أن الهند ستتولى الرئاسة الدورية لمنظمة شنغهاي للتعاون في دورتها 2022-2023. وأعلن قادة المنظمة عام 2023 عامًا للسياحة، واتفقوا على تشكيل مجموعات عمل حول الشركات الناشئة والابتكارات، ومكافحة الفقر والطب التقليدى، ووافقوا على بند اللقب الفخرى لسفير منظمة شنغهاى للتعاون للنوايا الحسنة.
ودعت القمة إلى الامتثال لاتفاقية حظر تطوير وإنتاج وتخزين واستخدام الأسلحة الكيميائية وتدميرها. وأكدت الدول الأعضاء أهمية تنفيذ خطة العمل الخاصة ببرنامج إيران النووى، كما عارضت استخدام قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات فى الأعمال العسكرية، ودعمت إطلاق اتفاقية دولية شاملة تحت رعاية الأمم المتحدة لمكافحة استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لأغراض إجرامية.
كما ناقشت القمة اعتماد أكثر من 20 وثيقة، من ضمنها الخطة الخمسية الشاملة المقبلة لتنفيذ أحكام معاهدة حسن الجوار والصداقة والتعاون على المدى الطويل لفترة (2023 ـ 2027)، بالإضافة إلى وضع “خريطة طريق لزيادة تدريجية في حصة العملات الوطنية في التسويات المتبادلة.
-تصريحات كاشفة:
وقد شهدت القمة العديد من التصريحات السيسية المهمة والمعبرة عن طبيعة المخاوف والطموحات والتخديات التي تواجه المنظمة. ولمغازلة دول العالم النامي، وتحميل الغرب مسئولية الأزمة الغذائية العالمية، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن بلاده على استعداد للعمل من أجل حل كثير من المشاكل في العالم؛ وأهمها الطاقة والغذاء، وأنها على استعداد لتقديم مئات آلاف الأطنان من الأسمدة الروسية للدول النامية. إذ تتكدس في عدد من الموانئ الأوربية أكثر من 300 ألف طن من الاسمدة، اثر الحظر الأوربي والأمريكي المفروض على موسكو.
مشيرا إلى أن أوروبا رفعت “جزئيا” فقط العقوبات التي تقول بلاده إنها تعوق قدرتها على بيع الأسمدة وإرسالها للعالم، مرحبا بقرار الاتحاد الأوروبي تخفيف بعض العقوبات اللوجستية على الصادرات الروسية، لكنه اتهم التكتل بالتصرف “بأنانية” حين رفع العقوبات من أجل دوله الأعضاء فقط.
وذكر بوتين في القمة “يمكنهم وحدهم شراء أسمدتنا، لكن ماذا عن العالم النامي والدول الأشد فقرا في العالم”. وتم السماح بوصول الأسمدة الروسية للأسواق العالمية بموجب اتفاق أُبرم مع أوكرانيا وتركيا والأمم المتحدة، في يوليو ، لشحن الحبوب عبر البحر الأسود.
وخلال اجتماعه مع الرئيس التركي رردوغان، قال بوتين إنه سيتم دفع مقابل 25% من إمدادات الغاز الروسي إلى تركيا بالروبل، وإن اتفاقا بهذا الشأن سيدخل حيز التنفيذ قريبا.
وأيضا ، ثمن بوتين “الدور المتعاظم لمراكز النفوذ الجديدة الذي يتضح بشكل متزايد، مشددا على أن التعاون بين بلدان منظمة شنغهاي خلافا للدول الغربية يستند إلى مبادئ “مجردة من أي أنانية”. “سياستنا مجردة من أي أنانية.. نأمل أن يدير الآخرون سياستهم استنادا إلى المبادئ نفسها” في إشارة واضحة إلى الدول الغربية.
بدوره، أكد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي خلال لقائه بنظيره الروسي -على هامش القمة – للتذكير بتحدي العقوبات الأميركية المفروضة على بلاده. مؤكدا إن إبطال العقوبات الأميركية يتطلب حلولا جديدة، وإن منظمة شنغهاي يمكن أن تتحدى النزعة الأحادية لواشنطن، مطالبا بالتوسع في التجارة الحرة بين الدول الأعضاء بالمنظمة، إلى جانب التعاون المالي والمصرفي.
وعقد الرئيسان الروسي والصيني بوتين وشي، الخميس 15 سبتمبر، أول محادثات مباشرة بينهما منذ أرسلت روسيا قواتها إلى أوكرانيا في فبراير الماضي. ورأى الكرملين أن القمة بديل عن “المنظمات المتمركزة حول الغرب”، في وقت يزداد فيه الضغط على موسكو بشأن أوكرانيا، ويتفاقم غضب بكين من دعم الولايات المتحدة لتايوان.
وقال شي للقادة المجتمعين إن الوقت قد حان لإعادة تشكيل النظام الدولي و”التخلي عن المعادلات الصفرية والسياسات القائمة على تشكيل كتل”، مضيفا أنه يتعيّن على قادة العالم “العمل معا لدعم تنمية النظام الدولي في اتجاه أكثر إنصافا وعقلانية”.
أما الرئيس التركي فقال إن منظمة شنغهاي للتعاون تمثل نافذة لبلاده على آسيا، مضيفا “بصفتنا شريكا محاورا منذ 10 أعوام في منظمة شنغهاي للتعاون ، وقد باتت هذه المنظمة واحدة من نوافذنا المفتوحة على آسيا”. وأفاد أن هدف بلاده تأسيس حزام سلام، في منطقتها وخارجها، عبر نهج دبلوماسي مبادر يعطي أولوية للإنسان وقيمه.
ونوه إلى أن موقع تركيا كجسر بين الشرق والغرب يوفر إمكانات فريدة، معربا عن استعداد بلاده للتعاون في كافة المجالات، ومنها الأمن والاقتصاد والطاقة والنقل والزراعة والسياحة.
وقال رئيس أوزبكستان، شوكت ميرضيائيف، إن «الإمارات والبحرين والكويت وجزر المالديف وميانمار» ستُمنح وضع شريك حوار فى المنظمة، بعدما تم اختيار كل من مصر وقطر كشركاء للمنظمة، مضيفًا أنه بفضل الالتزام الراسخ بمبادئ الانفتاح وعدم الانحياز، تتم تقوية العلاقات ذات المنفعة المتبادلة بين الدول الأعضاء فى المنظمة، والتعاون الدولى يتطور بنجاح وتتوسع العضوية.
تلك التصريحات، تكشف خارطة طريق المنظمة الاقليمية، الساعية نحو تحقيق استقلالية اقتصادية وتجارية وسياسية عن الغرب، عبر توثيق التعاون المشترك بين بلدانها، وتاقامة علاقات مشتركة تتحدى العقوبات الغربية ، على روسيا وعلى ايران..
كما تتجه المنظمة لتوسيع دورها على صعيد الشرق الاوسط، عبر ضم العديد من دول المنطقة للمنظمة ، سواء بصفة مراقب او شركاء حوار، وهو ما قد يمثل مخرج لكثير من الضغوطات الغربية على السياسات العربية والشرق اوسطية…
وأيضا سترفع “نغهاي” سلاح التجارة لتقريب المصالح والمواقف بين دول المنظمة، ولكن المخاوف تتزاحم حول مصير الاشكاليات والقضايا المتعلقة بالاقليات، حيث ستصنف اية تحركات لنيل حقوق الفئات المهمشة في تلك الدول، على أنه ارهاب، بعدما ساوت بين المطالب بالاستقلال وتحقيق مصالح العرقيات والمشتضعفين بأنها أعمال ارهاب.
-غياب القضايا العربية وضعف التأثير العربي:
وعلى الرغم من مشاركة كلا من مصر وقطر والإمارات بالقمة، كشركاء حوار، إلا أن القضايا العربية غابت عن اهتمامات القمة والمشاركين بها، اذ لم تستطع الدول العربية ومنظماتها الدولية خلق تأثير فاعل على المستوى الدولي والاقليمي، لتظل المنطقة تابعة لأجندات خارجية، تجعل العرب مجرد مفعول بهم فقط، دون تأثير على المنظومة الدولية، ساعد على ذلك تغول الأدوار الأمريكية والغربية في مفاصل المنطقة، مع تصاعد الانزلاق نحو الحظيرة الأمريكية الصهيونية بالمنطقة، ما حد من قدرة الدول العربية على الحراك الاقليمي والدولي، وأن تكون لهم فاعلية سياسية أو مواقف أو قدرات تأثير جاذبة تسعى اليهم التكتلات الاقليمية.. فغابت قضية فلسطين وأزمات العراق السياسية والتشظي الليبي وعدم الاستقرار المصري اقتصاديا وسياسيا، وأزمات الشعوب العربية في تونس وليبيا والسودان عن الأجندة الاقليمية، كما لم يفلح المسئولون المصريون في لقاء الرئيس التركي أردوغان، صاحب الحضور الدولي الكبير والمؤثر دوليا واقليميا، بعد توسطه في حلحلة أزمة الحبوب العالمية عبر اتفاق التصدير للحبوب الاوكرانية عبر البحر الأسود..
كما لم يعقد اجتماعا ثلاثيا كان متوققعا بين الرؤوساء الروسي والتركي والسوري
ثانيا: دلالات وأبعاد استراتيجية لقمة شنغهاي:
-مواجهة الآحادية القطبية:
وتمثل قمة “سمرقند” محاولة إقليمية، تبدو أشبه بجبهة ضد الغرب، في أوج توتر حاد تفاقمه الحرب في أوكرانيا. وعلى الرغم من أن انشاء منظمة شنغهاي للتعاون – عام 2001 لتكون أداة للتعاون السياسي والاقتصادي والأمني ، الا أنها تستهدف منافِسة المنظمات الغربية.
إلا أنها ليست تحالفا عسكريا مثل حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ولا منظمة للتكامل السياسي مثل الاتحاد الأوروبي، لكن أعضاءها يعملون معا لمواجهة تحديات أمنية مشتركة وتعزيز التجارة.
ومما يزيد من فرص تفعيل دور المنظمة، كمنظمة وازنة دوليا، كونها تضم بلداناً “ذات تقاليد ثقافية وحضارية مختلفة، ومبادئ توجيهية مختلفة للسياسة الخارجية، ونماذج مختلفة للتنمية الوطنية. ومع ذلك، فإن العمل داخل هذه المنظمة يسير بشكل متناغم، نحو تحقيق المنفعة المتبادلة، واحترام السيادة، ورفض التدخل في الشؤون الداخلية، وهو ما سمح في فترة قصيرة نسبياً بتحويل منظمة شنغهاي للتعاون إلى آلية فعالة ومؤثرة للتعاون متعدد الأطرا
وقد سعى المشاركون بالقمة الأخيرة في سمرقند، لدراسة سبل تقوية التحالفات على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وجرت مناقشات عديدة لم يفصح عن كواليسها، لتحقيق مصالح الأقطاب الاقليمية. وبدا واضحا التقارب الروسي الصيني، خلال لقاء الرئيسين، وكان قد عقد آخر اجتماع بين بوتين وشي في فبراير الماضي، عندما زار الرئيس الروسي بكين لحضور دورة الألعاب الأولمبية الشتوية، وذلك قبل أيام من بدء هجوم موسكو على أوكرانيا. ومن دون دعم صريح للتدخل العسكري الروسي، عبّرت بكين مرات عدة في الأشهر الأخيرة عن تأييدها لموسكو المعزولة في الغرب.
من جانبها، وصفت موسكو زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان أغسطس الماضي بأنها “استفزاز”. والشهر الماضي، شاركت الصين في مناورات عسكرية مشتركة في روسيا، قبل أن توافق على تسوية عقود الغاز مع موسكو بالروبل واليوان، وليس بالعملات الغربية.ولعل سعى المنظمة لتوسيع عضويتها في انحاء متفرقة من العالم، بمثابة نهج استراتيجي جاد لخلق تحالفات مناوئة أو وازنة للمنظمات الدولية التي تسيطر عليها أوربا وأمريكا.
-مزيد من الاستقطابات الدولية:
ومع تفاعل نظرية الدومينو، بالعلاقات الدولية، تشهد العديد من دول العالم، منذ الحرب الروسية على أوكرانيا، توترات عدة، حيث امتدت نيران المدافع والصواريخ من أوكرانيا إلى حدود أرمينيا (ذات الأغلبية الأرثوذكسية) وأذربيجان (ذات الأغلبية الشيعية)، وكذلك إلى طاجيكستان وقرغيزستان، والأغلبية الدينية فيهما للمسلمين السنّة.
كما أن الدولتين حليفتان لروسيا التي تمتلك قواعد عسكرية فيهما، وهما أيضا عضوان في “منظمة شنغهاي” ، وكان رئيساهما، القرغيزي صادر جباروف، والطاجيكي إمام علي رحمن، حاضرين في تلك القمة أثناء اندلاع النزاع!
ومن جملة الاستقطابات الدولية المتصاعدة، أيضا، يندرج توقيع إيران، مذكرة التزامات للانضمام إلى منظمة شنغهاي، وهو ما يؤهلها للحصول على العضوية الدائمة داخل ذلك الكيان الأمني الآسيوي الذي تهيمن عليه روسيا والصين، بحيث تشكّل الدول الثلاث، محورا ثلاثيا ضمن الكيان الأمني..
وهذا الكيان يدخل في دائرة الاستقطابات الدولية المستعرة، اذ تجمعه عناصر عديدة منها مواجهة العقوبات الأمريكية الغربية على أعضائه، والصدع المتزايد الاتساع على خلفية اجتياح روسيا لأوكرانيا، وتسليح الغرب للأخيرة، والنزاع المستمر مع طهران حول مشروعها النووي، والتوتّر المتصاعد بين الصين وتايوان، الذي ازداد التهابا بعد زيارة نانسي بيلوسي، المتحدثة باسم مجلس النواب الأمريكي، والمناورات العسكرية المتواصلة لبكين حول الجزيرة.
لم تقتصر التداعيات العالمية على بوادر نشوء محور الاستقطاب الكبير الذي يشكّله تقارب الصين وروسيا وإيران، واندلاع المعارك الجانبية في بلدان كانت ضمن الاتحاد السوفياتي السابق، إضافة إلى تجدد النزاع الأذربيجاني الأرمني، بل امتدّت طبعا إلى الصدع الآسيوي الأوروبي، مع التوتّر الكبير بين تركيا، التي هي عضو في “حلف الناتو” و”منظمة شنغهاي” معا، واليونان، على خلفيّة محاباة أمريكا للأخيرة، بالسماح بتزويدها بطائرات إف 16 ومنعها على تركيا، وبدعم الاتحاد الأوروبي لها في ملفات عديدة، منها عسكرتها المتزايدة للجزر القريبة من تركيا.
وتأتي قمة سمرقند أيضا، لتصب النار على زيت الاستقطاب الدولي بين أوروبا وآسيا، وهو ما تمثله الأزمة بين أوروبا وهنغاريا، التي تقاربت مع روسيا، وصولا إلى اتجاه الاتحاد الأوروبي، مؤخرا، لوقف المنحة المالية لهنغاريا بسبب الفساد.وهناك أيضا الخوف القائم من اشتعال الأوضاع في البلقان، على خلفية الميل السياسي للصرب إلى روسيا، وتعرّض ألبانيا إلى عملية قرصنة إلكترونية كبيرة، اتهمت بها طهران.
ويتطوّر المشهد العالمي في اتجاه استقطاب أكبر، ستكون الصين وروسيا وإيران (وكوريا الشمالية، التي أعلنت صراحة عن كونها دولة نووية، وأقرّت استخدام السلاح النووي في مواجهة الخطر الذي يتهددها) قلب الهجوم فيه، فيما تحاول أمريكا، الممتدة على محيطين، وتسيطر على بحار العالم، وحلفاؤها الأوروبيون، واليابان وأستراليا، الحفاظ على المنظومة العالمية الحالية، ومنع تطوّر النزاعات التقليدية إلى نووية..تلك المؤشرات تؤكد أن النزاعات العالمية تزداد خطورة، وأن الاتجاه نحو استقطاب أشد، بين «المحور» الجديد و«الحلفاء» القدماء يفتح كل الاحتمالات على مصاريعها.
ثالثا: تحديات أمام منظمة شنغهاي:
-نزاعات طاجيكستان وقيرغيزستان:
ومن جملة التحديات التي تواجه دور المنظمة في تشكيل حلف موحد سياسيا وعسكريا، الخلافات البينية بين بعض دول المنظمة، كما بين الهند والصين، وبين قيرغيزستان وطاجيكستان، حيث اندلعت خلال أعمال قمة سمرقند، اشتباكات على الحدود بين البلدين، وقال المتحدث للمكتب الصحفى للجنة القيرغيزية للأمن القومى، إن اشتباكات عنيفة جرت بين القوات القيرغيزية والطاجيكية فى مقاطعتين على الحدود مع طاجيكستان. وشدد على أن وحدات خدمة الحدود التابعة للجنة الدولة للأمن القومى فى قيرغيزستان والمتمركزة فى منطقة باتكين لديها ما يكفى من القوات والوسائل للقيام بعمليات قتالية وصد عدوان الجانب الطاجيكى.
وأعلن الجانب الطاجيكى أن أحد قوات حرس الحدود فى طاجيكستان قتل وأصيب 3 بجروح خلال قصف من إقليم قيرغيزستان.
وهو صراع محدود قد يتوسع في الفترة المقبلة، ما يقلص من حجم التنسيق والتعاون بين دول المنظمة.
-اختلافات جوهرية بين دول “شنغهاي”:
ومن خلال القراءة الدقيقة للدول الأعضاء وعقائدها السياسية والعسكرية وتوجهاتها، يمكن التأكيد على أن التجمع لا يمكن مقارنته بتحالف حلف شمال الأطلسي “ناتو” (NATO) مثلا، إذ لا تجمعه عقيدة عسكرية موحدة، كما لا يرتبط بتحالفات قوية واضحة، بل إن الخلافات بين بعض أعضائه أكبر من أن تغطى مثل الخلافات العميقة بين الصين والهند إلا أن التجمع يحاول ضمان المصالح المشتركة..
الا أن نتائج قمة سمرقند، قد لا توحي بوجود عالم ثنائي القطبية مقسم بين غرب يوصف بأنه مغرور، وبين مشرق تسيطر عليه أنظمة “دكتاتورية”، اذ أن ججم الخلافات بين دول
شنغهاي” تبدو كبيرة، كما بين الهند والصين، وتركيا وروسيا، ودول وسط آسيا..
-تباينات الرؤى الصينية والروسية حول دور “شنغهاي”:
ووفق تقديرات استراتيجية، فإنه مما يعوق المنظمة ودورها، هو الخلافات العميقة بين الروس والصينيين، والأهداف التي يصبو لتحقيقها كلا منهما، وتصوراتهما حول طبيعة المنظمة، اذ تسعى روسيا لتوسيع دور عسكري للمنظمة اقليميا وعالميا، في مواجهة توسعات حلف الناتو شرقا، والذي كان أحد أسباب الحرب الأوكرانية الدائرة حاليا..بينما ينصب تركيز الصين على تفعيل دورها التجاري والاقتصادي، بما يتماشى مع مشروعاتها الاقتصادية الكبرى..
وقد سعت الصين ، في الذكرى الـ20 لتوقيع ميثاق منظمة شنغهاي للتعاون والذكرى الـ15 لتوقيع معاهدة حسن الجوار والصداقة والتعاون على المدى الطويل بين الدول الأعضاء في المنظمة، نقل العلاقة بين دولها إلى مستوى جديد من التعاون، لتعزيز طموحات بكين الاستراتيجية، والمساهمة في “بناء مجتمع أوثق ذي مصير مشترك لمنظمة شنغهاي للتعاون، ، على حد قول الرئيس الصيني في مقال نُشر أول من أمس الثلاثاء، في صحيفة “ﻛﺎﺯﺧﺴﺘﺎﻧﺴﻜﺎﻳﺎ ﺑﺮﺍﻓﺪﺍ”، وفقاً لما ذكر موقع تلفزيون “سي جي تي أن” الصيني. وتدرك الصين جيداً أنه لا يمكن تحقيق ذلك من دون العمل مع روسيا، لإقامة نظام عالمي “أكثر عدلاً وعقلانية”، على حد قول مسؤول الشؤون الخارجية في الحزب الشيوعي الصيني، يانغ جيشي.
بينما تريد روسيا التركيز على قضايا عسكرية، أما الصين فترغب في الدفع بمشروعها الاقتصادي
ويرغب بوتين في الخروج من خالة العزلة المفروضة عليه دوليا، على خلفية حربها على أوكرانيا، ساعيا لتخفيف تأثير العقوبات الغربية غير المسبوقة، المفروضة عليها منذ 24 فبراير الماضي.
كما يسعى بوتين بممارسة ضغوط على أوربا وأمريكا، عبر تباحثه مع الرئيس التركي اردوغان، حول تعديل مصير اتفاق الحبوب، بذريعة توجه صادرات الحبوب الأوكرانية إلى الدول الغنية عوضاً عن الفقيرة، وعدم حلحلة عقد تصدير الصادرات الروسية ودعم أنقرة لهذا الطرح.
رابعا: مستقبل منظمة شنغهاي بعد قمة “سمرقند”:
من خلال استعراض فعاليات قمة المنظمة الـ22 بسمرقند، وما شهدته من أجواء وتصريحات، يمكننا القول أن المنظمة تسير في اتجاه خلق تحالف ومحور اقليمي مهم، الا أنه لا يرق لمستوى التحالفات والكيانات الدولية المسيطر عليها الغرب، كالاتحاد الأوروبي وحلف الناتو…
ووفق تقديرات استراتيجية، فإن الوصف الأقرب للحقيقة لمنظمة شنغهاي هو أنها “ناد سياسي”، اذ يوجد تباين كبير بين أهداف وغايات روسيا وأهداف الأطراف الأخرى، وفي حين تريد روسيا التركيز على قضايا الأمن والدفاع، فإن الصين ترغب في الدفع بمشروعها الاقتصادي في هذه الدول، ومنها مشروع الحزام والطريق. كما أن قرارات المنظمة غير ملزمة وليست منظمة صلبة، على غرار الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال. ولا تملك المنظمة إطاراً مؤسسياً فعّالاً، ولا يطرح في المدى المنظور إخراجها من طابعها التنسيقي والاستشاري فيما يخص القضايا السياسية والتنمية الاقتصادية.
وينضاف إلى ذلك، تزايد الصراعات المفتوحة بين الدول الأعضاء من بينها الهند والصين، والهند وباكستان على سبيل المثال، وتنشب اشتباكات حدودية بين قرغيزستان وطاجكستان. وتمتد الصراعات إلى الدول المرشحة للانضمام إلى المنظمة، فأذربيجان وأرمينيا ما زالتا في حالة حرب تتفجر بين فترة وأخرى، ولم تتوصلا إلى اتفاق سلام نهائي بعد حرب إقليم ناغورنو كاراباخ في عام 2020.
كما أن بلدان آسيا الوسطى تعاني من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، إضافة إلى كونها ساحة للتنافس بين الصين وروسيا والولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي، والأرجح أن بلدان آسيا الوسطى لا تريد تطوير المنظمة إلى تحالف أقوى، وتريد اقتصاره على التنسيق والاستشارات لأنها تخشى خسارة علاقاتها القوية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان. وفي حين تقرّب الأوضاع في أفغانستان هذه الدول وتزيد تنسيقها في مجال الأمن والدفاع ومحاربة الإرهاب ونقل المخدرات، فإنها تقع جميعاً تحت ضغط الأوضاع المضطربة في أفغانستان.
ويكتسب الاهتمام الروسي في السنوات الأخيرة بتطوير عمل منظمة شنغهاي إلى تحالف أكثر متانة، أهمية إضافية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا والعقوبات الغربية المؤلمة على الاقتصاد الروسي. وتأمل موسكو في تعزيز علاقاتها مع بلدان منظمة شنغهاي وتقوية المنظمة، بما يساهم في تخفيف تأثيرات العقوبات الغربية عليها، ويؤكد أنها ليست معزولة. والأرجح أن روسيا لن تستطيع تشكيل تحالف مناهض للغرب عبر منصة منظمة شنغهاي، وأقصى ما يمكن أن تحصل عليه هو التوصل إلى نموذج جديد للتعاون، مع تطوره إلى نظام اقتصادي بهدف مواجهة الضغوط والعقوبات الغربية، والبدء بعملية شاقة وطويلة لإنهاء التعامل بالدولار وتشجيع التبادل بالعملات المحلية.