البرهان على تراجع شعبية المؤسسة العسكرية المصرية خلال العقد الأخير (2011 ــ 2020)هو نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه مركز “بيو” الأمريكي في الفترة بين 10 إلى 29 أبريل 2014م.
وصدرت نتائجه في 22 مايو في ذات العام، وبعد أقل من سنة على مرور انقلاب 03 يوليو 2013م، حيث كشفت نتائجه عن تراجع حاد في شعبية المؤسسة العسكرية؛ فــ 56% فقط رأوا أن للجيش تأثيرا جيدا في البلاد بينما اعتبر 45% تأثيره سلبيا.
وحتى ندرك حجم التراجع في شعبية المؤسسة العسكرية فإن استطلاع المركز في 2013م، قبيل الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال عبدالفتاح السسي في يوليو 2013م بأسابيع، كشف عن رضا 72% عن تأثير الجيش، بينما رآه 24% سلبيا، وكان استطلاع المركز عقب ثورة 25 يناير قد كشف أن 88% من المصريين عبروا عن رضاهم عن التأثير الإيجابي للجيش مقابل 11% رأوه سلبيا ما يعني أن المؤسسة العسكرية تراجعت شعبيتها من 88% في 2011 إلى 56% فقط في 2014؛ ما يؤكد التراجع الحاد في شعبيتها.[[1]]
وإذا أضفنا عوامل الأجواء القمعية وسيطرة خطاب الكراهية والعنصرية ضد المعارضين في هذه الفترة، ولا سيما الإسلاميين منهم وتأثير ذلك على نتائج الاستطلاع؛ فإن شعبية الجيش قد تكون أقل من النسبة المعلنة بنحو 5 إلى 10 نقاط؛ لأن بعض المشاركين في الاستطلاع، أو كثيرا منهم و أو ربما لم يعبروا عن آرائهم بحرية خوفا من أن يكون الاستطلاع فخا من أجهزة الدكتاتور السيسي للكشف عن المعارضين للانقلاب والتنكيل بهم.
لهذه الأسباب ومنذ 2014 لم يعد مركز بيو أو غيره من مراكز البحث المهنية يقوم باستطلاعات جديدة في مصر؛ لأن نتائجه في ظل نظام عسكري قمعي سيكون مشكوكا فيها على كل حال؛ لأن الناس لم تعد تتمتع بالحرية في التعبير عن الرأي؛ ما يفقد أي استطلاع قيمته العلمية لغياب الأجواء الملائمة والمعايير الصحيحة لإجرائه؛ لتبقى الساحة أمام مراكز البحث الحكومية تمارس التدليس والبهتان لتجميل وجه النظام، والاسترزاق بالدعاية الموجهة له والممولة منه.
أسباب انهيار شعبية الجيش
أولا، على المستوى السياسي تفرض المؤسسة العسكرية نمطا معينا من الحكم (نظام جمهوري دكتاتوري) شرط أن يكون على رأس هذا النظام جنرال برتبة رئيس الدولة.
ولا ضير من إجراء استفتاءات وانتخابات للرئاسة والبرلمان والمحليات، لكنها إجراءات صورية يتم طبخها في غرف الأجهزة، فالمؤسسة العسكرية تحرص على استكمال الشكل الديمقراطي، حتى وإن كانت هذه الديمقراطية مزيفة أو ميتة والمؤسسات الناتجة عنها لا تمت للشعب وإرادته بصلة.
وكشكل من أشكال التشبث بهذا النمط من الحكم وهذه الوصاية المطلقة تتبنى المؤسسة العسكرية «المعادلة الصفرية» في صراعها مع المجتمع، والتي تقوم على مبدأ “إما نحن وإما هم”، وهي معادلة وإن ظهرت تمثلاتها العارية المتوحشة منذ انقلاب 3 يوليو ٢٠١٣ إلا أنها تعود بجذورها إلى بدايات الحكم العسكري لمصر منذ أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وبل ولربما أكثر قبل ذلك بحوالي 150 عاما، وتحديدا منذ تولي محمد علي السلطة في مصر، ذلك أن منطق الدولة المصرية “الحديثة” بالطريقة التي أنشأها بها محمد علي هو في تضاد بنيوي مع المجتمع وقواه وممثليه.[[2]]
وهو منطق يقوم على رفض أي شكل من أشكال التمثيل الشعبي، سواء أكان سياسيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا انطلاقا من كونه يمثل خطرا على الدولة ذاتها، أو بالأحرى على مصالح من يحكمونها ويسيطرون عليها.
معنى هذا وفقا لهذا التفسير، فإن إحدى المهام الأساسية لهذه الدولة “العسكرية” هي تفكيك أي تكوينات أو تنظيمات أو حركات قد تمثل قطاعات شعبية معينة، ويتحول الأمر إلى حرب شاملة أمنية واقتصادية واجتماعية إذا تجرأت أي من هذه القوى ودخلت المجال السياسي منافسا للجيش الذي تحول إلى حزب سياسي يحتكر كل شيء في البلاد.
فالدولة المصرية على النحو الذي كرسه محمد علي في بدايات القرن التاسع عشر، تكره التمثيل الشعبي، وتعتبره خطرا وجوديا عليها وعلى مصالح حكامها ومن يدور في فلكهم من الحاشية وحواشيهم، وأنها إذا سمحت به يجب أن يكون ذلك ضمن شروط معينة وتحت سقف محدد بحيث يصبح تجاوزه ولو دون قصد، كأنه إعلان حرب على الدولة يحتم عليها خوضها وكسبها وكسر عظام من تجرأ على كسر هذه المعادلة، ليس انتقاما منه فحسب، وإنما ردع لكل من يفكر في تقليده.
لهذه الأسباب لا يتوقف إعلام السيسي ونظامه عن تشويه الثورة وشيطنة من قاموا بها، والتخويف من تكرارها، فثورة يناير كانت محاولة جريئة لكسر المعادلة الصفرية بين الدولة والمجتمع الذي حاول من خلال قواه الحية وشرائحه الفاعلة انتزاع حق الوجود والتمثيل من الدولة المصرية.
كذلك، لا يمكن فهم منطق التنكيل والإذلال المتعمد الذي تمارسه الدولة بكافة أجهزتها ومؤسساتها وشخوصها ضد آلاف المعتقلين السياسيين -خاصة الشباب- إلا ضمن هذا السياق، فالدولة تحاول قتل ووأد أي تفكير جريء في تكرار الخروج عليها مرة أخرى، خاصة من جيل الشباب.[[3]]
ثانيا، تفرض المؤسسة العسكرية نمطا علمانيا على الشعب ومؤسسات الدولة في الوقت الذي تعمل فيه على تهميش الهوية الإسلامية والحد من انتشارها من خلال التضييق المستمر والمتواصل على الحركات والشخصيات التي تدعو إلى الإسلام إلا إذا كانت جزءا من الشبكة التي ترعاها المؤسسة العسكرية من خلال تفصيل إسلام على مقاس السلطة يخدم أجندتها ولا يعارضها في شيء تتولى المؤسسة الدينية الرسمية تسويق هذا الإسلام التفصيل؛ فتم ابتداع نظام كهنوتي في الإسلام على غرار الكنيسة في المسيحية لحماية وحراسة هذا الإسلام الرسمي الذي تباركه النظم وتعمل على نشره والترويج له.
ودوره هو الخضوع لإرادة السلطة عبر المؤسسة الدينية الرسمية التي يقف دورها عند حدود إضفاء البركة والشرعية على سياسات ومواقف النظم حتى لو خالفت مبادئ الإسلام وأحكامه. وقد عبر السيسي عن ذلك صراحة في أول حوار بعد الانقلاب في يوليو 2013م مع صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية موضحا أن الإطاحة بمرسي تمت لأنه يتبنى إيديولوجيا عابرة للقارات تعتمد على استعادة الإمبراطورية الإسلامية.
وهو مالم يجعله رئيسا لكل المصريين. وأن ولاء الإخوان للإسلام أكثر من ولائهم لمصر![[4]]
وهي التصريحات التي تحمل كثيرا من المغالطات؛ فهل الولاء للإسلام يتناقض مع الولاء للوطن؟ وإذا تم انتخاب رئيس بمرجعية علمانية فهل سيكون رئيسا لكل المصريين في هذه الحالة أم ممثلا لأصحاب المرجعية العلمانية فقط؟ لكن المؤكد أن الرئيس صاحب المرجعية العلمانية سيحظى برضا المؤسسة العسكرية التي تتبنى العلمانية وتفرضها بالإكراه على المصريين جميعا. فهذه هي الرسالة المباشرة والمفهومة من تصريحات السيسي.
ثالثا، كذلك تفرض المؤسسة العسكرية معادلة للعلاقات الدولية والإقليمية تجعل من مصر على الدوام تدور في فلك السياسة الأمريكية الغربية، حتى تحولت المؤسسة العسكرية المصرية فعليا إلى حارس لهذه المصالح وحام لها؛ ولعل أبرز مثال على ذلك هو التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي والعمل على دمجه في المنطقة ضمن مخططات الشرق الأوسط الكبير.
فالجيش يعطي لديمومة علاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية والاحتلال الإسرائيلي أولوية مطلقة على تأسيس علاقة ثقة متبادلة وقوية مع الشعب المصري، حتى بات كبار القادة بالمؤسسة العسكرية يرون في تطوير العلاقة مع “إسرائيل” وتعزيز التحالف معها في جميع الملفات السياسية والاقتصادية، وحماية المصالح الأمريكية في مصر والمنطقة بات من ثوابت الأمن القومي المصري؛
وبالتالي فإن تصورات السيسي وغيره من كبار الجنرالات تقوم على اعتبار أن أي تحولات سياسية أو اجتماعية تحدث في مصر تفضي إلى زعزعة هذه العلاقة وتلك المعادلة، أو تضعفها، هي في حد ذاتها تمثل تهديدا للأمن القومي المصري؛ وعليه فإن السيسي وكبار الجنرالات تعاملوا مع ثورة يناير وإقامة نظام ديمقراطي في مصر باعتباره تهديدا بالغ الخطورة على الأمن القومي المصري؛ بمقدار ما يهدد العلاقة مع إسرائيل وأمريكا.
ولعل هذا سر التحذير المستمر من السيسي من فكرة الثورة والعمل على شيطنتها باستمرار وتحميلها أوزار فشله المستمر.
رابعا، تفرض المؤسسة العسكرية عبر مندوبها في رئاسة الجمهورية تصوراتها عن السياسات المالية والاقتصادية؛ وتتبنى سياسات رأسمالية بالغة الخطورة على معظم فئات الشعب المصري؛ كالاتفاق مع صندوق النقد الدولي، والاعتماد على القروض في إدارة الدولة حتى أوشكت على الإفلاس، والانحياز لرجال الأعمال مع الحد المستمر من مخصصات الدعم التي تستفيد منه الطبقات الفقيرة من محدودي الدخل.
وخلال العقود الماضية كونت المؤسسة العسكرية إمبراطورية اقتصادية مترامية الأطراف؛ وعندما شرع الرئيس الأسبق محمد أنور السادات في الاعتراف بالكيان الصهيوني وإقراره على ما اغتصبه من أراضي العرب المحتلة في فلسطين بدعوى التسوية السلمية للصراع، أصدر سنة 1977 قرارا جمهوريا منح بمقتضاه حق امتياز إدارة جميع الأراضي غير الزراعية وغير المستثمرة للجيش، وهو القرار الذي جعل المؤسسة العسكرية أكبر قيِّم على الأراضي المصرية، وذكرت تقديرات أنها تصل إلى 87% من مساحة البلاد.[[5]]
بينما يقدرها آخرون بأكثر من ذلك. لذلك كان انقلاب 03 يوليو في بعض أسبابه مدفوعا بحماية بيزنس المؤسسة العسكرية سواء فيما يتعلق بسرية موازنة الجيش التي تكتب رقما واحدا في الموازنة العامة للدولة دون أي مراقبة من أي جهة، أو بالنسبة لشركات الجيش ومشروعاته والتي تقدر بين (40 إلى 60%) من جملة الاقتصاد المصري، وهي المشروعات التي تجاوزت حدود الاقتصاد الموجه لخدمة وحدات الجيش في أوقات السلم والحرب والتي لا اعتراض عليها مطلقا ما دامت تعزز من قدرة المؤسسة العسكرية على توفير احتياجاتها، لكن المشكلة أن اقتصاد الجيش تحول إلى إمبراطورية مترامية الأطراف وتحولت إلى أكبر محتكر في كثير من قطاعات الاقتصاد المدنية وامتدت بنفوذها إلى السيطرة المطلقة على معظم أوجه النشاط التجاري والاقتصادي.
وقد رأى الجنرالات أن الثورة والمسار الديمقراطي يمثلان تهديدا مباشرا لهذه الإمبراطورية، وقد أكد اللواء محمود نصر، مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية، في مؤتمر صحفي عقد يوم 27 مارس 2012م، عن هذه المخاوف مشددا بعبارات تهديد «أموال الجيش ليست من أموال الدولة ولن نسمح للدولة بالتدخل فيها؛ لأنها ستخربها وسنقاتل دفاعاً عن مشروعاتنا، وهذه معركة لن نتركها، والعرق الذي ظللنا 30 سنة لن نتركه لأحد آخر يدمره، ولن نسمح لغيرنا أياً كان بالاقتراب من مشروعات القوات المسلحة».
هذه التصريحات تؤكد أن الجيش يتعامل بمنطقة الفوقية وأنه مؤسسة فوق جميع مؤسسات الدولة بل فوق الدولة ذاتها أو بمعنى آخر أكثر وضوحا فإن الجيش يرى نفسه الدولة. وعندما أراد الجيش ضمان هذه الوضعية الفوقية وحماية إمبراطوريته الاقتصادية، خلال المرحلة الانتقالية بعد ثورة يناير، تبنى من وراء ستار وثيقة الدكتور علي السلمي التي أسقطها الشعب في أكتوبر 2011م.
حتى جاء الانقلاب العسكري ليجعل الدولة كلها تحت خدمة الجيش، لا سيما وأن رفض الإخوان لوثيقة السلمي كان حاسما في إسقاطها اتساقا مع المعايير الصحيحة لمفهوم الدولة من جهة واتساقا مع رغبة الشعب في تأسيس نظام حكم رشيد يخضع لسيادة الأمة ومؤسساتها المنتخبة في كل شيء من جهة ثانية. ولم ينس الجيش ذلك فعاد بعد الانقلاب لينتقم من الإخوان شر انتقام.
خامسا، أسهم في تآكل شعبية المؤسسة العسكرية الفشل المستمر في إدارة موارد الدولة على نحو صحيح؛ فنظام السيسي هو نظام الجيش، وجاء بانقلاب الجيش، والمؤسسة العسكرية هي التي تحميه وتدعمه، ولولا هذا الدعم لسقط منذ زمن طويل، وبالتالي فإن المؤسسة العسكرية تتحمل أوزار هذا النظام وأوزار فشله لا سيما وأنه وعد الناس بالسمن والعسل (بكرة تشوفوا مصر)، فلم يحصدوا سوى الفقر والجوع، ووعد ببناء جمهورية جديدة؛ فأسقط البلاد في ديون كالجبال، بخلاف تكريس البطش والقمع الأمني كسياسة ثابتة للنظام الذي ارتكب مئات المذابح، ومزق النسيج الوطني، وفرط ــ بدعم من الجيش ــ في تراب مصر الوطني (تيران وصنافير)، وشرعن عملية بناء سد النهضة (أكبر تهديد للأمن القومي) بالتوقيع على اتفاق المبادئ بالخرطوم في مارس 2015م، فضلا عن إهدار آلاف المليارات على مشروعات بلا أي جدوى اقتصادية (تفريعة قناة السويس ــ العاصمة الإدارية ــ العلمين الجديدة وغيرها).
ورغم الأموال الطائلة التي دخلت مصر في عهد السيسي (مساعدات خليجية ـ قروض ضخمة) إلا أن ذلك لم ينعكس مطلقا على تحسين مستويات المعيشة بل تراجعت بفعل تبني سياسات صندوق النقد الدولي، حتى هبط عشرات الملايين من المصريين تحت خط الفقر؛ فوصل عدد الفقراء وفق تقديرات البنك الدولي في 2019م نحو 60%، ومع تداعيات تفشي جائحة كورونا، والغزو الروسي لأوكرانيا وشح الدولار وجنونه حتى لامس عشرين جنيها لأول مرة في تاريخ مصر؛ فكم يبلع عدد الفقراء في مصر حاليا بعد كل هذ الكوارث؟! وبالتالي فإن الانهيار المتوقع لمصر خلال الشهور والسنوات المقبلة ستكون المؤسسة العسكرية وحدها هي المسئولة عن هذا الانهيار الكبير أمام الله والشعب والتاريخ.
سادسا، تبقى عوامل التنشئة شديدة التأثير في الفلسفة التي تتبناها المؤسسة العسكرية المصرية في عقيدتها السياسية والعسكرية والقتالية؛ فالجيش الفرعوني القديم كان يمارس أبشع صور الظلم والانتهاكات حتى استحق عن جدارة أن يدمره الله بيده في معجزة تتلى في القرآن إلى يوم القيامة، كما وثقها الكتاب المقدس على نحو مشين للفرعونية.
ولم تقم لهذا الجيش قائمة إلا مع تولى محمد علي باشا حكم مصر (1805 ـ 1849)، والذي يعتبر مؤسس الجيش المصري الحديث؛ فعندما أراد الوالي أن يبني مصر على النمط الغربي الحديث ليبني إمبراطورية واسعة ممتدة الأطراف، أنشأ الجيش سنة 1815؛ ليكون يده الطولى في تكوين هذه الأمبراطورية.
حتى تمكن من إقامة دولة قوية بمفهومها المادي، ولكنها فقيرة بمفهومها الحضاري والإنساني والفكري والأخلاقي.
والفارق الجوهريَّ بين مشروع محمد علي التحديثي ومثيله الغربي يكمن في أن النموذج الغربي تأسس ليُساير الانتقال من الزراعة للصناعة من أجل حسن إدارة الدولة وتحسين رفاهية مواطنيها، في حين تأسست الدولة المصرية الحديثة بدافع طموح عسكري للباشا، في سياق صراعه على النفوذ والسلطة.
معنى ذلك أن الدولة الغربية الحديثة تمحورت في نشأتها حول المواطن وسخرت كل إمكانياتها من أجل الشعب وإسعاده وتحقيق الرفاهية له، بينما تمحورت الدولة المصرية الحديثة حول الجيش الذي كونه الحاكم كأداة يوظفه من أجل تكريس حكمه وتوسيع مملكته وقهر شعبه من أجل فرض تصوراته التحديثية التي ارتبطت بالنمط الغربي في شقيه المادي والفكري.
وقد تولى الإشراف على تأسيس هذا الجيش المصري النظامي «چوزيف انتيلمى سيف Joseph Anthelme Sève» وهو ضابط فرنسي كان من جنود نابليون في غزوه لمصر وحروبه بأوروبا، ومع غروب إمبراطورية نابليون الفرنسية جرى تسريح آلاف الضباط والجنود، بعد تسريحه عرض جوزيف خدماته على الباشا محمد علي بتوصية من الكونت الفرنسي دي ساجور، الذي كان حينها ياورًا عند الإمبراطور الفرنسي.
«الضابط جوزيف هو من عُرف لاحقاً باسم «سليمان باشا الفرنساوي» بعدما أعلن إسلامه، لكن بلده الأصلي في ليون الفرنسية مسقط رأسه لا تزال تحتفظ بتمثال لجوزيف الفرنساوي الذي أسس الجيش المصري الحديث»[[6]]؛
فمنذ متى يحظى من يتركون النصرانية ويدخلون في الإسلام بتقدير بلادهم الأصلية؟!، الأمر الذي يثير كثيرا من الشكوك حول سيرة الرجل وما دفع به إلى مصر للقيام بهذه المهمة وتشكيل جيش مصر على النمط الغربي العلماني القائم على القهر والإذلال.
كلمة التاريخ
من التجارب التاريخية الجديرة بالبحث والتأمل، أن المصريين وقبل تكوين الجيش الوطني الحديث على النمط الغربي في عهد محمد علي باشا، تمكنوا من هزيمة الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت (1798 ـ 1801)، وأشعلوا الأرض نارا تحت أقدام الغزاة المحتلين رغم الفارق الهائل في القدرات والتسليح. تكرر الأمر بعد سنوات قليلة؛ فثاروا على الوالي التركي خورشيد باشا، الذي اشتهر بالفساد والفسوق، فأمضى السلطان العثماني إرادة المصريين وخلع خورشيد سنة 1805م.
وفي 1807م، جاءت حملة إنجليزية بقيادة الجنرال فريزر؛ ولم يكن لمصر جيش وقتها بل كانت حامية بسيطة كانت مشغولة في هذا التوقيت ببعض الأمور في جنوب البلاد؛ لكن الشعب ألحق هزيمة مرة بالإنجليز كما فعل من قبل مع الفرنسيين، وتمكن أهالي رشيد وما حولها من المجاهدين من علماء الأزهر الشريف والتجار والأشراف من أسر عدد كبير من ضباط وجنود الحملة حتى أجبروها على الرحيل.
بدأ الباشا محمد علي يفرض سلطته بالحديد والنار؛ فدبر مذبحة القلعة 1811 للمماليك، ثم همش دور الأزهر ونفي الشريف السيد عمر مكرم، ثم كون الجيش في 2015م، فكان أول من أطلق الجيش رصاصه عليهم هم الفلاحون المصريون؛ فقتل الآلاف وانتزع عشرات الآلاف من حقولهم للخدمة في التجنيد الإجباري، وأسس حكما عسكريا جبريا استعان فيه بالنمط الغربي في التحديث والإدارة وخلا من الديمقراطية واحترام الشعب. وجاء أولاده من بعد وأمضوا هذا النمط الدكتاتوري في الحكم والإدارة.
وفي 1882م، جاء الإنجليز ليحتلوا مصر فلم يجدوا شعبا يقاومهم؛ بعدما فشل الجيش بقيادة أحمد عرابي في حماية مصر ضد الغزاة المحتلين؛ وحكم الإنجليز مصر نحو أربعين سنة والشعب في قمة الخنوع والإذعان حتى اندلعت ثورة 1919م. ثم رحلوا باتفاق الجلاء في يونيو 1956م.
فأين الشعب الذي هزم نابليون وأسر ضباط فريزر وجنوده؟ أين الشعب الذي هزم الغزاة وخلع الطغاة؟ لماذا فقد كرامته وعزته على هذا النحو المؤلم؟ ومن المسئول عن ذلك؟ وهل يمكن أن يؤدي الظلم والبطش والاستبداد في الحكم إلى قتل الولاء والانتماء إلى هذا الحد المخيف؟ ولماذا لم يعرف للجيش المصري أي مقاومة تذكر ضد الاحتلال الإنجليزي باستثناء موقف عرابي في معركتي كفر الدوار والتل الكبير وهزم في كلتيهما؟ ولماذا قبل ضباط الجيش المصريين الخدمة في ظل حكومة احتلال أجنبي على مدار 74 سنة من الاحتلال؟! فالحكم العسكري كفيل بتدمير أي معنى للولاء والانتماء؛ فهو بظلمه وطغيانه يخلق شعبا يائسا محبطا لا يتصدى لطغاة ولا يقاوم غزاة.
خلاصة الأمر، أحد أهم المخرجات المترتبة على مرحلة الربيع العربي في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين (2011 ـ 2020) هو تغير الصورة النمطية عن الجيوش العربية؛ فقد تسببت الاحتجاجات الشعبية المناهضة لنظم الاستبداد العربي تحت شعارات (الخبز ــ الحرية ـ الكرامة الإنسانية) في إلقاء الثقة بالجيوش في صناديق القمامة؛ فقد برهنت التجربة أن الجيوش العربية ليست جيوشا بالمعنى السياسي والقانوني وحتى المهنى بوصفها أداة الأمة لحماية أمنها القومي ضد أي عدوان.
بل هي مجرد مليشيات مسلحة ولاؤها الأول والأخير ليس للوطن والشعوب، إنما للحاكم المستبد ( غالبا يكون جنرالا غير منتخب بإرادة الشعب الحرة)، أو للمؤسسة العسكرية نفسها ومصالحها الخاصة بعدما فرضت وصايتها على الأمة، وتحولت إلى حزب سياسي مسلح.
وصاية الجيش على مصر تمتد من السيطرة على الأرض إلى السيطرة على ما فوق الأرض، فمصر تعيش منذ سبعة عقود تحت حكمٍ أقرب إلى ملكية عسكرية، مع استثناء وحيد، أنّ توارث السلطة وتوريثها لا يحصل داخل عائلة واحدة من خلال رابطة الدم، بل من خلال رابطة مهنية ومصلحية وقبائلية (بالمعنى السياسي) بين كبار قادة المؤسسة العسكرية.
وكما أنّ “المخزن” في المغرب مصدر السيادة والسلطة والشرعية، فإنّ الجيش في مصر مصدر السيادة والسلطة والشرعية، وليس الشعب أو الأمة المصرية. فمن بديهيات الحكم العسكري ألّا توجد انتخابات حرّة ونزيهة، ولا برلمان ممثل لإرادة الشعب والأمة، ولا استقلال حقيقي لمؤسسات الدولة عن الحاكم العسكري.
وبالتالي، لا توجد نخبة سياسية بالمعني الحقيقي، فالجميع من أحزاب وتيارات وقوى سياسية يدور في فلك السلطة العسكرية.
وحتى المسافة التي حاول كل من السادات ومبارك وضعها بين الرئاسة والمؤسسة العسكرية من خلال آليات التحييد والزبائنية وشراء الولاء ومنح المزايا الاقتصادية والمالية والاجتماعية، كانت دوماً مسافة تكتيكية وليست استراتيجية.
والضباط وكبار القادة في المؤسسة العسكرية على قناعةٍ بأنّهم أهل الحكم وأصحاب السلطة، ومالكو الأرض ومن عليها، ولا يمكن خروجهم أو إخراجهم من السلطة مهما كان الثمن. وبات الأمر كما لو كان عقيدةً سياسية، وحالةً نفسيةً مستقرّة وثابتة، يجري توريثها من جيل إلى آخر.[[7]]
هناك أسباب متعددة لتفسير أسباب تآكل شعبية المؤسسة العسكرية في مصر؛ بعضها يعود إلى انكشاف حقيقة الدور الذي تقوم به المؤسسة العسكرية؛ حيث تفرض وصايتها على الأمة بأدوات العنف والقمع والإرهاب؛ فهي الحاكم الفعلي للبلاد، وهي التي تهيمن على مفاصل الدولة السياسية والاقتصادية، وهي من تخضع الشعب وباقي مؤسسات الدولة لإرادتها بما تملكه من قدرة ونفوذ باعتبارها المؤسسة التي تملك شرعية حمل السلاح واستخدامه.
بمعنى أخر أكثر وضوحا، فإن فترة الثورة والانقلاب كشفت عن تحول رهيب في دور المؤسسة العسكرية التي تحولت من مؤسسة وطنية تعبر عن الإجماع الوطني إلى حزب سياسي مسلح يوظفه كبار قادة هذه المؤسسة لرغباتهم ومصالحهم الخاصة ومصالح بعض رعاتهم في الخارج.
يرى آخرون أن ما جرى خلال هذه الفترة ليس تحولا في العقيدة السياسية والعسكرية للمؤسسة العسكرية بل هو انكشاف لحقيقة هذا العقيدة التي كانت المؤسسة العسكرية تمارسها فعلا منذ انقلاب 23 يوليو 1952م؛ ثم مارستها من وراء ستار في عهدي السادات ومبارك؛ بمعنى أكثير وضوحا، أن ما ظهر من طغيان واستبداد من جانب المؤسسة العسكرية خلال مرحلة ثورة يناير 2011 ثم الانقلاب عليها في صيف 2013م، وإجهاض المسار الديمقراطي لم يكن تحولا وقتيا كرد فعل على الثورة التي هددت مصالح المؤسسة العسكرية على نحو كبير، بل كان انكشافا لحقيقة الدور الذي تمارسه المؤسسة العسكرية بالفعل منذ عقود.
تآكل شعبية المؤسسة العسكرية هو نتيجة حتمية لفرض وصايتها على الأمة واستئثارها بالسلطة والثروة، وتبنيها نظام حكم دكتاتوري يسقط الشعب تماما من حساباتها؛ فتحولت من جيش الأمة إلى حزب سياسي مسلح يحكم البلاد بالحديد والنار؛ وتتعامل مع المجتمع بمنطق “المعادلة الصفرية»؛ حيث ينظر الجنرالات إلى مصر بوصفها إقطاعية عسكرية يحكمها الجنرالات جيلا بعد جيل، وليس للشعب سوى الخضوع والإذعان وإلا فالبطش مصيره والسجن أو القتل مثواه.
وقد لخص المفكر والمؤرخ الكبير جمال حمدان، قبل 7 عقود هذه العلاقة بين الحاكم والمحكوم في مصر بهذه الفقرة البليغة لغة ومضمونا: “وهكذا بقدر ما كانت مصر تقليديا، من البداية إلى النهاية، شعبا غير محارب في الخارج، كانت مجتمعا مدنيا يحكمه العسكريون كأمر عادي في الداخل، وبالتالي كانت وظيفة الجيش الحكم أكثر من الحرب، ووظيفة الشعب التبعية أكثر من الحكم، وفي ظل هذا الوضع الشاذ المقلوب، كثيرا ما كان الحكم الغاصب يحل مشكلة الأخطار الخارجية والغزو بالحل السياسي، وأخطار الحكم الداخلية بالحل العسكري؛ أي إنه كان يمارس الحل السياسي مع الأعداء والغزاة في الخارج، والحل العسكري مع الشعب في الداخل، فكانت دولة الطغيان عامة استسلامية أمام الغزاة، بوليسية على الشعب”.[[8]]
ولعل موقف السيسي الذي قاد انقلابا وحشيا دمويا من سد النهضة الإثيوبي خير برهان على ذلك.
وأخيرا يبقى الإصرار على تغول الجيش على حساب الدولة والمجتمع يمثل مخاطرة غير محسوبة العواقب، في الحاضر، وتلغيما لمستقبل البلاد، ومقامرة شديدة الخطورة تضع الجيش في مواجهة الشعب بشكل متصاعد وغير مبرر.
ولن يكتب للدولة المصرية أن تخرج من طور الاستبداد والفساد إلا باستراتيجية قومية توقف التغول العسكري وتمكن السيطرة المدنية من حكم البلاد وفق قواعد وآليات الديمقراطية.
وعلى المؤسسة العسكرية أن تكون مؤمنة أكثر من أي مؤسسة أخرى أن مثل هذا الطريق الديمقراطي المدني هو المستقبل الحقيقي الأكثر أماناً للحفاظ على كيان الدولة المصرية، وحماية الأمن القومي المصري ضد أي تهديد أو عدوان.
ورغم كل هذه الحقائق الصادمة إلا أن مستقبل مصر مرهون في كثير من مآلاته بموقف المؤسسة العسكرية، وعلى الحركة الوطنية المصرية البحث عن شرفاء مخلصين بالمؤسسة العسكرية من أجل تأسيس نمط من العلاقة المدنية العسكرية يرتكز على ثوابت وقواعد وطنية خالصة وينتشل مصر من الانهيار القائم ويلملم ما تمزق من الوطن ليعمل الجميع على استرداد عافية الوطن وكرامة البلاد، وانتزاع السيادة من الأجهزة المعينة وغير المنتخبة لتكون ملكا للشعب يفوض من يشاء بممارستها وفق آليات دستورية ديمقراطية، دون إقصاء أو تهميش أو وصاية.
[1] مركز أبحاث أمريكي: أغلبية ضئيلة من المصريين تؤيد السيسي/ رويترز 22مايو 2014م/// تقرير أميركي: شعبية السيسي محدودة/ الجزيرة نت 29 مايو 2014
[2] بتصرف ….. خليل العناني/ المعادلة الصفرية للدولة المصرية/ الجزيرة نت ــ 4 أبريل 2021م
[3] خليل العناني/ المعادلة الصفرية للدولة المصرية/ الجزيرة نت ــ 4 أبريل 2021م
[4] د.رفيق حبيب/اعترافات قائد الانقلاب: الهوية الإسلامية مرفوضة/ موقع الدكتور رفيق حبيب ــ 11 أغسطس 2022م
[5] المؤسسة العسكرية في عهد السيسي من مالك إلى مستثمر للأراضي ساسة بوست بتاريخ 17/4/2016
[6] ماهر حسن/ عاشق مصر ومؤسس جيشها سليمان باشا الفرنساوى/ المصري اليوم ــ الخميس 15 مارس 2018م
[7] خليل العناني/ مصر .. ملكية عسكرية/ العربي الجديد ــ 30 يناير 2022
[8] خليل العناني/ مصر الحائرة بين “النهر” و”القصر”/ الجزيرة نت ــ 19 أبريل 2021م