مستقبل العلاقات المصرية التركية بعد لقاء السيسي وأردوغان

تحمل المصافحة التي جرت بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والجنرال  عبدالفتاح السيسي على هامش حفل افتتاح كأس العالم (قطر 2022) يوم الأحد 20 نوفمبر 2022 بالعاصمة الدوحة ثم اللقاء الثنائي الذي عقده الطرفان على هامش الاحتفال رسائل ودلالات مهمة بشأن مستقبل العلاقات الثنائية بين البلدين في ظل ثبات المحادثات الثنائية عند مستوى معين منذ بدئها في الشهور الأولى من سنة 2021م؛ فقد حققت هذه المباحثات اختراقا نسبيا في ملف تهميش المعارضة المصرية والفضائيات التابعة لها التي كانت تبث من أنقرة، بينما فشلت هذه المباحثات في تحقيق أي اختراق في ملفات أخرى أكثر أهمية وحساسية للطرفين أو لأحدهما كملف الغاز شرق المتوسط بالنسبة لأنقرة، والملف الليبي بالنسبة للقاهرة.

كيف نقرأ هذه المصافحة بين الرجلين؟ وما مستقبل العلاقات الثنائية بين البلدين بعد تلك المصافحة؟  وهل يمكن أن تصل إلى مرحلة التطبيع الكامل؟ وما مستقبل المعارضة المصرية في تركيا؟

الملاحظة الأولى والمهمة على هذه المصافحة أنه من الخطأ اعتبارها فجائية جاءت مصادفة على هامش احتفال رياضي كبير؛ فالصورة التي جرى تناقلها عبر وسائل الإعلام للسيسي وأردوغان  وكلاهما يمسك بيدي الآخر مصحوبة بابتسامة خفيفة، يتوسطهما الأمير القطري  تميم بن حمد تعلوه ابتسامة كبيرة؛ إنما تؤكد على أن اللقاء جرى الترتيب له عبر وساطة قطرية في ظل العلاقات الوثيقة التي تربط الدوحة بأنقرة من جهة، وتحسن علاقاتها بالقاهرة مؤخرا في ظل احتياج السيسي للدعم القطري ماليا واقتصاديا والذي أسفر عن زيارتين متبادلتين لكل من تميم للقاهرة في يونيو 2022، والسيسي للدوحة في سبتمبر، والدعم المالي القطري للقاهرة بنحو أربعة مليارات دولار خلال الشهور الماضية من سنة 2022، وتعهدها بضح استثمارات  في القاهرة قد تصل إلى نحو عشرة مليارات دولار أخرى.

الملاحظة الثانية، أن تلك المصافحة وهذا اللقاء يكتسب أهمية كبرى لأنه يأتي في أعقاب أسابيع قليلة من إعلان القاهرة  تعثر المباحثات مع أنقرة حول إعادة تطبيع العلاقات بسبب تجدد الخلافات بين البلدين حول الملف الليبي وشرق المتوسط. وكان وزير الخارجية سامح شكري، قد أعلن في نهاية أكتوبر/تشرين الأول (2022)، عن توقف الجلسات الاستكشافية المشتركة بين بلاده وتركيا بعد انعقاد جولتين منها، بحجة أنه “لم يطرأ تغيير على ممارسات الجانب التركي في ليبيا”.

وهو الموقف الذي جاء ردا من القاهرة على توقيع أنقرة وطرابلس (ليبيا) على اتفاق للتعاون في التنقيب عن الغاز والنفط في حدود مناطق اتفاق ترسيم الحدود البحرية الموقع بين البلدين، والذي يتعارض ويتداخل مع مناطق اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان، وهو ما دفع البلدين (مصر واليونان) لإعلان رفض الاتفاق والتلويح بإجراءات لمنع أي تحركات تركية في المناطق المتنازع عليها، وإلى جانب عوائق مختلفة تتعلق بالتنافس الإقليمي والخلاف الجوهري المتعلق بجماعة الإخوان المسلمين ودعم المعارضة المصرية وقنوات المعارضة في تركيا وغيرها، كان ملف ليبيا وشرق المتوسط أحد أبرز الملفات الخلافية بين البلدين، إذ تدعم تركيا حكومة عبد الحميد الدبيبة في طرابلس، بينما لا تزال القاهرة تدعم برلمان طبرق والحكومات المنبثقة عنه ومعسكر الجنرال خليفة حفتر، علاوة على اصطفاف القاهرة إلى جانب اليونان في حسابات شرق المتوسط التي تعتبر حالياً بمثابة القضية الاستراتيجية الأولى لتركيا.[[1]]

وبالتالي فتلك المصافحة قد تفتح الباب إلى إمكانية عودة قريبة للمباحثات الثنائية التي توقفت والتي كان يتوقع أن تتطور لمباحثات دبلوماسية رفيعة ولقاء على مستوى وزراء الخارجية يمهد لعقد لقاء بين أردوغان والسيسي.

ويبدو أن السيسي أراد الانقلاب على هذا السيناريو والبدء بلقاء قمة مع أردوغان أولا قبل الشروع في التوافق على أي ملفات أخرى؛ لأن ذلك من شأنه أن يمثل إقرار بالسيسي ونظامه من أكبر زعيم عارض انقلابه وشكك على الدوام في شرعيته، ووجه لها انتقادات حادة على مدار السنوات الماضية.

الملاحظة الثالثة، أن المصالح هي التي تدفع جميع الأطراف إلى التلاقي رغم مرارة الأحقاد والضغائن والحروب الإعلامية والسياسية بين هذه الأطراف المختلفة؛  فالسيسي يحتاج إلى قطر ودعمها المالي واستثماراتها الاقتصادية في ظل حاجته الماسة إلى الأموال وتراجع مساعدات الحلفاء في الرياض وأبو ظبي عما كانت عليه من قبل، وقد دعمته الدوحة فعلا بنحو أربعة مليارات دولار كودائع في البنك المركزي المصري بخلاف تعهدها بضخ نحو عشرة مليارات أخرى كاستثمارات في عدد من الملفات والقطاعات المختلفة.

وقطر تحتاج إلى تركيا؛ فهي الدولة الوحيدة التي دعمت الدوحة بشكل مباشر وصريح ضد احتمالات الغزو السعودي الإماراتي المدعوم مصريا في منتصف 2017م،

ومدت النظام القطري بفرق عسكرية تركية  وأسلحة حديثة لحماية النظام ضد أي عدوان أو غزو محتمل، وأمير قطر لا ينسى أبدا هذا الموقف التركي النبيل والشجاع، وتقلبات السياسة وتحولاتها الدائمة تدفع قطر إلى ضرورة الحفاظ على هذا التحالف مع تركيا. أما أنقرة فتحتاج إلى القاهرة خاصة في ملف غاز شرق المتوسط؛ ولا تريد أنقرة من القاهرة سوى التوقيع على اتفاق ترسيم الحدود البحرية بما يضمن حقوق الدولتين في ثروات غاز المتوسط وحمايتها من الأطماع اليونانية والقبرصية والإسرائيلية، وقد صرح الرئيس أردوغان بذلك بشكل واضح.

 

مضامين التصريحات الرسمية

تذهب أغلب التقديرات إلى أن تلك المصافحة قد تمثل انفراجة في العلاقات الثنائية بين البلدين، وقد تذيب الجليد المتراكم الذي لم تذوبه اللقاءات الثنائية بين قيادات رفيعة بجهازي المخابرات في البلدين  منذ بداية التقارب في ديسمبر 2020م، ثم في الشهور الأولى من سنة 2021م. يبرهن على ذلك ردود الفعل على المستوى الرسمي والإعلامي في كلا البلدين.

فالجانب التركي كان سباقا في تسريب صورة المصافحة لكل وسائل الإعلام، كما أن الرئيس التركي أدلى بتصريحات حول لقائه بالسيسي يوضح فيها أن «هذه المقابلة لم تكن مقابلة قادة، بل كانت خطوة من أجل تطبيع العلاقات، ونريد أن ننقل هذه العملية إلى مستويات أعلى، بدءًا من لقاءات الوزراء ومن ثم إلى لقاءات المسؤولين في المستويات الأعلى».

ثم يحدد هدف بلاده من تحسين العلاقات مع القاهرة رغم  توترها على مدار السنوات الماضية منذ انقلاب السيسي على الرئيس محمد مرسي في يوليو 2013م، مضيفا «كل ما نريده منهم (من نظام السيسي) هو أن نقيم السلام من خلال هذه اللقاءات ضد من يقفون ضدنا في البحر الأبيض المتوسط»، وراح يبرر هذه الخطوة من زاوية أخرى. مشيرا إلى أن «الوحدة التي كانت بين شعبنا والشعب المصري في الماضي مهمة جدًا لنا، لماذا لا نبدأ من جديد؟ حاولنا في لقائنا هذا إعطاء إشارة لانطلاق هذه العملية». [[2]]

على الجانب الآخر اكتفت القاهرة ببيان صادر عن الرئاسة تؤكد فيه أن «المصافحة بين السيسي وأردوغان  تؤكد على عمق العلاقة بين البلدين. وأنه تم التوافق خلال هذا اللقاء على أن تكون هذه بداية لتطوير العلاقات الثنائية بين الطرفين».[[3]]

وبتحليل مضامين ردود أفعال أعلى مؤسستين في كلا البلدين، نجد أن ردود الفعل في القاهرة كانت مرحبة ومتحفظة في ذات الوقت؛ على عكس الموقف التركي المندفع نحو  التطبيع بكل سرعة وإصرار؛ والدليل على ذلك السبق في تسريب صورة المصافحة من جانب تركيا، واستخدام الرئيس التركي عبارات موحية بذلك التوجه مثل (التطبيع ــ  ننقل هذه العملية إلى مستويات أعلى)، وهي التصريحات التي أطلقها أردغان في الطائرة أثناء عودته من قطر، كما حدد بكل وضوح هدف بلاده من هذا التطبيع المرتقب (كل ما نريده منهم هو أن نقيم السلام من خلال هذه اللقاءات ضد من يقفون ضدنا في البحر الأبيض المتوسط).

علاوة على ذلك، على عكس أردوغان الذي أدلى بنفسه بالتصريحات الكاشفة عن اندفاع بلاده نحو التطبيع مع نظام الدكتاتور السيسي، اكتفت القاهرة ببيان صادر عن الرئاسة تضمن عبارات الترحيب المتحفظة مثل: (عمق العلاقة بين البلدين ــ المصافحة بداية تطوير العلاقات)؛ فأنقرة تتحدث عن تطبيع العلاقات والقاهرة تتحدث عن تطويرها. وكلمة التطبيع لها مدلول سيئ في العقلية الشعبية المصرية والعربية؛ لارتباطها بهرولة النظم العربية نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني؛ فهي كلمة توحي بالانفتاح الكامل وبلا حدود أو قيود مع الطرف الآخر، أما التطوير فتعني مجرد تحسين العلاقات عما هي عليه.

مصافحة أردوغان للسيسي مهدت لها تصريحات للرئيس التركي  في يوليو 2022، حين قال إن تطبيع العلاقات مع مصر قد يأخذ دفعة، وأنه لا يوجد ما يمنع ارتقاء اللقاءات إلى المستوى الرفيع، مشيراً إلى أنه يتعين على كل من البلدين تجنب إصدار بيانات “تؤذي الآخر”.

ما يبرهن على تحفظ القاهرة وعدم اندفاعها رغم رغبتها في تطوير هذه العلاقات أنه بالرغم من أن هذه المصافحة تعتبر حدثا فارقا وغير مسبوق ولم يكن متوقعا قبل سنوات في ظل الانتقادات التركية المتواصلة ضد السيسي وانقلابه العسكري وجرائمه ضد الإنسانية، إلا أن القاهرة الرسمية وآلتها الإعلامية تعتبر هذه المصافحة انتصارا للسيسي والتحالف العربي  (السعودي المصري الإماراتي)، ورغم ذلك، لم يمنع هذا وزارة الخارجية بحكومة السيسي من استنكار الحملة العسكرية التركية ضد عناصر حزب العمال الكردستاني في شمالي سوريا والعراق؛ حيث أعربت الوزارة عن قلها الشديد مما وصفته بـ”الاعتداءات المتكررة على سورية والعراق”. وقال السفير أحمد أبو زيد، المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية.

في بيان مقتضب إن بلاده “تتابع بقلق شديد ما تشهده الدولتان العربيتان الشقيقتان العراق وسورية على مدار الأيام الماضية من اعتداءات من جانب إيران وتركيا تنتهك سيادة كل دولة على أراضيها”. وأضاف المتحدث باسم وزارة الخارجية، أن “مصر وهي تتابع التطورات باهتمام على مدار الساعة، تطالب بخفض التصعيد حقناً للدماء، ولتجنيب المنطقة المزيد من عوامل عدم الاستقرار”.[[4]]

 

مستقبل العلاقة بين البلدين

لا يكاد يختلف خبيران أو محللان سياسيان على أن هذه المصافحة بين الرجلين سوف تفتح  الأبواب الموصدة، وأن العلاقات الثنائية بين البلدين ستشهد مرحلة جديدة من الانفتاح والتوافق على كافة القضايا والملفات بما يضمن مصالح الطرفين؛ وبحسب الإعلامي التركي فى قناة Haber Türk محمد عاكف إرصوي، فقد تم الاتفاق على عقد قمة ثلاثية فى الأيام المقبلة بين (أردوغان- السيسي- تميم بن حمد) فى العاصمة القطرية الدوحة.

مع الإدراك الكامل أن  تقارب القاهرة وأنقرة يعني بشكل مباشر تباعد مصر عن اليونان وقبرص والإمارات. وتوقيع مصر على اتفاقية ترسيم للحدود البحرية مع تركيا سيمثل براجماتية عالية من جانب الطرفين وقد يحفظ  حقوق مصر المائية فى المتوسط، كما يمكن أن يعزز من مكانة مصر الإقليمية، ويجعل منها لاعباً أساسياً فى المنطقة.

أولا، على المستوى الاقتصادي، فإن هذه العلاقات  لم تتوقف حتى خلال السنوات التي شهدت توترا كبيرا بين البلدين؛ لكن هذه العلاقات شهدت قفزة  ملموسة منذ سنة 2020م؛ فقد أقدمت تركيا على سلسلة من الخطوات للتقارب مع مصر، من بينها زيادة قيمة الصادرات، لتبلغ عام 2021 نحو 4.5 مليار دولار، بزيادة 44.2%، مقارنةً بـ2020، في حين بلغت قيمة وارداتها من مصر 2.2 مليار دولار بزيادة 28.4%،[[5]]

لكن تلك المؤشرات الإيجابية لا تنفي وجود قضايا شائكة في العلاقة بين البلدين يحتاج حسمها إلى مشاورات معمقة وصريحة ووفق التزامات محددة، لذلك فإن الطريق لا يزال طويلاً للحديث عن استعادة العلاقات المصرية – التركية لكامل طبيعتها، فالأمر يمكن أن يعتبر خطوة لاستعادة الحوار؛ لأن هناك خلافات كثيرة وعميقة في رؤية البلدين لقضايا بالغة الأهمية، منها الوضع في ليبيا وأمن  ثروات المتوسط، بالإضافة إلي ملف المعارضة المصرية والعلاقات المصرية مع نظام الأسد في سوريا.

ثانيا، في ملف شرق المتوسط، اللقاء قد يشكل خطوة كبيرة على طريق استعادة العلاقات الكاملة بين البلدين، وحلّ الخلافات في وجهات النظر بين الطرفين، عبر المحادثات المباشرة”؛ فتركيا تأمل في أن تلعب مصر دورا محوريا في هذا الملف؛ لأن اليونان وقبرص تستقويان ضد تركيا بالعلاقات مع مصر؛ وتستهدف تركيا على الأقل تحييد الموقف المصري مبدئيا ثم التوصل إلى اتفاق لترسيم الحدود البحرية بما يضمن مصالح البلدين.

وكان للقاهرة موقف إيجابي سابق حين رفضت المساس بالمصالح التركية في المتوسط، أثناء مفاوضاتها مع كل من اليونان وقبرص حول تعيين الحدود البحرية”.[[6]]

ثالثا، في الملف الليبي، ترى القاهرة أن ليبيا منطقة نفوذ لها؛ وتعتقد أن تزايد النفوذ التركي تهديد لدورها وتأثيرها الإقليمي؛ وتضغط القاهرة من أجل تحجيم النفوذ التركي، وتطالب بإجلاء القوات التركية الموجودة في ليبيا، وترى في وجود هذه القوات سببا من أسباب عدم الاستقرار؛ وهو الأمر الذي ترفضه أنقرة، وتؤكد على أن وجود قواتها في طرابلس وجود شرعي بناء على اتفاقات مع الحكومة الليبية المعترف به دوليا، وترد تركيا بأن الحماس المصري ضد القوات التركية ليس بذات القدر مع القوات الأجنبية الأخرى في ليبيا مثل الوجود الروسي والفرنسي وحتى الإماراتي بخلاف الوجود المصري ذاته ودعم القاهرة لحفتر على مدار السنوات الماضية.

وبناء على ذلك، قد يمثل لقاء السيسي وأردوغان استعداد الطرفين للتفاهم؛ لا سيما وأن أنقرة لا تعارض أساسا المصالح المصرية في ليبيا. والخلاف الوحيد بينهما كان يتعلق بدعم القاهرة للجنرال خليفة حفتر والذي يرغب في إقامة نظام عسكري دكتاتوري في ليبيا، بينما تؤيد أنقرة إقامة نظام ديمقراطي منتخب بإرادة الشعب الحرة دون إقصاء أو تهميش أحد.

في هذا الشأن هناك تقارير (صحافية) تنقل عن مصادر مطلعة أن هناك “تقارير تم إعدادها من جانب هيئة الأمن القومي (تابعة للمخابرات العامة) تؤكد على عدم جدوى التمسك بدعم معسكر الشرق الليبي في مواجهة حكومة عبد الحميد الدبيبة، المعترف بها دولياً، وأنه من الأفضل التفاهم مع المعسكر الآخر الذي تدعمه تركيا، لا سيما وأن الأخيرة ليست لديها مانع في تحقيق المصالح المصرية في ليبيا والمتمثلة في إيفاد العمالة المصرية إلى هناك ومنح الشركات المصرية عقود إعادة الإعمار”.[[7]]

رابعا، في ملف  احتضان المعارضة في كلا البلدين، وهو الملف الذي استجابت فيه أنقرة لكثير من طلبات الجانب المصري؛ فقد تم تهميش المعارضة المصرية هناك، وتم وضع قيود صارمة على الفضائيات التي كانت تناهض نظام السيسي؛ حتى أُجبرت على الرحيل والبث  من دول أخرى؛  كما ألزمت الحكومة التركية رموز المعارضة المصرية  السياسية والإعلامية وحتى النشطاء السياسيين على وقف أي هجوم على مواقع التواصل الاجتماعي على النظام العسكري في مصر.

أمام هذا التضيق التركي؛ آثر كثير من المعارضين المصريين الرحيل عن أنقرة متجهين إلى بلدان أخرى يمارسون فيها دورهم وجهادهم ضد ظلم السيسي وطغيانه على نحو أفضل، وفي وضع  أكثر أمنا وحرية؛ شاكرين للحكومة التركية إيواءهم على مدار السنوات الماضية.

ورغم ذلك فتركيا حتى اليوم لم تسلم رموز المعارضة من الساسة والإعلاميين اللاجئين بها إلى نظام السيسي, على أمل تحقيق شيء من التوازن بين المصالح المتمثلة في التقارب مع نظام السيسي، والقيم والمبادئ المتمثلة في نصرة المظلومين وضحايا الاستبداد والطغيان.

لكننا لا نعرف إلى أي مدى يمكن أن تثبت هذه المعادلة وذلك التوازن الدقيق بين القيم والمصالح أمام ضغوط أجهزة السيسي التي تطالب أنقرة على الدوام بتسليم رموز معارضة من الإخوان المسلمين على نحو خاص.

لا سيما وأن الرئيس أردوغان مندفع في تبني فلسفة المصالح، وهو اتجاه لا يمكن التنبؤ بمداه وحدوده في التنازل والرضوخ لضغوط الطرف الآخر؛ فما كان يراه أردوغان قبل سنوات يخالف هذه القيم والمبادئ فعله اليوم، وما كان يعاير به الغرب قبل سنوات في انحيازهم لطغيان السيسي رغم جرائمه الوحشية وانتهاكاته المتواصلة لحقوق الإنسان، ها هو يفعل اليوم نفس السلوك ويتبني ذات الفلسفة التي لا تضع اعتبارا للمبادئ والقيم، ثم يضع يده في يد الرجل الذي تلطخت يداه بدماء الآلاف من المؤمنين الموحدين الذين يدافعون عن الإسلام وقيمه وشرائعه وأحكامه ويدافعون أيضا وفي ذات الوقت عن الحق والعدل والحرية والاستقامة وهي ذات القيم التي يتبناها الرئيس أردوغان.

خامسا، الملف السوري، حيث تنظر القاهرة إلى الوجود التركي في شمال سوريا باعتباره وجودا غير شرعي، في ظل دعمها لنظام الأسد؛ وبالتالي فنظام السيسي يريد على الأقل التوصل إلى صيغة لا تهدد نظام الأسد من الجانب التركي.

لكن تركيا ترد بأن الحماس المصري يقتصر فقط على القوات التركية في شمال سوريا ولا يمتد هذا الحماس إلى المطالبة بخروج القوات الروسية التي تحولت إلى قوات احتلال دائم ومستقر، وكذلك الوجود الإيراني والأميركي؛ ونظام السيسي لا يطالب بخروج هذه القوات، بما يعني أن الهدف ليس تحرير سوريا من القوات الأجنبية بقدر ما هو توجه مصري نحو تقليص النفوذ التركي لحساب الوجود الروسي والإيراني الداعم للأسد.

والراجح أن القاهرة تتخذ من الملف السوري ورقة ابتزاز ومساومة من أجل تحقيق مكاسب في الملفات الأخرى الأكثر أهمية.

 

الخلاصة

من الواضح أن قطر وتركيا تتبنيان منذ فترة سياسة (صفر مشاكل) مع دول الجوار والإقليم؛ فقطر تمكنت من تصفير مشاكلها مع المملكة العربية السعودية وحتى مع الإمارات، ثم نظام السيسي في القاهرة رغم الإهانات التي تعرض لها الأمير تميم ووالده الأمير حمد ووالدته الأميرة موزة من جانب الآلة الإعلامية للنظام، وقد كان مشهد حفل افتتاح كأس العالم حيث حضر ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ونائب رئيس الإمارات الشيخ محمد آل مكتوم، والجنرال عبدالفتاح السيسي وزعماء عرب آخرون برهانا على نجاح قطر في تصفير مشاكلها مع الجيران.

نفس الأمر ينطبق على تركيا، التي خففت كثيرا من التوتر مع فرنسا والغرب، واتخذت موقفا من الغزو الروسي لأوكرانيا يجعلها لا تفقد علاقتها مع أي دولة؛ وهو الموقف الذي ترحب به روسيا والغرب في آن واحد، ولم يتبق أمام تركيا لإنجاح سياسية “صفر مشاكل” سوى التصالح مع نظام السيسي في القاهرة واليونان وقبرص باعتبارهما الخصمان اللدودان لأنقرة. وقد تنجح الوساطة القطرية في ترميم العلاقات بين القاهرة وأنقرة؛ على أمل أن تعتمد أنقرة على القاهرة لاحقا في تسوية سياسية واقتصادية بشأن ملف شرق المتوسط مع كل من اليونان وقبرص، لا سيما وأن أنقرة أعادت شيئا من الدفء لعلاقتها بالكيان الصهيوني (إسرائيل) خلال الشهور الماضية.

في هذا السياق قد تجد جماعة الإخوان المسلمين نفسها أمام مشهد معقد ومتشابك، وقد تتعرض لضغوط من جانب حلفاء تقليديين للجماعة مثل قطر وتركيا، من أجل إتمام تسوية مع نظام السيسي تضمن الاعتراف بشرعية نظامه في مقابل الإفراج عن عشرات الآلاف من قيادات وشباب الجماعة، وهامشا من الحرية بما لا يهدد نظام السيسي العسكري.

وسوف تركز المساومات التركية والقطرية للجماعة على أن هذه الصفقة تمثل أفضل خيار للجماعة وللمعتقلين الذين فقدوا أي أمل في استنشاق هواء الحرية من جديد. وعندئذ ستكون الجماعة أمام اختبار قاس وعنيف قد يكون أشد مما مر عليها منذ إنشائها؛ لأن الاعتراف بشرعية السيسي سوف يضع الجماعة أمام حراب النقد وسهامه؛ فإذا قبلت الجماعة بمثل هذه التسوية[[8]]

فلماذا لم تقبل بها في بداية الأزمة وتتجنب كل هذه الدماء والمظالم؟ ألا يمثل ذلك اعترافاً ضمنياً بأن الدماء التي سالت على مر السنوات الماضية وآلاف المعتقلين والمطاردين في سبيل إسقاط منظومة الانقلاب المستبدة، لم يكن لها قيمة حيث عادت الجماعة إلى ما كان يمكن أن تقبل به مع إعلان الانقلاب في الثالث من يوليو 2013م؟!

من جانب آخر فإن القبول بمثل هكذا تسوية قد يخلق وضعا يكون أشد سوءا على الجماعة مما هي عليه اليوم؛ وقد يفضي ذلك إلى خسارة الجماعة كثيرا من مصداقيتها وحاضنتها الشعبية، كما أنه لا الجماعة لا حتى الوسطاء المحتملون لمثل هذه التسوية لا يملكون ضمانات كافية تجبر السيسي على احترام أي عهد فقد عهدناه مخلافا لوعوده غدارا في تعهداته لا كلمة له ولا عهد وقد جربنا عدره وخيانته آلاف المرات.

لكن الأكثر خطورة في مثل هذه التسوية إذا تمت هو القبول بالطغيان و التطبيع مع الاستبداد والتعايش مع الدكتاتورية؛ لتبقى مصر ترزح تحت سلطة عسكرية شمولية لعقود طويلة  قادمة.

على المستوى الداخلي التركي، فإن خطوة أردوغان قد تحظى ببعض التأييد لكنها في ذات الوقت تحظى بكثير من المعارضين حتى من داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم؛ فخطوة أردوغان لن تقنع معارضيه بدعمه بل سوف يوظفون تقاربه مع السيسي باعتباره برهانا على خطأ سياساته سابقا وأنهم كانوا على حق عندما طالبوه بالاعتراف بشرعية انقلاب السيسي والتعامل معه.

لكن من المؤكد أن هذه الخطوة قد تقنع بعض حلفاء أردوغان وأعضاء حزبه بالتخلي عنه مع اقتراب انتخابات الرئاسة في منتصف 2023م؛ ليس بالضرورة من خلال دعم منافس له بل ربما يفضلون المقاطعة بما يهدد الرئيس التركي بخسارة عشرات وربما مئات الآلاف من مؤيديه؛ وقد يخسر الرئيس التركي عدة مئات آلاف أخرى جراء السخط الشعبي من تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية وتفشي الغلاء في كل دول العالم ومن بينها تركيا؛ وبالتالي فإن الرئيس التركي الذي نجح في الانتخابات السابقة بفارق طفيف قد يكون مهددا هذه المرة بالخسارة؛ الأمر الذي يجب أن تتحسب له المعارضة المصرية في تركيا وتعمل على إيجاد بدائل أكثر أمنا لها بعيدا عن تركيا التي باتت تتبنى فلسفة المصالح.ردأر

 

 

 

———————-

[1] إسلام زعبل/“مصافحة المونديال” بين السيسي وأردوغان.. هل ستكون صافرة البدء لعودة العلاقات المصرية التركية؟/ عربي بوست ــ 23 نوفمبر 2022م

 

[2] أردوغان عن لقائه بالسيسي: خطوة أولى لإطلاق مسار جديد بين البلدين..الرئيس التركي قال: مطلبنا الوحيد من مصر أنّ تقول لمن يعادينا في المتوسط “نريد إرساء السلام في المنطقة”/ الأناضول ــ 21 نوفمبر 2022م

[3] شادى عبدالله زلطة/ الرئيس يهنئ أمير قطر بنجاح افتتاح كأس العالم.. بسام راضى: توافق مصرى ــ تركى على تطوير العلاقات الثنائية/ الأهرام ــ الثلاثاء 28 من ربيع الثاني 1444 هــ 22 نوفمبر 2022 السنة 147 العدد 49659

 

[4] الخارجية المصرية: نتابع بقلق شديد الاعتداءات المتكررة على سورية والعراق/ العربي الجديد ــ الاربعاء 23 نوفمبر 2022

[5] أسامة السعيد/ إفادات من الجانبين أكدت أنها «بداية لتطوير العلاقات».. بعد مصافحة السيسي وإردوغان ما مستقبل علاقة مصر وتركيا؟/ الشرق الأوسط ــ الثلاثاء – 28 شهر ربيع الثاني 1444 هـ – 22 نوفمبر 2022 مـ رقم العدد [ 16065]

[6] انظر أيضا المصافحة بين السيسي وأردوغان، هل هي تمهيد لصفقة عنوانها الغاز في شرق المتوسط؟/ فرانس 24 ــ 21  نوفمبر 2022م

[7] مصافحة السيسي وأردوغان: انفتاح على مرحلة جديدة في العلاقات/ العربي الجديد ــ الثلاثاء 22 نوفمبر 2022

[8] (نفترض وجودها لأن النظام لم يقدم مطلقا تسوية للأزمة تتضمن التسليم بشرعيته  مقابل الإفراج عن كل المعتقلين السياسيين ورد الأموال المنهوبة وعودة الجماعة لنشاطها)

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022