«طوفان الأقصى».. المكاسب المحققة والسيناريوهات المتوقعة

باغتت فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة وعلى رأسها حركة المقاومة الإسلامية حماس وحركة الجهاد الإسلامي، جيش الاحتلال الإسرائيلي بهجوم مفاجئ فجر السبت 7 أكتوبر 2023م، حين أطلقت نحو 5 آلاف صاروخ خلال ساعات معدودة وهي الضربة غير المسبوقة على مدن وبلديات الاحتلال.

ولكن المفاجأة الكبرى أن هذه الضربة الصاروخية مثلت غطاء للهجوم الرئيس وهو الهجوم البري عبر تسلسل آلاف المقاتلين برا وبحرا وجوا عبر مظلات أطلقت عليها المقاومة “الخفافيش الطائرة”، والهجوم المباغت على مستوطنات غلاف غزة، والسيطرة على مسافة تصل “40” كم  في عمق الأراضي المحتلة بطول الغلاف الحدودي بين غزة والاحتلال من الشمال والشرق.

وكانت المفاجأة المدوية التي تمثلت في الاختفاء الكامل لجيش الاحتلال وأجهزته المخابراتية والأمنية التي توارت وتركت المستوطنين بلا حماية تذكر، فسيطرت حماس على كل الوحدات العسكرية والأمنية وقتلت اكثر من “1300”، وأسرت أعداد غير مسبوقة تصل إلى نحو 156 أسيرا حسب إحصائيات حكومة الاحتلال.

في المقابل شن جيش الاحتلال الذي وجد نفسه في ورطة آلاف الهجمات الجوية العشوائية بالطائرات والصواريخ والتي استهدفت بالأساس أبراج وبيوت المدنيين والبنية التحتية من طرق ومدارس ومستشفيات كهدف انتقامي بحد ذاته بعد الإهانة الرهيبة التي تعرض لها الاحتلال.

هذا الهجوم المباغت أصاب المجتمع الإسرائيلي وجميع حلفائه في الولايات المتحدة وأوروبا وحتى في بعض العواصم العربية أمام صدمة غير متوقعة، ووضعت حكومة اليمين الإسرائيلي برئاسة بنيامين نتنياهو أمام ورطة غير مسبوقة.

سقط في هذه الورطة أيضا جميع الحكومات الغربية الداعمة للاحتلال وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وهي الدول التي أصدرت مساء الإثنين 9 أكتوبر بيانا خماسيا لدعم الاحتلال ووصف ما تقوم به فصائل المقاومة بالإرهاب منكرين حق الشعوب المحتلة في مقاومة الاحتلال؛ فكيف يؤيدون مقاومة أوكرانيا ضد الغزو الروسي في الوقت الذي يحرمون فيه الفلسطينيين من حقهم في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي؛ إنه النفاق بعينه وازدواجية المعايير لدى الحكومات الغربية التي  تحولت إلى «مسيح دجال»، لا ترى إلا بعين واحدة.

كذلك وجدت السلطة الفلسطينية نفسها في مواجهة مع الشارع الفلسطيني؛ لأن وظيفة السلطة منذ اتفاق أوسلو 1993م هو حماية أمن الاحتلال وديمومة التنسيق الأمني ضد فصائل المقاومة، رغم تصريحات رئيس السلطة أبو مازن حول حماية الشعب الفلسطيني؛ فلسان السلطة مع المقاومة وقلبها مع الاحتلال؛ لأنها ترى أي مكسب للمقاومة هو خصم من رصيدها وشرعيتها المتآكلة أساسا، ولاحقا خرج أبو مازن  ليدعي أن حماس لا تمثل الشعب الفلسطيني بعدما مورست عليه ضغوط شديدة من أجل انتقاد المقاومة ووصفها بالإرهاب.

أمام هذه المفاجأة المدوية، ما المكاسب التي حققتها المقاومة بهذه الضربة المباغتة؟ وما تأثير ذلك على تآكل هيبة جيش الاحتلال؟ وهل يمكن أن يؤثر ذلك على تآكل ما تبقى من تماسك المجتمع الإسرائيلي؟ وما السيناريوهات المتوقعة خلال الأيام والأسابيع القادمة؟

المكاسب المحققة

تآكل هيبة جيش الاحتلال: أول المكاسب الإستراتيجية المحققة للمقاومة الفلسطينية هو تآكل هيبة جيش الاحتلال الإسرائيلي، وهذا أعظم المكاسب على الإطلاق؛ فالإسرائيليون فقدوا الثقة تماما في منظومتهم العسكرية والمخابراتية والأمنية على حد سواء، وباتوا مدركين أن جيشهم لم يكن بالصورة التي تخيلوها، وأنه عاجز عن حمايتهم، وأن هجمات المقاومة بعد طوفان الأقصى لن تتوقف، وأن مسألة تحرير فلسطين كلها باتت مسألة وقت، وأن إسرائيل تعرضت لهزيمة مذلة مهما كان عنفوان القصف الإسرائيلي على غزة، ومهما كان عدد الضحايا.

وهو الأمر الذي أجمعت عليه الصحف العالمية والإسرائيلية؛ وكانت عناوين الصحف الإسرائيلية وحدها كفيلة بنقض تصريحات نتنياهو عن حرب شاملة، فقالت «معاريف»: «ما جرى أكثر من انهيار استخباراتي»، أما «يديعوت أحرونوت» فقد أكدت أن «هجوم حماس المباغت فشل للحكومة»، ووصفت «تايمز أوف إسرائيل» ما حدث بـ«الفشل الذريع».

واعتبرت صحيفة أوبزرفر البريطانية التي تصدر كل يوم أحد عن مجموعة جارديان الإعلامية، أن الهجوم المفاجئ سيبقى ماثلا في الأذهان على أنه فشل استخباري لم يحدث على مر العصور، وقالت إن أجهزة المراقبة الإسرائيلية المتطورة تجعل مشاهد مقاتلي حماس وهم يجوسون خلال الشوارع أكثر إثارة للدهشة؛

لأن أجهزة المراقبة الإسرائيلية للمجتمع الفلسطيني متطورة للغاية ومنتشرة على نطاق واسع، حيث تُعد مراقبة أنشطة حماس تحديدا واحدة من أهم واجبات المؤسسة الأمنية. وتقر الصحيفة البريطانية أن حركة حماس باتت أكثر براعة في التكيف مع التحديات العسكرية التي تواجهها، وكثيرا ما تبذل قدرا من الجهد في تخطيطها، وفي تحديد مكامن الضعف الإسرائيلية.

ولفتت إلى أن القائد السابق للبحرية الإسرائيلية، إيلي مارو، قال في بث تلفزيوني مباشر إن كل إسرائيل تتساءل: أين الجيش الإسرائيلي، وأين الشرطة والأمن؟”، واصفا ما حدث السبت بأنه “فشل ذريع”، ورأت صحيفة واشنطن بوست الأميركية أن إسرائيل “تعرضت للإذلال والهزيمة”.[[1]]

ويقول الكاتب الإسرائيلي بصحيفة “هآرتس” حاييم ليفنسون، إن كل ما تفعله إسرائيل الآن “لا معنى له”، حتى لو نجحت في القبض على قائد كتائب القسام، محمد الضيف. وأضاف في مقال له بهآرتس، أن الخسارة تحققت مع الضربة الأولى المفاجئة، والباقي مجرد قصص تبقى أمام المؤرخين لتوثيق أحداثها.

وفي نقد لاذع للأجهزة الأمنية، قال ليفنسون، إن الجيش الإسرائيلي أطلق على عملية الهجوم على غزة اسم “عملية السيوف الحديدية”، مبرزا أنها في الحقيقة عملية “تعرٍّ” أمام مقاتلي “حماس”، وشرح بأن الجيش وأجهزة المخابرات بمختلف تشكيلاتها ووسائلها التقنية والبشرية، عجزت عن توقع الهجوم وضبطه منذ اللحظات الأولى لانطلاقه.

وينتهي إلى أن نجاح حماس يعدّ حدثا إستراتيجيا كبيرا، فقد انهار الشعور بالأمن داخل إسرائيل، ونقلت الحرب إلى الداخل الإسرائيلي، كما ظهر الجيش ومعه الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في وضع “عار”.[[2]]

ويحظى هجوم المقاومة بكل الاحترام إذا علمنا أن الجيش الإسرائيلي هو المصنف رقم “18” عالميا وفق مؤشر”جلوبال فاير باور”، بينما تحتل المرتبة 12 بين الدول المصدرة للسلاح. ويبلغ الإنفاق العسكري السنوي في إسرائيل 16 مليار دولار، وتلقت دعما عسكريا أميركيا بقيمة 58 مليار دولار في الفترة ما بين 2000 و2021م.

ويتألف جيش الاحتلال من 173 ألف جندي في الخدمة الفعلية، ونحو من 465 ألف جندي احتياط، ويبلغ تعداد المؤهلين للخدمة العسكرية نحو 1.7 مليون شخص.  وتمتلك إسرائيل 595 طائرة حربية متعددة المهام، بينها 241 طائرة مقاتلة و23 طائرة هجومية، إلى جانب 128 مروحية عسكرية، وطائرات لتنفيذ المهام الخاصة وأخرى للشحن العسكري.

وتعد القوات الجوية الإسرائيلية من أكثر أسلحة الجو تقدما على مستوى العالم بفضل التكنولوجيا الفائقة التي تتمتع بها. ولدى إسرائيل 42 مطارا عسكريا في الخدمة.

وتمتلك أسرابا من طائرات إف-35 وإف-16، وإف-15، وعددا هائلا من القنابل الذكية وأجهزة الاستشعار عن بعد، كما تمتلك إسرائيل سربا من الطائرات المسيرة الهجومية.

ويبلغ تعداد القوات البرية الإسرائيلية 140 ألف جندي يزاولون الخدمة حاليا، وتمتلك هذه القوات 1650 دبابة، بينها 500 من فئة الميركافا التي تحتوي على نظام حماية نشط، يعترض الصواريخ المضادة للدبابات قبل وصولها، ولها القدرة على إطلاق النار على الأهداف المتحركة، وتوصف بأنها من ضمن الدبابات الأكثر تحصينا في العالم.

وتمتلك إٍسرائيل 7500 مدرعة قتالية. أما سلاح المدفعية، فقوامه نحو ألف آلية بينها 650 مدفعا ذاتي الحركة، إلى جانب 300 مدفع ميداني. وتتألف القوات البحرية الإسرائيلية من 65 قطعة، منها 48 سفينة حربية و6 غواصات و7 طرادات.

وتمتلك إسرائيل زوارق حربية مزودة بالصواريخ وتوصف بأنها متطورة وذات كفاءة تكنولوجية عالية. كما تمتلك إسرائيل القبة الحديدية والتي كثيرا ما تتباهى بها، وهي نظام دفاعي متحرك لاحتواء ومواجهة الصواريخ القصيرة المدى والقذائف المدفعية في مختلف الأحوال الجوية، بما فيها السحب المنخفضة والعواصف الترابية والضباب.

ويعتمد النظام على صاروخ اعتراضي مجهز برأس حربي قادر على اعتراض وتفجير أي هدف في الهواء، بعد قيام منظومة الرادار بالكشف والتعرف على الصاروخ أو القذيفة المدفعية وملاحقة مسار المقذوف.

هذا التفاوت الضخم في القدرة والإمكانيات لعدم امتلاك المقاومة أي دبابة أو طائرة واحدة، هو ما يجعل من هجوم المقاومة الذي أعلنت حماس بدايته بألف مقاتل فقط من قوات النخبة لديها، عملا بطوليا ليس له مثيل في العالم كله.[[3]]

رفع الروح المعنوية للفلسطينيين وتعزيز معسكر المقاومة: ثاني المكاسب الاستراتيجية هو رفع الروح المعنوية للشعب الفلسطيني؛ فلأول مرة يباغت الفلسطينيون الاحتلال بهجوم عسكري ناجح ومخطط له على أعلى مستوى من التدريب والكفاءة القتالية، ووضح بشكل كامل لكل العالم أن المقاتل الفلسطيني أكثر قدرة وكفاءة واحترافية وشجاعة من جنود الاحتلال، وأن مستوى التدريبات التي يحظى بها مقاتلو المقاومة وروحهم المعنوية العالية وانضباطهم العسكري والأخلاقي والإنساني هو مثال يحتذى به مقارنة بالهجمات العشوائية التي تنقذها إسرائيل ضد المدنيين من خلال  قصف الأبراج والبيوت والمساجد.

سينعكس ذلك على الروح المعنوية للفلسطينيين وسوف يعزز ذلك من معسكر المقاومة ضد معسكر أوسلو المهزوم نفسيا أمام الاحتلال.

وسوف يتآكل هذا المعسكر المتحالف مع الاحتلال وسوف تكتب هذه المعركة نهاية هذا التيار الذي يعتبر خنجرا في ظهر المقاومة والقضية الفلسطينية.

ويكفي أن السلطة وجدت نفسها في مواجهة مع الشارع الفلسطيني الذي يغلي دعما وصمودا وتأييدا للمقاومة، بينما يتمتع قيادات السلطة وضباط أجهزتها الأمنية بكل الامتيازات مقابل التنسيق مع الاحتلال ضد المقاومة.

إن هذه المعركة قد تمثل بداية النهاية لتيار أوسلو وتنقية صفوف الشعب الفلسطيني من الخونة والعملاء.

إجلاء مستوطنات غزة، المكسب الثالث هو مصير مستوطنات غلاف غزة، فالمستوطنون اليهود الذين تعرضوا لهجوم المقاومة فقدوا الثقة كليا في جيشهم وحكومتهم، وبالتالي فلن يعودوا مطلقا إلى هذه المستوطنات؛ وقد أدركت حكومة الاحتلال ذلك بالفعل؛ ويعتزم جيش الاحتلال وفق صحيفة معاريف الإسرائيلية؛ إخلاء 24 مستوطنة حول قطاع غزة، وهي (ناحال) عوز، إيريز، نير عام، مفالسيم، كفار عزة، غيفيم، أور هانير، إيبيم، نتيف هعسرا، ياد مردخاي كرميا، زيكيم كيرم شالوم، كيسوفيم، دوروت، صوفا، نيرم، نير عوز، عين هشلوشا (العين الثالثة)، نير يتسحاق بئيري، ماغن، راعيم، سعد وألوميم.[[4]]

بعدما ارتفع عدد القتلى الإسرائيليين إلى ألف قتيل على أقل تقدير و2600 جريح، بنهاية اليوم الثالث للقتال. بينما أعلنت وزارة الصحة في قطاع غزة ارتفاع عدد الشهداء بنهاية اليوم الثالث إلى 687، بينهم 140 طفلا و105 نساء  حتى الساعة الثامنة صباح الثلاثاء بتوقيت مكة والقاهرة.[[5]]

في الوقت الذي أعلنت فيه إسرائيل عن قطع الكهرباء والمياه عن قطاع غزة ضمن خطط الحصار الشامل.

ملف الأسرى،  المكسب الإستراتيجي الرابع  يتعلق بملف الأسرى، فطبقا لتقرير أعدته «هيئة شؤون الأسرى والمحررين»، أبريل 2023م، يقبع في السجون الإسرائيلية «نحو 4900 معتقل، بينهم 31 امرأة، و160 طفلًا بينهم طفلة، وأكثر من 700 مريض، يتوزعون على حوالي 23 سجنًا ومركز توقيف».

هذه الإحصائيات لا تشمل الاعتقال الإداري، المبني على قانون يجيز لقوات الاحتلال اعتقال الفلسطينيين بذريعة وجود ملف سري، لا يحق للمعتقل أو أسرته أو محاميه الإطلاع عليه. وخلال الشهور الست الأولى من 2023م بلغ عدد المعتقلين إداريًا 1083 معتقلًا، بينهم كبار سن و19 طفلًا»، الأمر الذي يمثل توسعًا غير مسبوق في استخدام القانون منذ 2003، في أعقاب الانتفاضة الثانية.[[6]]

وخلال السنوات الماضية عرضت المقاومة مرارا عقد صفقة تبادل أسرى مع الاحتلال عبر وسطاء دون أن تجد تجاوبا. الآن، وفي يد المقاومة الفلسطينية عشرات الأسرى لم يعد ممكناُ لأي حكومة “إسرائيلية” تجنب عقد الصفقة وبما يرضي المقاومة الفلسطينية وبـ”تنازلات” صعبة على الاحتلال، إذ إنه لن يكون بمقدورها تجنب الضغوط الداخلية عليها لاسترداد هذا العدد الكبير من الأسرى و الذي يضم ضباطا كبارا ومجندين بالجيش والشرطة.

تجميد قطار التطبيع، المكسب الخامس (قد يكون مؤقتا وقد تجميدا نهائيا حسب تطورات الأحداث) هو تجميد قطار التطبيع، ووقف هرولة عواصم عربية كبرى نحو حظيرة الاحتلال، وعلى رأسها الرياض؛ فالإدارة الأمريكية تجعل التطبيع السعودي مع الاحتلال ضرورة وأولوية وترى أن تحقيق هذا الهدف كفيل بتعزيز فرص الرئيس جو بايدن في انتخابات الرئاسة في العام المقبل 2024م.

لكن “طوفان الأقصى” قد تجمد هذه الخطوة بشكل مؤقت أو حتى تعصف بها نهائيا وفقا لتطورات المشهد ومدى تأثيره الإقليمي والدولي.

وكانت دوائر الشرق الأوسط داخل واشنطن قد انشغلت بالترقب والاحتفاء بما عدّوه توسيعا لنطاق (الاتفاقات الإبراهيمية)، وأُعلن عن زيارات تجريها وفود من مجلس الشيوخ للقاء زعماء دول عدة في الشرق الأوسط، من أجل الترويج والاطلاع على أحدث خطوات المسار التطبيعي، الذي نتج عن الاتفاقيات الإبراهيمية.

في المقابل، لم تُعِر واشنطن أي اهتمام للاقتحامات المتكررة من الجانب الإسرائيلي لساحات المسجد الأقصى، ولم تُدِن سقوط عشرات الضحايا الفلسطينيين في قطاع غزة والقدس على مدار الأسابيع الماضية، وافترضت أن ذلك هو الواقع الجديد.

كذلك كان وزير الخارجية بلينكن قد خطط لزيارة تل أبيب والرياض خلال الشهر الجاري، للخوض في تفاصيل تتعلق بصفقة التطبيع، التي تروج بها واشنطن بين إسرائيل والسعودية.[[7]]

فواشنطن حريصة على إدخال المزيد من العواصم العربية إلى حظيرة التطبيع الإسرائيلي؛ حتى تحول النظام العربي الرسمي إلى معسكر خيانة، وهو ما ساهم بشكل كبير في نجاح اختراق الشعب الفلسطيني وتحويل جزء كبير من قياداته السياسية إلى مرتزقة تدافع عن مصالح مادية وامتيازات ووظائف وأموال مقابل بيع فلسطين وشعب فلسطين.

بل إن سرعة التطبيع مع المحتل التي تعصف بالساحة الخليجية تحديدا تؤكد أن هذا النظام قد حسم قضية القدس واللاجئين وحق العودة نهائيا وأن حفاظه على كرسي الحكم هو ثمن الصفقة.

وأحد أهم الخلاصات من “طوفان الأقصى” أنها عرت النظام العربي الرسمي، وكشفت عن هشاشة الاحتلال وضعفه، وأن هذه النظم العربية هي خط الدفاع الأول والأخير عن هذا الكيان اللقيط، ولولا هذه النظم العميلة لسقط هذا الاحتلال الهش منذ سنوات طويلة.[[8]]

ضربة لاقتصاد الاحتلال، المكسب السادس، هو توجيه ضربة لاقتصاد الاحتلال، حيث تهاوى الشيكل الإسرائيلي أمام الدولار وباقي العملات الأجنبية، ما أجبر حكومة نتنياهو على ضخ 45 مليار دولار سيولةً نقدية في الأسواق لحماية الشيكل من الانهيار على خلفية تطورات عملية “طوفان الأقصى”، وذلك بعدما تراجع لأدنى مستوى في 8 سنوات.

وقال البنك المركزي الإسرائيلي، الاثنين 9  أكتوبر، إنه سيبيع ما يصل إلى 30 مليار دولار من العملات الأجنبية، وسيوفر سيولة بقيمة 15 مليار دولار أخرى لحماية الشيكل، الذي تراجع بنسبة كبيرة في أعقاب عملية “طوفان الأقصى” التي باتت تهدد الاقتصاد الإسرائيلي.[[9]]

وتهاوت بورصة تل أبيب وخسرت 16 مليار دولار من قيمتها السوقية، وهناك احتمال بأن تغلق أبوابها في حال استمرار المواجهات، وتراجعت أسعار السندات الحكومية، وفر السياح الأجانب إلى الخارج، وقبلها ألغى عدد كبير من شركات الطيران العالمية رحلاتها إلى إسرائيل، وقد تجاوز العدد ما يقرب من 45 شركة بعد يومين من الحرب.

كما تم إغلاق المطارات المحلية وسط وجنوب دولة الاحتلال أمام الأنشطة التجارية والسياحة الداخلية. كما أن ما تعرضت له إسرائيل من هزيمة منكرة سوف يدفع المستثمرين الأجانب إلى التخارج من السوق الإسرائيلي لأنها سوق عالية المخاطر.[[10]]

السيناريوهات المتوقعة

بالنسبة لحكومة الاحتلال، ناقشت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، في تحليل لها تداعيات عملية “طوفان الأقصى” وتعترف الصحيفة بأن ما جرى مثل صدمة وكشف حجم الإخفاق داخل الجيش والاستخبارات، وتجد حكومة نتنياهو نفسها أمام مشكلة عويصة يصعب معالجتها، كما يقول الصحفي الإسرائيلي عاموس هاريل في مقاله التحليلي بالصحيفة.

ويقر الكاتب أن الهجوم يتطلب ردا عسكريا “شرسا”، في حين لا تزال إسرائيل تأمل -بطريقة أو بأخرى- القيام بذلك بدون التورط في حرب متعددة الجبهات، يشارك فيها أيضا حزب الله اللبناني. ويؤكد الكاتب أنها المرة الأولى التي تتعامل فيها إسرائيل مع وضع يحتجز فيه عدوها عشرات الرهائن من عسكريين ومدنيين، فضلا عن جثامين العديد من الجنود والمدنيين.

وتابع القول “لم يسبق لنا أن رأينا مثل هذه المشاهد في حياتنا، ومن الطبيعي أن تثير غضبا هائلا وإحباطا شديدا”.

وينتهي إلى أن حكومة الاحتلال أمامها أربعة خيارات:

  • الأول، إجراء مفاوضات عاجلة بشأن اتفاق لتبادل الأسرى، حيث تطالب حماس بثمن “فلكي” يتمثل بإطلاق سراح الفلسطينيين المدانين بقتل إسرائيليين من السجون الإسرائيلية، وبالتالي تحقيق دفعة معنوية هائلة أخرى.
  • الثاني، شن حملة جوية “قاصمة” ضد أهداف حماس في القطاع، والتي سيقتل أو يجرح فيها آلاف المدنيين الفلسطينيين.
  • الثالث، تشديد الحصار على القطاع وتدمير بنيته التحتية مما قد يتسبب في كارثة إنسانية وكارثة دولية.
  • الرابع، عملية برية واسعة النطاق من شأنها أن تلحق خسائر متعددة على بالجانبين كليهما “وربما تفشل في نهاية المطاف”.

غير أن كاتب المقال يعود ويستدرك بأن أيا من تلك الخيارات لا يبدو جيدا، “لكن هذه هي طبيعة المعضلات الصعبة”، ومع ذلك فهو يرى أنها الطريقة التي يتم بها تمحيص القيادة الحقيقية.[[11]]

وكشف موقع “أكسيوس” الإخباري الأميركي، نقلا عن ثلاثة مصادر إسرائيلية وأميركية مطلعة، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أبلغ الرئيس الأميركي جو بايدن يوم الأحد 8 أكتوبر أنه لا خيار أمام إسرائيل سوى إطلاق عملية عسكرية برية في غزة، وقال “علينا الدخول إلى القطاع”.

وبعد أن استبعد نتنياهو التفاوض في الوقت الحالي، أضاف في مكالمته أنه ليس أمام إسرائيل خيار آخر سوى الرد بالقوة لأن دولة ما لا يمكنها إظهار الضعف في الشرق الأوسط، مشددا على أن إسرائيل بحاجة إلى استعادة الردع، وفقا للمصادر الثلاثة.

قد يكون ذلك كشفا لسيناريو حكومة الاحتلال وقد يكون الهدف منه مجرد التهديد لإجبار لدفع المقاومة نحو التراجع ووقف هجومها. لكن نتنياهو على كل حال سوف يستخدم القصف المفرط على غزة بعدما حصل على ضوء أخضر أمريكي وغربي بارتكاب ما يشاء من جرائم في ظل تواطؤ عربي رسمي.[[12]]

موقف المقاومة

بالنسبة لفصائل المقاومة الفلسطينية، فقد حققت مكاسب كثيرة في الضربة الأولى، وليس في الإمكان تحقيق أكثر مما تم تحقيقه؛ وبالتالي على المقاومة أن تدخر جهدها وطاقتها لمواجهة أي غزو بري محتمل على القطاع.

ومواجهة دعوات النزوح الجماعي تحت القصف تحت لافتة “الممرات الإنسانية الآمنة”، فالهدف هو إجبار الفلسطينيين على النزوح إلى سيناء، وإلقاء المشكلة على كاهل مصر، وإذا خسرت المقاومة ـلا قدر الله- فإن الهدف التالي مباشرة سيكون ضرب البنية التحتية للمقاومة في لبنان، واحتمال احتلال جنوبها من جانب جيش الاحتلال.

والهدف الثالث ـحال هزيمة المقاومة-ـ هو تهجير مواطني الضفة إلى الأردن، وتغيير شكل وخريطة المنطقة وفقا للمخططات المرسومة.

ولن تتوقف إسرائيل وحلفاءها الصليبيون عند هذا الحد، بل قد تحتل أراض جديدة من سوريا، وسوف تجه نحو إيران لاحقا ثم قطر وتركيا  للقضاء على كل مواطن الممانعة في الأمة العربية والإسلامية، وسوف يتلو ذلك هرولة غير مسبوقة نحو التطبيع بما يؤذن بمرحلة السيادة الإسرائيلية المطلقة.

لكل هذه الأسباب فإن المقاومة هي خط الدفاع الأخير الذي إذا سقط سقطت الأمة كلها معه. إنه معركة تشبه عين جالوت التي أوقعت وحشية التتار التي كانت تلتهم العالم بلدا تلو الآخر.

نعم، المقاومة محكومة بإمكاناتها المحدودة والتي حققت بها ما يفوق قدراتها بآلاف المرات. وسيكون من مصلحة المقاومة وقف القتال في أسرع وقت ممكن. لأنه في اليوم التالي لوقف إطلاق النار، سيفتح الإسرائيليون النار على أنفسهم، وسوف يشهد الكيان صراعا شرسا بين الحكومة اليمنية والمعارضة العلمانية؛ ونتنياهو يدرك ذلك جيدا؛ ويدرك أن مستقبله السياسي قد انتهى بهزيمة منكرة لا يمكن مطلقا تجنب تبعاتها وتداعياتها؛

لذلك فإنه يريد أن يتخذ من إطالة أمد الحرب غطاء لتجنب المساءلة على الفشل الذي مني به جيشه واستخباراته وحكومته، ولذلك نتنياهو مدفوع بروح الثأر والانتقام دون إدراك لعواقب قراراته؛ فأي غزو بري على غزة سوف يوقع الكثير من الضحايا من الجانبين، لكنه يدرك اليوم أنه بحاجة إلى إعادة هيبة جيشه وكيانه الغاصب، وهي الهيبة التي تمرغت في الوحل وديس عليها بأقدام المقاومة ولم يعد في الإمكان إعادة ما انكسر.

موقف السلطة

تجد السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس أبو مازن نفسها في ورطة حقيقية؛ فهي التي تتبنى خيار المفاوضات العبثية لا تملك حاليا إلا الانحياز للمقاومة في ظل هذه الأوضاع، وإلا ستجد نفسها في مواجهة مع الشارع الفلسطيني كله، وكان بيان عباس نشرته وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية «وفا»، قد سارع بالاصطفاف إلى جانب المقاومة، واعتبار العملية «ردًا طبيعيًا على العدوان الإسرائيلي المتواصل على الفلسطينيين والمقدسات الإسلامية والمسيحية».[[13]]

إلا أن هذا الإعلان يعد في مضمونة ومحتواه اعترافًا بفشل السلطة في تقديم أي حل سياسي مرضٍ للفلسطينيين أو ناجع مع إسرائيل، لا سيما في ظل تمسك السلطة بالتنسيق الأمني مع الاحتلال لملاحقة فصائل المقاومة.

وبالتالي فإن “طوفان الأقصى” لم يجرف فقط هيبة إسرائيل وجيشها الهش، بل يجرف أيضا معسكر التطبيع والتنسيق الأمني مع الاحتلال، وهو الخيار الذي ثبت أنه جزء من مخططات ضمان أمن الاحتلال.

لذلك فالسلطة في طريقها نحو الانهيار والسقوط فلم يعد لها ولا لموقفها العبثي أي وجود حقيقي في الشارع، ولا يبقيها سوى رغبة الاحتلال الذي يمدها ويغذيها من أجل أن تواصل وظيفتها في حماية أمنه ومواطنيه.

فغزة مشتعلة والضفة مقموعة والفضل يعود للسلطة وأجهزتها الأمنية. وهذا مشهد لا يجب أن يستمر.


[1] أوبزرفر وواشنطن بوست: إذلال وهزيمة لإسرائيل وأكبر فشل لمخابراتها على الإطلاق/ الجزيرة نت ـ الأحد 8 أكتوبر 2023م

[2] كاتب إسرائيلي: المفاجأة أحرقت كل شيء/ الجزيرة نت ــ  الأحد 08 أكتوبر 2023م

[3] سيد أحمد الخضر/ إسرائيل التي انتكست أمام القسام تملك هذه القوة العسكرية الهائلة/ الجزيرة نت ــ الإثنين 09 أكتوبر 2023م

[4] مستوطنات حول غزة قد يخليها الاحتلال/ الجزيرة نت ـ الإثنين 09 أكتوبر 2023م

[5] رابع أيام طوفان الأقصى“.. غارات عنيفة على غزة وارتفاع حصيلة قتلى جيش الاحتلال/ الجزيرة نت ــ الثلاثاء 10 أكتوبر 2023م 7.50  صباحا بتوقيت القاهرة

[6] الأسرى الفلسطينيون يبدأون «عصيانًا جزئيًا» في السجون الإسرائيلية/ مدى مصر ـ  الأربعاء 14 يونيو 2023م

[7] محمد المنشاوي/ تأثير طوفان الأقصى على عملية التطبيع.. كيف صُدمت واشنطن بـطوفان الأقصى؟/ الجزيرة نت ــ  الإثنين 09 أكتوبر 2023م

[8] انظر أيضا: د. سعيد الحاج/ طوفان الأقصى.. مكاسب إستراتيجية لن تغيرها التفاصيل/ الجزيرة نت ــ الإثنين 09 أكتوبر 2023م

[9] طوفان الأقصى“: إسرائيل تضخ 45 مليار دولار لحماية الشيكل من الانهيار/ العربي الجديد ــ الإثنين 09 أكتوبر 2023

[10] مصطفى عبد السلام/ الاقتصاد الإسرائيلي المصائب لا تأتي فرادى/ العربي الجديد ــ الإثنين 09 أكتوبر 2023

[11] هآرتس: 4 خيارات لإسرائيل في غزة أحلاها مر/ الجزيرة نت  ــ الإثنين 09 أكتوبر 2023م

[12] أكسيوس: نتنياهو أبلغ بايدن أن لا خيار أمام إسرائيل سوى عملية برية في غزة/ الجزيرة نت ــ   الثلاثاء 10 أكتوبر 2023م

[13] رشا قنديل و مصطفى حسنيطوفان الأقصى».. اختبار لإسرائيل ومأزق لعباس وأمل للفصائل/ مدى مصر ــ  الإثنين 9 أكتوبر 2023

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022