عادت اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل، المعروفة باسم اتفاقية عنتيبي، المثيرة للجدل، إلى الواجهة من جديد. بعد أن صادقت عليها جمهورية جنوب السودان عليها يوم 8 يوليو 2024 في خطوة مفاجئة. ووقَّعت دول إثيوبيا وتنزانيا وأوغندا ورواندا على اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل، في 14 مايو 2010 ثم انضمَّت كينيا وبوروندي إلى الاتفاقية لاحقًا. ولم تتم المُصادقة على الاتفاقية رسميًا إلا بعد نحو 3 سنوات من التوقيع، إذ صادقت عليها إثيوبيا في يونيو عام 2013، وتلتها رواندا في أغسطس من ذات العام. وبعد عامين، وتحديدًا في 2015 صادقت تنزانيا على الاتفاقية، وتبعتها أوغندا في 2019، ثم بوروندي في عام 2023، في حين لم تُصادق عليها كينيا، التي كانت جزءًا من التوقيع الأولي. وتُعارض مصر والسودان اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل، وتتمسكان باتفاقيات 1902 و1929 و1959 التي ترفض الإضرار بدول المصب، كما تُقر حصة 55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل لمصر، وحصة 18.5 مليار متر مكعب للسودان. وبتصديق جوبا على الاتفاقية من المُفترض أن يكتمل النصاب القانوني لتأسيس مفوضية حوض نهر النيل، حيث يتم البدء بإجراءات تأسيس المفوضية بعد 60 يومًا من إيداع الجمهورية وثائق التصديق لدى الاتحاد الإفريقي. فما هي اتفاقية عنتيبي؟ وما هي أهم بنودها؟ وكيف يُمكن قراءة موقف جنوب السودان؟ وكيف يُمكن أن يُؤثر توقيعها على ملف سد النهضة؟ تلك هي التساؤلات التي سنسعى للإجابة عنها خلال هذا التقرير..
أولًا: اتفاقية عنتيبي ورفض دولتي المصب لها..
تشكّلت أولى ملامح التعاون بين دول حوض النيل في منتصف الستينيات من القرن الماضي إثر الارتفاع المفاجئ والكبير في بحيرة فكتوريا والذي نتجت عنه عدة مشاكل بيئية واجتماعية واقتصادية في تنزانيا وأوغندا وكينيا. لهذه الأسباب فقد دعت دول البحيرات الاستوائية مصر والسودان وإثيوبيا لمناقشة هذه المسألة تحت مظلة برنامج المسح المائي للبحيرات الاستوائية، والذي ساهمت الأمم المتحدة في تمويله وتسهيل إجراءاته. تواصلت لقاءات واجتماعات دول الحوض تحت عدّة مظلاتٍ لاحقة من بينها النيل الفني، والأُخُوّة، والنيل لعام 2000.[1]
1. اتفاقية عنتيبي وأهم بنودها: في عام 1997 برزت فكرة مبادرة حوض النيل والتي أخذت شكلها الرسمي في 22 فبراير عام 1999 في مدينة دار السلام في تنزانيا إثر توقيع وزراء المياه لدول الحوض على وقائع الاجتماع الذي أسّس لقيام مبادرة حوض النيل. اتفق وزراء المياه لدول الحوض على أن الهدف من المبادرة هو تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة من خلال الانتفاع المنصف والمنافع من موارد النيل المشتركة، والتوصُّل إلى اتفاقية تؤطِّر هذا الهدف وتشمل كل دول الحوض. قام البنك الدولي وعدد من منظمات الأمم المتحدة والمانحين بدور تسهيليٍ للمبادرة، وقد نجحت المبادرة في عدة مجالات من بينها إنشاء سكرتارية بمدينة عنتبي في أوغندا، ومكتب للنيل الشرقي بأديس أبابا، ومكتب لنيل البحيرات الاستوائية بمدينة كيغالي بدولة رواندا، وتمويل عدد من المشاريع المشتركة من صندوقٍ للمانحين تم إنشاؤه خصيصًا لهذا الغرض. بدأ العمل في اتفاقية الإطار التعاوني بعد أشهر قلائل من قيام مبادرة حوض النيل عام 1999، وتواصل حتى عام 2010. وقد قام البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية وعدد من الدول المانحة بدور تسهيلي في التفاوض على الاتفاقية. تتكوَّن اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل التي وافقت عليها معظم دول الحوض عدا مصر والسودان من 44 مادة مُوزعة على ديباجة وستة أبواب، بالإضافة إلى مُلحق للاتفاقية. وتتضمن الديباجة مجموعة من التعريفات. يتضمن الباب الأول مجموعة مبادئ لاستعمال وتنمية وحماية حوض النيل وتشمل هذه المبادئ مبدأ التعاون القائم على المساواة في السيادة والتعاون المتبادل وحسن النية، وكذلك مبادئ التنمية المستدامة والاستعمال المنصف والمعقول والالتزام بعدم التسبُّب في ضررٍ ذي شأن، وحق كل دولة من دول الحوض في استعمال مياه النيل داخل أراضيها مع مراعاة تلك المبادئ. تُلزم الاتفاقية أطرافها بالتعاون وبالتبادل المنتظم للبيانات والمعلومات خصوصًا فيما يتعلق بالآثار المحتملة للتدابير المزمع اتخاذها على حالة حوض النيل، وتتضمَّن الاتفاقية بنودًا عن تبادل المعلومات وليس عن الإخطار المسبق. يتناول الباب الثالث الهيكل المؤسسى لحوض النيل والذي يتكوَّن من مفوضية حوض النيل والتى تعطيها الاتفاقية مسئولية الإشراف التام على تطبيق بنود الاتفاقية. وحال دخول الاتفاقية حيز النفاذ فإن المفوضية سيتم تشكيلها لتحلَّ محل سكرتارية مبادرة حوض النيل القائمة حاليًا في مدينة عنتبي في أوغندا. يتناول الباب الخامس أحكامًا عامة، ويبدأ بتسوية المنازعات ويحث الأطراف على حل كافة النزاعات بالوسائل السلمية بدءًا بالتفاوض وطلب المساعي الحميدة أو الوساطة أو التوفيق من طرف ثالث أو بواسطة المفوضية أو التحكيم. وإذا فشلت الدول المعنية في الاتفاق على وسيلة لحل النزاع في ظرف ستة أشهر فإن النزاع يُحال الى لجنة تقصى الحقائق. يتناول الباب السادس والأخير أحكامًا ختامية تشمل إجراءات تعديل الاتفاقية وعلاقة الاتفاقية بالبروتوكولات التي يتم الدخول فيها تحت غطاء الاتفاقية، وكذلك إجراءات التوقيع والتصديق أو القبول للاتفاقية وبدء نفاذها والانسحاب منها. ويُوضِّح هذا الباب أن الاتفاقية ستدخل حيز التنفيذ بعد ستين يوم من اكتمال التصديق أو القبول السادس للاتفاقية.[2]
2. أسباب رفض دولتي المصب التوقيع على الاتفاقية: بالرغم من كون الاتفاقية تهدف بالأساس إلى تعزيز التعاون في مجال إدارة موارد المياه في النيل، وتقاسمها بشكل عادل بين الدول الأعضاء؛ إلا أنها كانت تحمل العديد من البنود التي تؤثر سلبًا على مصالح مصر والسودان؛ حيث تدور أهم تلك البنود حول: إنهاء الحصص التاريخية لمصر والسودان في مياه النيل (55.5 مليار متر مكعب لمصر و18.5 مليار متر مكعب للسودان) وفقًا لاتفاقيات 1929 و1959، وإلغاء الحظر التاريخي على دول المنبع لإقامة منشآت على ضفاف النيل، وإلغاء الفيتو المصري على مشروعات دول المنبع. وقد رفضت مصر والسودان التوقيع على الاتفاقية، واعتبرتاها “مُخالفة لكل الاتفاقيات الدولية”، وفي يونيو 2010 أعلنت الخرطوم تجميد عضويتها في مبادرة حوض نهر النيل، بعد رفض الدول الخمس التراجع عن الاتفاقية. وفي أكتوبر 2010 جمَّدت مصر عضويتها في مبادرة حوض النيل كرد فعل بعد توقيع دول منابع النيل على اتفاقية عنتيبي.[3] وقد ازدادت حدة تلك الخلافات ولاسيما بعد البدء بإرادة منفردة في بناء سد النهضة واستمرار عمليات التخزين دون التوصل إلى اتفاق ملزم بين الدول النيلية الثلاثة مصر والسودان وإثيوبيا. واستمرت تلك الخلافات على الرغم من تعدُّد الوساطات الإقليمية والدولية، ولم يكن من المُمكن حلها على مستوى المفاوضات أو المستوى الوزاري، ولم يتم التوصُّل إلى اتفاق بشأن المسودة النهائية لاتفاقية إطار العمل الشامل.[4]
3. مطالب دولتي المصب للتوقيع على الاتفاقية: يُمكن القول أن ذلك الموقف الصلب لدول المصب كان ذلك نتيجة الاختلاف الشديد في المواقف بينهم وبين دول المنبع بشأن النظام القانوني الحاكم لنهر النيل، بالإضافة إلى تمسُّك كلٌّ من مصر والسودان بما يعتبرانه استخدامات تاريخية وحقوقًا مُكتسبة في مياه النيل. حيث طالبت مصر والسودان بإشارة صريحة إلى تلك الاستخدامات والحقوق والتي يُطلق عليها “الأمن المائي” في اتفاقية الإطار الشامل؛ وهو الطلب الذي قُوبل بالرفض الشديد من قِبل دول حوض النهر الأخرى التي تمترست بلا هوادة خلف شعار الاستغلال المُنصف والمعقول. ومع ذلك، خشية من ضياع حقوقهما المُكتسبة في مياه نهر النيل، سجَّلت مصر والسودان على الفور عزمهما على عدم التوقيع على الاتفاقية لأنهما اعترضتا على صياغة المادة 14 (ب): التي تنص بالإشارة إلى دول حوض النيل: “ولذلك نتفق بروح التعاون على: . . . (ب) عدم التأثير بشكل كبير على الأمن المائي لأي دولة أخرى في حوض النيل”. وقد تم اقتراح صياغة بديلة للمادة 14 (ب): “وبالتالي تتفق دول حوض النيل، بروح التعاون على: . . . (ب) عدم التأثير بشكل كبير على الأمن المائي والاستخدامات الحالية وحقوق أي دولة أخرى في حوض النيل”. تم رفض هذه الصياغة من قِبل دول المنبع، التي جادلت بأن صياغة “الاستخدامات والحقوق الحالية” من شأنها أن تُرسخ مفهوم الحقوق التاريخية السابقة، بما في ذلك تلك التي أنشأتها اتفاقيات مياه النيل وتحتفظ بشكل فعَّال بأوضاع عدم المساواة في تخصيص واستخدام الموارد المائية في حوض نهر النيل منذ العشرينيات من القرن الماضي.[5] كما تطالب مصر والسودان بأن يتضمَّن الاتفاق، الإخطار المُسبق بأية مشروعات تقوم بها دول المنابع، وأن يتم إدراج هذه الإجراءات في نص الاتفاقية وليس في الملاحق الخاصة بها، وأن تكون جميع القرارات الخاصة بتعديل أي من بنود الاتفاقية الملاحق بالإجماع وليس بالأغلبية، وفي حالة التمسك بالأغلبية فيجب أن تشمل الأغلبية دولتي المصب مصر والسودان لتجنُّب عدم انقسام دول حوض النيل ما بين دول المنابع التي تشمل الأغلبية ودولتي المصب التي تُمثِّل الأقلية.[6]
ثانيًا: تصديق جنوب السودان على الاتفاقية وتداعياته..
يُعتبر تأسيس المفوضية هو أهم التداعيات المُحتملة لمُصادقة جوبا على اتفاقية عنتيبي، وتُعد المفوضية خطوة كبيرة في مسار تنفيذ اتفاقية عنتيبي التي ظلت مُتعثرة طوال 14 عامًا، حيث ستكون المفوضية هي الجهة المسؤولة قانونيًا عن جميع الحقوق والالتزامات الخاصة بمبادرة حوض النيل، والتواصل مع كافة الجهات المسؤولة. كما سيتمثَّل دورها في تعزيز التنسيق بين الدول الأعضاء لإدارة الموارد المائية بشكل مُستدام وعادل، بعيدًا عن نظام الحصص المائية السائد سابقًا. وستكون اتفاقية عنتيبي هي الإطار القانوني والمؤسسي الذي يُرجع إليه في حالة الخلافات والنزاعات.[7]
1. أسباب إقدام جنوب السودان على تلك الخطوة: يُعزي البعض تلك الخطوة من جانب جنوب السودان إلى أنه رغم علاقاتها الجيدة بمصر، فإن هناك دورًا واضحًا لكلٍّ من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وإثيوبيا وأطراف إقليمية ودولية في دفع جنوب السودان لهذه الخطوة. حيث أن مساعي إثيوبيا وحلفائها لتسريع تصديق دول حوض النيل على الاتفاقية يهدف إلى شرعنة سد النهضة، وتفريغ الاعتراضات المصرية والسودانية على السد ومطالبتها باتفاق قانوني مُلزم من مضمونه، ومن ثمَّ تكريس رأي عام عالمي داعم لحق إثيوبيا في بناء السدود على النهر دون العودة إلى مصر والسودان.بينما يتحدَّث البعض الآخر عن كون الخطوة التي اتخذتها جنوب السودان تعود إلى اقتصار مشروعات مصر في جوبا على المشاريع التنموية فقط. فيما تُقدِّم كلٌّ من واشنطن وتل أبيب وأديس أبابا خدمات استخباراتية ودفاعية وعسكرية تُحافظ على بقاء نظام سلفا كير الهش وتُقوِّي وجوده بالسلطة، وهو ما جعل جوبا تنحاز لهذا الفريق وتتجاهل مصر.[8] كما طرح البعض الآخر فكرة أن جوبا قد سعت إلى تحسين علاقاتها مع دول حوض النيل الأخرى، خاصةً مع إثيوبيا، حيث يرى هؤلاء أن جوبا ترى في الانضمام إلى الهضبة الإفريقية مصالح أكبر خاصة أنها أقرب إليهم دينيًا وعرقيًا وثقافيًا.[9] إلا أن كل هذا لا ينفي وجود عدة أسباب عدة أسباب موضوعية دفعت جنوب السودان للإقدام على تلك الخطوة: أولها؛ رغبتها في الاستفادة من المشاريع المشتركة التي ستترتب على الاتفاقية: بعض هذه الجوانب عبَّرت عنها لجنة الموارد المائية والري بالبرلمان قبل عملية التصديق، ومنها تعزيز إمكانات الطاقة الكهرومائية، والتغلب على النقص المُزمن في الكهرباء وانقطاعاتها المستمرة في البلاد، ومُعالجة مخاوف الأمن المائي مثل الجفاف والفيضانات وتأثيرات تغير المناخ. وثانيها؛ مشاكل توزيع المياه والبنية التحتية: تكمن المشكلة في جنوب السودان في توزيع المياه وتوفير البنية التحتية لنقلها لجميع أنحاء البلاد، وبالتالي باتت الحاجة للبحث عن مشاريع مشتركة لضمان عملية التوزيع، خاصة في ظل وجود أماكن تتعرض للجفاف في أقصى الشمال والجنوب. وثالثها؛ مواجهة التداعيات السلبية للأزمة الإنسانية: حيث تمر جنوب السودان بأسوأ أزمة إنسانية في العالم بعد تفاقم عمليات النزوح؛ بسبب الحرب في السودان المجاورة العام الماضي، فضلًا عن الجفاف الذي ضرب مناطق عدة في البلاد، ونجم عنه معاناة قرابة ثمانية ملايين نسمة “ثلثي السكان”، من انعدام أمن غذائي شديد، وواجهت البلاد أسوأ أزمة جوع في تاريخها. ورابعها؛ تقوية موقفها التفاوضي: تسعى جنوب السودان لتقوية موقفها التفاوضي عند بحث ملف تقاسم المياه مع السودان. رغم أن جنوب السودان لا تعترف باتفاقية 1959 لتقسيم مياه النيل بين مصر والسودان، إلا أنها تظل إحدى القضايا العالقة بين الجانبين منذ استقلال جنوب السودان في 2011. وخامسها؛ رغبة النظام في إحراز أي إنجاز قبل الانتخابات المقررة نهاية هذا العام: خاصة في ظل استمرار العنف والاضطرابات الأمنية في البلاد منذ أوائل هذا العام، واضطرار الأمم المتحدة لنشر قوات حفظ سلام إضافية، مع تمديدها العقوبات المفروضة على البلاد؛ بسبب استمرار انتهاكات حقوق الإنسان، فضلًا عن استمرار التمرد المسلح جنوب البلاد بقيادة توماس سيريلو وجبهته الوطنية للخلاص.[10]
2. موقف مصر وإثيوبيا من تصديق جنوب السودان: بعد قيام دولة جنوب السودان بالمُصادقة رسميًا على اتفاقية عنتيبي الإطارية لدول حوض النيل؛ تُصبح الدولة السادسة التي تُقرّ بالاتفاقية، مما يُتيح المجال لتأسيس “مفوضية حوض النيل” خلال 60 يوم. بالنسبة لمصر؛ فقد مثَّلت هذه المُصادقة مفاجأة لمراقبين، لأن مصر اعتادت الوقوف إلى جانب دولة جنوب السودان، كما تُقيم العديد من المشاريع وتُقدِّم مساعدات للدولة الناشئة حديثًا، وهو ما دعا مُعلِّقين للقول إن مصر -بصمتها الرسمي- لا تريد أن توصد الباب تمامًا مع جنوب السودان بتصريحات قد تُنهي ما تبقَّى من حسن العلاقات. حيث رفض مسؤولون بالخارجية المصرية التعليق على خطوة جنوب السودان، رغم إبداء مسؤولين سابقين القلق من الاتفاقية، التي تُعارضها مصر والسودان بشدة، خوفًا من إعادة توزيع حصص المياه بشكل غير عادل يُهدِّد الأمن المائي للبلدين. وبحسب بيانات رسمية، يتلخَّص موقف مصر الرسمي في التأكيد على تمسك مصر بحصصها التاريخية في مياه النيل، المُقرَّرة باتفاقيات 1902 و1929 و1959، وتُطالب باتفاق مُلزم قانونيًا يُنظم عملية ملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبي، الذي تعتبره مصر تهديدًا مباشرًا لمواردها المائية.[11] ومما لا شك فيه أن هذا التصديق على اتفاقية عنتيبي يُعد بمثابة اختبار حقيقي للعلاقات بين مصر وجنوب السودان، ويُثير تساؤلات حول مستقبل تلك العلاقات، ويفتح جبهة جديدة في الصراع على مياه النيل خاصة لمصر والسودان.[12] أما عن إثيوبيا؛ فقد سارع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى الإشادة بتلك الخطوة التي وصفها بأنها “لحظة تاريخية بالنسبة لإثيوبيا”، وقال في تغريدة عبر حسابه على منصة إكس “يُمثِّل هذا الإنجاز الدبلوماسي خطوة مهمة في تطلعنا الجماعي للتعاون الإقليمي في حوض النيل، وسيُوفِّر التصديق قوة دفع للعمل من أجل تحقيق الصالح المشترك لشعوبنا من خلال إنشاء مفوضية حوض النيل”.[13]
3. هل تدخل الاتفاقية حيز التنفيذ؟ يتطلَّب النصاب القانوني موافقة غالبية الثلثين من دول من حوض النيل (6 دول وقت الاتفاقية). لكن ذلك الشرط وضع قبل انفصال جمهورية جنوب السودان، وهو ما دفع البعض للقول إن موافقة برلمان جنوب السودان على اتفاقية عنتيبي لا يُدخلها حيز التنفيذ، نظرًا لعدم توفر الأغلبية المطلوبة، لأن جنوب السودان لم تكن ضمن الدول التسع التي شاركت في مبادرة حوض النيل (كينيا ورواندا وبوروندي وتنزانيا والكونغو وأوغندا وإثيوبيا والسودان ومصر)، ووقتها كما زعموا، أن توقيع الأغلبية (الثلثين أي 6 دول) يُدخل الاتفاق حيز التنفيذ، وهو ما لم يحدث، لأن انضمام جنوب السودان يجعل العدد الكلي 10 دول، والثلثان 7 دول وليس 6.[14] هذا ناهيك عن كون الاتفاقية تظل مجرد توافق بين دول بعينها، ما لم يتم إيداعها لدى المنظمات الإقليمية والدولية مثل الاتحاد الإفريقي ومؤسسات البنك الدولي المعنية بقوانين المياه وغيرها، لاعتمادها رسميًا. ومن ثمَّ؛ فهناك معركة قانونية وسياسية طويلة تنتظر دول المنبع، لكي تُصبح الاتفاقية واقعًا مُعترفًا ومعمولًا به.[15]
4. في حال دخول الاتفاقية حيز التنفيذ؛ ما هي التداعيات المُحتملة؟ وسيكون لدخول هذه الاتفاقية حيز التنفيذ، تداعيات عديدة: أولها؛ الانتقال من مبادرة حوض النيل إلى مفوضية حوض النيل: الانتقال من مبادرة حوض النيل، وهي ترتيب انتقالي، إلى مفوضية حوض النيل، وهي مفوضية دائمة تشرف على تنفيذ الاتفاقية. وثانيها؛ إنهاء فكرة الحقوق التاريخية المكتسبة لمصر: وسيكون الحديث بدلًا من ذلك عن مبدأ الاستخدام العادل “المنصف” والمعقول. وثالثها؛ تطوير إجراءات الإخطارات التفصيلية: إنشاء مبادئ توجيهية لتبادل البيانات، وتقييمات الأثر البيئي، وحل النزاعات. ورابعها؛ إمكانية تصديق دول أخرى: تلعب إثيوبيا دورًا في ذلك عبر عدد من المشاريع الإقليمية. وخامسها؛ إمكانية انضمام السودان للاتفاقية: السودان مستفيد أيضًا من سد النهضة، والتقارب الأخير بين إثيوبيا والبرهان قد يؤدي إلى إمكانية انضمام السودان لهذه الاتفاقية مستقبلًا. وسادسها؛ تأكيد الهيمنة الإثيوبية في منطقة حوض النيل على حساب مصر: استمرار اتباعها سياسة الأمر الواقع، وعدم التشاور في استكمال عملية الملء والتشغيل الخاصة بسد النهضة. وسابعها؛ حصول المفوضية الجديدة على المشروعية القانونية الدولية: إمكانية الحصول على التمويل الدولي للمشاريع المشتركة.[16] هذا بالإضافة إلى تأثير عودة اتفاقية عنتيبي على أزمة سد النهضة؛ ففي ديسمبر 2023، أعلنت مصر انتهاء مسار مفاوضات سد النهضة من دون التوصُّل إلى اتفاق بين دولتي المصب ودول المنبع، في حين واصلت أديس أبابا، أعمال البناء وأنجزت 95% منها وتستعد هذا الصيف للملء السنوي الخامس.[17] وعودة اتفاقية عنتيبي للواجهة تأتي في ظل أزمة مستمرة بين مصر والسودان من جهة وإثيوبيا من جهة أخرى بسبب سد النهضة. هذا التطور يُضيف بُعدًا جديدًا للأزمة، حيث أن توقيع جنوب السودان على الاتفاقية قد يُعزِّز موقف دول المنبع ويُضعف الموقف التفاوضي لمصر والسودان، حيث أن إثيوبيا قد تستغل هذا التغير في موقف جوبا لتعزيز موقفها التفاوضي.[18]
الخُلاصة؛ لم يكن خافيًا أن حكومة جنوب السودان خضعت لضغوط كبيرة من الطرفين مما أبقاها مُترددة بشأن الانضمام أو عدم الانضمام إلى اتفاق الإطار الشامل لفترة طويلة. وحسم جنوب السودان لهذا التردُّد، والذي ربما ينتج عنه قيام مفوضية حوض النيل رغم معارضة مصر والسودان؛ سيؤدي في الأخير إلى توترات دبلوماسية متزايدة بين دول حوض النيل، مما يزيد من احتمال حدوث نزاعات مائية حول حقوق وطرق استخدام مياه النيل. هذا الوضع قد يتفاقم بسبب التأثيرات الاقتصادية السلبية على الأنشطة الزراعية والصناعية في مصر والسودان، اللذين يعتمدان بشكلٍ كبير على مياه النيل. بالإضافة إلى ذلك، قد تلجأ كل من مصر والسودان إلى التحكيم الدولي أو محكمة العدل الدولية لحل النزاعات المتعلقة بتوزيع المياه. وفي ظل الحرب الدائرة في السودان، تزداد الأمور تعقيدًا حيث يؤثر النزاع المستمر على قدرة السودان على المشاركة بفعالية في المفاوضات والتفاوض على حقوقه المائية. وللعمل على تسوية هذه القضايا، ينبغي على جميع الدول المعنية العودة إلى طاولة المفاوضات والتعاون مع وسطاء دوليين لتعزيز الحوار وتحقيق تسوية عادلة. كما يتعيَّن أيضًا تعزيز التعاون الإقليمي من خلال مشروعات مشتركة لإدارة الموارد المائية بكفاءة، وإجراء دراسات مشتركة لفهم أفضل لموارد النيل والتحديات البيئية، مما يساعد في اتخاذ قرارات مستنيرة تستند إلى العلم والمعرفة، لضمان استخدام مستدام ومنصف لموارد نهر النيل يخدم مصالح جميع الدول المعنية وفي ظل الوضع المتوتر حول سد النهضة الإثيوبي.
[1] د. سلمان محمد أحمد سلمان، “دخولُ اتفاقيةِ الإطار التعاوني لحوض النيل حيّز النفاذ – المدلولات والنتائج”، سودانايل، 15/7/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/I9c9Mncf
[2] د. سلمان محمد أحمد سلمان، مرجع سبق ذكره.
[3] محمد أحمد، “جوبا تتخلى عن القاهرة وتفاجئها بالتوقيع على اتفاقية “عنتيبي” المتعلقة بالنيل”، عربي 21، 16/7/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/5VZBYkwU
[4] د. حمدي عبد الرحمن حسن، “الحرب القادمة.. اتفاقية مياه النيل تدخل حيز التنفيذ”، قراءات إفريقية، 18/7/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/8KZTbVil
[5] د. حمدي عبد الرحمن حسن، مرجع سبق ذكره.
[6] “اتفاقية عنتيبي… قلق مصري من تقاسم المياه”، العربي الجديد، 17/7/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/0Yx0fUPQ
[7] “اتفاقية عنتيبي… قلق مصري من تقاسم المياه”، مرجع سبق ذكره.
[8] عبد الله حامد، “بعد توقيع جنوب السودان.. ما خيارات القاهرة أمام اتفاقية عنتيبي؟”، الجزيرة نت، 18/7/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/v7japEUC
[9] محمد أحمد، مرجع سبق ذكره.
[10] د. بدر حسن الشافعي، “تصديق جنوب السودان على اتفاقية “عنتيبي”.. الأسباب والتداعيات”، الجزيرة نت، 27/7/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/fs93rbxY
[11] عبد الله حامد، مرجع سبق ذكره.
[12] محمد عبد الله، “انضمام جوبا المفاجئ لاتفاقية عنتيبي.. هل يفتح جبهة جديدة في الصراع على مياه النيل؟”، الجزيرة نت، 19/7/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/AWdS01i2
[13] محمد عبد الله، مرجع سبق ذكره.
[14] “اتفاقية عنتيبي… قلق مصري من تقاسم المياه”، مرجع سبق ذكره.
[15] ““اتفاقية عنتيبي” لحوض النيل تدخل حيز التنفيذ بشكل مفاجيء.. وصدمة لمصر والسودان”، مصريون، 17/7/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/0EJAMh1s
[16] د. بدر حسن الشافعي، مرجع سبق ذكره.
[17] محمد عبد الله، مرجع سبق ذكره.
[18] محمد أحمد، مرجع سبق ذكره.