شهدت تونس في 6 أكتوبر 2024 انتخابات رئاسية هي الثالثة منذ قيام الثورة، وهذه الانتخابات هي الأولى بعد 25 يوليو 2021، تاريخ إعلان الرئيس قيس سعيد حزمة من الإجراءات الاستثنائية، شملت تعليق العمل بالدستور وتجميد عمل البرلمان وحل الحكومة. بناءً على تلك الإجراءات، جمع سعيد كل السلطات بين يديه وأدار البلاد بمراسيم رئاسية منح بمقتضاها لنفسه سلطات تنفيذية وتشريعية مُطلقة، لا رقابة عليها، وشكَّل لاحقًا حكومة اختار هو رئيسها ووزراءها، تعمل تحت إشرافه وتُنفِّذ برنامجه. وجاءت هذه الانتخابات بعد ثلاثة أعوام من السيطرة الكاملة لسعيد على الحكم، أحدث خلالها تغييرات جوهرية على النظام السياسي، وأعاد تشكيل المشهد العام في البلاد، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. وبالتزامن مع تلك الانتخابات؛ شهدت البلاد أيضًا موجة من الاحتجاجات الشعبية عبَّرت عن استياء واسع من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مما يعكس الانقسامات العميقة في المجتمع التونسي. ومؤخرًا أعلنت الهيئة العُليا المُستقلة للانتخابات في تونس، مساء الإثنين 7 أكتوبر 2024، فوز المُرشح قيس سعيد بولاية رئاسية ثانية بنسبة بلغت 90.69% من أصوات الناخبين، في ظل جدل واسع مُتعلّق بنسب المشاركة، ونزاهة الانتخابات، وشفافيتها، والإجراءات التي رافقتها، وتداعياتها المُحتملة على المشهد السياسي التونسي.
أولًا: الخلفية التاريخية والسياسية للانتخابات الرئاسية في تونس..
الانتخابات في تونس تتمتَّع بخلفية تاريخية وسياسية غنية تعكس تطور البلاد من الاستعمار إلى الدولة الحديثة، ثم التحول الديمقراطي. بعد الاستقلال عن فرنسا في عام 1956، شهدت تونس نظامًا سياسيًا بقيادة الحزب الواحد تحت حكم الحبيب بورقيبة، الذي حكم البلاد حتى 1987 حين تم الإطاحة به بانقلاب غير دموي قاده زين العابدين بن علي. خلال فترة بن علي، كانت الانتخابات شكليّة وغير ديمقراطية، حيث سيطر الحزب الحاكم على المشهد السياسي واستمرت القمعية السياسية. في عام 2011، جاءت الثورة التونسية كجزء من “الربيع العربي”، وأسقطت نظام بن علي، ما فتح المجال أمام انتقال ديمقراطي حقيقي. منذ ذلك الحين، أصبحت الانتخابات التونسية تُجرى بشكل تعددي وشفاف، حيث كانت انتخابات 2011 هي الأولى التي أجريت بحرية، وأنتجت دستورًا جديدًا في 2014. شهدت تونس عدة انتخابات برلمانية ورئاسية بعد الثورة، وتميَّزت بالتنافس بين الأحزاب السياسية المختلفة، بما في ذلك الإسلاميين والعلمانيين، مما جعلها نموذجًا ديمقراطيًا فريدًا في المنطقة. ومع ذلك، تواجه تونس تحديات في ترسيخ هذه الديمقراطية، وسط توترات سياسية واقتصادية مستمرة.
1. الثورة التونسية والتحول الديمقراطي وصعود قيس سعيد: كانت تونس من أولى الدول التي شهدت شرارة ثورات الربيع العربي في ديسمبر 2010، عندما قام محمد البوعزيزي، وهو بائع متجول، بإحراق نفسه احتجاجًا على الظروف المعيشية الصعبة وسوء معاملة السلطات. تسببت هذه الحادثة في إشعال موجة من الاحتجاجات الشعبية التي أدت في النهاية إلى هروب الرئيس زين العابدين بن علي في يناير 2011 بعد 23 عامًا من الحكم السلطوي.[1] عقب سقوط النظام، دخلت تونس في مرحلة انتقالية مهمة شهدت تبني دستور جديد في عام 2014، اعتُبر أحد أبرز الإنجازات الديمقراطية في المنطقة. كما نظمت انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة ونزيهة، مما جعل تونس نموذجًا للتحول الديمقراطي في العالم العربي. إلا أن هذه المرحلة الانتقالية لم تكن سهلة، حيث واجهت البلاد تحديات اقتصادية كبيرة، إلى جانب التوترات السياسية بين القوى العلمانية والإسلامية، وخاصة حزب النهضة الإسلامي الذي لعب دورًا مهمًا في الفترة الانتقالية.[2] وشهدت الانتخابات الرئاسية التونسية لعام 2019 مفاجأة كبيرة بفوز قيس سعيد، وهو أكاديمي مستقل كان غير معروف على نطاق واسع في الساحة السياسية التونسية. انتخب سعيد بنسبة تجاوزت 70% من الأصوات، ما يعكس رغبة الشعب التونسي في التغيير والابتعاد عن النخب السياسية التقليدية التي كانت في الحكم منذ الثورة. قدم سعيد نفسه كمنقذ للشعب، واعدًا بمحاربة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية.
2. قيس سعيد وخلفيات الأزمة السياسية في تونس: باعتباره شخصًا مستقلًا، اضطر سعيد إلى العمل مع برلمان تسيطر عليه أحزاب المعارضة. ومن بين هذه الأحزاب كان حزب النهضة، الذي فاز بمقاعد أكثر من أي حزب آخر، وكان لاعبًا رئيسيًا في الإصلاح في تونس منذ الإطاحة بالحاكم الدكتاتوري زين العابدين بن علي في عام ٢٠١١. وباعتبارهم مُمثلين منتخبين شعبيًا، اكتسبت هذه الأحزاب البرلمانية أيضًا الشرعية لقيادة الأمة. وكان قد أسَّس دستور تونس ٢٠١٤ لنظام شبه رئاسي، حيث ينتخب البرلمان رئيس الوزراء، الذي يختار الوزراء ويقود الحكومة ورئاسة الدولة. وكان هذا الترتيب بمثابة رد مباشر على تجاوزات السلطة التنفيذية وممارسات الإفلات من العقاب التي ميَّزت حكم بن علي الذي دام ٢٤ عامًا. إلا أن قيس سعيد لم تعجبه مع تلك الترتيبات لتقاسم السلطة، فأعلن حالة الطوارئ وعلَّق عمل البرلمان في ٢٥ يوليو ٢٠٢١، حيث أرسل الدبابات للقيام بذلك. وأقال رئيس الوزراء هشام المشيشي وسيطر على مهام الحكومة والدولة –في مخالفة مباشرة للدستور– وبدأ يحكم بمراسيم. وفي أكتوبر ٢٠٢١، قام سعيد بتعيين رئيسة الوزراء نجلاء بودن لتكون مسؤولةً أمامه دون موافقة البرلمان. وقد واصل بعد ذلك هجومًا منهجيًا ومستمرًا على جميع المؤسسات الديمقراطية التي وصلت إليها تونس بشق الأنفس. وعندما عقد أغلبية أعضاء البرلمان اجتماعًا عبر الإنترنت في مارس ٢٠٢٢ (أثناء أزمة كوفيد) للتصويت على شرعية إجراءات الطوارئ التي اتخذها سعيد، قام بحل البرلمان رسميًا. واعترافًا بأن الدستور كان عائقًا أمام أسلوبه في الحكم، قام سعيد بتعليقه في سبتمبر ٢٠٢١. وأشرف على كتابة دستور جديد في عام ٢٠٢٢ أعاد إنشاء نظام رئاسي، حيث يشغل الرئيس منصب رئيس الدولة والحكومة. واعتبرت أحزاب المعارضة أن تصرفات سعيد كانت غير قانونية وغير شرعية، وقاطعت الاستفتاء على الدستور الذي لم تتجاوز نسبة المشاركة فيه ٣1%. ومنحت الانتخابات البرلمانية اللاحقة، التي قاطعتها المعارضة مرة أخرى، لسعيد البرلمان الذي كان يريده. وقام سعيد بحل مجلس القضاء الأعلى المهني في فبراير ٢٠٢٢، واستبدله بهيئة مُعينة. وفي يونيو، أصدر مرسومًا يسمح للرئيس بإقالة وتعيين القضاة من جانب واحد، وهي السلطة التي يُقنِّنها دستور ٢٠٢٢ المُثير للجدل. وفي الفترة التي سبقت الاستفتاء على الدستور، استبدل سعيد اللجنة التنفيذية للهيئة العليا المُستقلة للانتخابات التي تحظى بالاحترام. تميز التصويت على الاستفتاء لاحقًا بانعدام الشفافية والأخطاء الحسابية وعدم قدرة معارضي الاستفتاء على القيام بحملاتهم بحرية. ومع شعوره بعدم القدرة على إظهار شفافية أو نزاهة الانتخابات الرئاسية، فقد منع سعيد بالفعل مُراقبي الانتخابات الدوليين من مراقبة انتخابات ٢٠٢٤. وقام سعيد بتسييس الجهات الأمنية للدولة التي تنفذ بفعالية أجندته السياسية ضد المنافسين المحليين، وفي نوفمبر ٢٠٢٣، طرح برلمان سعيد مشروع قانون لتقييد المجتمع المدني بشدة في محاولة لتقييد الفضاء الديمقراطي بشكل أكبر. من خلال حل البرلمان، قام بإلغاء الحصانة القانونية للمشرعين وتم سجن العشرات، بعضهم بعد محاكمات عسكرية.[3] وفي ظل هذا السياق، جاء الإعلان عن الانتخابات الرئاسية لعام 2024 كحدث بالغ الأهمية، في وقت تستمر فيه الأزمة السياسية والاقتصادية.
ويأتي قرار الرئيس قيس سعيد بحل البرلمان التونسي في ظل سياق مضطرب تعيشه تونس على كافة المستويات. فأولًا؛ جاء قرار حل البرلمان عقب جلسة البرلمان التي تمت عن بُعد وشارك فيها 121 نائبًا. وافق 116 من جملة 217 نائبًا بالبرلمان المُعلقة أعماله على مشروع قانون يلغي الإجراءات الاستثنائية التي أعلنها الرئيس سعيد في 25 يوليو الماضي، وشملت حل الحكومة وتعليق عمل البرلمان، والتي اعتبرها معارضوه انقلابًا على الدستور. كما يلغي القانون الذي وافق عليه النواب المراسيم والأوامر التي أصدرها الرئيس منذ ذلك التاريخ.[4] كما أكد النواب المشاركون في الجلسة على عدم اعترافهم بشرعية المجلس المؤقت الجديد، وندَّد المشاركون بما وصفوه بـ”محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية”، ودعوا إلى فتح حوار وطني شامل لإنقاذ البلاد من أزمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وثانيًا؛ تزامن قرار حل البرلمان المُجمَّد مع تعقُّد المشهد السياسي التونسي، ودعوة العديد من القوى السياسية إلى إجراء حوار وطني شامل بالبلاد، يُمهِّد لتوافق بين القوى السياسية حول آليات التعاطي مع أزمات البلاد، واعتبار “الاستشارة الإلكترونية” التي بدأت مطلع العام الحالي وانتهت في 20 مارس الحالي، غير مُجدية لحلحلة الأزمات، ولا تُمثِّل بديلًا للحوار الوطني -حيث لم يتجاوز معدل المشاركة فيها نسبة الـ5%-، لكن الرئيس سعيّد لم يُصدر أي رد فعل تجاه دعوات إجراء حوار وطني، واكتفى بالإشارة إلى أنها تُظهر رغبةً في التوجه نحو النظام الرئاسي. وثالثًا؛ لم تقتصر حالة الاستقطاب والتشتت التي تشهدها تونس، والتي تزامن معها قرار حل البرلمان، على المشهد السياسي فقط، إذ أنه يأتي بالتزامن مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، في ضوء تأخر دفع رواتب بعض مؤسسات القطاع الحكومي، ونقص بعض المواد الأساسية من السوق التونسية، والخلاف بين حكومة نجلاء بودن والاتحاد التونسي العام للشغل حول خطة الإصلاح الاقتصادي، إذ يرفض الاتحاد الإصلاحات الاقتصادية؛ التي تقترحها الحكومة التونسية للحصول على تمويل من صندوق النقد، خصوصًا وأنها تتضمن “وقف التوظيف، وتجميد الأجور لمدة 5 سنوات في القطاع العام، وبيع بعض الشركات العامة، ورفع الدعم نهائيًا في غضون 4 سنوات”.[5]
ثانيًا: الانتخابات الرئاسية لعام 2024..
استفاد سعيد من الدعم السياسي من روسيا ودول الخليج ومن الرسائل المُضلِّلة التي تهدف إلى خنق النموذج الديمقراطي الناجح الذي قد يكتسب زخمًا في أماكن أخرى في المنطقة. وفي هذا السياق جرت انتخابات ٢٠٢٤. في حين أن حملة قمع سعيد على المعارضة كان لها الأثر المقصود المُتمثِّل في خلق حالة من الفتور حول النقاش العام أو النقد، فإن قادة أحزاب المعارضة والمجتمع المدني يواصلون التحدُّث علنًا، وتنظيم احتجاجات ضد استيلاء سعيد على السلطة، والمُطالبة بالإفراج عن جميع السجناء السياسيين. كما عملت أحزاب المعارضة بشكلٍ أوثق معًا بهدف تقديم مرشح واحد لخوض انتخابات ضد عملية تُعد بالتأكيد أقل حريةً ونزاهةً. وكانت محاولات استعادة الديمقراطية في مقدمة ومحور الانتخابات التونسية. وتجلَّى ذلك جنبًا إلى جنب مع الصعوبات الاقتصادية المُتزايدة؛ حيث بلغ مُعدَّل البطالة 15%، ووصل التضخم قرابة ال ١0%، مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية خلال معظم أيام العام. وفي مواجهة الديون المتزايدة، تتفاوض تونس مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض طارئ. ردًا على الأزمة الاقتصادية، أقال سعيد رئيسة وزرائه المُعيَّنة، نجلاء بودن، في أغسطس ٢٠٢٣، وعيَّن مكانها أحمد الحشاني. وبالمثل، حاول سعيد خلق كبش فداء من خلال إلقاء اللوم على المهاجرين الأفارقة، مما أثار أعمال عنف واسعة النطاق ضد المهاجرين. وكثَّفت الحكومة عمليات البحث والاحتجاز للمهاجرين الأفارقة الذين يتم نقلهم، في بعض الأحيان، إلى مناطق معزولة في الصحراء على طول الحدود الليبية ثم يُتركون هناك.[6]
1. المناخ السياسي قُبيل الانتخابات: قبل الانتخاب الرئاسية، شنَّت السلطات هناك حملة شديدة ضد المرشحين المحتملين. وجري استبعاد مرشحين بحجة ارتكاب مخالفات قانونية. وتعرَّض مُنتقدو الرئيس قيس سعيد لضغوط متزايدة. حيث قبع لطفي المرايحي الأمين العام للاتحاد الشعبي الجمهوري والمرشح للانتخابات الرئاسية التونسية في السجن وواجه اتهامات خطيرة. حيث اتهمته السلطات بغسيل الأموال وتحويلها بشكل غير قانوني إلى الخارج. كما تعرَّض العديد من السياسيين الآخرين الذين أبدوا اهتمامًا بالترشح للمنصب الأعلى في الدولة أو الذين يُعتبرون مرشحين محتملين، لاستهداف السلطات. وعلى سبيل المثال صدر أمر اعتقال ضد الصحفي والسياسي صافي سعيد بسبب اتهامات بالتزوير والاحتيال. بالإضافة إلى ذلك، تواجد العديد من المرشحين المحتملين في السجن أو في المنفى. ولم تقتصر إجراءات السلطات على المرشحين المحتملين في الانتخابات، بل شملت أيضًا الأصوات الناقدة بشكلٍ عام. ففي مايو الفائت تم اعتقال المحامية سونيا الدهماني، المعروفة بانتقاداتها للرئيس سعيد، في استوديو تلفزيوني أمام الكاميرات. وقد حُكم عليها بالسجن لمدة عام بتهمة نشر أخبار كاذبة. وخلال العام الماضي تم اعتقال راشد الغنوشي، رئيس حزب النهضة الإسلامي وهو من أشد المُنتقدين للرئيس قيس سعيد. أما التهمة المُوجهة له فهي التحريض ضد الشرطة والتآمر ضد أمن الدولة.وهكذا؛ فإن الشروط الأساسية للانتخابات الحرة غير متوفرة، لاسيما وأن المناخ السياسي مشحون بالاعتقالات والمحاكمات والعقوبات.كما أنه كان هناك العديد من المخاطر القانونية التي تواجه المرشحين، والتي تعود إلى مرسوم صدر في سبتمبر 2022 يستهدف حرية الرأي والصحافة. ويتم العمل بذلك من خلال اتهامات مُلفقة مثل إنتاج أو ترويج أو نشر “أخبار كاذبة” أو “شائعات”. ويُمكن مُعاقبة هذه الأفعال بالسجن لمدة تصل إلى خمس سنوات. علاوةً على ذلك، تم تشديد شروط الترشح أيضًا. فقد تمَّ رفع الحد الأدنى لسن المرشحين المحتملين من 35 إلى 40 عامًا. كذلك يُستبعد مزدوجو الجنسية – وغالبًا ما يكونون في تونس أشخاصًا يحملون جواز سفر تونسي وفرنسي في آنٍ واحد – من الترشح.[7]
2. الإعلان عن المُرشحين: أعلنت الهيئة العليا المُستقلة للانتخابات في تونس، يوم السبت 10 أغسطس، قبول ثلاثة مرشحين “أوليًا” للانتخابات الرئاسية، من بينهم الرئيس الحالي قيس سعيّد الذي كان يسعى إلى الفوز بولاية ثانية. وقال رئيس الهيئة، فاروق بوعسكر، في مؤتمر صحفي، إنه “بعد دراسة دقيقة للمطالب” تم قبول ثلاثة مرشحين من أصل 17 طلبًا، وهم الرئيس التونسي قيس سعيّد والأمين العام لـ”حركة الشعب”، زهير المغزاوي، والسياسي العياشي زمّال. وبالإضافة إلى ترشح الرئيس سعيَّد، أعلن عدد من الساسة التونسيين المعارضين عن ترشُحهم للانتخابات، غير أن الهيئة لم تعلن اختيار أي منهم. ومن بينهم أمين عام حزب العمل والإنجاز عبد اللطيف المكي، الذي كان قياديًا في حركة النهضة، قبل أن يُؤسِّس حزبه السياسي الجديد. كما أعلن الحزب الدستوري الحر، عن ترشيح زعيمته عبير موسي، التي تقبع في السجن منذ أكتوبر من العام الماضي، واعتبر حزبها أن سجنها يمثل “محاولة من السلطة لاختلاق أسباب أو موانع قانونية، لإزاحتها من المشاركة في الانتخابات الرئاسية”. كما أعلن أمين عام حزب الاتحاد الشعبي الجمهوري لطفي المرايحي، ترشحه للانتخابات. وقد أصدر قاضي التحقيق في المحكمة الابتدائية بتونس، قرارًا بحبس المرايحي، وهو أحد أبرز منتقدي الرئيس سعيد، على ذمة الاشتباه في تورطه في قضايا غسل أموال، وفتح حسابات بنكية بالخارج، دون ترخيص من البنك المركزي. بالإضافة إلى ذلك، أعلن الكاتب الصحفي الصافي سعيد، الترشح للانتخابات الرئاسية لهذا العام، إلا أنه يواجه بدوره ملاحقة قضائية، إذ صدر ضده حكم غيابي بالسجن لمدة أربعة أشهر، بسبب اتهامه من جانب الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، بـ “تدليس التزكيات الخاصة بالانتخابات الرئاسية لسنة 2014″، وفقا لما أفادت به تقارير محلية. وفي السياق نفسه، يواجه منذر الزنايدي، وهو وزير سابق في نظام بن علي يقيم في باريس، كان قد أعلن بدوره الترشح للسباق الرئاسي، يواجه ملاحقة قضائية بشبهة فساد مالي، حسبما قال محامون.[8]
3. التحديات السياسية والقانونية: تُعاني تونس من حالة من الانقسام السياسي العميق، حيث تواجه الأحزاب السياسية صعوبة في تقديم برامج مقنعة يمكن أن تحظى بتأييد شعبي واسع. وفي ظل هيمنة سعيد على المشهد السياسي واستمرار الإجراءات الاستثنائية، يثور التساؤل حول مدى نزاهة الانتخابات وإمكانية توفير بيئة سياسية صحية للتنافس الديمقراطي. كما تُشكِّل الإصلاحات الدستورية التي أجراها سعيد عام 2022، والتي منحت الرئيس سلطات أوسع، تحديًا قانونيًا، حيث يعتقد بعض المحللين أن هذه الإصلاحات قد تعزز من سلطته التنفيذية على حساب البرلمان.[9]
قبلت المحكمة الإدارية طعون ثلاثة مرشحين للانتخابات الرئاسية، وقررت إرجاعهم إلى السباق الانتخابي، ملغية بذلك قرارات الهيئة التي أسقطتهم “بدون وجه قانوني” و”بتعليلات واهية”، كما وصف ذلك المرشحون الثلاثة، وكما نص عليه ضمنيًا قرار المحكمة. وفيما توقَّع الرأي العام في الداخل والخارج، والفاعلون السياسيون، استئناف المرشحين لمكانهم ضمن المشهد الانتخابي كمنافسين “جديين” للرئيس قيس سعيد، جاء قرار هيئة الانتخابات مُحبطًا للجميع، من خلال الإمعان في إقصاء المرشحين الثلاثة.قرار هيئة الانتخابات هذا تسبَّب في سيل عارم من الانتقادات اللاذعة، صدرت عن رجال قانون وشخصيات سياسية وأحزاب ومنظمات، وفعاليات حقوقية في الداخل والخارج. وتم وصفه بـ”التعسفي” و “الإقصائي” والمُنحاز لرئيس الدولة. بل اتُهمت الهيئة بتحولها إلى “أداة لدى السلطة التنفيذية”، بما أفقدها استقلاليتها، وبالتالي مصداقيتها، ونزع عنها صفة الحياد التي عُرفت بها الهيئة منذ إنشاء أول نسخة منها في العام 2011، بمناسبة أول انتخابات تعددية حقيقية في البلاد، إبّان ثورة 14 يناير 2011. وخرج رئيسها، فاروق بوعسكر، ليُعلن مُجددًا استمرار إقصاء المرشحين الثلاثة: عماد الدايمي، ومنذر الزنايدي، وعبد اللطيف المكي. ووجَّه اتهامًا للمحكمة الإدارية بخرق الإجراءات القانونية، الشيء الذي نفته المحكمة نفيًا قاطعًا، عبر عرض وثائق تؤكِّد سلامة إجراءاتها وخطواتها وفقًا للقانون والمجلة الجزائية المنظمة لعمل المحكمة ومجالات تدخلها. وفي خطوة مُتقدمة من هذا الصراع الناشئ، لجأت بعض الأطراف في البلاد إلى مقاضاة هيئة الانتخابات، باعتبارها “تعمّدت تجاوز السلطة”، ولم تقبل بقرارات الجهة الوحيدة المحكِّمة في العملية الانتخابية، وهي المحكمة الإدارية، التي تُعدّ أحكامها باتّة ونهائية، أي غير قابلة للطعن أو الإلغاء. ورغم الجدل الذي لم ينتهِ بين المؤسستين، فإن النتيجة واحدة، وهي إقصاء المرشحين الثلاثة، والإبقاء على الثلاثي المعلن منذ البداية: الرئيس قيس سعيّد، وزهير المغزاوي (أمين عام حركة الشعب)، والعياشي الزمال (رئيس حركة “عازمون”) الذي أُدخل السجن موقوفًا؛ بسبب “جرائم تدليس التزكيات الشعبية”، حسب اتهام السلطة له. ليس هذا وحسب، بل سارعت السلطة التنفيذية إلى نشر قرار الهيئة ضمن الجريدة الرسمية للجمهورية التونسية؛ لقطع الطريق أمام أي أمل في العودة إلى الوراء، كما يُردِّد الرئيس سعيّد دائمًا.[10]
4. نتائج الانتخابات ونسب المشاركة: بدا جليًّا، خلال الأسابيع التي سبقت يوم الاقتراع، أنه لا أساس للرهان على هذه الانتخابات لإحداث تغيير في المشهد السياسي؛ ومع ذلك، انقسمت مكونات المعارضة من أحزاب وشخصيات وناشطين سياسيين، بين خيارَي المشاركة والمقاطعة. ذهب دعاة مقاطعة التصويت إلى أن النتيجة باتت محسومة لمصلحة الرئيس سعيد، بسبب غياب شروط التنافس النزيه في ظل هيمنته على مؤسسات الدولة بما فيها هيئة الانتخابات التي عيّن رئيسها وأعضاءها، وتطويعها لمصلحته، واستباقه أي مفاجآت بترسانة تشريعية صيغت على مقاسه، وتوظيف الإعلام للترويج لخطابه، ومنع المراقبين المحليين والدوليين من القيام بمهماتهم؛ ما يُفقد العملية أدنى شروط الشفافية والنزاهة. أما دعاة المشاركة، وبعضهم من الناشطين في الأحزاب التي دعت إلى مقاطعة الانتخابات، فقد برّروا خيارهم بأن الموعد الانتخابي فرصة لحشد الرأي العام من أجل فرض التغيير عبر التصويت للمرشح السجين زمّال، باعتباره الخيار المُمكن، أو تهيئة المشهد لمسار احتجاجي في إثر الانتخابات؛ في حال لجوء السلطة القائمة إلى التلاعب الواسع بنتائج الاقتراع وتزويرها، أو إلغاء أصوات انتخابية للمرشح زمّال. وأعلنت الهيئة العليا المُستقلة للانتخابات، مساء 7 أكتوبر 2024، أن عدد المُشاركين في التصويت بلغ 2808548؛ ما يُعادل 28.8% من مجموع الناخبين المسجلين البالغ 9753217؛ وهي نسبة أعلى مما سُجّل في انتخابات مجلس النواب والمجالس المحلية ومجلس الجهات والأقاليم، لكنها أدنى كثيرًا من النسب المُسجلة في الانتخابات الرئاسية عامَي 2014 (64%) و2019 (45%). حصل الرئيس سعيد، بحسب النتائج الأولية المُعلنة من الهيئة، على 90.69% من أصوات المُقترعين، تلاه المرشح السجين زمّال بنسبة 7.35%، بينما حصل المغزاوي على 1.97%. وبناءً على هذه النتائج، حسم سعيد السباق من الدور الأول. مُقارنةً بنتائج الانتخابات الرئاسية لسنة 2019، تراجع عدد المصوتين لسعيد بنسبة 12.2%، على الرغم من فوزه من الدور الأول في الانتخابات الأخيرة؛ إذ إنه حصل حينئذ على 2777931 صوتًا؛ أي ما يُعادل 72.71% من مجموع أصوات المقترعين. أما بخصوص نتائج المرشحين الآخرين، فيظهر الفارق جليًّا بين ما حصل عليه كل من زمّال والمغزاوي، على الرغم من حداثة دخول الأول المشهدَ السياسي وأقدمية الثاني في الحياة العامة؛ فهو قد كان قياديًا في الاتحاد العام التونسي للشغل، ونقيبًا لأساتذة التعليم الثانوي، ثم أمينًا عامًّا لحركة الشعب، ونائبًا في البرلمان السابق. ويبدو أن جل المعارضين الذين تبنّوا خيار المشاركة صوتوا لفائدة زمّال؛ إما اقتناعًا ببرنامجه المعلن بخصوص “طي الصفحة” ووعوده بالإفراج عن السجناء السياسيين وإلغاء المراسيم التي أصدرها سعيد في حال فوزه، وإما من باب “التصويت العقابي” لسعيد، والمغزاوي الذي كان أحد أبرز الداعمين للإجراءات التي اتخذها سعيد منذ الانقلاب على الدستور.[11]
ثالثًا: الاحتجاجات الشعبية الأخيرة وتأثيرها على المشهد السياسي..
تشهد تونس في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية لعام 2024 احتجاجات شعبية واسعة، تعبيرًا عن استياء قطاعات كبيرة من الشعب من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. يعيش المواطن التونسي ضغوطًا متزايدة جراء ارتفاع معدلات البطالة، وتفاقم الفقر، وغلاء الأسعار، بالإضافة إلى تراجع مستوى الخدمات العامة. كما تتركز الاحتجاجات أيضًا حول رفض سياسات الرئيس الحالي قيس سعيّد، الذي قاد تغييرات دستورية أثارت جدلاً واسعًا حول تكريس السلطات في يد الرئاسة وتقليص دور البرلمان. هذه الاحتجاجات تعكس حالة القلق من تراجع الديمقراطية في البلاد، وتؤشر على احتمالات تصاعد التوترات في مرحلة الانتخابات المقبلة، وسط مطالبة المحتجين بإصلاحات سياسية جذرية تضمن المشاركة الشعبية وتحقيق العدالة الاجتماعية.
1. الأسباب الاقتصادية للاحتجاجات: تتزامن الانتخابات الرئاسية مع موجة من الاحتجاجات الشعبية في عدة مناطق من البلاد. يعود السبب الرئيسي لهذه الاحتجاجات إلى الأزمة الاقتصادية الحادة التي تمر بها تونس، والتي تفاقمت في السنوات الأخيرة نتيجة عدة عوامل: أولها؛ ارتفاع معدلات البطالة، خاصة بين الشباب وحاملي الشهادات العليا، حيث بلغت البطالة نسبة تزيد عن 15% من السكان. وثانيها؛ التضخم المالي، الذي أثر بشكل كبير على القدرة الشرائية للمواطنين، خاصة في ظل ارتفاع أسعار السلع الأساسية والطاقة. وثالثها؛ الديون الخارجية، حيث تواجه تونس أزمة ديون خانقة بسبب الاعتماد المتزايد على القروض من المؤسسات الدولية، مما أثر على القدرة الحكومية على تنفيذ مشاريع تنموية.[12]
كان من أبرز التبريرات التي قدمها الرئيس التونسي قيس سعيد لإعلان الإجراءات الاستثنائية بحجة الخطر الداهم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي عمّقتها جائحة كورونا. ولكن بعد مرور ثلاث سنوات على تفعيل سعيد للفصل 80 من الدستور وإعلان الإجراءات الاستثنائية، تجد تونس نفسها في مواجهة صعوبات اقتصادية واجتماعية متفاقمة تتعقّد وتتعمّق بشكلٍ مُتسارع. يظهر ذلك في ركود النمو الاقتصادي، والاختلالات في التوازنات المالية، وتفاقم الأزمة الاجتماعية على جميع المستويات. تظهر كل التقارير الرسمية وغير الرسمية المتخصصة أن الاقتصاد التونسي يواجه امتحانًا صعبًا خلال العام الجاري لتغطية احتياجاته من التمويل الخارجي، في ظل عدم إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي كان مُدرجًا للتعاون في الإصلاح الاقتصادي بتمويل قيمته 1.9 مليار دولار. وقد اعتبر البنك الدولي أن تباطؤ النمو يُضاعف من التحديات التي تواجهها تونس في تغطية احتياجاتها الكبيرة من التمويل الخارجي. [13]
2. التوترات الاجتماعية والسياسية: إلى جانب الأوضاع الاقتصادية، تعبر الاحتجاجات عن استياء شعبي من التراجع في المكاسب الديمقراطية التي تحققت بعد الثورة. ويشعر الكثير من التونسيين بأن تطلعاتهم لتحقيق العدالة الاجتماعية والحرية السياسية لم تتحقَّق. تزايدت الانتقادات الموجهة إلى الرئيس قيس سعيد بشأن سياساته الانفرادية، كما انتقدت منظمات المجتمع المدني الإجراءات القمعية التي تتخذها الحكومة ضد المتظاهرين، بما في ذلك الاعتقالات التعسفية واستخدام القوة المفرطة.[14]
وجرت الانتخابات الرئاسية في سياق سياسي تشهد فيه تونس حالة من الانغلاق تراجعت فيها التعددية السياسية، وانحسر دور الأحزاب بشكل غير مسبوق. وهمّش المجتمع المدني بما في ذلك منظماته الكبرى، التي كانت بارزة في المشهد السياسي خلال عشرية الانتقال الديمقراطي، على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان واتحاد الصناعة والتجارة وعمادة المحامين. فقد كرّس نظام الحكم بعد 25 يوليو 2021 منظومة فردية استحوذ فيها الرئيس على كل الصلاحيات. فسيّر البلاد بالمراسيم والأوامر، ووضع دستورًا أشبه بالدستور الممنوح، لم تشارك في صياغته أي جهة سياسية أو اجتماعية. وفرض سعيد في هذا الدستور نظامًا رئاسيًا مُطلقًا، لا دور تشريعي فيه ولا رقابي للبرلمان. ووصل الأمر إلى حد تجميد بعض الأحزاب والتضييق على بعض آخر بما يُشبه الحظر، كما هو شأن حركة النهضة التي صدر قرار من وزير الداخلية بإغلاق كل مقراتها ومنع انعقاد أي اجتماعات داخلها. وهو قرار لا يزال نافذًا إلى اليوم رغم عدم وجود قرار قضائي بذلك. واتسعت دائرة استهداف السلطة للأحزاب السياسية من خلال إيداع أبرز رموز المعارضة السجن. إلى جانب ذلك، يقبع العديد من الصحفيين والمدونين في السجن بتهم على أساس المرسوم 54 المثير للجدل، الذي تعتبره المنظمات الحقوقية مرسومًا يستهدف حرية التعبير ويجرّمها. في هذه المناخات، انحسر الزخم السياسي للأحزاب السياسية بشكل متسارع خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وتراجع دور المنظمات وجمعيات المجتمع المدني بشكل لافت، لاسيما مع الاتهامات المُتكرِّرة التي يُردِّدها الرئيس سعيد وتُشكِّك في ولاء تلك المنظمات وفي شفافية تمويلها ونشاطها.[15]
رابعًا: الأبعاد الإقليمية والدولية وتأثيرها على الانتخابات..
للأبعاد الإقليمية والدولية تأثير واضح على الانتخابات التونسية الأخيرة، حيث تلعب عدة عوامل دورًا في تشكيل المشهد السياسي. إقليميًا، تعكس الانتخابات جزءًا من الصراع الأكبر في المنطقة بين القوى الداعمة للتحول الديمقراطي والقوى التي تفضل الاستقرار على حساب الحريات السياسية. حيث تُعدّ تونس نموذجًا استثنائيًا في التحولات الديمقراطية مُقارنةً بجيرانها، ما يجعل استقرارها السياسي محط اهتمام دول مثل الجزائر ومصر، التي قد تتأثر أو تستفيد من التجربة التونسية. دول الخليج أيضًا لها مصالح متباينة؛ حيث تسعى بعض الدول لدعم الاستقرار والأنظمة المركزية، بينما تدفع أخرى باتجاه تشجيع قوى معينة لأسباب أيديولوجية أو سياسية. ودوليًا، هناك ضغوطات من القوى الغربية، خاصة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، التي تعتبر تونس شريكًا في محاربة الإرهاب والهجرة غير الشرعية. هذه الدول تشدد على أهمية الاستمرار في المسار الديمقراطي كشرط لدعم اقتصادي وسياسي مستدام، في حين أن الأزمات الاقتصادية العالمية والضغوط المالية على تونس تجعلها بحاجة ماسة إلى مساعدات خارجية، ما قد يُؤثِّر على استقلالية القرار السياسي المحلي في فترة الانتخابات.
1. العلاقات مع الغرب: تحظى تونس بأهمية خاصة بالنسبة للغرب، ولا سيما الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، حيث تعتبر تونس نموذجًا للتحول الديمقراطي في العالم العربي. ومع ذلك، تزايدت المخاوف في الغرب من تراجع تونس عن مسارها الديمقراطي، خاصةً بعد قرارات الرئيس قيس سعيد بتجميد البرلمان وتوسيع سلطاته. أعربت عدة جهات دولية عن قلقها من تحركات سعيد، حيث دعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى ضرورة احترام حقوق الإنسان والديمقراطية في البلاد. كما أن المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي تشترط تنفيذ إصلاحات اقتصادية صارمة للحصول على الدعم المالي، وهو ما يثير مخاوف لدى الحكومة التونسية بشأن تأثير هذه الشروط على الاستقرار الاجتماعي.[16]
2. التداخلات السياسية الإقليمية والدولية: على الصعيد الإقليمي، تعيش تونس في بيئة جيوسياسية معقدة، حيث تتأثر بالأوضاع في ليبيا المجاورة، فضلًا عن التدخلات الخارجية من بعض القوى الإقليمية التي تسعى إلى دعم طرف على حساب الآخر. تلعب دول مثل الإمارات العربية المتحدة وتركيا دورًا مهمًا في التأثير على المشهد السياسي في تونس، من خلال دعم أحزاب وقوى معينة تتماشى مع مصالحها. وقد سبقت الانتخابات الرئاسية التونسية، انتخابات رئاسية في الجزائر في 7 سبتمبر تنافس فيها ثلاثة مرشحين على رأسهم الرئيس الحالي عبد المجيد تبون الذي فاز في الأخير بالانتخابات. وكان يبدو من السياق العام أن الجزائر تتجه لتكريس الاستمرارية، لاسيما أن منافسيْ تبون، وهما يوسف أوشيش عن حزب جبهة القوى الاشتراكية وعبد العالي حساني عن حركة مجتمع السلم (حمس)، لم يكونا يبدوان وكأنهما يحظيان بشعبية كافية تُمكِّنهما من منافسته بشكل جدي. وكان من الواضح أن الجارة الغربية الكبرى لتونس تقدّم معادلة “الاستقرار” وتثبيت أركان منظومة الحكم التي أعقبت الحراك الشعبي ونجحت في احتوائه، على أي “مغامرات” انتخابية من شأنها أن تُربك الوضع القائم الذي يسعى للاستمرار تحت راية الاستقرار وضبط الأوضاع والتحكم فيها، من أجل معالجة حالة الهشاشة التي طبعت حقبة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة. وعكس المشهد الجزائري مزاجًا عربيًا عامًا في المنطقة بأسرها، يُقدِّم أولوية الاستقرار والاستمرارية على التغيير، خاصةً في سياق انتخابات تنافسية. وسيطرت عليه فكرة القطيعة مع مرحلة الربيع العربي على تأطير المشهد السياسي في المنطقة. كما مثَّلت الانتخابات الرئاسية في مصر في ديسمبر 2023، التي أُعيد فيها انتخاب عبد الفتاح السيسي بأغلبية ساحقة بلغت 89.6%، بعد ضمان عدم وجود منافسين جديين، نموذجًا لشكل وطبيعة الانتخابات المطلوبة في المنطقة عامة. فبدا الأمر وكأنه لا وقت لدى القوى الغربية للتعامل مع تغييرات سياسية مفاجئة و”غير مُنضبطة” في ظل انشغالها بالحرب الروسية الأوكرانية والصعود الصيني المُثير للقلق والحرب المشتعلة بين الكيان الصهيوني ودول المنطقة. ويتقاطع هذا المزاج الغربي الداعم ضمنا للأنظمة السلطوية في المنطقة بعد التراجع عن فكرة دعم التحولات الديمقراطية، مع المزاج الروسي الصيني الذي يُتقن بدوره التعامل مع أنظمة على ذات الشاكلة. فالولايات المتحدة والقوى الغربية عمومًا، تخلّت عن فكرة “دعم الديمقراطية” والترويج لها في المنطقة لصالح استراتيجية دعم الاستقرار وتقوية الأنظمة القائمة من خلال سياسات وبرامج تقوم على التعاون الأمني والدفاعي بالدرجة الأولى. يُضاف إلى ذلك “مناورات الأسد الإفريقي” التي تُنظمها القوات الأميركية بالشراكة مع دول عربية وإفريقية منها المغرب وتونس والسنغال، وعقد شراكات مميزة في مجالي الأمن والدفاع مع دول المنطقة، بينها تونس التي عقدت مع الاتحاد الأوروبي اتفاقيات بشأن مكافحة الهجرة غير النظامية، ومع الولايات المتحدة بشأن التعاون العسكري.[17]
خامسًا: ماذا بعد الانتخابات الرئاسية التونسية؟
لم يهتم الرئيس سعيد، سابقًا، بالانتقادات ولا بنسب المشاركة المتدنية في مختلف المناسبات الانتخابية التي جرت في عهده، ولا ينتظر كذلك أن تؤثّر الانتقادات المرتبطة بالسياق السياسي والتشريعي والأمني والقضائي، الذي جرى فيه المسار الانتخابي الرئاسي، في مواقفه وهو يدخل العهدة الجديدة معززًا بما يراه تفويضًا شعبيًّا للمضي قدمًا في المسار الذي اختطّه لنفسه، والذي يقود إلى ترسيخ حكمٍ فردي سلطوي. في المقابل، تدخل المعارضة المرحلة الجديدة من دون مراجعات تذكر لأدائها، أو محاولات لتعديل مواقفها، والتخفيف من تجاذباتها الأيديولوجية التي تعرقل الالتقاء على الحد الأدنى من برنامج سياسي مرحلي للتعامل مع الإجراءات المنتظرة في العهدة الرئاسية الجديدة، والتي قد تكون أشد من الإجراءات المتخذة منذ 25 يوليو 2021، وقد تشمل حلّ بعض الأحزاب والجمعيات، وتحجيم الاتحاد العام التونسي للشغل، وفرض مزيد من القيود على الحقوق والحريات. غير أن ذلك لا ينفي ظهور مؤشرات دالّة على بداية تكتّل بعض القوى السياسية والمدنية التي تمكنت من حشد أعداد كبيرة من المتظاهرين وتنظيم نشاطات احتجاجية، خلال الأسابيع الأخيرة، تحت مسمى “الشبكة التونسية للحقوق والحريات” التي يُنتظر أن تنظم مزيدًا من الاحتجاجات، مستقبلًا، بالنظر إلى رفض بعض مكوناتها رفضًا مسبقًا الاعتراف بشرعية الانتخابات ونتائجها. أثبتت النتائج المعلنة أن نسبة العزوف عن التصويت تمثّل أكثر من 70 في المئة من مجموع المسجلين، وأن نسبة مشاركة الفئة العمرية الشابة (18-35 سنة) في التصويت لم تتجاوز 6 في المئة؛ ما يشير إلى عدم اهتمام الجزء الأكبر من التونسيين بمنح الشرعية للعملية الانتخابية، في ظروف اتّسمت بتردّي الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي مثّل القادح الأهم في المحطات الاحتجاجية الكبرى منذ الاستقلال؛ بما فيها الثورة التي أطاحت حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، في يناير 2011.[18]
الخُلاصة؛ انتهى المسار الانتخابي الرئاسي في تونس، بلا مفاجآت، بالإعلان عن فوز الرئيس قيس سعيد، غير أن تداعياته تظل قائمة ومؤثّرة في المشهد التونسي لاحقًا. فالرئيس الذي خاض السباق في مواجهة مرشحَين اثنَين؛ أحدهما سجين والآخر من أشدّ داعمي إجراءات 25 يوليو، يظن أنه حصل على تفويض جديد لمواصلة مساره ضد معارضيه الذين يَصِمُهم بالخيانة والعمالة والولاء للخارج، في حين تظل قدرة المعارضة على إحداث تغيير في موازين القوى محدودة بسبب بقائها رهينة لتجاذباتها الأيديولوجية؛ ما يفتح مجالًا لتحرك الشارع. وعلى الرغم من عدم ظهور مؤشرات قوية في هذا الاتجاه حاليًّا، فإن هذا الاحتمال يظل قائمًا ما دامت السلطة -وسعيد تحديدًا- عاجزة عن معالجة الأزمات المعيشية ببرنامج إصلاحي واقعي، بعيدًا عن الخطاب الشعبوي القائم على تهميش المعارضين وتحميلهم مسؤولية الفشل وطرح وعود لا تجد طريقها إلى الإنجاز.
في المُحصلة، يبدو المشهد العربي اليوم، بعد انكسار تجربة الربيع العربي، طاردًا لفكرة التغيير والانتخابات الحرة، مُكرسًا لفكرة تجاوز تلك الحقبة، بعدما جرى إظهارها عنوانًا للفوضى وعدم الاستقرار. لذلك، يبدو أن المنطقة، في عمومها، تتجه نحو عودة الأنظمة السلطوية، التي تؤدي فيها المؤسسة الأمنية والعسكرية أدورًا مُتقدمة وحيوية. لقد شهد العالم، وسيشهد فيما بقي من عام 2024، أكثر من 70 انتخابات، لعل أبرزها على المستوى الدولي الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر القادم. وقد كان الكثير من تلك الانتخابات، التي جرت في الأشهر القليلة الماضية، على غرار انتخابات السنغال وفرنسا وبريطانيا وأميركا اللاتينية، مُثيرًا وديناميكيًا وشكّل فرصة للتغيير والتداول وإعادة تشكيل معادلات الحكم. لكن، على الأغلب، فإن الانتخابات في منطقتنا، ومنها الانتخابات الرئاسية التونسية، تتجه لأن تصبح مناسبة لتكريس الأمر الواقع واستمراره، نظمًا وسياسات.
[1] E. Murphy, “The Tunisian Elections: A New Chapter in the Arab Spring?”, Middle East Journal, 73(1), 2019, Pp.11-27.
[2] E. Gobe, “Tunisian Politics After the Arab Spring: Between Authoritarianism and Democracy”. Journal of North African Studies, 2021.
[3] “Tunisia: October 6”, the Africa Center for Strategic Studies, 9/8/2024. At: https://2u.pw/gak0JTBs
[4] “قيس سعيد وحل البرلمان في تونس: انقسام حول قرارات الرئيس الأخيرة يشعل مواقع التواصل”، عربي BBC News، 31/3/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/w461s
[5] محمد فوزي، “دلالات حل البرلمان في تونس”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 31/3/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/wuR0V
[6] “Tunisia: October 6”, Loc. Cit.
[7] كيرستن كنيب، طارق القيزاني، “انتخابات الرئاسة في تونس.. سباق إلى قصر قرطاج أم إلى السجن؟”، DW، 12/7/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/Lw7bLUA2
[8] “من بينهم الرئيس سعيد، قبول ثلاثة مرشحين للانتخابات وسط جدل في تونس حول توافر أجواء ملائمة”، عربي BBC News، 10/8/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/dIAVynTT
[9] “Tunisia’s Political Stalemate and the Risk of Democratic Backsliding”. International Crisis Group, 2023.At: https://www.crisisgroup.org
[10] صالح عطية، “تونس.. الولاية على الانتخابات والصراع القضائي الخفي”، الجزيرة نت، 13/9/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/V9NcThfZ
[11] “الانتخابات الرئاسية في تونس 2024: السياقات والنتائج والتداعيات”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 10/10/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/HkhIG0N1
[12] “Tunisian Protests: Economic Hardship Fuels Growing Discontent Against Saied’s Government”, Al Jazeera, 2023. At: https://www.aljazeera.com
[13] “Tunisian President Kais Saied Moves to Consolidate Power Amid Economic Woes”, Reuters, 2023. At: https://www.reuters.com
[14] “Tunisia: Crackdown on Dissent Intensifies”, Human Rights Watch, 2023. At: https://www.hrw.org
[15] جلال الورغي، “تونس: الانتخابات الرئاسية السياقات والتوقعات”، مركز الجزيرة للدراسات، 3/9/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/7hWR1rki
[16] N. Jebnoun, “Tunisia’s Political Transition: Between Democratization and Authoritarian Revival”, Georgetown University Press, 2020.
[17] جلال الورغي، مرجع سبق ذكره.
[18] “الانتخابات الرئاسية في تونس 2024: السياقات والنتائج والتداعيات”، مرجع سبق ذكره.