في ظل الظروف الاقتصادية والسياسية الضاغطة التي يمر بها المجتمع المصري في واحد من أسوأ عصوره على الإطلاق، تطرح على الساحة المزيد من المشكلات الاجتماعية التي هي أقرب للكارثة الأخلاقية و التي زاد من تفاقمها وانتشارها الأوضاع الاقتصادية الصعبة مع غياب الوعي الديني والأخلاقي، وفي الوقت الذي يختار فيه الكثيرون العمل بمبدأ النعامة التي تدفن رأسها في الرمل هروبا من مشاكلها، يختار البعض الآخر وضع قدمه على أول الطريق لحل المشكلة من خلال تسليط الضوء عليها وتشخيصها، وهذا ما شهدناه في الأيام الماضية من خلال بث مباشر نشرته طبيبة أمراض نساء على صفحتها.
قصة الجريمة
أثارت قضية طبيبة أمراض النساء والتوليد بمستشفى كفر الدوار الحكومي “وسام شعيب” الجدل مؤخرا على مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، بسبب حديثها عن انتشار حالات الحمل غير الشرعي،
وذلك من خلال بث مباشر نشرته على صفحتها الشخصية تحدثت فيه عن حالة فتاة تبلغ من العمر 14 عامًا، جاءَت لتتابع حملها برفقة سيدتين، مما أثار شكوك الطبيبة حول زواجها، وعندما قامت بفحصها اكتشفت أن الفتاة كانت حاملاً في الشهر الثامن دون أن تكون متزوجة.
كما سردت بعض القصص الأخرى لسيدات حملن سفاحًا، إحداهن خانت زوجها، والأخرى مارست الرذيلة ونسبت طفلًا لشاب مواليد 2005 لتجنب التورط في جريمة، وأكدت أن هدفها من نشر الفيديو هو التوعية بأهمية تربية الأهل لأبنائهم وضرورة وجود حل لتلك المشاكل الأخلاقية والاجتماعية.
تباين ردود الفعل حول فيديو الطبيبة
وقد تباينت ردود الفعل بين مؤيد يرى أن ما فعلته الطبيبة هو تسليط الضوء على هذه الظاهرة الخطيرة لعلاجها، ومعارض انتقد بشدة كلامها واعتبره انتهاكا لخصوصية المرضى وإساءة لسيدات مصر.
وقررت النيابة العامة في مركز كفر الدوار بمحافظة البحيرة، حبس الطبيبة وسام شعيب، لمدة أربعة أيام على ذمة التحقيقات، مع مراعاة التجديد لها في المواعيد القانونية.
موجهة لها عدة اتهامات منها: تكدير الأمن والسلم العام، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي في إثارة البلبلة بين أطياف الشعب المصري، واستخدام ألفاظ سيئة (نابية) في مقطع فيديو نشرته على صفحتها في فيسبوك.
وأعلنت النقابة العامة للأطباء تلقيها شكاوى بحق الطبيبة أحالتها على لجنة آداب المهنة للتحقيق فيها، قائلة إنها ستواجه أي مخالفات لأعضائها -في حال ثبوتها- بكل حسم، وإحالة أي طبيب يخرج عن قواعد ولائحة آداب المهنة، والأصول الطبية المستقر عليها والمعمول بها، على الهيئة التأديبية للتحقيق، تمهيداً لتوقيع العقوبة عليه، وصولاً إلى الشطب من جداول النقابة، والمنع من ممارسة المهنة.
ودافعت الطبيبة عن نفسها عبر صفحتها في “فيسبوك”، بالقول إن هدفها لم يكن تحقيق مشاهدات عالية، أو البحث عن “الترند”، ولكنها أرادت توعية الآباء والأمهات، وتنبيههم إلى ما قد يحدث لبناتهن إذا أهملوا في متابعتهن، نافية تعمدها التشهير بمرضاها أو كشف أسرارهم خاصة وأنها لم تكشف معلومات عن أسماءهن أو عناوينهن أو أي صفة مميزة لأشكالهن.
تحديات اجتماعية وأخلاقية متزايدة تهدد المجتمع المصري
وفي مجتمع يوصف بأنه متدين بطبعه فإن مثل هذه القضايا بإمكانها إثارة الكثير من التساؤلات وعلامات التعجب، فبالطبع ليست هذه المرة الأولى من نوعها التي نسمع فيها عن حالات لحمل غير شرعي أو زواج غير قانوني ينتج عنه أطفال من المحتمل أن يكون مستقبلهم فيما بعد مهددا بالضياع أو أن يكونوا بذرة إجرامية في تربة الظروف الخصبة بالمجتمع،
ولكن تردي الأوضاع الاقتصادية للمواطن وزيادة معدلات الفقر والبطالة، من الأسباب الرئيسية لزيادة معدلات الجريمة في المجتمع، خاصة مع استمرار الضغط على الطبقات الفقيرة والمتوسطة والذي سيؤدي الى انهيارات اجتماعية متتالية، سواء أخلاقية أو سلوكية أو صحية أو تعليمية.
هذا كله في الوقت الذي نشهد فيه ارتباكا ملحوظا لدور المؤسسات التعليمية وتحولها إلى مجرد أماكن الهدف منها هو الحصول على الدرجات والشهادات الرسمية دون قيامها بدورها التربوي الضروري للطلبة سواء في المراحل المبكرة أو حتي الجامعات، وهذا كله بالإضافة إلى إثقال كاهل أولياء الأمور بأعباء ومتطلبات بشكل مستمر،
وانحسار دور المؤسسات الدينية كالمساجد على إقامة الصلوات وإغلاقها عند انتهاءها وقصر خطب الجمعة مع تحديد مسبق وموحد لمضمونها، كل هذا يصعب أكثر من قيام الأسرة وحدها بالدور التربوي والأخلاقي نحو أبناءها خاصة مع اتجاه كل من الأب والأم لسوق العمل لتحصيل لقمة العيش،
فكان ما نراه من تردي أخلاقي هو ناتج طبيعي لمجتمع يتعرض لضغوطات من جميع الجوانب وسط حكومة لا تبالي بمصلحة المواطنين أو بالتنمية الحقيقية لمستوى حياتهم.
قيود حكومية مفروضة على دراسة المجتمع
وعند حديثنا عن الظواهر الاجتماعية والأوضاع الراهنة في المجتمع المصري فإن أهم ما يمكن أن نرتكز عليه هو الأرقام والإحصائيات والتي تعطينا مؤشرا قويا لحالة المجتمع، وهنا تواجهنا مشكلة أخرى ألا وهي أن المسح الشامل لمجتمعنا يواجه قيودًا عدة، أولها موقف السلطة الحاكمة، والتي قد لا تفضل – لأسباب تقول إنها أمنية – دراسة كليةً للمجتمع في صورته الراهنة، وإتاحة المادة العلمية لـ “العلم العام”.
ففي مصر لا تكفّ جهات مثل: “المعهد القومي للتخطيط”، و”جهاز التعبئة العامة والإحصاء”، و”الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة”، و”الجهاز القومي للسكان”، و”مركز دعم واتخاذ القرار”، التابع لمجلس الوزراء عن القيام بدراسات جزئية، كل فيما يقع في نطاق اختصاصه، وحسب ما يُطلب منه. لكنها دراسات داخلية.
وتقوم “المجالس القومية المتخصصة” بدراسات متنوعة بلا توقف، لكن كل هذا لا يكون متاحا للإطلاع من قبل الرأي العام، ولا يكون متاحًا للباحثين من خارج هذه الجهات إلا بشق الأنفس، وكان بعضه يتسرّب إلى الصحافة، فتعرضه في اختزال أو اجتزاء، لكن هذا لم يعد قائمًا في هذه الأيام مع القيود الشديدة المفروضة على الصحف.
كا أنه لا يجد القائمون على هذه الأجهزة الباب مفتوحًا أمامهم لإطْلاع الرأي العام على الحقائق، فكثير من الإحصائيات يتم إخفاؤها عن آذان الناس وعيونهم، اللهم إلا إذا كان الإعلان تراه السلطة الحاكمة في مصلحتها، أو تنزل على ضغوط عليها أثناء الأزمات للإفراج عن هذه المعرفة الحبيسة. وينطبق الأمر نفسه على بعض الباحثين الذين تستعين بهم السلطة لإعداد تقارير في غرف مظلمة، لا يطلع عليها إلا عدد قليل.
وكل هذا بالطبع يبعدنا عن الوصول إلى حصر حقيقي لحجم المشكلات والظواهر الاجتماعية الموجودة ليعرف كثيرون ممن يفضلون أن يظل الوضع على ما هو عليه حجم الكارثة الحقيقية التي تحتاج منا إلى تشخيص وحصر ومن ثم اتخاذ خطوات حقيقية للإصلاح.
فلقد أصبحنا في حاجة إلى نظرة شاملة لمجتمعنا، تُشارك فيها جهات عدة، وتُصاغ بلغة قابلة للتداول على نطاق واسع ، ليعرف أهل مصر ما آل إليه مجتمعهم الذي هبّت عليه عواصف كثيرة لم يتم رصدها ودراستها إلى الآن، على نحو سليم.
ولكن أبرز ما تكشف عنه تلك الواقعة وتعاطي الحكومة معها، على أن الحكومة تريد ستر عوراتها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية بأي ثمن، ، بأي ذريعة من الذرائع، ون حلول فاعلة للمخاطر الاجتماعية والأمراض التي يحياها الشعب المصري..فتترط أصل القضية وتمسك بمن يكشفها أو يحذر منها..
وقد كشفت العديد من التقارير المستقلة، الكثير من الأمراض والفواحش المتزايدة بمصر، ما أدى لمويد من خالات الطلاق والانتحار والسرقات والقتل والجرائم..
أبعاد أخرى
ولعل الخطر الأكثر تأثيرا على المجتمع المصري، فيما تناولته طبيبة كفر الدوار، زيادة عدد الأطفال المعثور عليهم أو الأطفال مجهولي النسب؛ وهي بلا شك تعتبر ظاهرة خطیرة داخل المجتمع المصري وأخذت تزداد في الفترة الاخیرة نظرا لأسباب کثیرة منها التفلت الدينى والأخلاقي في المجتمع وتعنى انتشار جريمة العلاقات الجنسية المحرمة خارج إطار الزواج.
وفي دراسة ميدانية نشرها مركز “هرمس” للدراسات التابع لجامعة القاهرة عام 2019؛ تمت الإشارة إلى أن الأطفال مجهولي النسب في مصر قنبلة اجتماعية قابلة للانفجار في أي لحظة، خصوصاً وأن تعدادهم يقترب من مليونَي طفل، وفقاً لإحصاءات المجلس القومي للطفولة والأمومة عام 2016.
وقد أشارت طبيبة كفر الدوار إلى مدى المعاناة التي يلقاها هؤلاء الأطفال الأبرياء لضمان توفير احتياجاتهم من خلال تبرعات أهل الخير يوجود فصور في التمويل الحكومي سواء في في مقار رعاية الأمومة والطفولة بوزارة الصحة حيث يتم وضع الطقل فيها حتى عمر العامين، أو في دور الإيواء التابعة لوزارة التضامن الاجتماعي والتي يظل فيها الطقل حتى يبلغ عمر ثمانية عشر عاما.
قانون “ابن الهرمة”
ووفق وكييل وزارة الصحة الأسبق د. مصطفى جاويش، فإنه “بالرغم من أنها مشاكل باتت تنتشر؛ إلا أن الدولة المصرية قد اهتمت بالطبيبة ولماذا تحدثت، ولماذا حاولت دق ناقوس الخطر في المجتمع. وهنا يبرز بوضوح أنه يتم تطبيق قانون “ابن الهرمة” المشهور في الأدب العربي”.
والقصة باختصار هي أن ابن الهرمة هذا، كان صديقًا ونديمًا للوالي، وكان يذهب إليه في المساء، بعد أن تنام المدينة كلها، ليسامره ويسري عنه لما عرف عن ابن الهرمة من خفة الظل وإدمان الخمر!! وكانت المشكلة اليومية أن ابن الهرمة عندما ينصرف من قصر الوالي في جنح الظلام يصادفه العسس ويستوقفونه، فيتلاحظ لهم رائحة الخمر وهي تفوح من فمه فيقبضون عليه، ويحيلونه للقاضي!!.. كان ابن الهرمة لا يريد أن يكشف سره وسر الوالي ولا يستطيع بالتالي أن يقول للعسس إنه كان يشارك الوالي في كل شيء، وبالتالي كان ينساق لأوامرهم ويذهبون به إلي القاضي الذي يكاد يقيم عليه الحد حتى يستيقظ الوالي ويتدخل للعفو عنه في اللحظة الآخيرة!! وكان هذا يسبب حرجًا للوالي، وألمًا وإهانة لصديقه ابن الهرمة.
وذات يوم بحث الوالي عن ابن الهرمة فلم يجده فأرسل في طلبه فحضر صديقه إليه، مشترطًا عليه، أن يعطيه “صكًا” يضعه في جيبه، ويقدمه إلى العسس حتي لا يقبضوا عليه إذا وجدوه سكرانًا!!.. استشعر الوالي الحرج في أن يكتب صكًا يطلب فيه من عسسه عدم القبض علي رجل شارب الخمر، لما يحتمله هذا من شبهة الخروج عن الشرع، والتعارض مع حدود الله، فطلب من ابن الهرمة أن يفكر في حل آخر يقيه شر العسس ولا يضع الأمير في هذا الموقف الحرج!! أمام الرعية، ورجال الدين، وخصوم الوالي.
وكان الحل هو في إصدار مرسوم بقانون يقول فيه الوالي: “إذا ضبط ابن الهرمة سكرانًا في أي وقت من أوقات الليل والنهار يجلد مائة جلدة، ويجلد من شارك في القبض عليه خمسين جلدة.!!!…. وهكذا أصبح أنه من يكشف الحقيقة يناله جانب من العقاب!!!
فشل حكومي
ووفق تقديرات لخبراء المجتمع المصري، كان من المتوقع أن تبدأ المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني ورجال الدين وبرامج الفضائيات في دراسة تلك المشكلات والظواهر المجتمعية الخطيرة التي وردت في كلام طبيبة كفر الدوار، وبحث الأسباب، وتحديد نقاط الخطورة، والبدء فورا في وضع الحلول الدينية والأخلاقية والمجتمعية، خاصة وأنه يوجد قصور واضح خلال السنوات القليلة الماضية في نشر القيم الدينية، واختفاء دور القيادات المجتمعية تماما من العمل والانتشار بين الناس، وتوفير سبل الاعاشة والايواء بطريقة آدمية لتلك الفئة من الأطفال مجهولي النسب بأسلوب يكفل لهم الكرامة طوال حياتهم، خاصة وأن الواقع الموجود فى الوقت الحالي داخل دور الرعایة الاجتماعية واقع مؤلم جدا من حیث دعم الدولة لهذه الفئة فهو قلیل جدا لا یوفى جمیع الاحتياجات لهم ،ولکن تقوم التبرعات الیومیة من أهل الخير بالوفاء باحتیاجات هؤلاء الأطفال.
ولكن الذي حدث هو أن السهام توجهت جميعها نحو طبيبة كفر الدوار، وتم فورا تطبيق “قانون ابن الهرمة” بأسلوب جديد حيث تم غض الطرف عن المسلسلات والأفلام الهابطة التي تنشر الرذيلة، وعن الحوارات البذيئة على الفضائيات رغم انتشارها، ولم يهتم أحد بدراسة الخلل التربوي والأخلاقي ووضع سبل الإصلاح، تماما كما حدث مع المستشار هشام جنينه المدير السابق للجهاز المركزي للمحاسبات والذي تم حبسه بنفس التهم بعد حديثه حول الفساد الحكومي، وكما تم حبس الأطباء الذين حذروا من وجود مصابين بفيروس كورونا في حين كانت الدولة تنفي ذلك رسميا.
وبالفعل فقد تم إلقاء القبض على الطبيبة وتحويلها للنيابة العامة؛ وتوجيه عدة اتهامات جنائية لها مثل تكدير الأمن والسلم العام، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لإثارة البلبلة بين أطياف الشعب المصري، واستخدام ألفاظ سيئة.
وهنا تجب الإشارة إلى أن تحويلها للنيابة العامة يعتبر التفافا على المشكلات الحقيقية التي تناولتها الطبيبة وخانها فيها أسلوب العرض وطريق الشرح على عامة الناس رغم أنها لم تقم بإفشاء سر المرضى ولم تنتهك الخصوصية لهم، ومن واجب نقابة الأطباء القيام بدورها نحو الطبيبة مهنيا ونقابيا، والتركيز على الجانب الإيجابي من التوعية المجتمعية، ووضع خطأ الطريقة في الاطار المهني وليس الجنائي، ولكن يبدو أن الواقع الحالي في مصر أصبح مغرما بخلط الأوراق وتغييب الحقيقة وراء شعارات إعلامية مزيفة تزيد من انتشار الفساد الأخلاقي والقيمي والديني في المجتمع.
خاتمة:
يعد التعاطي مع طبيبة كفر الدوار، مجرد محاولة لردم أزمات المجتمع الصري، بأي ثمن، وكأن مصر تعيش أجواء حرب أو أجواء نكسة ، على حد تعبير عبد الفتاح السيسي ، نفسه، والذي لم ولن يسمح بأي حرية تعبير، لأي أحد، يناقش بجدية مشكلات اجتماعية، قد تكن الحكومة أو النظام سببا فيها…
وهو ما يعد كبتا وقمعا للاراء على حساب سلامة المجتمع المصري..
……….
المراجع:
تليجراف مصر، القصة الكاملة للطبيبة وسام شعيب بعد القبض عليها”، 12 نوفمبر 2024
العربي الجديد،”القبض على طبيبة مصرية بتهمة انتهاك خصوصية المرضى “، 12 نوفمبر 2024
-د.عمار علي حسن، “فحص المجتمع المصري الآن.. القيود والفرص”، الجزيرة.نت ، 13 أبريل 2024
مصطفى جاويش ، مصر.. طبيبة كفر الدوار وقانون ابن الهرمة، 13 نوفمبر 2024