كانت منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف) منذ نشأتها 1964 الممثل الشرعي (الوحيد) للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج في مشروعه للتحرر من براثن الاحتلال الإسرائيلي. وقد سيطرت حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” (تأسست سنة 1957 تأثرًا بالمقاومة الشعبية للعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وللاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة) علي منظمة التحرير، بعد انتخاب ياسر عرفات، الناطق الرسمي باسمها، في دورة المجلس الوطني الفلسطيني الخامسة التي عُقدت ما بين 1 و 4 فبراير 1969، رئيسًا لـ “اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية”1.
ولكن منذ الثمانينيات، ظهرت بعض الحركات الخارجة عن منظمة التحرير (حركة الجهاد في فلسطين 1981 تأثرًا بالثورة الإيرانية، وحركة المقاومة الإسلامية حماس المنتمية لتيار الإخوان انبثاقًا من الانتفاضة الأولى 1987). ومع تحول المنظمة الاستراتيجي للاعتراف بدولة إسرائيل والمطالبة بدولة على حدود 1967 في إعلان الجزائر 1988؛ ما فتح الطريق نحو مدريد 1991 ثم أوسلو 19932، بدأت بوادر الانقسام واضحة بين مؤيدي التسوية السياسية ممثلين بحركة فتح وتيار السلطة الفلسطينية التي أُنشئت عقب اتفاق أوسلو، وبين تيار المقاومة ممثلًا بحركتي حماس والجهاد الإسلامي وبعض الفصائل الفلسطينية الأخرى التي اعترضت على قبول منظمة التحرير لقراري مجلس الأمن رقم (242) ورقم (338) بشأن إقامة دولة فلسطين3.
بتولي محمود عباس رئاسة السلطة الفلسطينية في يناير 2005، على إثر توليه رئاسة كل من منظمة التحرير وحركة فتح خلفًا للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ومع تولي إسماعيل هنية رئاسة الحكومة بعد حصول حركة حماس عام 2006 على أغلبية في الانتخابات التشريعية، وهي الخطوة التي لم تلق ترحيبًا من حركة فتح بدعوي أن هنية أسند المناصب الوزارية الرئيسية لقادة حماس، وفي المقابل، اتهمت حماس حركة فتح بعدم التعاون معها في تسليم مقاليد السلطة للحكومة الجديدة؛ ما تسبب في اندلاع مواجهات عنيفة بين أنصار الطرفين في غزة خلال يناير وفبراير ومايو 2007، وليقوم الرئيس عباس بإقالة هنية في 14 يونيو من نفس العام، وأعلن حالة الطوارئ في غزة اعتراضًا على العنف الذي شهده القطاع. ورغم هذه الإجراءات أعلنت حماس سيطرتها على غزة في 15 يونيو 2007، ما عمق الخلاف مع فتح التي اعتبرت هذا التحرك انقلابًا عسكريًا. ومنذ ذلك الحين، تسيطر كلًا من حماس وفتح على الأرض والإدارة الحكومية في قطاع غزة والضفة الغربية منفردتين على الترتيب، ما أفرز انقسامًا سياسيًا وجغرافيًا وأمنيًا4.
ومنذ الانقسام وحتي الآن، تركزت القضايا والملفات الخلافية بين الفصائل الفلسطينية علي مسألة رواتب الموظفين (الذين عينتهم حكومة حماس في قطاع غزة، ويبلغ عددهم تقريبًا 40 ألف موظف)، وإدارة المعابر، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني الفلسطيني، وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية، ووقف التنسيق الأمني مع إسرائيل5.
وقد جرت مبادرات واجتماعات وجهود فلسطينية وعربية ودولية لحل هذه القضايا الخلافية، بعضها انتهى إلى اتفاق، مثل اتفاق مكة (2007)، واتفاق القاهرة (2011)، وإعلان الدوحة (2012)، وإعلان الشاطئ (2014) واتفاق القاهرة 2 (اتفاق التمكين) (2017)، وتفاهمات إسطنبول (2020)، وإعلان الجزائر (2022)، وإعلان بكين (2024). وتم تطبيق بعضها بشكل جزئي ومؤقت، لدرجة تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في العام 2007 وحكومة الوفاق الوطني في العام 2014، إضافة إلى عقد الإطار القيادي المؤقت اجتماعين بعد اتفاق القاهرة 2011، وعقد اجتماع الأمناء العامين في العام 2020. في المقابل، لم تفض اجتماعات أخرى لإنهاء الانقسام إلى اتفاق، على الرغم من صدور بيانات عن بعضها، مثل اجتماع صنعاء (2008)، ولقاء موسكو (2019)، واجتماع العلمين في مصر (2023)6. وبناءً عليه؛ ظل التساؤل الرئيسي المطروح علي طاولة النقاش والبحث هو: لماذا لا تتحقق المصالحة الفلسطينية رغم مرور كل هذه السنوات الطويلة، ورغم ما تمر به القضية الفلسطينية من منعطفات كبري تتطلب ضرورة تحقيق هذه الوحدة الوطنية، والتي كان أبرزها محاولة الرئيس الأمريكي المنتخب حديثًا دونالد ترامب تصفية القضية الفلسطينية “صفقة القرن”، ومؤخرًا، الخطوات الإسرائيلية الفعلية لتصفية القضية عقب “طوفان الأقصي”. ولعل الإجابة علي هذا السؤال تكمن في المحاور التالية:
أولًا: العوامل الداخلية: أي تلك العوامل المتعلقة بالفصائل الفلسطينية، وعلي رأسها حركتي حماس وفتح، وتتمثل هذه العوامل في:
1- الافتقاد إلى مشروع التحرير الوطني الجامع؛ فحماس ترفض إقامة دولة فلسطين علي جزء من الأرض وتتمسك بأراضي فلسطين التاريخية، وبالتالي فهي ترفض الاعتراف بإسرائيل وحقها في 77% من أرض فلسطين، بينما تتقبلها قيادة منظمة التحرير والسلطة وفتح؛ نظرًا للاعتبارات الواقعية والعمل المرحلي، واعتبار ذلك استحقاقًا سياسيًا نتيجة اتفاق أوسلو الذي تشكلت على أساسه السلطة الفلسطينية، وانبنى عليه حلم تحويل السلطة إلى دولة فلسطينية7.
ولذلك؛ ظلت حركة فتح والسلطة الفلسطينية متمسكة بعدة شروط لتحقيق المصالحة مع باقي الفصائل الفلسطينية، تتمثل في: أولًا؛ انطواء كل الفصائل تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها ممثلًا شرعيًا ووحيدًا للشعب الفلسطيني (حماس والجهاد خارجها)، والالتزام بالتزاماتها، ومن بينها الاتفاقيات مع الجانب الإسرائيلي، والالتزام بخيار التسوية وحل الدولتين، وثانيًا؛ الالتزام بالمقاومة الشعبية السلمية كسبيل نضال وحيد، بمعنى عدم استخدام السلاح في مقاومة المحتل الإسرائيلي، وثالثًا؛ يجب ألا يكون إلا سلاح واحد ووحيد في الأراضي الفلسطينية، وهو سلاح السلطة فقط، بمعنى تخلي المقاومة عن سلاحها وتسليمه للسلطة. بالمقابل، فإن حماس تتمسك بالمقاومة بكافة أشكالها بما فيها الكفاح المسلح، وضرورة إلغاء أو تجميد اتفاقيات منظمة التحرير مع إسرائيل ووقف التنسيق الأمني معها، وعدم الاعتراف بالقرارات التي صدرت عن الشرعية الدولية وفي ضمنها الاعتراف بإسرائيل، وعدم القبول بتسليم سلاح المقاومة سواء في غزة أو الضفة، مهما كانت الظروف والتفاهمات والاتفاقيات8.
2- الافتقاد إلى الثقة المتبادلة؛ فمفاوضات المصالحة ومقترحاتها لا تسبقها ممارسات من أي من الطرفين لبناء الثقة لدى الطرف الآخر، أو إبداء حسن النية. وتكتفي لقاءات الحوار والمصالحة على عبارات إنشائية، ومناشدات تقارب عامة، دون أية خطوات حقيقية لهذا التقارب. وبالعكس تشغل الدعاية السوداء المتبادلة المسافة بين كل مبادرتين للمصالحة. وقد تعاظم اتهام فتح لحماس بأنها حركة ذات ارتباطات غير وطنية وتنتمي إلى ما يسمى بـ”الإسلام السياسي”، بينما تعتبر ذاتها حركة وطنية محضة، خاصة في ظل تراجع المساندة القومية العربية لها، وتسمي السلطة 2007 انقلابًا على الشرعية. هذا بينما تلح حماس على عدم شرعية مؤسسات السلطة خاصة بعد انتهاء ولاية عباس وعدم تجديدها انتخابيًا، وتذرع السلطة بالمعوقات التي تضعها دولة الاحتلال في عدم إجراء انتخابات جديدة9.
3- افتقاد الآلية الحاسمة للخلاف؛ حيث تتمسك حماس بالشرعية الانتخابية الديمقراطية، وهي التي فازت فيها في آخر انتخابات فلسطينية عام 2006، وشرعية المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، فيما تتمسك حركة فتح بالشرعية السياسية لمنظمة التحرير والشرعية العربية والدولية للاعتراف بها10. أضف إلي ذلك، فقد واجهت الآلية الديمقراطية (الانتخابات) في الشأن الفلسطيني مشكلة رئيسية؛ إذ إن نتائجها مشروطة داخليًا وإقليميًا ودوليًا؛ بألا تأتي بطرف مقابل للسلطة الفلسطينية ولا مرفوض إقليميًا (إسرائيليًا) أو دوليًا (أمريكيًا). كما تتخوف حركة فتح والسلطة الفلسطينية – وأطراف عربية ودولية – من النتائج المحتملة لأي انتخابات فلسطينية، والخشية من تكرار نتائجها كما في عام 2006 بفوز حركة حماس بها. خاصة بعدما باتت فتح تواجه عدة مآزق، أولها: فشل المشروع السياسي للسلطة بفعل انغلاق أفق المفاوضات مع إسرائيل. والثاني: منافسة حماس لها شعبيًا في ظل استمرار تخلي الحركة عن نهج الكفاح المسلح. والثالث: الانشقاقات الداخلية في الحركة، وتحولها إلى تيارات مستقلة عنها (سُجل في حركة فتح انشقاقان لتيارين بفعل الخلافات مع عباس، أحدهما لمحمد دحلان، عضو اللجنة المركزية سابقًا، وناصر القدوة، عضو اللجنة المركزية سابقًا أيضًا)11.
4- أثر الانفصال المكاني بين الضفة وغزة؛ مما يصعب التواصل والالتقاء المباشر، ويسهل مواصلة الانقسام وتعزيز كل طرف لوجوده ومكانته في مكانه. وقد حرص المحتل على الحفاظ على هذا الانفصال عبر تحكمه في المعابر وحصاره لكل من القطاع والضفة بأشكال مختلفة. واليوم لم يعد متخيلًا أن تعود السلطة للهيمنة على غزة في وجود القوة الحمساوية، وبالطبع العكس صحيح؛ فلن تسمح فتح بزيادة قوة وحضور حماس في الضفة الغربية، وهي تواجه ذلك بكل حسم وشدة. أضف إلى ذلك الانفصال البشري بين مواطني الجزءين12.
5- لا ترتبط مبادرات المصالحة برؤية استراتيجية بقدر ما ترتبط بأحداث وظروف آنية، وبالتالي فهي ليست عملية بناء مستمرة ولكنها مبادرة وقتية ترتبط بظروف معينة، وعندما تنتهي هذه الظروف “تعود حليمة لعادتها القديمة”. وأكبر مثالين على ذلك؛ أولًا، اتفاق القاهرة الذي عقد في العام 2011 تحت تأثير وضغط “الربيع العربي” وصعود الإخوان المسلمين، وانهار مع انهياره. ثانيًا، تفاهمات إسطنبول التي وقعت بتأثير تولي دونالد ترامب سدة البيت الأبيض، وقيامه بضم الجولان والقدس، ونقل السفارة الأميركية إليها، وإغلاق مكتب منظمة التحرير، وقطع المساعدات والعلاقات مع منظمة التحرير والسلطة، وطرح “صفقة القرن” التصفوية، وعندما سقط ترامب في الانتخابات وفاز جو بايدن انهارت التفاهمات بسبب عودة الوهم حول المفاوضات والرهان على الإدارة الأميركية الجديدة13.
انعكست هذه الخلافات علي موقف السلطة الفلسطينية من عملية “طوفان الأقصى”، حيث اعتبرت أن هذه المواجهات “بلا نتائج على الأرض”، وأن خيار المقاومة “مكلف”، إلى جانب تحميل حماس مسؤولية إيقاف الحرب كونها اتخذت قرار البدء بها خارج الإجماع14. ناهيك عن قيام السلطة باعتقال المقاومين في الضفة الغربية. وعندما كلف الرئيس عباس مستشاره الاقتصادي، الدكتور محمد مصطفى، بتشكيل حكومة “تكنوقراط” استعدادًا للقيام بمهمة إعادة إعمار قطاع غزة بعد الحرب، أعلنت حركة حماس والفصائل المقربة منها رفضها لهذه الخطوة بدعوي أنها جاءت من دون توافق وطني، وأن الأولوية الوطنية هي حاليًا لمواجهة العدوان الإسرائيلي ضد قطاع غزة15. وما زاد الطين بلة، إعلان وزارة الداخلية بغزة (التابعة لحركة حماس) عن تعاملها مع ضباط وجنود يتبعون لجهاز المخابرات العامة في رام الله (يقوده اللواء ماجد فرج)، وقالت إن هدف هؤلاء كان إحداث حالة من البلبلة والفوضى في صفوف الجبهة الداخلية، وإنهم تسللوا بتأمين من جهاز الشاباك والجيش الإسرائيلي بعد اتفاق تم بين الطرفين في اجتماع لهما بإحدى العواصم العربية16.
ثانيًا: العوامل المتعلقة بالاحتلال الإسرائيلي:
من البديهي أن مصلحة إسرائيل الاستراتيجية تكمن في المحافظة على الانقسام في الساحة الفلسطينية، وهي تعمل بقوة لمنع التوصل إلي توافقات المصالحة، وإن لم تستطع فتعمل على الحيلولة دون تطبيقها17. ففي إبريل 2021، أصدر الرئيس عباس قرارًا بتأجيل الانتخابات التشريعية، التي كان مقررًا أن تجري في مايو من نفس العام؛ لعدم قبول الحكومة الإسرائيلية إجراء الاستحقاق في القدس وضواحيها18. ناهيك عن الحصار المالي الذي تفرضه الحكومة الإسرائيلية على السلطة الفلسطينية من خلال وقف تسليم عائدات الضرائب “المقاصة” لها بحجة أن السلطة تقوم بتحويل جزء من هذه الأموال لغزة ولدفع مساعدات اجتماعية لعائلات الأسرى والشهداء والجرحى19. فيما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صراحةً بأن إسرائيل ترفض عودة السلطة الفلسطينية مجددًا لإدارة قطاع غزة بعد الحرب20.
ثالثًا: العوامل الإقليمية:
توجد في منطقة الشرق الأوسط ثلاثة محاور رئيسية هي؛ محور الاعتدال (يضم مصر والسعودية والإمارات والأردن والبحرين والمغرب)، ومحور المقاومة (يضم إيران وسوريا ولبنان والعراق واليمن)، ومحور الإسلام السياسي والأيديولوجية الإخوانية (يضم تركيا وقطر). وقد تأثرت المصالحة الفلسطينية بلا أدني شك بطبيعة التفاعلات – تعاونية أم صراعية – بين هذه المحاور؛ نظرًا لارتباط حركة فتح بمحور الاعتدال، وارتباط حماس بمحوري المقاومة والإسلام السياسي.
البداية كانت مع اتجاه مصر إلي مسار التسوية السياسية مع إسرائيل وتوقيع معاهدة السلام عام 1979، وهو ما كان له تأثير مباشر – بجانب أسباب أخري بلا شك مثل انهيار موازين القوى عقب سقوط الاتحاد السوفيتي، وحدوث انقسام في الموقف العربي بعد أزمة احتلال العراق للكويت وتأييد منظمة التحرير الفلسطينية للموقف العراقي ما أدي إلي فقدان المنظمة بعضًا من التضامن العربي وفرض حصار مالي وسياسي عليها21 – علي توجه منظمة التحرير الفلسطينية لتوقيع اتفاقية أوسلو في عام 1993، والتي جاءت بالتزامن مع توقيع الأردن اتفاقية وادي عربة مع إسرائيل عام 1994. وفي المقابل فإن سوريا شكلت حاضنة لحماس وقوى المقاومة، عبر استضافتهم علي أراضيها22.
وعقب ثورات “الربيع العربي” عام 2011، شهد المشهد الإقليمي حملة شرسة لمحاربة “الإسلام السياسي” من قبل دول محور الاعتدال، لكونه عماد الربيع العربي الذي هدد استقرار المنطقة العربية. وباعتبار حماس أحد تجليات “الإسلام السياسي” المستهدف، فالحملة كما يبدو تشملها23؛ وليدخل الانقسام الفلسطيني على محك استقطابات الشعوب والأنظمة العربية، والإسلاميين والعلمانيين24. وفي حين روجت حماس لنفسها بأنها تمثل الشعوب الحرة وتتهم فتح بأنها نسخة من الأنظمة العربية “الاستبدادية”، فإن فتح روجت لنفسها باعتبارها حركة وطنية خالصة علي عكس حماس التي تقدم المصالح الإخوانية الدولية علي المصالح الفلسطينية الوطنية. ومن هنا، تخوفت حماس من أن تكون خطوات المصالحة الجديدة مجرد مسار في الحملة الإقليمية الشاملة ضد الإسلام السياسي والدافعة نحو التطبيع مع إسرائيل، بهدف اختراق حصن غزة من الداخل، لإضعاف قبضة حماس على القطاع، تمهيدًا لتفكيك برنامج المقاومة25.
ومع تصاعد حدة الخلافات بين محور الاعتدال ومحور الإسلام السياسي، والتي تجلت في الأزمة الخليجية، في يونيو 2017، علي خلفية قيام السعودية والبحرين والإمارات ومصر بقطع العلاقات الدبلوماسية وفرض حصار شامل على قطر. بجانب، التلويح بالحرب العسكرية بين مصر وتركيا علي الأراضي الليبية، خاصة في يونيو 2020، علي خلفية إرسال تركيا لقوات عسكرية لدعم حكومة الوفاق الوطني السابقة برئاسة فايز السراج ضد قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر المدعوم من قبل القاهرة والإمارات والسعودية. أدت هذه الخلافات إلي تراجع وغياب أي محاولات للمصالحة بين الفصائل الفلسطينية في الفترة من 2017 إلي سبتمبر 2020.
ولكن مع بداية المصالحات بين هذين المحورين في أواخر 2020، والتي بدأت باتصالات غير معلنة بين مسؤولين مصريين وأتراك، بهدف تجنب مواجهة محتملة بين قوات الطرفين في الساحة الليبية. ثم تجلت بتوقيع اتفاق المصالحة الخليجية “اتفاق العلا” في مطلع عام 2021، والذي انهي الخلافات بين كل من قطر من جانب ومصر والسعودية والإمارات والبحرين من جانب آخر، فقد عادت محاولات المصالحة واللقاءات بين فتح وحماس مرة أخري في اسطنبول سبتمبر 2020، وشهدت هذه المحاولات تطورات إيجابية تمثلت في التوافق بين وفدي الحركتين على إجراء الانتخابات العامة في الضفة الغربية وقطاع غزة في غضون ستة أشهر26.
وعقب ظهور الموجة الثانية من التطبيع العربي بعد عقد اتفاقات أبراهام (وقعت إسرائيل اتفاقيات تطبيع مع كل من الإمارات والبحرين والسودان والمغرب في الفترة من أغسطس إلي ديسمبر 2020)، برزت الجزائر كأشد الدول المعادية لعمليات التطبيع، خاصة في ظل علاقاتها المتوترة مع كل من المغرب والإمارات. حيث قادت الجزائر جبهة رفض ضد عضوية إسرائيل كمراقب في الاتحاد الأفريقي. كما قادت الجزائر عملية المصالحة الفلسطينية، حيث تم عقد اجتماع في عام 2022 بين 14 فصيل فلسطيني علي رأسهم حركتي حماس وفتح، انتهي بالاتفاق علي إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في غضون عام27.
فيما تسبب “طوفان الأقصى”، أكتوبر 2023، في توتر العلاقات بين محور الاعتدال ومحور المقاومة بقيادة إيران، خاصة بعد اشتراك بعض الدول العربية (الأردن وقطر والسعودية والإمارات) في التصدي لضربات إيران ضد إسرائيل في إبريل 2024. ورغم أن موقف إيران المعلن هو دعم خط المقاومة الفلسطينية، لكن لا يوجد ما يشير إلي أنها سعت لتوقيع اتفاقية مصالحة فلسطينية، بل ربما يكون دورها سلبيًا؛ حيث لم تبد حماسة رسمية لتطبيق اتفاقات المصالحة، وربما وجهت بعض الانتقادات ومارست بعض الإعاقات في طريق المصالحة، لكن حركة حماس لم تأخذ هذا الموقف بالاعتبار في برنامج المصالحة، فيما يبدو أن حركة الجهاد ربما كانت أكثر تأثرًا به رغم استمراراها في مفاوضات المصالحة28.
4- العوامل الدولية:
يمكن القول بأن العوامل الدولية في مجملها هي عوامل سلبية في ملف المصالحة الفلسطينية؛ فالدول الغربية (الولايات المتحدة والدول الأوروبية) ترفض أن يكون لحماس أي دور في حكم غزة بعد الحرب الإسرائيلية الحالية. كما ترفض أي حكومة فلسطينية موحدة تضم حماس ما لم تعترف صراحة بإسرائيل، وتوقف المقاومة المسلحة ضدها. وتصنف هذه الدول حماس كحركة “إرهابية”29.
وتعتبر هذه الدول هي الأكثر تأثيرًا في الملف الفلسطيني؛ نظرًا لوزنها الدولي وتأثيرها السياسي في القضايا الدولية عمومًا والقضية الفلسطينية خصوصًا. كما تعد هذه الدول أكبر المانحين للمساعدات الخارجية للفلسطينيين. حيث كشفت بيانات دعم وتمويل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في عام 2022 إلي أن الولايات المتحدة هي أكبر الحكومات المانحة بنحو 344 مليون دولار، وجاء بعدها في المرتبة الثانية ألمانيا بمساعدات تصل إلى 202 مليون، ويأتي الاتحاد الأوروبي ثالثًا بإجمالي مساعدات قيمتها تتجاوز 114 مليون دولار، وبعده السويد بنحو 61 مليون دولار، والنرويج بأكثر من 34 مليون دولار، ثم اليابان بأكثر من 30 مليون دولار، وبعدها فرنسا بإجمالي 29 مليون دولار، وبعدها السعودية بنحو 27 مليون دولار، وبعد ذلك سويسرا بنحو 25.5 مليون دولار، ثم تركيا في المرتبة العاشرة بقيمة 25.1 مليون دولار30.
وقد انعكس تأثير هذه الدول مؤخرًا في أن الحكومة التي شكلها الرئيس محمود عباس (حكومة محمد مصطفى) تقوم في جوهرها على استبعاد الفصائل الفلسطينية عن الحكم في المرحلة الراهنة، من خلال تعيين “حكومة تكنوقراط” على حساب أي حكومة توافق وطني فصائلية، ولتلتقي بذلك مع النظرة الأميركية التي دعت إلى تحييد حركة حماس وإنهاء وجودها31.
بينما الدول التي لها وزنها الدولي وتأتيرها السياسي في القضايا الدولية مثل روسيا والصين، وهي تبدو داعمة للمصالحة الفلسطينية ولكنها غير فاعلة فيها32؛ نظرًا لعلاقاتها القوية مع إسرائيل، بجانب ضعف تأثيرها السياسي المنبثق عن محدودية دعمها المالي للفلسطينيين؛ فالصين وروسيا ليسوا في العشرة الأوائل حتي في تمويل الأونروا.
وقد انعكس مدي ضعف وعدم فاعلية روسيا والصين في عدم اتخاذها أي موقف أحادي للضغط على إسرائيل منذ اندلاع أحداث 7 أكتوبر 2023، بل يمكن اعتبار سقف مواقفها أدنى بكثير من مواقف لا توازيها من ناحية القوة والمكانة الدولية والتأثير. حيث لم تلجأ الصين وروسيا مثلًا إلى مواجهة إسرائيل بالانضمام إلى الدول التي تحاكم إسرائيل في محكمة العدل الدولية، وفي مقدمتها جنوب أفريقيا، ولم تقطع علاقاتها مع إسرائيل أو تطرد سفيرها كما فعلت مثلًا بوليفيا وكولومبيا وجنوب أفريقيا والبرازيل وتشيلي. حتى إنهما لم يستدعيا السفير الإسرائيلي كما هو حال هندوراس وتشاد، وغيرهما. وربما كان هذا العجز العامل الأبرز الذي دفع بكين للدخول في ملف المصالحة الفلسطينية، سعيًا وراء دور ما يغطي ضعف تأثيرها في مجريات الحرب وفي أطرافها33.
الخلاصة؛ يبدو أن “طوفان الأقصى” لن يسهم في إزالة سد الانقسام الفلسطيني رغم تعدد المحاولات وكثرة المبادرات، بل إن الطوفان قد يزيل آخر أمل في إنهاء هذا الانقسام؛ فحركة “فتح” تقدم نفسها كبديل عن “حماس” – وليس كشريك – لإدارة قطاع غزة بعد الحرب. كما أن حماس ستصبح أكثر توجسًا من أي محاولات عربية لتحقيق المصالحة الفلسطينية، في ظل قناعتها برغبة هذه الدول في استغلال لحظة الطوفان للقضاء عليها نهائيًا، وأن هذه الرغبة هي ما دفعت الولايات المتحدة لاقتراح مشاركة هذه الدول في مستقبل غزة (بغض النظر عن رفض أو قبول بعض هذه الدول لهذه المقترحات الأمريكية) عبر إرسال قوات عسكرية تكون مسئولة عن تحقيق الأمن والاستقرار داخل القطاع بعد القضاء علي حماس عسكريًا، وإدخال هذه الدول لتكون مسئولة عن إدارة الشئون المدنية والإدارية فيما يتعلق بإدخال المساعدات وعملية إعادة الإعمار لسحب بساط السلطة السياسية من تحت أقدام حركة حماس؛ فالولايات المتحدة أصبحت لا تسعي فقط إلي تحويل المواقف العربية إلي عنصر محايد في معركة الطوفان، ولا تكتفي برغبة بعض الدول العربية في القضاء علي حماس بأيدي غيرها ( إسرائيل)، وإنما تسعي إلي إشراكهم في هذه الحرب بجانب إسرائيل لتحقيق الهدف المشترك (القضاء علي حماس).
1 ماهر الشريف، “حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” 1957-1993″، الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية، الرابط: https://2u.pw/JpReBCUI
2 مدحت ماهر، ” سؤال الطوفان وانقسام حركة التحرير: هل من سبيل إلى التئام فلسطيني قادم؟”، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 1/5/2024، الرابط: https://2u.pw/t2VxGEmJ
3 فريق الأزمات العربي، “أزمة المصالحة الفلسطينية: الأبعاد والمخرج”، مركز دراسات الشرق الأوسط- الأردن، يناير 2023، الرابط: https://2u.pw/AyGfgXn0 ص 10
4 “موقف دول أوروبا من حركة حماس”، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، 4/11/2023، الرابط: https://2u.pw/8zUlYSs4
5 فريق الأزمات العربي، مرجع سابق، ص 10
6 هاني المصري، ” اجتماع بكين: بارقة أمل أم خيبة جديدة؟”، المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية (مسارات)، 23/7/2024، الرابط: https://2u.pw/wePVtDav
7 محسن محمد صالح، “المعوقات العشر للمصالحة الفلسطينية”، الجزيرة نت، 8/6/2016، الرابط: https://2u.pw/Yw3XEtTw
8 عصري فياض، “كيف سننجو من الانقسام؟”، رأي اليوم، 1/8/2023، الرابط: https://2u.pw/YFhtidS8
9 مدحت ماهر، مرجع سابق.
10 فريق الأزمات العربي، مرجع سابق، ص 18
11 حمدي علي حسين، “موقف “فتح” وتياراتها: الموقف من “الحرب على غزة” وتداعياته”، مركز الجزيرة للدراسات، 29/7/2024، الرابط: https://2u.pw/KDvJoex4
12 مدحت ماهر، مرجع سابق.
13 هاني المصري، مرجع سابق.
14 حمدي علي حسين، مرجع سابق.
15 “حماس وفصائل فلسطينية ترفض تشكيل حكومة “دون توافق وطني”، الجزيرة نت، 15/3/2024، الرابط: https://2u.pw/DsE1Oewl
16 “صدام الروايات.. لماذا تشتعل قضية اعتقال عناصر مخابرات لرام الله في غزة؟”، الجزيرة نت، 4/4/2024، الرابط: https://2u.pw/nVNXOhHE
17 فريق الأزمات العربي، مرجع سابق، ص 20.
18 “محمود عباس يعلن تأجيل الانتخابات البرلمانية الفلسطينية”، BBCعربي، 29/4/2021، الرابط: https://2u.pw/nKhB4Rsm
19 حمدي علي حسين، “السلطة الفلسطينية والحرب على غزة: الموقف والدور والتأثير”، مركز الجزيرة للدراسات، 31/3/2024، الرابط: https://2u.pw/z7vzy4wL
20 “نتنياهو يرفض عودة السلطة الفلسطينية لإدارة غزة”، الشرق نيوز، 12/11/2023، الرابط: https://2u.pw/rInlnlUU
21 ” اتفاق أوسلو”، الجزيرة نت، 13/9/2023، الرابط: https://2u.pw/OidD7T
22 محسن محمد صالح، مرجع سابق.
23 عبدالرحمن محمد فرحانة، “هل المصالحة الفلسطينية ممكنة؟”، الجزيرة نت، 23/2/2014، الرابط: https://2u.pw/qlSyunrv
24 مدحت ماهر، مرجع سابق.
25 عبدالرحمن محمد فرحانة، مرجع سابق.
26 “اتفاق بين فتح وحماس على إجراء انتخابات فلسطينية “في غضون ستة أشهر””، فرانس24، 24/9/2020، الرابط: https://2u.pw/Cwjj65sh
27 “الفصائل الفلسطينية توقع اتفاق مصالحة في الجزائر لإجراء انتخابات وتشكيل حكومة وحدة”، فرانس24، 13/10/2022، الرابط: https://2u.pw/ZwLoDRUB
28 فريق الأزمات العربي، مرجع سابق، ص 20
29 محسن محمد صالح، مرجع سابق.
30 “الأونروا في مهب العاصفة.. هذه أكثر الدول التي تمولها!”، العربية نت، 28/1/2024، الرابط: https://2u.pw/JlC6IWXH
31 حمدي علي حسين، مرجع سابق.
32 فريق الأزمات العربي، مرجع سابق، ص 21
33 رزان شوامرة، “”إعلان بكين” الفلسطيني… قراءة في موقف صيني مُتغيّر”، العربي الجديد، 27/7/2024، الرابط: https://2u.pw/CkXP5XAV