ما أكثر ما كتب عن عِلاقة الدولة بالإسلام، وعن مُركب الدولة الإسلامية، باعتباره الأفق النهائي للتحديث من منظور الإسلام السياسي، ولا يزال السؤال عن العِلاقة بين الإسلام والدولة، وعن نموذج الدولة من منظور إسلامي، يستقطب كتاب وباحثين جدد.
ولعل من أسباب هذه الجاذبية هو الطلب المستمر على الكتابات التي تتناول هذا السؤال، في هذا السياق جاء الاهتمام الواسع بكتاب الدولة المستحيلة لكاتبه وائل حلاق؛ خاصة أن صدور الطبعة الأولى من الكتاب جاء في أوج التغيير الذي أحدثته الانتفاضات العربية، وفي وقت كان قريب عهد بالصعود الكبير لحركات الإسلام السياسي في مصر، خاصة مع ما آثاره هذا الصعود من جدل حول شكل الدولة في ظل قيادة هذه الكيانات. ولا ننسى أن عنوان الكتاب في حد ذاته، وأيضًا لكون كاتبه “أكاديمي كندي مرموق من أصل مسيحي فلسطيني”، كل تلك الخلفيات زادت من من حجم الجدل المثار حول الكتاب.
من جهة أخرى، الكتاب لا يزال راهنًا، من ثم فإن استعادة الجدال حوله يعد مشروعًا ومفهومًا، فلا تزال الحركات الإسلامية التي تبشر بنموذج الدولة الإسلامية قائمة، وباقية، والإسلام وتراثها الضخم لا يزال يلهم شعوب المنطقة، ويشكل وجدانهم.
نستعيد في هذه السطور المقولات النظرية الأساسية لكتاب الدولة المستحيلة، كما نستعيد أهم النقاشات التي أثيرت بخصوص هذه الافتراضات.
الأطروحة الرئيسة للكتاب:
الدولة الحديثة هي نتاج تطور التاريخ الغربي، فهي ابنة المجتمعات الغربية، كما أن المفاهيم التي أسست للدولة الحديثة هي “مفاهيم لاهوتية معلمنة”، وعلى رأسها مفهوم السيادة، الذي بموجبه تحتكر الحق في التشريع، واحتكار العنف المشروع، وهيمنتها الثقافية واحتكارها إنتاج الذات الوطنية، والدولة في بيئتها الأصلية هي غاية في ذاتها، تمتلك جهاز بيروقراطي عقلاني يضمن لها تحقيق الاستمرار والاستقرار.
أما الحكم الإسلامي فـ “تحل الأمة محل شعب الدولة القومية الحديثة”، وتحل سيادة الشريعة ومنظومة الأخلاق الإسلامية محل سيادة الدولة، ويكون رضا الله هو غاية الغايات، فـ “الفرد لا يوجد من أجل الدولة، بل العكس هو الصحيح فالدولة توجد لتحقيق رَفَاهيَة الفرد”، في الإسلام يقع الكثير خارج سيادة الدولة، أما الدولة الحديثة فلا تعترف بوجود عِصِيّ على إخضاعه لسيادتها1.
لذلك فالسعي للدمج بين الدولة والشريعة/الأخلاق مشروع مستحيل التحقق2، وينطوي على تناقض داخلي؛ فالحكم الإسلامي يؤسس لمنظومة أخلاقية، في حين نجد أن الشأن الأخلاقي تقهقر في ظل الدولة الحديثة؛ حيث تم فصله عن السياسة والاقتصاد والقانون، كما أنه مستحيل التحقق لكون الحكم الإسلامي لم يعد قائمًا منذ نحو قرنين؛ بعدما قضى عليه الاستعمار الغربي، ومن ثم حدث انقطاع بين المسلمين ونموذج الحكم الإسلامي.
من ملامح التباين بين الدولة والحكم الإسلامي كما يطرحها حلاق تتعلق بالفوارق بين الشريعة والقانون، فالقانون تعبير عن إرادة السلطة، أو إرادة فاعلين يمتلكون القوة لفرض إرادتهم، أما الشريعة فهي تعبير عن مراد الشرع مع تنزيله على الوقائع، حتى لو أراد الحاكم تمرير إرادته، لا يستطيع تمريرها إلا عبر خطاب الشريعة ووفق معطياتها و أبجدياتها، فـ “الحاكم التنفيذي يقف بمعزل عن السلطة التشريعية، وفي معزِل عن السلطة القضائية كونه خاضعا لأوامرها من نواح كثيرة”3.
ومن ملامح التباين أيضًا المتعلقة بالشريعة أيضًا؛ أن الفقهاء في التجربة التاريخية الإسلامية قادمون من الطبقات الوسطى والدنيا، وظلوا مرتبطين بالمجتمع القادمين منه، وكانوا حلقة وصل بين السلطة والمجتمع، وممثلين لمجتمعاتهم وقادة مدنيين له، خاصة مع النزعة المساواتية المنتشرة في القرآن، من ثم كانت الشريعة “ظاهرة اجتماعية في الأساس وليست سياسة”، بعكس ما عليه الحال في الدولة الحديثة. أما في الدولة فقد كان القانوني ومعه السياسي كلاهما منفصل عن الأخلاقي، حيث كانت المعرفة في خدمة القوة.
ومن التباينات بين النموذجين أن تكوين الذات، ذات المواطن، في ظل الدولة الحديثة، تشكلت عبر تحكم جهاز الشرطة وهيمنة نظام التعليم والثقافة؛ وكلاهما أنتج ذات المواطن. أما في ظل الحكم الإسلامي؛ فالدولة لا تتدخل في التعليم، كما لم تعرف أدوات مراقبة قاسية؛ لذلك فهي تنتج ذوات مباينة للذات التي تنتجها الدولة الحديثة4.
الكتاب لا ينتقد فقط محاولة الدمج بين الدولة الحديثة والحكم الإسلامي، إنما ينتقد أيضًا التصورات السائدة لدى طيف واسع من الشرقيين عن الشريعة، وهي التصورات المستفادة من حضور الشريعة في ظل الدولة الحديثة في العالم الإسلامي، وليست الشريعة كما تتجلى طوال التاريخ الإسلامي ما قبل الحديث. فالشريعة في ظل الدولة الحديثة قد جردت من كل فاعلية وصار دورها ثانويًا. إن هدف “حلاق” تبيين جينالوجيا مفهومي “الشريعة” و”الدولة”، وتخليص مفهوم الشريعة مما لحق به من تشويه، مع تسليط الضوء على السيرورة التي تحولت بها الشريعة إلى قانون.
فالكتاب ينتقد محاولة استنساخ الدولة وكأنها مجرد بنية بلا معنى؛ بحيث يمكن ملؤها بأي معنى نريد، مشددًا على أنها بنية مسكونة بمعاني محددة، وتظل بنيتها ووظيفتها وأدوارها ونتاجها محكوم بالميتافيزيقيا والتصورات المؤسسة عليها. وأن هذا المضمون الميتافيزيقي للدولة الحديثة يختلف بشكل جذري عن الرؤية الفلسفية الكامنة في نموذج الحكم الإسلامي المستند للشريعة. فالدولة التي يحكم عليها وائل حلاق بالاستحالة هي دولة الإسلام السياسي المتخيلة؛ دولة تستند إلى أخلاق ميتافيزيقية متعالية، وفي الوقت نفسه تستند إلى منطق الدولة الحداثية ذات السيادة.
المنهجية التي اعتمدها وائل حلاق في بناء أطروحته:
استخدم وائل حلاق في أطروحته مفهوم النطاق المركزي لدى كارل شميت، في المقارنة بين الدولة الحديثة والحكم الإسلامي، والنطاق لدى شميت هو المنظور الذي يُقرأ منه الواقع، إذ دائمًا هناك في كل حضارة نطاق مركزي، يفسر من خلاله المفكر تاريخ العالم، وموقع اللحظة الراهنة، ونفهم من خلاله مشهد العالم، ويمنحنا أيضًا اللغة التي نقول بها العالم.
والعقلية الأوروبية خلال القرون الـ 4 الأخيرة، بدلت نطاقها المركزي 4 مرات؛ في المرة الأولى كانت تنظر للواقع من منظور روحاني/ ديني، في المرة الثانية من منظور ميتافيزيقي، في الثالثة من منظور اقتصادي، وفي الرابعة والأخيرة من منظور تقني. في النطاق الروحي يكون مرجع النظام لاهوتيًا، وفي النطاق الميتافيزيقي يكون مرجع النظام عالم طبيعي نسقي، وفي النطاق الاقتصادي يكون مرجع النظام عالم اقتصادي. كما استخدم حلاق مفهوم اركيولوجيا الخطاب عند فوكو، في تطوير مقولة شميت عن النطاق المركزي والنطاقات الهامشية.
نقد أطروحة الدولة المستحيلة:
نقد المنهج:
تبني مقولة النطاق المهيمن في حضارة ما، يتجاهل ما تفعله السلطة الزمنية من تجاهل للنطاق تحقيقًا لمصالحها وتثبيتا لسيطرتها، وهو ما نشاهده في تجرِبة هيمنة الشريعة في العالم الإسلامي قبل الحديث، إذ “هيمنت الشريعة بالفعل، لكن افتقارها إلى القوة القاهرة التي امتلكها الملوك والسلاطين المسلمون أدّى إلى إشكالات سياسية ضخمة عاناها المسلمون عبر تاريخهم، وأدّت بفقهائهم وأصولييهم إلى التنظير اضطرارًا لحكم التغلُّب”، بالتالي يمكن أن يصلح مفهوم النطاق المركزي في فهم تاريخ أوروبا؛ إذ كان النطاق المركزي في تصور شميت يضمن هيمنته عبر الاستناد إلى سلطة الدولة، ما يحقق له الاستقرار، أما كون الشريعة نطاق مركزي لم يستند إلى سلطة تدعم هيمنته، جرفها إلى الهامش تحت وطأة السلطان المتغلب، بالتالي تاريخ عِلاقة الشريعة بالسلطان في العالم الإسلامي لا يتفق ونموذج النطاقات التي طرحها شميت5.
لكن ما ينقص هذا النقد، أن تنحية الشريعة رغم كونها النطاق المركزي في ظل الحضارة الإسلامية لصالح السلطة السياسية في بعض الأحيان، والتنظير لسلطة المتغلب، ظلت الشريعة هي المخيال السياسي للمجتمعات المسلمة، حتى التنظير للاستبداد من قلب منظومة الشريعة ظل محكومًا بمنطق الشريعة وبمعجمها اللغوي، وملتزم في النهاية بحدودها النهائية، وبقي الخروج التام على هذه الحدود استثناء ليس له ما يبرره.
نقد الاستنتاجات:
النقد الأول: قدمه الأكاديمي والكاتب الموريتاني محمد مختار الشنقيطي، الذي طرح نقدين على كتاب وائل حلاق؛ الأول: أن حلاق في تعريفه للدولة الإسلامية استند إلى الظواهر النظرية-الفلسفية، والاجتماعية، والانثروبولوجية، والقانونية والسياسية والاقتصادية التي ظهرت في التاريخ الإسلامي، في حين لم يرجع إلى الرؤية المعيارية للسلطة والحكم المستمدة من الوحي الإسلامي أو حتى التنظير السياسي الإسلامي، دون أي اهتمام بالفارق الجوهري بين قيم الإسلام السياسية، وتاريخ المسلمين السياسي، معتبرًا أن استئثار حلاق للصورة التاريخية فيه تلاق غريب بينه كمفكر علماني مسيحي ونشطاء السلفية الجهادية في أسوء مظاهرها بلاهة وضيق أفق6.
نقد “الشنقيطي” لحلاق يقابله نقد خالد فهمي، المؤرخ المصري المرموق، الذي يرى أن مشكلة أطروحة حلاق أنه في عرضه لنموذج الحكم الإسلامي، إنما يقدم نموذج متخيل، استقاه من كتابات الفقهاء، وليس لها وجود حقيقي في التاريخ، فقد يكون النموذج مثاليًا؛ لكن لم يجد ترجمته في أية لحظة تاريخية.
وفي محاولة فهم جذور التناقض الذي يراه حلاق بين الحكم الإسلامي والدولة الحديثة، كتب الشنقيطي يقول أن العقل المسيحي -بشقيه الغربي والعربي- عاجزًا عن استيعاب عناق الديني والمدني في النص الإسلامي واندماجهما في التجربة التأسيسية الإسلامية، وأن حلاق ترجمة لهذا العجز7.
النقد الثاني: قدمه8 أستاذ الفلسفة التونسي أبو يعرب المرزوقي، وأطرف ما فيه هو الربط بين ما يقوله حلاق، وما قاله الشيخ علي عبد الرازق في النصف الأول من القرن العشرين، فيقول “كيف انتقل الفكر التحديثي العجول من نفي وجود دولة الإسلام إلى ادعاء استحالتها في التاريخ الحديث”. يضيف “والغريب أن الدعويين يبدو أصحابهما وكأنهما يدافعان عن علوية الإسلام على التاريخ الفعلي للشأن السياسي إما بصورة عامة فصلا للدين عن السياسة (عبد الرازق) أو بمقتضى خلقي يتفرد به الإسلام وتخلو منه الدولة الحديثة (حلاق)”.
تعليقًا على مقولة الاستحالة كتب يقول؛ أن الإسلام ذات طبيعة نقدية، لا يستسلم للواقع إنما ينقده؛ كما يظهر في النقد القرآني للتحريف الذي وقعت فيه الديانات السابقة، ليس نقدا لتحريف النص فقط، إنما نقدا لسير أصحابها في التاريخ، كما أنه رسالة ذات طبيعة فاعلة في التاريخ؛ إذ طبق الرسول ما علمه في التاريخ الفعلي، وتبعه في ذلك خلفائه. فالحديث عن عجز الإسلام عن استئناف مسيرته في التاريخ فضلا عن كونها مقولة لا تتفق مع طبيعة الإسلام، فهي فكرة قديمة “خَتْم بها هيجل الفصل الذي خصصه للإسلام في فلسفة التاريخ”.
ويعتبر المرزوقي أن نقد حلاق للحداثة، ونقده للدولة الإسلامية، هو نقد كاريكاتوري؛ يرد التاريخ الإنساني إلى التاريخ الطبيعي؛ فالبقاء فقط للأرقى، ويستبطن جوهرانية الشرق والغرب، وحتمية الصدام بينهما، وينفي وجود كليات أساسية واحدة في العمران البشري، نفس هذا المعنى أو قريبًا منه، نجده في نقد الشنقيطي لطرح حلاق.
النقد الثالث: يشير إلى التشابه بين حلاق وسيد قطب، في الحديث عن انقطاع الصلة بين واقع المجتمعات المسلمة والشريعة، وهو ما رده قطب إلى تقاعس المسلمين واختلاط تصوراتهم، بينما فسره حلاق بالاستعمار وسياساته، وكلا الرجلين اتفق على ضرورة إعادة الصلة بين الشريعة والمجتمعات المعاصرة، بنىَ قطب خطته للوصل بين ما انقطع على الجمع بين التلقّي عن الوحي والسعي في الأرض، في حين بنىَ حلاق رغبته في تفعيل أخلاق الشريعة في الواقع على التأسيس “النظري” للأخلاق على أساس الوحي عند الدكتور طه عبد الرحمن، وهو مشروع لخلقنة الحداثة، وهو تأسيس نظري بلا مشروع عملي9.
التشابه بين حلاق وقطب التقطه محمد إلهامي الذي كتب يقول “لو امتدت يد إلى كتاب حلاق هذا فغيَّرت أسلوبه الأكاديمي الجاف، واستبدلت بعض صياغاته بأخرى فيها آيات وأحاديث وبعض العاطفة، ومدَّت بعض الأفكار على استقامتها، لتحول هذا الكتاب إلى تنظير جها دي ممتاز، ولصار طبعة جديدة موسعة من “معالم في الطريق” لسيد قطب، أو طبعة جديدة من كتاب تأسيسي حركي لجماعة جهادية!”10. لكن بخلاف ذلك، يرى كريم محمد أن الكتاب “تحدٍّ للإنتلجانسيا الغربية التي تظن أنه ما من تاريخ لدى اللاغرب”، وفي الوقت نفسه هو “مساءلة جدية للتيارات العربية التي تختزل الشريعة، سواء باعتبارها قانونًا، أو بالنظر إليها بعيدًا عن مداها الاجتماعي والأخلاقي الذي تتغلغل فيه”11.
النقد الرابع: وفقًا لمحمود هدهود فإن أطروحة حلاق لها شقين؛ الأول: أن الدولة الحديثة مختلفة تمامًا عن تصور الإسلام عن السلطة والعلاقة بين الفرد والجماعة. الثاني: أن النسق الحضاري المرتبط بالإسلام يقدم نموذج أكثر أخلاقية من الدولة الحديثة. ويؤكد هدهود أنه يتفق كليا مع المقدمة الأولى، لكن الفكرة الثانية القائلة بتفوق النموذج التاريخي الإسلامي تبقى تُنذِرُ بالخطر كونها ماضوية؛ فهي تكرس حالة من الارتداد إلى الماضي والحنين له، مع استحالة تكراره بحكم التطور التاريخي نفسه. وتزداد خطورة هذا الطرح عند محاولة نقله من المجال الأكاديمي إلى الواقع، والأصوب هو طرح نموذج أكثر تركيبًا يتجاوز مشكلات الدولة الحديثة، ويستلهم النموذج الإسلامي، لكن من على أرضية إدراك قصور الماضي واستحالة استعادته12.
في المقابل، وفيما يتعلق بنقد أطروحة حلاق كونها دعوة ماضوية، بحسب البعض، فإن حلاق نفسه رد على هذا النقد بالقول أن المطلوب استعادته هي القيم العليا والشاملة التي يقدمها الإسلام، وليس العودة إلى “ممارسات ومؤسسات ما قبل حديثة”، كما أن الكقول بالماضوية يستبطن نظرية التقدم، وهي أطروحة متهاوية13.
رفض ماضوية طرح حلاق أشار إليها كريم محمد في مَعْرِض تعليقه على مقالات خالد الحروب الثلاثة التي دبجها في الرد على أطروحة الدولة المستحيلة، إذ كتب يقول “ليس الكتاب دفاعًا عن الحكم الإسلامي ضد الدولة الحديثة، وإنما هو محاولة للإفلات من البراديغم الليبرالي ومفهوم التقدم الذي ينظر إلى كل ما هو قديم باعتباره ماضيًا، وماضوية، بينما يُثبت حلاق أنه يمكن التفكير من جديد في هذا «القديم» الذي أُقصي، خاصة أن «الحديث» لديه ليس فترة زمنية، وإنما مقولة مميزة”14.
النقد الخامس: يفترض حلاق أن التحول عن نمط الحكم السائد في العالم الإسلامي لمصلحة أنماط الحكم الحداثية كان نتيجة الهجمة الاستعمارية التي أجهضت قدرة الحكم الإسلامي على البقاء، متجاهلًا عامل الزمن؛ حيث باتت المنظومة القائمة للحكم في العالم الإسلامي ومتقادمة وفقد مسوغات بقائها؛ وبذلك كان انهيارها ذاتيًا15، كما يُغفل الدور الذي لعبته النخب المحلية؛ في التحولات التي أصابت الشريعة وتصورات المسلمين عن السياسة والدولة، ليست نتيجة السياسات الاستعمارية التي صهرت البِنَى التقليدية، إنما نتيجة مواقف نخب محلية ووطنية طورت الشريعة لتحقيق مصالح خاصة بها، ومواكبة لتطورات شهدتها (كتاب تقنين الشريعة عزة حسين)16.
النقد السادس: كذلك ثمة فارق بين رؤية الشريعة -كما يتصورها حلاق في كتابه- بوصفها أمرًا إلهيًا ملزمًا أو مخزونًا يستوعب “الثقافة” و”التقاليد” الإسلامية الراسخة”، والشريعة بوصفها منتجًا للسياسة ومسرحًا لها، فالعلاقة بين الشريعة والفقه من جهة والدولة من جهة أخرى تخلَّلتها -دوما- مفاوضات حول الحدِّ الفاصل بين مجال النفوذ المعلَن لمضامين الشريعة ومؤسَّساتها وكوادرها وبين علاقتها بسلطة الدولة وهيمنتها”.
النقد السابع: أما المفكر المغربي أمحمد جبرون فيرى أن مشكلة طرح حلاق أنه يطرح نموذج الحكم الإسلامي منزوعًا من سياقه التاريخي والسوسيولوجي، وفي الحقيقة كون هذا النموذج مرتبط بسياق يعني صعوبة استنباته بمعزل عن السياق الذي اشتغل من خلاله، كما أن أطروحة حلاق أغفلت مسألة أن الحكم الإسلامي ليس إسلاميًا خالصًا إنما فيه المستعار وغير الإسلامي. وأغفل كذلك أن عمليات استيراد المفاهيم والنماذج والمثاقفة ليست نقل تام واستيراد، إنما يتم عادة تخليق المستورد ليتناسب مع البيئات المستوردة.
الخاتمة:
في كتابه يقارن حلاق بين الدولة الحديثة ونموذج الحكم الإسلامي، معتبرًا أن هناك هوة ساحقة بين النموذجين، أما معيار المقارنة فهو موقع الأخلاق منهما، أي النظامين أكثر أخلاقية أو إنسانية؟ والكتاب بهذا المعنى نقضا لطرح الإسلام السياسي عن “الدولة الإسلامية”، وفقا للكتاب فهذا المُركب ينطوي على تناقض داخلي، وهو إلى ذلك مستحيل التحقق.
أثار كتاب وائل حلاق عربيًا، نقد واسع، من طرف الإسلاميين الذين اعتبروا تصوراته تتناقض مع طرحهم عن دولة حديثة ذات مضامين إسلامية، مشددين على قدرة الإسلام على استئناف دوره في التاريخ، ومن طرف العلمانيين الذين رأوا أن طرحه يقيم تمايزا جوهرانيًا بين الشرق والغرب، أي إضفاء صفات جوهرانية شرقية عليه تُعتبَر متميزة ومختلفة اختلافًا بائنًا عن نظيرتها الغربية.
وإن كان هناك انتقادات أشار إليها الطرفين معًا، منها، أن طرح حلاق عن التناقض البنيوي بين منهج الإسلام في الحكم والحداثة السياسية يشبه إلى حد بعيد طرح سيد قطب ومن بعده المنظرين الجهاديين. وأن الحديث عن هذا التناقض يستبطن صدام الحضارات، ويتجاهل المشتركات التي نجدها في أي اجتماع إنساني.
وبصورة عامة، فإن قراءة الدولة المستحيلة عربيًا، كشفت عن قدر عالي من الانقسام والاستقطاب، الذي كانت مادة الكتاب مجرد منشط لتحفيزه، ومن جهة أخرى كشفت عن تعقد القضايا التي أثارها الكتاب وعدم تشكل إجماع عربي حولها. والكتاب بذلك يدفع باتجاه دراسة الدولة الإسلامية في تشكلها التاريخي، وباتجاه دراسة لاهوت الدولة في الفكر السياسي الإسلامي، وأن يفعل الأمر نفسه في دراسة تجرِبة الدولة الحديثة في أوروبا، وعليه المقارنة بين النموذجين في التصور والتاريخ، والمشتركات والتباينات بينهما.
1 محمد مرسي، الدولة المستحيلة مرة أخرى: قراءة نقدية جديدة (3/2)، إضاءات، 25 أغسطس 2016، قرأ في: 29 ديسمبر 2024، في: https://tinyurl.com/23ew74e2
2 محمد مرسي، الدولة المستحيلة مرة أخرى: قراءة نقدية جديدة (3/1)، إضاءات، قرأ في: 29 ديسمبر 2024، في: https://tinyurl.com/29vm2rsl
3 محمد مرسي، الدولة المستحيلة مرة أخرى: قراءة نقدية جديدة (3/2)، مرجع سابق.
4 المرجع السابق.
5 أحمد عبد الفتاح، التفكير ضد وائل حلاق.. هل الدولة المستحيلة.. مستحيلة حقا؟، الجزيرة نت، 5 أبريل 2020، في: https://tinyurl.com/26rq9jr8
6 محمد مختار الشنقيطي، أوراق الربيع (13).. الدولة العلمانية المستحيلة (أ)، الجزيرة نت، 22 مارس 2017، في: https://tinyurl.com/bdvty826
7 محمد مختار الشنقيطي، أوراق الربيع (15).. الدولة العلمانية المستحيلة (جـ)، الجزيرة نت، 5 أبريل 2017، في: https://tinyurl.com/p6xeyjnv
8 أبو يعرب المرزوقي، هل صحيح ألا مستقبل لدولة الإسلام؟ – هل هي مستحيلة فعلا؟، مدونة، 22 يناير 2025، في: https://tinyurl.com/43k9rjfh
9 أحمد عبد الفتاح، التفكير ضد وائل حلاق.. هل الدولة المستحيلة.. مستحيلة حقا؟، مرجع سابق.
10 محمد إلهامي، كلمة عن كتاب “الدولة المستحيلة”، مدونة محمد إلهامي، في: 21 يناير 2025، في: https://tinyurl.com/24vnhnud
11 كريم محمد، نقد النقد: «الدولة المستحيلة» ومأزق الفهم الحداثي، إضاءات، 21 يناير 2025، في: https://tinyurl.com/5auedmra
12 محمود هدهود (فيس بوك)، 18 يناير 2025، في: https://tinyurl.com/45pa44b6
13 عماد الدين، الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، نون بوست، 21 يناير 2025، في: https://tinyurl.com/348rj65e
14 كريم محمد، نقد النقد: «الدولة المستحيلة» ومأزق الفهم الحداثي، إضاءات، 21 يناير 2025، مرجع سابق.
15 محمد مرسي، الدولة المستحيلة مرة أخرى: قراءة نقدية جديدة (3/3)، مرجع سابق.
16 أحمد عبد الفتاح، التفكير ضد وائل حلاق.. هل الدولة المستحيلة.. مستحيلة حقا؟، مرجع سابق.