بداية تطرح هذه الورقة فرضية أن سيناريو تأسيس ميليشيا في مصر، على غرار الميليشيات التي شهدتها الحالة السورية، أو ميلشيا الدعم السريع التي شهدتها السودان يبدو مستبعدًا؛ بسبب غياب الأسباب اللازمة لنضوج هذه التجربة في مصر، وإن كانت الورقة تعترف أن هناك عوامل محفزة للعنف ضد الدولة في مصر، إلا أنها تفترض أن هذه المحفزات ليست كافية لدوران عجلة العنف الميليشياوي في البلاد.
تستند الورقة في التحقق من صحة هذه الافتراضات إلى نص رئيسي كتبه أسامة رشدي وهو أحد القيادات التاريخية للجماعة الإسلامية في مصر، التي خاضت تجرِبة عنف طويلة ضد الدولة المصرية، انتهت بإعلان عدد من قياداتها مبادرة لوقف العنف وعمل مراجعات لتجربتهم. فضلا عن عدد من كتابات لمتخصصين في الحركات الإسلامية وجماعات العنف والإسلام السياسي.
من يمارس العنف:
في شهادته الشخصية والمعنونة بـ “الجماعة الإسلامية في مصر من المواجهة المسلحة إلى العمل السياسي1“، يشير أسامة رشدي إلى نِقَاط يراها أنها دافع للانزلاق إلى الصدام مع الدولة؛ الأول: الثأر في حال استهداف السلطة أحد المقربين من الشخص؛ حيث يذكر مقتل أحد أقرباؤه “كان طالبا متفوقًا في كلية العلوم بجامعة القاهرة”، خلال انتفاضة الخبز، نفس النقطة يشير إليها في حديثه عن خالد الإسلامبولي الذي شارك في عملية اغتيال الرئيس السادات؛ حيث يعتبر أن أحد دوافعه لاغتيال السادات، اعتقال أخيه في اعتقالات 1982 الشهيرة. النقطة الثانية: الخوف الشديد من بطش الدولة؛ إذ خوف شباب الجماعة الإسلامية أن يعيشوا مشاهد التعذيب التي عاشها الإخوان المسلمين في سجون عبد الناصر، كانت أحد دوافعهم الرئيسية للصدام مع السلطة.
بالتأكيد فيمَا يتعلق بالخوف من الدولة والرغبة في الانتقام من نخبة الحكم، فإن هذا الشرط متحقق بوضوح في النظام الحالي، الذي طالت سياساته العنيفة والقمعية الجميع.
شروط تتعلق بالبيئة الحاضنة:
في ورقته تطرق “رشدي” إلى البيئة الحاضنة، التي يصبح في ظلها العنف خيارًا مقبولًا، مجتمع داعم لجماعات العنف، وفي هذا السياق أشار “رشدي” إلى أن اللجوء للعنف في التعامل مع نظام السادات، واغتيال الرئيس نفسه، جاء في نطاق سخط شعبي واسع على سياسات السادات ومواقفه؛ سواء فيمَا يتعلق بانتفاضة الخبز، وفي موقفه من التطبيع مع إسرائيل. وهو ما يعني أن تنظيمات العنف لا تنبت في الفراغ إنما تكون نتاج ظروف موضوعية تجعل من تشكل هذه الكيانات ممكنًا.
نفس هذه الملاحظة أشار إليها الباحث المرموق في حركات الإسلام السياسي حسام تمام، في مقالة له بعنوان “مراجعات الإسلام الحركي” إذ يقول “لقد كان التغيير بالعنف مقبولًا وواردا في هذه الفترة في المِزَاج السياسي، لنراجع موقف مجمل القُوَى السياسية المعارضة من عملية اغتيال السادات مثلا والتي كانت موضع ترحيب من قُوَى تعتبر تقدمية وهو ما ظهر في التظاهرة الحقوقية التي جمعت كل ألوان الطيف السياسي دفاعًا عن قتلة السادات!2“، وظهرت أيضا في تعاطف النخبة المثقفة مع قتلة السادات؛ إذ على سبيل المثال امتدح أحمد فؤاد نجم منفذي العملية، كما رثى عبد الرحمن الأبنودي خالد الإسلامبولي بعد الحكم بإعدامه.
عنف السلطة شرط ضروري للعنف المضاد:
في شهادته يربط أسامة رشدي بين انزلاق الجماعة الإسلامية للعنف مجددا، في ظل حكم الرئيس مبارك، وبين تولي اللواء زكي بدر وزيرًا للداخلية، في فبراير 1986، معتبرًا أن توليه الوزارة هو ما دفع الجماعة دفعًا إلى العنف؛ جراء تماديه في اعتقال ناشطي الجماعة الإسلامية في الجامعات، والتوسع في عمليات التعذيب، والتضييق الشديد على السجناء في السجون ومقار الاحتجاز ولدى أجهزة أمن الدولة، مع تلفيق القضايا للأبرياء، فضلا عن إصدار أوامره إلى العمد والمشايخ والخفراء بقتل كل من له لحية أو يرتدي جلبابًا أبيض. وأن هذا العنف من جانب الداخلية هو الدافع وراء توجه الجماعة للعنف المسلح، وإلى توسعها في التنظير لشرعنة العنف.
يرى علي الدين هلال أن العنف الموجه للدولة ملمح من ملامح فشل الدولة وهشاشتها، وهو يرجع إلى “ضعف أداء مؤسسات الدولة، وانكشافها وعدم قدرتها على الوفاء بالمهام الرئيسية لها وتوفير الخِدْمَات الأساسية لمواطنيها3“، وعليه ليس عنف الدولة شرط وحيد لانفجار العنف في وجهها، وإنما العنف المصاحب للفشل والإخفاق في الوفاء بمتطلبات المجتمع والمواطنين.
بالبناء على ما ذكره على الدين هلال، وما ينطبع في الذهن من قراءة مقالة “تَراجُع دول وصعود مليشيات… سياق المسألة ومآلاتها وعلاقتها بطبيعة الدولة4“، للكاتب موريس عايق، أن الميلشيا تظهر وتتمدد في المساحات التي تنسحب منها الدولة، أو يكون وجودها فيها رماديًا باهتًا؛ فقد أسست دول الطوق العربي -ومنها مصر بالطبع- شرعيتها على تحقيق التحرر الوطني والتنمية، وكانت المحصلة النهائية من هذه الأهداف فشل لا تخفى ملامحه، ومع تخلي الدولة عن شرعية التمثيل، صار المجال مفتوحًا أمام ظهور الميلشيا وتمددها، خاصة أن فشل الدولة ارتد عنفا في وجوه مواطنيها.
فـ “الفشل وتَقلُّص الدولة إلى لحظَتي النهب والقمع بدوره يهدد قُدرتها الخاصة على السيطرة على شعبها على المدى الطويل. من جهة ضعف الكفاءة المتزايد لهذه الدولة، وضعف الإمكانيات القادرة على تعبئتها وحشدها لقمع الاحتجاجات والتمردات أو الجماعات المختلفة التي تنازعُها السلطة. ومن جهة أخرى ازدياد مصادر النقمة والغضب على سلطة الدولة والاستعداد لمواجهتها من قبل الخاضعين لها5“.
متى ينتهي العنف ضد الدولة:
جاء عنف الجماعة الإسلامية -بحسب شهادة رشدي- من أجل الثأر ورد العدوان؛ ولم يكن عنفًا من أجل فرض نموذج أو تغيير نظام. وكان اللجوء إلى مبادرة وقف العنف بحسب رشدي، ليس بسبب انتهاء الأسباب التي أججته، إنما كنتيجة لمعاناة شبابهم في السجون، ومعاناة الأهالي والعائلات، من جرّاءِ حرق الزراعات وهدم المنازل ومعاقبة أقارب “المعتقلين”، وخروج الشرطة على كل الاعتبارات، فمَا عادت تلتزم القانون في ملاحقاتها لأعضاء الجماعة؛ فمَا تفرق بين أعضاء الجناح العسكري، والمنتمين بشكل عام، والمتعاطفين مع الجماعة. وفي النتيجة النهائية كانت مبادرة وقف العنف نتيجة قناعة تامة أن العنف لم يساهم سوى في تكريس الاستبداد والانهيار على كل المستويات، وأن العنف ليس هدفا في حد ذاته.
في قراءته لتجربة عنف الجماعة الإسلامية ضد الدولة في مصر، يقدم “رشدي” العنف الممارس من قبل الجماعة باعتباره مجرد ردة فعل على عنف الدولة، واستجابة ميكانيكية له، وهو ما يبدو اختزاليا، كما أ نه يتجاهل السياقات التي واكبت الظاهرة، ولا يبذل كثير جهد في محاولة الربط بين انخراط الجماعة الإسلامية في العنف، وبين الأوضاع السياسية المضطربة عقب كامب ديفيد.
وفي قراءته لموقف الدولة في مصر من جماعات العنف؛ يفترض “رشدي” أن هذا الموقف جاء استجابة للتطورات الخارجية، والمتعلقة بالموقف من الحرب الأمريكية على الإرهاب أكثر من كونه استجابة للمبادرة أو لتحولات الجماعة الإسلامية في مصر، لكن في النهاية كان تقليل النظام من معدل العنف الممارس بحق معارضيه شرط ضروري لوضع حد للصراع الدائر.
كوابح العنف الميليشياوي في مصر:
مقارنة مصر بالدول التي تشهد نشاط للميلشيات يظهر لنا، أن بنية الدولة نفسها في هذه الدول تفتح المجال لظهور الميلشيات وتفشيها؛ في السودان: الدولة لا تحتكر العنف؛ إذ نجد أن الدولة لا تحكم قبضتها على سائر إقليم الدولة، بل سمة مساحات كبيرة تسيطر عليها ميلشيات لصالح الدولة، وأخرى يسيطر عليها متمردين، “كما تسيطر العصابات على مناطق بعيدة عن قبضة القوات النظامية لتستغل الأرض في زراعة الممنوعات والتهريب إلى الداخل والخارج”، ولعل مما أسهم في بلورة هذا المشهد، أن أجهزة الدولة نفسها بنيت بطريقة لا تسمح بتحرك مكون من مكوناتها للانقلاب على النظام القائم؛ فـ “القوات المسلحة ينافسها في الاختصاص هيئة العمليات في جهاز المخابرات والأمن الوطني، وقوات الدفاع الشعبي (مؤسسة إيديولوجية شبيهة بالحرس الثوري الإيراني). كما أن قوات الأمن تجد منافسة من الأمن الشعبي”؛ هذا الانقسام سمح للميلشيات بالظهور والتمدد مستفيدة من اللعب على التناقضات بين هذه الأجهزة6.
من جهة أخرى، فإن المجتمع السوداني تتخلله وتتقاسمه الإثنيات العرقيات والقبائل؛ وهو ما يفتح المجال واسعًا، لإفراز صراعات لا تنتهي، تغذي الميلشيات القائمة بعوامل بقائها7، خاصة أن الميلشيات “تستغل بذكاء الانقسامات على أسس عرقية واقتصادية ودينية لكسب المزيد من المجندين.. لقد تغلبوا على جيوش المناطق وتغذوا على الجغرافيا الصعبة والحكم الضعيف والفاسد في كثير من الأحيان8“.
بالتالي قياس النموذج السوداني على حال الدولة والمجتمع في مصر؛ يكشف أن الدولة في مصر لا تعاني من ازدواجية المؤسسات بما يخلق تناقضات داخل جهاز الدولة تسمح بفتح المجال لظهور ميلشيات، قد يكون هناك ازدواجية في المؤسسات، يخلقها النظام الحالي، عبر التوسع في انشاء الصناديق الخاصة المستقلة عن الحكومة وغير خاضعة لرقابة البرلمان، على غرار الصندوق السيادي، والهيئات التابعة للرئاسة مباشرة وخارج رِقابة الحكومة، لكن هذه الازدواجية تظل مرتبطة بالتكوينات المدنية، لكن على الصعيد الأمني والعسكري تظل الهيمنة المطلقة للجيش والشرطة.
بالطبع تحدث البعض عن اتحاد القبائل، وعن شركات الأمن الخاصة باعتبارها بدائل للجهاز الشرطي، أو على الأقل تنازعه احتكار العنف، لكن يبدو أن هذه الشركات اقل من تهديد سيطرة اجهزة العنف الرسمي.
على الصعيد المجتمعي؛ ليس لدينا تقسيمات أثنية أو طائفية، وتمركزات جغرافية تسمح بحدوث انقسامات على الصعيد المناطقي، لعل أبرز خطوط التقسيم الاجتماعي في مصر، هو التقسيم الطبقي، الذي يظهر بصورة سافرة في ثنائية العشوائيات والكومباوند.
الخاتمة:
لا يمكن نكران الزيادة غير المسبوقة في مستويات العنف الممارس من قبل أجهزة الدولة بحق المواطنين، ولا حجم الانهيار الاقتصادي الذي يحياه المجتمع؛ في ظل التضخم وارتفاع الأسعار وتنامي مستويات الفقر والجوع، وحجم الفساد، والتفاوتات الطبقية؛ لكن يبقى ذلك غير كافي لتكرار تجربة ميلشيا الدعم السريع السودانية في مصر، أو لتكرار النموذج السوري؛ لرسوخ الدولة، ولاختلاف بنية المجتمع في مصر عن هذه الدول.
بالطبع تحتاج مصر إلى حوار وطني جاد، ومصالحة اجتماعية حقيقية، وفتح المجال العام، والسماح بحد أدنى من حرية التعبير، وكبح جماح الأجهزة الأمنية، حتى يستعيد المجتمع والدولة في مصر بعض الاستقرار والهدوء، وإلا فالمستقبل مفتوح على كل السيناريوهات، واسوءها الحرب الأهلية، لكن يظل رغم كل ذلك تكرار النموذج السوري أو السوداني في مصر مستبعدا لكل ما سبق ذكره.
1 مؤلف جماعي، من السلاح إلى السلام التحولات من العمل المسلح إلى العمل السياسي السلمي، الفصل الثالث
2 حسام تمام، مراجعات الإسلام الحركي، 29 أكتوبر 2010، في: https://tinyurl.com/37dmrk6n
3 علي الدين هلال، رؤية مستقبلية للمليشيات المسلحة فى المنطقة العربية، موقع العربية، 2 سبتمبر 2023، في: https://tinyurl.com/ysawhf33
4 موريس عايق، تَراجُع دول وصعود مليشيات… سياق المسألة ومآلاتها وعلاقتها بطبيعة الدولة، الجمهورية، 17 يناير 2025، في: https://tinyurl.com/2ztkt5wj
5 المرجع السابق.
6 أسامة أبو بكر، الميليشيات المسلحة ومعضلة التحوّل المدني الديمقراطي في السودان، مبادرة الإصلاح العربي، 17 يناير 2025، في: https://tinyurl.com/2vtz3z68
7 المرجع السابق.
8 المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، الميليشيات في الدول الهشة، عوامل وأسباب الظهور، 17 يناير 2025، في: https://tinyurl.com/k5cvwsw5