إن فعل المقاومة خيارًا استراتيجيا فرضه الواقع، وليس مجرد استجابة ولدها العقل العروبي/ الإسلاموي المستسلم لأوهامه الأيديولوجية التي تدفعه إلى مغامرات ذات عواقب وخيمة، وتعميه عن الحسابات الواقعية1، في حين أن نقد المقاومة كخيار وإن كان يبدو في ظاهره يحتكم إلى الواقع وتعقيداته، إلا “أن معجمه الجديد يبدو خاليًا بالكلية من مفاهيم يمكنها التعامل مع الشروط المادية للواقع العربي2“، إذ “لا مجال هنا للسياسة التي تتطلب حدًا أدنى من التورط العضوي مع أطراف لا تتماهى معها بالضرورة3” إنما فقط “خطاب فوق سياسي، إذ يخلط بشكل متكرر بين الأحكام الأخلاقية المطلقة على الفاعلين السياسيين، والفعل السياسي نفسه المحكوم بطبيعته بأطر استراتيجية وتكتيكية تؤطر الصراع العيني4“.
إن التأكيد على الحق في المقاومة مخلص للحسابات الواقعية، أما موقف عدد من الفلاسفة الغربيين من المقاومة الفلسطينية، ومن العدوان الإسرائيلي على غزة، فإنما يتأسس على غض الطرف عن واقعة الاستعمار الاستيطاني في إسرائيل، والنظر إلى الصراع باعتباره “صراع إثني بين شعبين جمعهما القدر التاريخي والجغرافي في الأراضي المقدسة”، وينتهي الأمر “إلى حجب مفهوم «المقاومة» بالكلية، وافتراض الصراع نوعاً من صراع ديني أو قومي بلا جذور استعمارية، يؤججه المتطرفون من الجهتين، ويبحث عن معتدلين لحله من الجهتين”، وهو من جهة أخرى يكشف أن نقد هؤلاء للمنظومة الرأسمالية القائمة إنما هو “مجرد أشكال يستوعبها هذا النظام ويقبل بها من داخله” وليس نقدا جذريًا، ويظهر أن فلسفاتهم في حقيقتها تنتج هذا الموقف العاجز عن الاشتباك مع مظلوميات بهذا القدر من الوضوح5.
مكونات مشهد المقاومة:
يتشكل مشهد المقاومة من وجود «حق» أو «أصل»، يتصارع عليه طرفان، أحدهما معتدي والآخر صاحب الحق، وبينهما اختلالًا كبيرًا في ميزان القِوى، لكن مع ذلك يتحدى الطرف الأضعف ضعفه ويتشبث بالندية6. لكن هذه الندية لا يعني انتصار المقاومة بالضربة القاضية، إنما عبر مسار طويل من انهاك العدو، ومراكمة القوة والخبرة، في الحقيقة إن هدف المقاومة رفع تكلفة بقاء العدو، انهاكه. فإن “حروب التحرر والثورات وعمليات المقاومة هي ضربات لا تحقق مكاسب كبيرة بشكل مباشر بحكم التفاوت الهائل للقوى، وإنما تُراكِم مكاسب محدودة حتى يعتدل الميزان7“.
وتبقى سر جاذبيتها، أن المقاومة ليست بديلًا للحوار، وإنما بديل للفناء، الإبادة أو التهجير. والمقاومة من جهة أخرى تعبير عن الحياة، فالميت لايقاوم؛ فهي مؤشر على وجود أمة حقيقية وليس مجرد أفراد تجمعهم فقط اللحظة وتحركهم منفعة آنية، كما أن ردود الفعل الإبادية والعنيفة لقوى الاحتلال والعدوان إنما الغرض منها إجهاض القدرة على المقاومة وتبديد مظاهرها.
كما أن المقاومة أمر تفرضه طبيعة الصراع وجذريته وخصائصه، وسلوك العدو، فعندما يكون العدو وحشيًا وإجراميًا وغير قابل أو مستعد للتسوية ولا الهدنة، وإنما فرض الخنوع والعبودية، إلى حين توفر الفرصة المناسبة لاقتلاع الشعب وطرده، تكون المقاومة لازمة بكل أشكالها8، كذلك فإن المقاومة أمر محتوم، فالناس لا يستسلمون لما يعتبرونه طغيانًا إلا عندما يعجزون عن مقاومته.
تكلفة المقاومة:
هناك من يرى في تأييد خِيار المقاومة أمرًا صعبًا على من احتفظ بعدد من القناعات (العقلانية، والإنسانية، والنفعية)، فهو عمل مرتجل، لا يتخلله تمييز بين بشر وبشر، ولا اعتبار لتوازنات القُوَى ناهيك عن ارتكازه على أشد الأفكار والقيم بدائية، وإفضائه إلى كارثة محققة بحق الشعب، والوعي الداعم للمقاومة إنما هو “وعي إبادي” للعقل والأخلاق والحرية9.
فالتكلفة العالية للمقاومة، ورد الفعل الأشد عنفًا وتطرفًا من جانب قُوَى الاحتلال، الذي قد يصل إلى مستوى الإبادة الجماعية، وما يصاحب ذلك من خسائر هائلة في الأرواح، وفي تدمير وتفكيك مقومات الحياة للشعب الرازح تحت حكم الاحتلال، بل وفي بعض الأحيان تفكيك قُوَى المقاومة وتدمير هياكلها التي استغرقت سنوات في بنائها، كل ذلك يشار إليه في نقد خِيار المقاومة.
وأن عمليات المقاومة، تمارسها تنظيمات مسلحة، لديها مشروع سياسي، وحلفاء، ولديها شبكات وسياسات وخطابات، ولديها قيادة ذات مطامح ومصالح وتكتيكات، وتتحرك في سياقات خاصة، وبيئات حاضنة، ومن ثم إذا كانت المقاومة مشروعة من حيث المبدأ، فإن الممارسة الواقعية لفعل المقاومة تفرض على أصحابها أن تضع في اعتبارها السياقات والظروف والمدخلات المختلفة، وأن يأخذوا في اعتبارهم الكلفة العالية التي يدفعها المدنيين من جراءِ النشاط المقاوم.
في المقابل يمكن القول أن التوقف عن المقاومة لا يوقف خسائر المجتمع الخاضع للاحتلال؛ فإن تكلفة المجتمعات في ظل الاحتلال عالية، والتحلل التدريجي للمجتمع وفقدانه لمقومات الحياة نتيجة طبيعية في حال أحجم عن المقاومة، فبقاء قُوَى المحتل مرهونة بقدرته على إبقاء المجتمع تحت السيطرة، وترويض قوة التمرد أو تصفيتها. وفي حالة غزة، فقد أصبح الوضع تحت الحصار، الممتد لـ 16 عام، تخللتها 5 حروب كبرى ضد القطاع، غير محتملة، فالمجتمع يعيش معاناة في السكن والعمل والخدمات والتنقل والسفر والأمن الشخصي، فضلا عن عجز معظم سكان القطاع عن تلبية احتياجاتهم في الغذاء10. كما أن الهدف النهائي للاستعمار الاستيطاني الإحلالي الإسرائيلي ليس الترويض والإخضاع والسيطرة، وإنما التهجير والإبادة، لتحقيق حلم الدولة اليهودية، بالتالي بديل المقاومة هنا إنما الفَنَاء ولعل ذلك هو ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة إلى القول أن عملية طوفان الأقصى لم تأت من فراغ بل جاءت نتيجة سياق تاريخي طويل، فهي انفجار نتيجة انسداد الأفق في وجه الفلسطينيين وتحديدًا في قطاع غزة11.
الأهداف المرحلية والغايات النهائية لفعل المقاومة:
إن “كل فعل مقاوم هو إسهام في عملية تاريخية تراكمية تسعى إلى تغيير الواقع وتحرير الأرض والناس، وكل تحرر من الاستعمار حصل بفعل تراكم مجموعة من الأفعال على مدى زمني طويل، بعضها لم ينجح في وقته، لكنه أسس لما بعده، وما كان التحرير ليكون لولا تراكم هذه الأفعال” فالجدوى في التراكم12.
كما أن المقاومة لا تستهدف فقط إنهاك قُوَى الاحتلال، وكشف ثغراته واستغلال نِقَاط ضعفه، وإنما أيضًا تعريته من أي خطاب أخلاقي يتظاهر به، وكشف وجهه العنيف اللاعقلاني واللاأخلاقي، فضلا عن المساهمة في تشكيل رأي عام دُوَليّ داعم وتضامن عالمي واسع13.
ختامًا: مشروع وطني جامع يترجم نجاحات المقاومة إلى نتائج سياسية:
إحدى المقولات التي يتم ترويجها أن الكفاح المسلح يستلزم مشروع وطني جامع، يعبر عن الشعب كله، ويحول انتصارات المقاومة إلى مكاسب سياسية14، لكن في مقابل هذا الطرح، يمكننا القول أن المقاومة لا تتحرك في واقع من صنعها، إنما تنطلق المقاومة في الأساس بهدف تغيير واقع تراه غير مواتي، بالتالي المقاومة هدفها تغيير الواقع، من ثم لا يمكن مطالبتها بالتوقف حتى يتغير الواقع ويظهر مشروع وطني جامع قبل أن تشرع في عملها المقاوم. ومن زاوية منطقية بحتة، فإن تراكم انتصارات المقاومة يترجم حتما إلى مكاسب سياسية، سواء أدرك الفاعلين ذلك أو جهلوه.
من جهة أخرى، أحيانا تلام المقاومة ليس من باب التشكيك في جدواها أو شرعيتها، وإنما من زاوية أن قُوَى المقاومة في سياق تاريخي ما، يخالف التصور المثالي لدى هؤلاء النقاد، فتلام حماس، على سبيل المثال، من باب أنها تحمل أيديولوجيَا إقصائية فئوية لا تستقيم مع مطلب التحرر الوطني، أو أنها تسلك سلوكًا تسلطيًا على الأرض يهمش قُوَى المجتمع الحية ويصادر فعاليتها وقرارها15. بالتأكيد هذه الانتقادات متفهمة من حيث المبدأ، لكن هل يفترض في قُوَى المقاومة أن تكون مثالية أو ملائكية الطابع؟ أم أن كونها جزء من المجتمع الذي أفرزها، وتحمل نفس سلبياته وإيجابياته، يحرمها من حقها في المقاومة؟ بصيغة أخرى: أليست المقاومة حق للمضطهد أم منحة لمن نراه يستحقها؟
وفي المنطقة العربية، هناك فعلًا من يرفض خِيار المقاومة16 فقط لأن رافعي لواء هذا الخِيار من الطيف الإسلامي؛ ما يعني أنهم بالنسبة لهؤلاء حاملي أيديولوجيَا فاشية، حتى إن كانوا من غير الإسلاميين يظلوا بندقية مأجورة يتسللوا خلف غطاء أيديولوجي يضفي عليهم قداسة زائفة، غايتها النهائية هي السلطة. وأن البديل الوحيد الذي يمكن مباركة مقاومته أن يكونوا جزءًا من دولة تصعد نخبتها وفق نتائج صناديق الاقتراع، فتكون هذه المجموعات مرتهنة للرأي العام وتعبيرًا عن إرادة مجتمعاتها، وإلا كانت محض مجموعات إرهابية يمكن أن توجه أسلحتها لمجتمعاتها بنفس الطريقة التي توجهها لقوى الاحتلال والعدوان. فالمسموح فقط أن تكون الدولة، التي يختار قادتها ديمقراطيًا، هي من تحمل السلاح، ما سوى ذلك فليس إلا ميلشيات، وفق هذا التصور تصبح إسرائيل أفضل حالًا من قُوَى المقاومة؛ إذ هي حالة دولتية بامتياز، يخضع فيها الجيش للمستوى السياسي، الذي يخضع بدوره لنتائج صناديق الاقتراع. واكتمال هذه الرؤية هو رفض خِيار المقاومة المسلحة من الأساس، وتفضيل خِيار التفاوض، وهي رؤية رومانتيكية مستحيلة التحقق.
وهنا نعيد طرح السؤال التالي “من أخبرك أن الامبراطورية17 سوف تكون أكثر رفقًا وكرما معك إن تم القضاء على مراكز المقاومة؟ أو أنها تنوي أن تستثمر في حل مشاكلك الأهلية وأزماتك الكثيرة؟ أنت ستكون في أحسن الأحوال هامشًا طرفيا للخليج، وهو نفسه غير مضمون المستقبل، وسوف ينخفض الحافز للحفاظ على استقرارك بالتوازي مع انخفاض التهديد القادم من عندك18.
1 محمود هدهود، الاستشراق المحلي.. إلغاء السياسة، خط 30، 25 سبتمبر 2024، شوهد في: 27 يناير 2025، في: https://tinyurl.com/4kttw2wv
2 المرجع السابق.
3 المرجع السابق.
4 المرجع السابق.
5 محمود هدهود، غزة والفيلسوف الأبيض وتبرير الجريمة، خط 30، في: 8 ديسمبر 2023، شوهد في: 29 يناير 2025، في: https://tinyurl.com/33fhv9d5
6 محمود هدهود، في مديح الندّية، خط 30، في 11 يناير 2024، شوهد في: 31 يناير 2025، في: https://tinyurl.com/4v6xcx9t
7 محمود هدهود، معضلة التحرر الوطني في عصر مكافحة الإرهاب، مدى مصر، 17 يوليو 2024، شوهد في: 31 يناير 2025، في: https://tinyurl.com/4tek8xcm
8 هاني المصري، الجدل حول جدوى المقاومة في ذروة الحرب، المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية – مسارات، 3 سبتمبر 2024، شوهد في: 1 فبراير 2025، في: https://tinyurl.com/msw38m9u
9 حازم صاغية، طوفان الأقصى وردع العدوان: إغلاق النقاش وفتحه، الشرق الأوسط، 1 يناير 2025، شوهد في: 2 فبراير 2025، في: https://tinyurl.com/5y7xu4e7
10 محمد صلاح قاسم، طوفان الأقصى: دفاعًا عن الخطأ الاستراتيجي للمقاومة، إضاءات، 14 نوفمبر 2023، شوهد في: 31 يناير 2025، في: https://tinyurl.com/4ksr5kwa
11 الجزيرة نت، غوتيريش: هجمات حماس لم تحدث من فراغ ولا تبرر لإسرائيل القتل الجماعي في غزة، 24 أكتوبر 2024، شوهد في: 1 فبراير 2025، في: https://tinyurl.com/4c6wz25h
12 بدر الإبراهيم، سؤال الجدوى والكلفة في (طوفان الأقصى)، الرسالة دوت نت، 25 أكتوبر 2024، شوهد في: 2 فبراير 2025، في: https://tinyurl.com/yj7ud6x4
13 أمجد علي، ردًا على الإبادة وليس سببًا لها السابع من أكتوبر بوصفه يومًا واحدًا من تاريخ طويل، الجمهورية، 28 مايو 2024، شوهد في: 1 فبراير 2025، في: https://tinyurl.com/3ujcvfyu
14 صادق عبد الرحمن، الطغيان ومقاومته: في سؤال المسؤولية عن ماذا يمكن مساءلة حماس والتنظيمات التي تقاوم، الجمهورية، 21 مايو 2024، شوهد في: 1 فبراير 2025، في: https://tinyurl.com/468z5ps3
15 المرجع السابق.
16 شكري الريان، من المقاومة إلى المقاولة نحن في مواجهة بنادق للإيجار، 21 مايو 2024، شوهد في: 1 فبراير 2025، في: https://tinyurl.com/camuw5n9
17 الامبراطورية الامريكية، واسرائيل وكيلها في المنطقة.
18 عامر محسن، عصر الجنون: حرب الإخضاع والمقاومة، جريدة الأخبار، 7 ديسمبر 2024، شوهد في: 2 فبراير 2025، في: https://tinyurl.com/22cnntsz