لا ينكر أحد أن ديون مصر في السنوات الأخيرة منذ انقلاب 03 يوليو 2013م بلغت مستويات مرعبة؛ فقد ارتفعت الديون الخارجية من 43 مليار دولار في يونيو 2013م إلى أكثر من 140 مليارا في يونيو 2021م، بينما قفزت الديون المحلية من 1.3 تريليون جنيه إلى نحو 6 تريليونات حاليا. هذه حقيقة لا تقبل الجدل أو الإنكار، ورغم تراجع إيرادات الدولة لأسباب كثيرة أبرزها عدم قدرة النظام على إدارة موارد الدولة بشكل صحيح، والفساد المستشري كالسرطان في مفاصل الدولة من جانب آخر، وتداعيات تفشي جائحة كورونا من جهة ثالثة، إلا أن نظام السيسي خلال النصف الأول من يناير 2022م، ارتكب خطيئتين تكشفان كم تدار الدولة المصرية بعقول السفهاء:
- الخطيئة الأولى، هي تنظيم رحلات لمجموعات شبابية موالية للنظام (تضم المئات) معظمهم أبناء لواء وجنرالات كبار، وأقارب نواب بالبرلمان إلى الكاميرون بدعوى تشجيع المنتخب الوطني لكرة القدم الذي يشارك حاليا في بطولة كأس الأمم الإفريقية، على أن يدفع المشاركون الذين تم اختيارهم من جانب الأجهزة الأمنية وحزب “مستقبل وطن”، اشتراكا رمزيا، بينما تتولى وزارة الشباب والرياضة وشركة “برزنتيشن سبورتس” التابعة لصندوق استثماري تملكه المخابرات العامة تكاليف هذه الرحلات من سفر وإقامة ونفقات من الألف إلى الياء. بما يعني أن هذه الفسحة لأبناء الموالين للنظام مدفوعة الأجر من ميزانية الدولة وجيوب الشعب المصري![[1]] وحرص أبناء وأقارب أعضاء مجلسي النواب والشيوخ على اصطحاب الأعلام والطبول الخاصة بتشجيع منتخب مصر، خلال توجههم إلى الكاميرون على متن رحلة خاصة تنظمها شركة “مصر للطيران” الوطنية.
- الخطيئة الثانية، هي إصرار النظام على إقامة النسخة الرابعة من منتدى شباب العالم، بمدينة شرم الشيخ بمحافظة جنوب سيناء في الفترة من 10 إلى 13 يناير 2022م، تحت شعار «العودة معا»، بحضور رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أبو مازن، ورئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي وقرينته، وولي عهد الأردن الأمير الحسين بن عبد الله الثاني. ومشاركة شباب من 160 دولة بالعالم. وهو المنتدى الذي تحول إلى طقس سنوي في أعوام 2017و2018و2019م، ثم توقف بسبب تفشي جائحة كورونا. ومن عجائب الأمور أن الجنرال عبدالفتاح السيسي الذي اغتصب الحكم بانقلاب عسكري، وقتل آلاف المصريين، واعتقل عشرات الآلاف ويمارس أبشع صور التعذيب والانتهاكات بعدما أطلق يد أجهزته الأمنية تفعل ما تشاء دون خوف من مساءلة أو حساب، تحدث في كلمته الافتتاحية في المنتدى عن حتمية الحوار لحل الخلافات!! والسيسي الذي يرتكب كل الموبقات والجرائم يدعو العالم إلى العمل معاً على تجاوز تحديات البقاء وإنهاء الأزمات الراهنة، من أجل الإنسانية وإحلال السلام!! مؤكدا ــ وهو الذي أغلق جميع منافذ الحوار بعدما أمم الحياة السياسية في مصر ــ أن “إخلاص النوايا هو السبيل الوحيد لإنهاء الصراعات وإدارة الاختلاف في العالم”!.
مبلغ الدهشة هنا، أن السيسي الحريص كل الحرص على خفض الدعم ورفع أسعار الخبز وسلع التموين الأساسية التي يستفيد منه عشرات الملايين من الفقراء ، نراه في منتهى التبذير على مؤتمراته ومنتدياته ومشروعاته التي لم تحقق للشعب سوى البؤس والفقر والشقاء؛ فلماذا التقتير على الشعب والتبذير على شلته ومناصريه؟ ولم التقشف للشعب والمنح والمزايا والعطاءات لأنصاره ومؤيديه؟! فقد تم حجز 6 فنادق كبيرة في شرم الشيخ (5 نجوم)، بخلاف نحو 5 آلاف شاب وفتاة من المتطوعين لتنظيمه، واستضاف المنتدى 15 ألف شاب وفتاة من 160 دولة، أقاموا من يوم 7 حتى 15 يناير 2022م، ويبلغ سعر الغرفة الفندقية في الليلة الواحدة من 2000 جنيه (130 دولار)، إلى 7000 جنيه (450 دولار). كما يصل سعر تذكرة الطائرة من القاهرة للمدينة نفسها، إلى 3 آلاف جنيه؛ معنى ذلك أن مصاريف المنتدى تصل إلى أكثر من 700 مليون جنيه، بخلاف النفقات الأمنية واللوجستية والإعلامية وتسخير جميع مؤسسات الدولة لهذا المهرجان السنوي. وكان مصدر مطلع في اللجنة المنظمة للنسخة السابقة من منتدى شباب العالم في أواخر عام 2019، قد كشف أن تكلفة النسخة الثالثة من المنتدى تجاوزت 600 مليون جنيه مصري (نحو 38 مليون دولار)، تحمّلت الجانب الأكبر منها عدة مصارف حكومية، بالإضافة إلى شركة “وي” للاتصالات، التي تستحوذ الاستخبارات على حصة حاكمة فيها؛ وسط توقعات بارتفاع تكلفة النسخة الحالية من المنتدى بسبب الإجراءات المصاحبة لأزمة تفشي جائحة كورونا.
وكشفت الاستعدادات والتجهيزات في مدينة شرم الشيخ، لاستقبال النسخة الحالية، عن تمويل ضخم تم رصده لهذا الحدث السنوي الذي يتم تنظيمه برعاية السيسي، دون الإفصاح عن ميزانية أو مصادر تمويله رسمياً؛ الأمر الذي لاقى انتقادات كثيرة، وسط تساؤلات عن جدوى إقامة مثل هذه المنتديات وتسخير كل أجهزة الدولة في عملية الاستعداد للمناسبة، وإهدار طاقات هائلة واستنزاف جهود الآلاف وأوقاتهم، وتبذير مئات الملايين على «مكلمة» مفتعلة، لا يكف فيها السيسي عن التشبث بالميكروفون مديرا ظهره للجميع ليعزف نشازا من هذيان لا يتوقف ولا خير فيه، ورغم التبذير الواسع إلا أن المحصلة هي «صفر كبير»، ومزيد من إفقار الدولة وإهدار أموالها على أمور عبثية. وحتى مبررات النظام ومزاعمه بأن الرعاة يتكفلون بتغطية ميزانية جميع أحداث وفعاليات المنتدى بالكامل، حرصاً منه على عدم المساس بالموازنة العامة للدولة، وأن كل مصروفات المنتدى من خارج الموازنة العامة ولا تحمّلها أي أعباء، إلا أن الواقع غير ذلك، ولم تعد تنطلي هذه الأكاذيب على الناس، وخير برهان على ذلك مشروع العاصمة الإدارية الذي يتم الإنفاق عليه من ميزانية الدولة بعدما هربت جميع الشركات الأجنبية ورفضت المشاركة فيه. والحقائق تؤكد أن شركة مصر للطيران تحملت تكاليف نقل الآلاف من ضيوف المهرجان من خارج مصر ومن داخلها إلى مدينة شرم الشيخ، وهي بالطبع فاتورة كبيرة جداً، حيث أعلنت الشركة عن تنظيم 80 رحلة من مطار القاهرة إلى مطار شرم الشيخ خلال الفترة من 7 إلى 15 يناير، بأحدث طائرات الشركة لنقل الضيوف المشاركين. ذلك بالإضافة إلى الأموال التي ترصدها محافظة جنوب سيناء ووزارة الداخلية من أجل التأمين وما إلى ذلك من أمور لوجستية، بخلاف مصاريف إقامة الضيوف في مدينة شرم الشيخ السياحية في الفنادق ذات الخمس نجوم، حتى وإن تتحمّلها تلك الفنادق أو تتحمّلها شركات خاصة أخرى، فإن ذلك يعتبر أيضاً إهداراً لموارد الدولة، لأن تلك الفنادق والشركات هي جزء من الدولة ومن المنظومة الاقتصادية للدولة. فالرعاة هم مؤسسات حكومية بالأساس مثل بنوك الأهلي المصري، ومصر، والقاهرة، والبريد المصري، والمصرية للاتصالات”.[[2]] بالإضافة إلى مؤسسات وجهات أخرى منها بنوك التجاري الدولي، والعربي الأفريقي الدولي، والأهلي القطري، والمصرف المتحد، ومجموعة طلعت مصطفى، ومجموعة سيراميكا كليوباترا، وحديد عز، وشركة بنية، وشركة بالم هيلز للتطوير العقاري، وموقع طلبات، وشركة بيبسيكو الدولية، وجامعة MSA، وجامعة المستقبل، وجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، وشركة almentor للتعليم عن بعد، وشركة ايفا فارما، وأبو غالي موتورز، والمجموعة المالية “هيرميس”، وشركة هواوي. وبالطبع فإن كل دولار تدفعه هذه المؤسسات يخصم فورا من المستحقات الضريبية عليها، أو يستبدل بامتيازات أخرى تحقق لها أرباحا باهظة. ومن عجائب الأمور أيضا أن إدارة المنتدى أعلنت عن تبرعها بــ 50 مليون جنيه، (نحو 3 ملايين و200 ألف دولار) “من فائض ميزانيتها هذا العام”، ليتم توجيهها لدعم وتمويل مختلف المبادرات التنموية؛ فكيف يكون لمنتدى الشباب فائض ميزانية أصلا فضلا أن يكون هذا الفائض 50 مليون جنيه؟! وإذا كان الفائض كبيرا إلى هذا الحد فكم هي ميزانية المنتدى من الأساس؟ ولماذا لا تكون تحت مظلة الدولة وتحت رقابة هيئاتها الرقابية بوصفه نشاطا تحت رعاية مؤسسة الرئاسة؟!
أهداف المنتدى ورسائله
النسخ الثلاث السابقة شهدت حضور 15 ألف شاب من 160 دولة، كما خرجت بالكثير من التوصيات والاقتراحات والقرارات، كان الهدف منها دعائيا، قيل من أجل الترويج السياحي. المنتدى الأول(2017) أوصى بتدشين مركز دولي للحوار العربي الأفريقي الدولي بين شباب العالم، وإنشاء المركز الأفريقي للشباب، وتوفير منح دراسية للشباب من آسيا وأفريقيا، ووضع استراتيجية لمواجهة التطرف والإرهاب والأمية. وانطلقت النسخة الثانية للمنتدى (نوفمبر 2018)، بحضور 5 آلاف شاب من 160 دولة، ليوصي بإعلان مدينة أسوان عاصمة للشباب الأفريقي لعام 2019 وإقامة ملتقى الشباب العربي والأفريقي بها. أما النسخة الثالثة للمنتدى (ديسمبر 2019)، فقد شارك فيها 7 آلاف شاب من 196 دولة، حيث أوصت بإطلاق مبادرة أفريقية للتحول الرقمي والتميز الحكومي، وإنشاء منصة إلكترونية عربية أفريقية للمرأة، ودعوة الأمم المتحدة لتبني بروتوكول لمكافحة الكراهية والتطرف والتنمر.[[3]] بينما انتهت نسخة المنتدى الرابعة (يناير 2022) إلى إعلان ست توصيات: أولها إطلاق إستراتيجية لدعم السلم والأمن لما بعد الجائحة، وثانيها نشر التعريف بالموارد المائية، وثالثها الدعوة إلى تأسيس مجلس أعمال إفريقيا، وتضمنت التوصيات أيضا الدعوة لتوحيد الجهود الأممية لإعادة التمويل لإعادة الإعمار، ودعوة منظمة الصحة العالمية للاعتراف باللقاحات، والدعوة لعقد قمة عالمية لبحث أفضل السبل لمساعدة الدول الفقيرة.[[4]]
للمنتدى هدفان:
الأول، هو توظيفه كشكل من أشكال الدعاية، ورسم صورة وردية عن الأوضاع في مصر، بوصفها دولة آمنة مستقرة وسط محيط مضطرب يموج بالعنف والحروب الأهلية. وبالتالي فهي مستعدة لاستقبال أفواج السياح رغم تفشي جائحة كورونا؛ لأنها استطاعت تنظيم المنتدى رغم رعب العالم من تفشي سلالة “أوميكرون”. لكن البعض اعتبر ذلك من مساوئ المنتدى الذي شهد غيابا تاما لقيود الوقاية من كورونا وعدم الالتزام بها.[[5]] وبالتالي فرسائل النظام من المنتدى هي الزعم بمدى اهتمامه بفئة الشباب وإظهار السيسي على أنه يتجاوب مع تطلعات الشباب ويعمل على حل مشكلاتهم متجاهلين أن سجونه تضم عشرات الآلاف من الشباب بتهم سياسية ملفقة. كما يستهدف النظام رسم صورة لمصر المعتدلة المتسامحة التي تسهم في تعزيز قيم التعايش المشترك والتقارب بين ثقافات ومناطق ودول مختلفة، والتسويق للتجربة المصرية في مكافحة الإرهاب والتطرف. والدعاية للنظام على المستوى الدولي.[[6]] لكن ما يجعل من تأثير ذلك مشكوك فيه أن المنتدى لا يحظى بأي تغطية إعلامية من وسائل الإعلام الأجنبية إلا نادرا رغم دعوة مئات الصحافيين والإعلاميين الأجانب.
الثاني، هو استخدم المنتدى كمنصة يبعث من خلالها السيسي ونظامه عدة رسائل سواء على المستوى المحلي أو الدولي. وقد استخدم السيسي المنتدى هذه المرة من أجل إرسال عدة رسائل معظمها للخارج؛ لأنه لم يعد يكترث بالداخل في ظل إحساسه بالسيطرة المطلقة عبر أدوات البطش والقمع الأمني.
- الرسالة الأولى، هي المساومة بحقوق الإنسان؛ فقد كرر السيسي مرارا خلال جلسات المنتدى حديثه عن “التدخلات الخارجية في شؤون الدول، بقصد تخريبها”، الأمر الذي فسره البعض على أنه رسالة موجهة للغرب الذي دأب على انتقاد ملف السيسي المتخم بالانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية. فنظام السيسي يرى أن الانتقادات الغربية لسجل نظامه في ملف حقوق الإنسان هي شكل من أشكال التدخل في شئون مصر؛ بما يضر بأمنها القومي، ويهدد بخراب البلد. والسبب في ذلك أن كل المسئولين الغربيين الذين يلتقون بالسيسي سواء داخل مصر أو خلال زياراته هو إليها أو حتى في محافل دولية دائما ما يكون على رأس أجندتهم الحديث عن ملف حقوق الإنسان، وربط ذلك بملف المساعدات؛ الأمر الذي يزعج السيسي ونظامه بشدة رغم أن المواقف الغربية لم تنتقل مطلقا من دائرة الكلام والنقد إلى دائرة الفعل والعقاب. تصريحات السيسي رسالة للغرب أن حقوق الإنسان تساوي المنح والمساعدات ولا شيء آخر؛ ذلك قال خلال المنتدى (هاتوا 50 مليار دولار وأنا أخلي الناس تتظاهر)! لذلك يعد الرد على الانتقادت الحقوقية لنظامه هو الهدف الرئيس من المنتدى هذا العام، لا سيما وأن تحليل مفردات خطابه وتصريحاته دائما ما تخلو من عبارات مثل (الحرية ـ الديمقراطية ــ مؤسسات الدولة ــ البرلمان ـ الانتخابات ــ الرأي العام)، في رسالة غير خافية يقول من خلالها إنه هو وحده الدولة ولا شيء آخر.
- الرسالة الثانية، موجهة لقوى إقليمية، حيث يفسر البعض تصريحات السيسي حول التدخل الخارجي في شئون الدول بقصد تخريبها” على أنها رسالة موجهة لقوى خليجية يرى السيسي أنها تحاول التأثير على نظامه في الوقت الحالي”، لا سيما وأن السيسي كان جزءا مهما من المؤامرة التي أسقطت نظام الرئيس محمد مرسي في غضون عام واحد، من خلال التدخلات الخارجية (أمريكية ـ إسرائيلية ــ إماراتية ـ سعودية)، وقد اعترف السيسي نفسه بذلك؛ اعترف بتصريحاته لوزير الخارجية الأمريكي الأسبق جون تيري، وكذلك اتصالاته بوزير الدفاع الأمريكي تشاك هيجل وغيرهم من القيادات الأمريكية التي أشرفت على تنفيذ مخطط الانقلاب في أعقاب الإعلان عن فوز مرسي مباشرة في يونيو 2012م. هذه التجربة التي كان السيسي ضالعا فيها بما يمثل خيانة عظمى بالمعنى القانوني البحث، تجعله حساسا للغاية تجاه أي تدخلات خارجية، لا سيما إذا كانت ترتبط بالمؤسسة العسكرية والأمنية في مصر، والتي كانت فيما سبق الذراع الفاعلة للقوى الخارجية الإقليمية لإسقاط نظام الرئيس المنتخب محمد مرسي في عام 2013″. وتأتي تصريحات السيسي في ظل الحملة التي تشنها أجهزته الأمنية بعضها يتبع الرئاسة مباشرة ضد عدد من الشخصيات والأسماء البارزة في قطاعات الإعلام، ومجتمع المال والأعمال، والسلك الدبلوماسي، من الذين ربطتهم في السابق علاقات قوية بمسؤولين في أجهزة إماراتية، وكانوا دائمي التردد على أبوظبي عقب انقلاب 30 يونيو/حزيران 2013. وهي الحملة التي تستهدف إبعاد هذه الشخصيات عن أي مراكز ومواقع مؤثرة في اتخاذ القرار، شملت أيضاً شخصيات وقيادات في مؤسسات سيادية، بعضهم كانت بمثابة حلقة وصل بين النظام المصري، والإمارات بتكليف مباشر من دائرة السيسي. هذه الحملة تأتي في سياق فتور العلاقات المصرية الإماراتية، في وقت تخشى فيه دائرة السيسي من توظيف شخصيات مصرية في مواقع ذات حساسية في القطاعات المختلفة للضغط على النظام. فالسيسي وأجهزته ودائرته المقربة منزعجون من السياسات الإماراتية التي لم تتوافق كثيراً في الفترة الأخيرة مع المصالح المصرية”، لكنه مكبل في تحركاته ضد النفوذ الإماراتي في القاهرة؛ ولا يستطيع الإقدام على خطوة خطوات خشنة ضد المصالح الإماراتية في مصر لعدم إلحاق مزيد من الخسائر بالاقتصاد المصري، مع تركز الوجود الإماراتي حالياً في القطاعات الاستثمارية والاقتصادية”. وقد شهدت الشهور والأسابيع الماضية حملة ضد شخصيات محسوبة على الإمارات مثل الإعلامي توفيق عكاشة، وقبله عبدالرحيم علي الذي فر إلى الإمارات ويقيم بها حاليا بشكل دائم، كذلك تم التنكيل بكل من رجل الأعمال حسن راتب في قضية تهريب آثار كان السفير الإماراتي بالقاهر متورطا فيها، وكذلك محمد الأمين الذي كان عرَّاب النفوذ الإماراتي في الإعلام المصري.
- الرسالة الثالثة، هي الإلحاح على فكرة «المفهوم الشامل لحقوق الإنسان»، وهي العبارة التي دأب السيسي على استخدامها من أجل التهرب من عدم التزامه بحقوق الإنسان، وذلك بالزعم أنه يملك مفهوما أعلى وأكثر شمولا لحقوق الإنسان. ويرى السيسي أن السعي لإسقاط الدول وتشريد شعوبها نتيجة الصراع السياسي وتضارب المصالح هما أخطر ممارسات انتهاك حقوق الإنسان، مدعيا أن مصر تحترم كل أنواع الحريات، كحرية المعتقد، والمساواة بين الجميع دونما تمييز، والأهم من ذلك هو احترام الحقوق الأولية للمواطن المصري، كالحق فى السكن، والصحة والتعليم، والتنقل، وحماية الروح، وفى الحصول على الدخل المناسب الذى يحمى الناس من الحرمان.[[7]] فالحديث عن «المفهوم الشامل» لحقوق الإنسان إنما هو إجراء يستهدف به السيسي الهروب من انتهاكاته الجسيمة وملفه المتخم بالجرائم؛ وكلماته حول أهمية الحقوق الاقتصادية باعتبارها من حقوق الإنسان الذي لا بد أن تتصدر جهود الحقوقيين من قبيل الحق الذي يراد به باطل؛ صحيح أن الحقوق الاقتصادية من ضمن حقوق الإنسان، وأنه لا حقوق للإنسان من دون مساواة وعدالة في توزيع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لكن السيسي يكرس الظلم والطبقية من جهة، وفشل بشكل كامل في توفير السكن المناسب أ الخدمات الصحية و التعليم المجاني، من جهة ثانية، كما أن هذا ليس مبررا لانتهاكات حقوق الإنسان والقتل خارج إطار القانون وتكميم الأفواه وتلفيق القضايا، وانعدام العدالة والمساواة، والزج بعشرات الآلاف من العلماء والمفكرين والدعاة إلى الله وشباب الثورة في السجون والمعتقلات بتهم سياسة ملفقة لا دليل عليها سوى تحريات أجهزته الأمنية.
- الرسالة الرابعة، هي استجداء الغرب من أجل تقديم المزيد من المساعدات لنظامه؛ سواء بالمنح أو القروض، من أجل تعزيز موقفه المالي والاقتصادي للتغلب على المشكلات التي تواجهه قبل أن تتفاقم وتتسبب في مشاكل للغرب وأوروبا على وجه التحديد. يدلل على ذلك أن السيسي أشار في أكثر من جلسة إلى “دول بعينها”، قال إنه “لن يسمّيها كي لا يتسبب في إيلام مواطنيها، ثارت فيها الثورات وانتهى بها الوضع إلى التمزق والتشتت وظهور جماعات إرهابية فيها، وحدوث موجات من الهجرة”. ووجه حديثه إلى الغرب قائلاً إن مصر “لم يحدث فيها ذلك، ولم تصدر مهاجرين إلى الغرب، بل تستضيف لاجئين من دول أخرى، وتعاملهم معاملة حسنة، ولا تقيم معسكرات للاجئين كما يحدث في دول أخرى”. وزاد على ذلك أن “الدولة المصرية لا تسمح باستخدام أراضيها لتكون معبراً للاجئين إلى أوروبا من دول مختلفة”. معنى ذلك أن السيسي لا يزال يساوم أوروبا بملف الهجرة غير الشرعية، ويبتزها بالدور الوظيفي الذي يقوم به نظامه من أجل حماية أوروبا من موجات الهجرة غير الشرعية. ويبرهن على ذلك أيضا أن التوصيات الختامية للمنتدى تضمنت الدعوة إلى عقد قمة عالمية لبحث أفضل السبل لمساعدة الدول الفقيرة.[[8]]
- الرسالة الخامسة، كانت موجهة للداخل، بالزعم أنه أنفق 6 تريليونات جنيه على مواجهة الفقر في مصر، كما أبرزت ذلك صحيفة الأهرام في مانشيت الخميس 13 يناير 2022م [[9]]، فكيف يستقيم هذا مع زيادة معدلات الفقر في مصر خلال نفس الفترة؟! واستغل السيسي المنتدى للدعاية مجددا لمبادرة حياة كريمة بوصفها من أرقى المبادرات الإنسانية لمواجهة الفقر، دون أن يقدم معلومات مفيدة وموثقة بخلاف عبارات التفخيم والتسويق الدعائي. لكن السيسي تجاهل الحقائق التي تؤكد أن عشرات الملايين سقطوا تحت خط الفقر بسبب سياساته النيوليبرالية المتوحشة وإذعانه المطلق لشروط وإملاءات صندوق النقد الدولي، كما يتجاهل عمدا أن الديون تضخمت في عهد إلى مستويات مرعبة وصلت إلى 300% مقارنة بحجم الديون قبل اغتصابه للسلطة. ويتجاهل أنه فرض مئات الرسوم والضرائب ورفع جميع أسعار السلع والخدمات الحكومية إلى مستويات مرهقة لكل فئات الشعب، وأنه كلما ألمت به ضائقة يمد يده في جيوب الناس ليغرف ما يشاء بالرسوم والضرائب دون حسيب أو رقيب ودون خشية من عواقب هذه الممارسات الجبائية.
- الرسالة السادسة، الغمز المتواصل في ثورة 25 يناير من جهة، وجماعة الإخوان المسلمين من جهة أخرى؛ فقد ادعى السيسي أن الدولة المصرية كانت على وشك الانهيار الكامل بسبب ما حدث في عام 2011، في إشارة إلى ثورة 25 يناير2011. في حين شهدت مصر أحد أعلى إيراداتها من السياحة خلال عامي 2011 و2012، بواقع 10.3 ملايين سائح و11.5 مليوناً على الترتيب، ما يكذب حديثه الدائم عن انهيار الدولة بسبب الثورة. بينما توسع السيسي بعد اغتصابه للسلطة في يوليو 2013م، في الحصول على القروض من الخارج بفوائد مرتفعة، من أجل تشييد القصور والمباني الفخمة في العاصمة الإدارية الجديدة (تتكلف 400 مليار دولار)، والأبراج شاهقة الارتفاع على شاطئ المتوسط في مدينة العلمين، وبينهما قطار فائق السرعة بكلفة 23 مليار دولار!. وحول الإخوان، كشف السيسي أنه التقى السفيرة الأمريكية في 2011، مضيفا:«فسألتني:” من سيحكم مصر؟ فقلت لها: الإخوان. فقالت: طب وبعدين؟ قلت لها: وبعدين هيمشوا؛ لأن الشعب المصري لا يقاد بالقوة وميخشش الجامع والكنيسة بالعافية!.[[10]] وهي تصريحات فيها كثير من التجني على الإخوان؛ لأنهم الفصيل الوحيد الذي وصل إلى حكم مصر بأصوات الشعب بينما اغتصب السيسي الحكم بالقوة والعنف بأداة الانقلاب العسكري. كما أن الإخوان لم يجبروا أحدا على دخول المساجد، وكان العام الذي حكم فيه مرسي عام الحريات بحق فلم تشهد مصر طوال تاريخها كله مستويات من الحرية كالذي شهدته في عام حكم الإخوان. كما أن تصريحات السيسي تمثل اعترافا بارتكابه جريمة الخيانة العظمى؛ إذ كيف لمدير جهاز المخابرات الحربية في ذلك الوقت أن يناقش الشأن المصري الداخلي مع سفيرة دولة أجنبية على هذا النحو؟! كما أن تصريحاته تلك تمثل اعترافا بأن المؤسسة العسكرية كانت تعد وتتجهز للانقلاب على الإسلاميين إذا وصلوا إلى الحكم منذ سنة 2011م؛ الأمر الذي ينسف كل الادعاءات والأكاذيب حول رفض الشعب لحكم الإخوان؛ فالجيش هو من كان يرفض ذلك وليس الشعب الذي اختار الجماعة عن قناعة وثقة؛ لا سيما وأن الإطاحة بها لم يكن عبر الانتخابات وأصوات الجماهير بل بانقلاب عسكري مكتمل الأركان.
خلاصة الأمر، أن السيسي يهدر أموال مصر على احتفالاته ومنتدياته وقصوره الشاهقة وعاصمته الإدارية وقطاره المكهرب ومصيف حكومته بمدينة العلمين الجديدة على الساحل الشمالي، بينما يئن عشرات الملايين من الشعب من الجوع والفقر والحرمان، ياخذ اللقمة من أفواه الجائعين من أجل أن يتنعم بها أنصاره ومؤيدوه؛ إذ كيف لدولة فقيرة تدير نفسها بالديون والضرائب أن تستضيف 15 ألف شاب وفتاة من 160 دولة أجنبية لمدة ثمانية أيام في أرقى فنادق شرم الشيخ على نفقتها الخاصة؟!
معنى ذلك أن منتدى شباب العالم ما هو إلا نزوة من نزوات الدكتاتور، زينها له بعض مقربيه المنتفعين، فوافقت مزاجه النرجسي وذاته الممتلئة بجنون العظمة؛ لذلك يكون السيسي في أعلى حالات النشوة النفسية؛ وهو يخاطب المحيطين به بالندوات والمؤتمرات، وكأن ذاته تتغذى على تلك الأجواء التبجيلية المصطنعة، في محاولة لتقليد الطاغية عبدالناصر في تنظيمه الطليعي. وعلى مستوى الجدوى فهي لا شيء سوى مكلمة يهذي فيها الدكتاتور كما يشاء دون مراجعة أو حساب، ويقدر مركز “تكامل مصر”[[11]] قيمة نفقات المنتدى بنحو 100 مليون دولار على الأقل؛ ألم يكن من الأولى توجيه هذه الأموال الطائلة لتوفير الطعام لبطون ملايين الجائعين من أبناء الشعب المصري؟!
[1] على نفقة المصريين: رحلات لأبناء النواب لتشجيع منتخب الكرة بالكاميرون/ العربي الجديد ــ 15 يناير 2022
[2] منتدى شباب العالم في مصر: مناسبة سنوية لتبذير الملايين/ العربي الجديد ـــ 11 يناير 2022
[3] ماذا تستفيد مصر من منتديات السيسي الأربعة لشباب العالم؟/ “عربي 21” ــ الإثنين، 10 يناير 2022
[4] توصيات منتدى شباب العالم: قمة عالمية لمساعدة الدول الفقيرة.. وتأسيس مجلس أعمال افريقيا/ المصري اليوم ــ الخميس 13 يناير 2022م
[5] قيود مكافحة كورونا غائبة عن “منتدى شباب العالم” في مصر/ العربي الجديد ــ 10 يناير 2022
[6] رسائل مصرية فى منتدى شباب العالم/ رأى الأهرام ــ الإثنين 10 يناير 2022م/// شريف هلالي/ أسئلة مشروعة بشأن منتدى الشباب العالمي/ العربي الجديد ــ 14 يناير 2022
[7] اختزال مصطلح «حقوق الإنسان»/ رأى الأهرام ــ الخميس 13 يناير 2022
[8] توصيات منتدى شباب العالم: قمة عالمية لمساعدة الدول الفقيرة.. وتأسيس مجلس أعمال افريقيا/ المصري اليوم ــ الخميس 13 يناير 2022م (مرجع سابق)
[9] تحية للشعب المصرى لتحمله أعباء «الإصلاح الاقتصادى».. السيسى فى جلستى «التجارب التنموية» و«إعادة الإعمار» بمنتدى شباب العالم: أنفقنا 6 تريليونات جنيه لمحاربة الفقر.. وأدعو لوقف الصراعات بالدول المنكوبة لإعادة الإعمار / الأهرام اليومي ــ الخميس 13 يناير 2022م//// السيسي يتجاهل معضلة القروض: أنفقنا 400 مليار دولار للخروج من الفقر/ العربي الجديد ـ 12 يناير 2022
[10] السيسي يكشف تفاصيل حواره مع السفيرة الأمريكية عام 2011.. هذا ما قاله عن “حكم الإخوان لمصر” “فيديو”/ عربي بوست ــ 12 يناير 2022م
[11] ماذا تستفيد مصر من منتديات السيسي الأربعة لشباب العالم؟/ “عربي 21” ــ الإثنين، 10 يناير 2022 “مرجع سابق”